اختتم مؤتمر “قراءات ومراجعات في ضوء الأزمة السورية” أعماله بالتأكيد على إعلاء شأن الهوية الوطنية الجامعة ودعمها الباحثين والمهتمين إلى مصارحة شفافة وكاشفة بشأن إطلاق حوار معرفي حول ما اعترى جسد الهوية الوطنية وروحها من تشظيات.
وأكد المشاركون في أعمال المؤتمر الذي دام يومين ونظمه مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد”، أن سياسات الهوية باتت تمثل اليوم إطاراً عاماً للسياسة العالمية الراهنة، وأن الهويات، العرقية والطائفية والدينية والوطنية باتت بدورها أدوات ترتكز إليها السياسة الدولية.
وشدد المشاركون في مداخلاتهم على أن الهوية الوطنية في سورية أصبحت تمثل تحدياً مركباً نظراً لكثرة العناصر المكونة للاجتماع السوري واختلافها وتمايزها، إضافةً إلى إسقاطات تداعيات الأزمة والحرب التي تتعرض لها سورية منذ عام 2011 ما جعلنا أمام لحظة تاريخية تستوجب إعادة النظر بموضوع الهوية، وذلك بهدف قطع الطريق على قوى خارجية تسللت إلى العديد من دول المنطقة عبر “بوابة الهويات” لتزعزع أمن الدول والمجتمعات.
ولفت المشاركون إلى أن سورية تواجه اليوم مخاطر وتحديات غير مسبوقة على صعيد الهوية، وقد حاول الكثيرون منذ بداية الحرب استخدام موضوع الهويات والانتقال منه إلى الحديث الطائفي والإثني الأضيق والهدام، وكان هدف المقاربات المضللة التي روَّجت بأن الأزمة السورية هي أزمة هوية، إنما اختلاق الخلاف بين السوريين لتحقيق مصالح سياسية تتعارض مع مصالح سورية الدولة والشعب، ما يضعنا أمام سؤال حول ماهية الهوية الوطنية التي تجمع في ظلها السوريين جميعاً، وهل أن سورية أمام تحدٍ كبير يتمثل بمراجعة سياسات الهوية أم أن المطلوب هو إعادة بناء هوية وطنية على أساس عقد اجتماعي جديد، وهل تتنافى هذه الهوية مع الهويات “ما فوق الوطنية” أو ما دونها وهل يلغي الانتماء إلى أي من هذه الهويات الانتماء إلى الهوية الوطنية السورية، أم العكس، وأي السبل الممكنة لمراجعة سياسات الهوية وتجاذباتها، وصولاً إلى هوية وطنية جامعة وشاملة؟.
وشهد اليوم الثاني من أعمال المؤتمر، ثلاث جلسات تناولت الأولى “تجليات الهوية الوطنية السورية” وشارك فيها الدكتور طلال معلا بورقة تحت عنوان “الهوية والتراث الثقافي، التنوع كهوية” والأستاذ نبيل سليمان بورقة حملت عنوان “الطائفية كصدع هوياتي في المخيال الروائي السوري 2011-2016” والإعلامية ديانا جبور بورقة تحت عنوان “الهوية الوطنية والدراما السورية المصورة” والدكتور سنان حسن بورقة تحدثت عن “الإشكالية الهوياتية معمارياً: في تفكيك المفهوم والفهم المأزوم” والدكتور عمار خيربك بورقة تحت عنوان “الإرشيف الرقمي الوطني السوري”.
واعتبرت الدكتورة إنصاف حمد رئيسة الجلسة أن الحديث عن مفهوم الهوية يزداد خلال الأزمات، وأن الهوية مفهوم مركب يظهر في مستويات متعددة يتطلب أبحاثاً كبيرة يجب التعامل معها بشكل ديناميكي، موضحة أنه بعد الحداثة أصبحت الهوية ذات أشكال متعددة، غير الهوية أيام الأسرة والقبيلة، ما يتطلب وضع استراتيجية لتعزيز الهوية الوطنية.
ولفت المتحدثون المداخلون إلى أن الظرف الذي تشهده سورية بات يحتم على الجميع الوقوف من أجل المراجعة وإعادة النظر لأن الهويات أداة للصراع الإقليمي المحتدم داخل سورية وحولها، موضحين أنه لا يجوز اختزال الهوية في انتماء واحد متحيّز ومذهبي ومتعصب وإقصائي وعنيف، ما يهدد بمزيد من التأزم الاجتماعي، ومزيد من التدخلات الخارجية، فسياسات الهوية كانت ولا تزال بوابة للتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية للدول والمجتمعات.
