ها نحن نقترب من يوم الذكرى المئوية لتصريح “بلفور المشؤوم” الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، ذلك التصريح الذي وجهه إلى كبير اليهود الصهاينة في بريطانيا وهو البارون روتشيلد، وخلاصته أن بريطانيا سوف تعمل على اصطناع ما زعمه بلفور وطناً قومياً لليهود في فلسطين.
إن الدول الاستعمارية الغربية “والاستعمار لا يزال موجوداً وفي أشكال جديدة، إضافة إلى الأشكال التقليدية”، هذه الدول الاستعمارية التي ترعى “إسرائيل” وتحميها، وقد حمتها مراراً من الهزيمة على يد العرب. وهذه الدول الأطلنطية، وخاصة المملكة المتحدة “بريطانيا”، سوف تحتفل بهذه الذكرى التي هي بالغة الإيلام للعرب احتفالاً مدوياً، كما تحدثت بذلك مصادر ووكالات أنباء.
وإزاء ذكرى جريمة الجرائم هذه، أي “تصريح بلفور”، فإنني أقترح إحياء عربياً شاملاً لهذه الذكرى المشؤومة، وفي هذا الإحياء تنويه واضح بجرائم استعمارية أوروبية لتصريح “بلفور” وسابقة عليه، ولكنني أسجل في هذا الاقتراح أيضاً الثورات العربية الفلسطينية التي كانت في الوقت ذاته ثورات عربية شاملة، لأن مقاتلي ومجاهدي الأمة العربية جمعاء شاركوا فيها.
هذه واحدة، وأما الثانية فإنه لابد من الإشارة الواضحة عن تصاريح مماثلة لتصريح بلفور المشؤوم، وسبق ظهورها ظهور تصريح بلفور بنحو مئة عام، وذلك على النحو التالي:
أولاً: تصريح نابليون بونابرت لليهود: أي أن نابليون الذي صار رمزاً لفرنسا بعد الثورة الفرنسية، قد تجاهل مبادئ تلك الثورة التي انطلقت عام 1789، بل وداسها بالأقدام، وقد داس منها خصوصاً تحريرها لليهود الفرنسيين، أي ما اصطلح المؤرخون على تسميته: “تحطيم أسوار الغيتو”، أي أسوار المعازل اليهودية في المدن الأوروبية، أي أحياء اليهود المعروفة بالغيتو.
وعلى أي حال فقد سقطت جريمة نابليون هذه قبل أن تكتمل، بل حتى قبل أن يباشرها، إذ إن حملة نابليون الشرقية قد هزمت أوائل القرن الميلادي الثامن عشر في ثورة حي بولاق في مدينة القاهرة، كما أنها هزمت أمام أسوار مدينة عكا العربية الفلسطينية، وذلك قبل أن يهزم نابليون في روسيا القيصرية عام 1812 بعشرة أعوام.
ولأن نابليون بونابرت وعد اليهود في فلسطين، فإنه يوصف بأنه أول صهيوني غير يهودي، أي أنه بهذا المعنى كان صهيونياً قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال بسويسرا بنحو تسعين عاماً، أي قبل أن يؤلف تيودور هيرتسل كتابه المعنون بـ: “دولة اليهود” بالمدة نفسها.
وليس من الغريب أن عدوة نابليون عدوة فرنسا التقليدية، قبل ألمانيا، ونعني بها بريطانيا، قد تبنت وعد نابليون، هذا لكي تصدر بعده بمئة وخمسة عشر عاماً تصريح بلفور المشؤوم عام 1917، وللأسباب نفسها، أي أن تكون فلسطين قاعدة للاستعمار البريطاني في طريقه إلى شبه القارة الهندية.
ثانياً: في المرحلة نفسها أي أواخر ثمانينيات القرن قبل الماضي، وبعد أن أخمدت بريطانيا ثورة البطل أحمد عرابي لحساب خديوي مصر توفيق، عادت بريطانيا إلى التفكير مجدداً باستعمار فلسطين، واصطناع دولة لليهود منها لتكون قاعدة عسكرية لبريطانيا.
ويسجل الصهيوني البريطاني زانغويل والموصوف بالاعتدال، أنه قال لرئيس وزراء بريطانيا بالمرستون: إنه إذا أعطيت فلسطين لنا فلسوف نطرد العرب منها تماماً كما طردنا أسلافهم الكنعانيين منها قبل ألفي عام.
ثالثاً: لم تكن بريطانيا وحدها التي تتآمر لاستعمار فلسطين العربية، بل كان الكثير من الأوروبيين يشاركونها في هذا التآمر، وهذا ما سجله مؤتمر دافوس في سويسرا عام 1910، أي بعد تصريح نابليون بمئة وعشرة أعوام.
وأما مؤتمر دافوس هذا فهو مؤتمر يعقده كبار المتمولين والساسة الاستعماريين في العالم الغربي، وخصوصاً أوروبا الغربية والوسطى، ويدرسون فيه إحكام قبضة الرأسمالية على العالم.
وعن مؤتمر دافوس هذا صدرت وثيقة عرفت باسم صاحبها وهو وزير الخارجية البريطاني كامبل بانرمان، وعرفت باسم “وثيقة بانرمان”، وفيها يسجل أن ثمة عالماً يمتد من غربي القارة الآسيوية إلى البلدان الأفريقية شمالي الصحراء الأفريقية، وجنوبي البحر المتوسط، ويعني بذلك الأقطار العربية، وهو عالم، كما تقول وثيقة بانرمان، يقطنه شعب واحد يدين بديانة واحدة، ويتكلم لغة واحدة، أي الأمة العربية، وأن هذا العالم يشكّل، حسب وثيقة بانرمان، خطراً على الحضارة الأوروبية، وبالتالي لابد من شق هذا العالم العربي، وتقسيمه إلى شطرين ينفصلان عن بعضهما بكيان بشري أجنبي يمنع من توحيدهما.
إن وثيقة بانرمان تزعم أن العالم العربي خطير على أوروبا، هذا علماً بأن الحضارة العربية لم تكن خطراً على أوروبا، بل كانت مع الحضارة اليونانية القديمة أساس الحضارة الأوروبية الحديثة.
رابعاً: بعد وثيقة بانرمان هذه بسبعة أعوام، وبعد تصريح نابليون بونابرت بمئة وخمسة عشر عاماً، جاء تصريح بلفور المشؤوم عام 1917 لكي يجدد هوية هذا الكيان البشري الفاصل بين الأقطار العربية في آسيا، والأقطار العربية في أفريقيا، فقد حدده بأنه الدولة اليهودية، أو بأنه الوطن القومي لليهود في فلسطين، حسب تصريح بلفور.
وإزاء هذا التصريح فإن الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية لم يقفا مكتوفي الأيدي، بل أسس الشعب العربي الفلسطيني في أوائل عشرينيات القرن الماضي مؤسساته النضالية الأولى، المعروفة “بالمؤتمرات المسيحية- الإسلامية”، والتي كانت تنعقد كل عامين في مدينة يافا العربية الفلسطينية، كما أن الأقطار العربية ساهمت مساهمة فعالة إذ ذاك في دعم الشعب العربي الفلسطيني.
فمن هذه المساهمة الفعالة، أنه عندما دعا الاستعمار الفرنسي في سورية مجرم الحرب بلفور، فقد هب الشعب العربي السوري ضد تلك الزيارة، وفاضت شوارع دمشق بالجماهير الغاضبة على الاستعمارين الفرنسي والبريطاني معاً، الأمر الذي أرغم المفوض السامي الفرنسي على تهريب بلفور، نعم تهريبه ليلاً، إلى باخرة فرنسية كانت راسية في ميناء بيروت.
إذاً وبهذه الانتفاضات الأولى رد الشعب العربي في فلسطين وسورية على استفزازات القائد العسكري البريطاني وهو الجنرال “الينبي” الذي أعلن عند دخول الجيش البريطاني “القدس” غادراً بالثورة العربية حليفة بريطانيا عام 1917، إذ قال الجنرال الينبي: “الآن انتهت الحروب الصليبية”.
ولم يكن الجنرال الفرنسي غورو في سورية أقل وضاعة ونذالة من الجنرال الينبي في فلسطين، فذهب غورو إلى ضريح صلاح الدين الأيوبي وبدل أن يرفع قبعته أو يؤدي التحية العسكرية لرفاة هذا البطل العظيم في ضريحه الكريم، قال في نذالة مطلقة: “لقد عدنا يا صلاح الدين”.
وعلى أية حال، فإن الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية لم يسكتا على تصريح بلفور المشؤوم، فبعده بقليل، ورغم كثافة جيش الاستعمار البريطاني في فلسطين وحمايته للصهاينة، فقد هب الشعب العربي في بيت المقدس لحراسة “حائط البراق النبوي الشريف” الذي زعمته الصهيونية “حائط المبكى”.