ولفت الدكتور طلال معلا إلى ربط الماضي بالحاضر كونه الذاكرة الحية والهوية التي نتعرف من خلالها على العالم من حولنا، موضحاً أن الهوية المستندة في قراءاتها على التراث تمثل اتحاداً بين كل الاتجاهات الموجودة بالمجتمع والانتماءات لتنحصر في العيش معاً في وطن تتشكل هويته الأساسية من هذا التراث.
واعتبر الدكتور رضوان قضماني أن موضوع الهوية والانتماء عادا إلى التداول بعد الانهيارات الثقافية، وهما يحتاجان إلى إعادة قراءة الواقع، وإن طرح ثقافة الهوية يجعلها صراعاً بين علمانية ودينية، مبيناً أن فكرة الهوية تقوم على العقلانية، لكنها تراجعت بسبب هيمنة الفكر الإسلاموي، وأن فهم ثقافة الهوية يتطلب فهم الصراع والمتحول الاجتماعي والدخول فيه بفعالية.
وأشار الدكتور عقيل محفوض إلى أن كل الدول التي شهدت أزمات توصلت إلى ضرورة بناء هويات وطنية، موضحاً أن العديد من هذه الدول رغم ما عانته من أزمات وكوارث نجحت في صياغة هويات وطنية شاملة وجامعة لشعوبها عندما أدركت أن سياسات الهوية يجب أن تقوم على الانفتاح والاعتراف بالتعدد الاجتماعي والثقافي والقيمي والديني.
وأكد الدكتور بلال عرابي على تطوير وتجديد المناهج بما يواكب التطورات في سورية ومحيطها والعالم، مبيناً ضرورة استقراء أسباب وتداعيات ونتائج الأزمة التي شهدتها سورية لخلق الهوية الوطنية بشكل متوازن.
وأكد الدكتور حليم الأسمر أن الهوية وطن للإنسان، وهي دائمة الحياة في المجتمع، ونحن نحتاج إلى إعلام يعكس أهمية الهوية.
ولفت الدكتور محمد طاغوس إلى أن الهوية لا تقبل التعريف، وأن الاتفاق على تعريفها يستند إلى بنية مفاهمية متشابكة، مضيفاً: إنه في عصر انتشار الهويات ما دون وطنية، يتوجب علينا رسم هويات وطنية مقاومة تستند إلى إرث تاريخي لتلتحم حول نواتها الصلبة.
واعتبر الدكتور عماد فوزي الشعيبي أن الهوية هي من السمات العامة التي تميز هذا البلد عن ذاك، وأن مفهوم الهوية يحمل سمة الإطلاق، وأن أغلب تعريفات الهوية هي موضوع إشكالي لا قيمة لهوية غير متوضعة في التاريخ، وأن الحرب فتحت المجالس أمام السوريين وهم غير مستعدين للحديث عن الهوية في هذه الأيام، ما يدفعهم إلى التشدد بالتمسك بهويتهم الوطنية.
وفي الجلسة الثانية التي انعقدت تحت عنوان “الهوية الوطنية: التربية والتعليم” وشارك فيها الدكتور قاسم العبد الله بورقة تحت عنوان “الهوية والانتماء والمواطنة: الأساس النفسي والتربوي في تشكلها” والدكتور عيسى العاكوب بورقة حملت عنوان”الإنساني والوطني في الهوية السورية المنتظرة: أولويات التربية في سورية” والدكتور بلال عرابي بورقة تحت عنوان “علاقة المناهج التعليمية في سورية بالهوية الوطنية الجامعة” والدكتور دارم طباع بورقة حملت عنوان “الهوية في المناهج التربوية المطورة”.
وأكد الدكتور العبد الله أن الهدف العام للتعليم هو إعداد المواطن، وتربيته كي يكون مواطناً صالحاً، وأن الهوية هي الكل الأكبر من مجموع الأجزاء، وأن الانتماء هو العمود الفقري للهوية الوطنية، موضحاً أن دور الأسرة هو الأكثر أهمية كونها المنشأ الأول لتكوين الهوية، وأن المؤسسات التربوية تكمل دور الأسرة، وهنا تبرز أهمية الثقافة المؤسساتية كعنصر أساسي في تكوين البعد الثقافي للشخصية الوطنية.
ورأى الدكتور العاكوب أنه من الغريب أن نتساءل عن هوية وطنية لسورية وهي التي ضحت بكل ثمين خلال الحرب، مبيناً أن الحرب أفرزت بشراً آدميين بالمعنى الإجرامي، ما يستوجب منا أن نسأل كيف نبني الإنسان أولاً، لأن المشكلة تكمن بأن الإنسان نحتاج إلى إعادة تنشئة جديدة.