وبعد ذلك بأعوام أربعة انطلقت ثورة عام 1933 بقيادة بطل الأبطال الشيخ عز الدين القسام ابن مدينة جبلة القائمة على الساحل السوري، تلك الثورة التي سبقتها جرائم حرب اقترفها الجيش البريطاني في وادي الحوارث، حيث أبادت المصفحات والدبابات البريطانية فلاحي وادي الحوارث الذين رفضوا أن يغادروا أرض آبائهم وأجداد أجدادهم، فدفعوا “أبهظ الأثمان”.
بلى إن بريطانيا هي عدو العرب وعدو الشعب العربي الفلسطيني الأول لأنها مؤسسة الكيان الصهيوني على أشلاء فلسطين العربية.
ولكن بريطانيا هذه أنجبت رجالاً أفاضل أو فضولاً على غرار أولئك العرب الأفاضل الذي كتب عنهم الباحث العربي السوري والفقيه بالقانون الأستاذ الدكتور جورج جبور عندما كتب عن حلف الفضول في مكة المكرمة قبل الإسلام، هذا الملف من الوثائق الأولى لحقوق الإنسان.
إن من هؤلاء الفضول البريطانيين القاضي البريطاني سير “جون هوب سمبسون” الذي كتب تقريراً رائعاً، كانت كلماته أشبه بالدموع يذرفها على الفلاحين العرب الفلسطينيين الذين اقتلعتهم بلاده من أرض آبائهم الأولين.
وإزاء هذا الظلم البريطاني، بل جرائم الحرب البريطانية، فقد انطلقت ثورة عام 1936 والتي كسرت وهزمت جيوشاً بريطانية عديدة، ولكن بريطانيا وسطت الحكام العرب لكي يوقفوا الثورة لكي تتمكن بريطانيا من مواجهة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية على أن تحل القضية الفلسطينية الحل الذي يرضي العرب بعد تلك الحرب، ولقد شارك في تلك الثورة عرب سوريون ولبنانيون، وكان قائدها البطل فوزي القاوقجي، كذلك وبسبب هذه الثورات الظافرة في ثلاثينيات القرن الماضي، فقد ألف حاخامات اليهود في فلسطين وفداً منهم ذهب إلى بريطانيا ليطالبها بإلغاء تصريح بلفور، أي إلغاء فكرة الدولة اليهودية من الأساس، إذ ذاك أيضاً كان في بريطانيا وزير اشتراكي من حزب العمال البريطاني واسمه سدني ويب، وكان وزيراً للمستعمرات، وإن كان في أعماقه رافضاً للاستعمار ومعادياً له، وبعد توزير السيد سدني ويب صار يدعى لورد باسفيلد.
ولقد أمعن الثوار العرب الفلسطينيون في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي في مقاومة الاحتلالين البريطاني والصهيوني، فقتلوا العديد من جنود الاستعمار البريطاني، وكذلك من الصهاينة في فلسطين، وعندما شكا حاييم وايزمان رئيس الوكالة اليهودية إذ ذاك شكا إليه أن العرب في فلسطين يقتلون اليهود رد عليه الوزير ساخراً بأن العديد من البريطانيين يموتون في بريطانيا بسبب حوادث السير، ولهذا فقد اعتبره مجرم الحرب حاييم وايزمان، والذي كان من تلقب بلقب رئيس الدولة في الكيان الصهيوني، معادياً للهيود، إذ إن تعبير اللاسامية المضلل لم يكن تعبيراً رائجاً إذ ذاك.
كذلك وفيما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ظهر بلافرة آخرون نسبة إلى بلفور، وكان أولهم ونرجو ألا يستغرب ذلك، فقد كان زعيم النازية ادولف هتلر، فقد عقد هتلر مع دافيد بن غوريون اتفاقية لتهجير اليهود الشباب إلى فلسطين في ثلاثينيات القرن الماضي مع تزويدهم بالأموال والآلات التي تضع الصناعة، أي المصانع مقابل أن يتخلص هتلر من اليهود المسنين في ألمانيا.
وهذا ما افتضح في محاكمة الضابط النازي أدولف ايخمان في الكيان الصيوني عام 1962، فقد فضح اتفاقية هتلر مع بن غوريون الذي كان يمثله شخص يدعى دكتور كاتس، وهو الذي وجد في اليوم التالي لهذا الافتضاح مشنوقاً في غرفته بأحد الفنادق.