وقدم الدكتور عرابي مقاربة لعدد من المناهج التدريسية في المدارس والكليات، وتطرق إلى المفاهيم المغلوطة التي تنشرها هذه المناهج، وضرورة إعادة النظر بها وتغييرها، لأنها لا تتوافق مع قيم المجتمع وعقده الاجتماعي وتطوره الثقافي والحضاري.
واعتبر الدكتور طباع أن الهوية الوطنية من الموروثات التاريخية والجغرافية، مبيناً أن الأخلاق والقيم والقضايا والمفاهيم الوطنية هي الأساس في المناهج التربوية، وأن وضع المناهج لا يتوقف على ظرف زمني أو حالة طارئة، وإنما يلامس هموم الناس على الأفق المفتوح زمنياً، موضحاً أن التطرف الديني والإرهاب هو ما يدفعنا للتفكير بالهوية، والمشكلة الحقيقية هي في بعض الشباب الذي انفصل عن الواقع الحالي، وأن الهوية الوطنية هي شكل من أشكال الانتماء الاجتماعي الذي يتضمن التعاون والإنصاف وتطوير الذات والتواصل والمواطنة والتنمية المستدامة.
وحملت الجلسة الثالثة عنوان “الهوية الوطنية: مسارات ممكنة” وشارك فيها الدكتور ” وضاح الخطيب بورقة تحت عنوان “العروبة المشرقية الشامية: تناقض في المصطلح أم ضرورة حتمية” والدكتور أحمد الدرزي بورقة بعنوان “الهوية المشرقية” والدكتور مقداد عبود بورقة حملت عنوان “الهوية العربية وفرعتها الوطنية السورية” والأستاذ نقولا ديب بورقة بعنوان “الهوية هويات” والدكتور عقيل محفوض بورقة بعنوان ” العبور نحو الهوية”.
ورأى الدكتور الخطيب أن الهوية هي مسرح للصراع في حالة طارئة، وأن العروبة هي نموذج أقرب ما يكون للنموذج القومي الأوروبي، وأنه عندما ننظر إلى الدول الأوروبية نجد أن هناك قاسماً مشتركاً للعب بتشكيل الهوية، لافتاً إلى أن النموذج الفرنسي قد نقل فرنسا من دولة كثيرة اللهجات إلى دولة ذات لغة مركزية، وأن الهويات الثقافية هي متحولة ترتبط دينياً وعشائرياً وإثنياً، أما الهوية الوطنية فتكون لها لغة دائمة هي خط الحدود الواضح.
واعتبر الدكتور الدرزي أن الهوية المشرقية هي مشكلتنا الكبرى لأن الصراعات على المنطقة ما تزال قائمة ولم تتوقف، وأن ما يجمع سورية والعراق على سبيل المثال هو أكثر مما يجمع سورية ومصر، فهناك تاريخ وحضارة وإرث مشترك، إضافة إلى التشاركية بالمكونات الديموغرافية والنتاج الحضاري.
واعتبر الدكتور عبود أن الهوية مستلزمة بتعريف الذات وأنها تنطوي على التوافق والاختلاف، وقد تشكلت نتيجة حركة التحرر الديمقراطي، مبيناً أن الهوية العربية في عصر النهضة ظلت قائمة رغم تعرضها للتدمير من قبل الرأسمالية.
ولفت نقولا ديب إلى أننا قد تأخرنا كسوريين بالسؤال عن الهوية لأنها مشاركة داخلية وسياحة داخلية للكل ومشاركة بالحياة فيما بينهم، وهي ذاكرة المكان، وتتضمن ذاتنا، مبيناً أننا بعد الحرب، لابد من أن نقوم بقراءة جديرة للمشاريع التي كانت موجهة ضدنا. ورأى الدكتور محفوض أن سورية تتكون من مجموعات بين الريف والمدينة ومن مستويات تتباين فكرياً، والسؤال هنا كيف يتم تشكيل هوية وطنية بينها، وكيف نعبر إلى تلك الهوية، موضحاً أنه على السوريين إدراك ما حصل لهم خلال الحرب وأخذ العبرة منه.
وكان المؤتمر قد انطلق أول أمس بثلاث جلسات تناولت عناوين “الهوية: إشكاليات التعريف” و”الهوية الوطنية: تحديات البناء” وفلسفة الهوية والأنا والذات والآخر والعوامل التي تهدد الهوية الوطنية، وذلك بمشاركة خبراء من أساتذة جامعات وكتاب ومفكرين وباحثين.
يشار إلى أن مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” مؤسسة بحثية مستقلة تأسست عام 2015 تعنى بالسياسات العامة والشؤون الإقليمية والدولية وقضايا العلوم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والقانونية والعسكرية.