وأما فرنسا فقد أنجبت شبيهين لبلفور، ومنهم “غي موليه” شريك انطوني ايدن البريطاني وبن غوريون الصهيوني، في العدوان الثلاثي على مصر العربية عام 1956، ولقد انتهى انطوني ايدن وهو بلفور بريطاني آخر إلى انهيار عصبي أدى إلى إقالته من رئاسة الحكومة البريطانية، إذ ذاك رأينا مواطناً بريطانياً حراً آخر هو السيد اينورين بيفن، ورغم أنه كان من حزب العمال الذي سهل اصطناع الدولة الصهيونية عام 1948 عند طرح القضية الفلسطينية أمام الأمم المتحدة التي كانت تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه صرخ في وجه ايدن عام 1956 قائلاً: إذا كنت تعتقد أننا نعيش في غابة، فتذكر أننا، أي الإنكليز لسنا أقوى الوحوش في هذه الغابة.
وأما في عام 1947 فقد شهد ظهور بلفور آخر، ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية هو الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي أرغم الدول الأعضاء الفقيرة في المنظمة الدولية، وبضغوطه الاقتصادية والسياسية بالغة الفظاظة، على تأييد قرار تقسيم فلسطين الجائر، في اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني عام 1947، فكان قرار التقسيم نسخة أمريكية عن تصريح بلفور البريطاني قبل ذلك بثلاثين عاماً، أي عام 1917.
إذ ذاك أيضاً وبعد ازدهار الثورة الفلسطينية عام 1947 و1948 تأهب هيرتشل جونز مندوب الولايات المتحدة الأمريكية إلى الأمم المتحدة لتقديم مشروع يلغي قرار تقسيم فلسطين، ويضعها تحت الوصاية الدولية لمدة عشرة أعوام يعاد بعدها النظر في القضية الفلسطينية، ولكن مجرم الحرب الصهيوني حاييم وايزمان رجا الرئيس الأمريكي أن يرجىء عرض مشروع القرار ذاك على الأمم المتحدة بضعة أيام تخلق الصهونية فيها ما أسماه الوقائع الجديدة والتي كانت عبارة عن مجازر ومذابح عديدة أشهرها مذبحة دير ياسين.
على أن أولئك البلافرة نسبة إلى بلفور لم يظهروا في بريطانيا وفرنسا وحسب، بل ظهروا أيضاً في ألمانيا الغربية والمعروفة بالاتحادية، وذلك عبر اتفاقية التعويضات، تلك التعويضات التي هي البانية الحقيقية لما يعرف بالاقتصاد الإسرائيلي، علماً بأنه غير إسرائيلي، لأنه يقوم على أملاك الشعب العربي الفلسطيني التي اغتصبتها إسرائيل، وعلى المعونات المقدمة إليها من الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الجباية اليهودية الموحدة، وعلى التعويضات الألمانية، وأما اتفاقية التعويضات الألمانية هذه، فقد وثقها كتاب مطبوع طبعة فاخرة، وأصدرته وزارة الاقتصاد في ألمانيا الاتحادية، ونحن نقرأ في ذلك الكتاب قوله: “أيها السائح الذاهب إلى “إسرائيل”، فلتعلم أن الطائرة الفاخرة التابعة لشركة العال الإسرائيلية، إنما هي طائرة ألمانية، وأنها اشتريت لإسرائيل بأموال ألمانية، وإذا ذهبت بالباخرة فإن الباخرة الإسرائيلية، إنما هي باخرة ألمانية، وأنها اشتريت لإسرائيل بأموال ألمانية، وأن السيارة التي سوف تنقلك إلى مطار اللد إلى الفندق في تل أبيب هي سيارة مرسيدس الألمانية، وأن النقود الإسرائيلية التي سوف تدفعها لسائق سيارة الأجرة سكّت في ألمانيا لحساب إسرائيل، وأن المصعد الذي تصعد به إلى غرفتك في الفندق مصعد ألماني الصنع، وقدم لإسرائيل بموجب اتفاقية التعويضات، وهكذا يقول كتاب وزارة الاقتصاد الألمانية، فإن كل نفس أو خفقة قلب في الاقتصاد الإسرائيلي تشهد بأنه أي هذا الاقتصاد من صنع ألمانيا الاتحادية بموجب ذات الاتفاقية اتفاقية التعويضات الألمانية الغربية لإسرائيل، وبالتالي فإن كونراد اديناور مستشار ألمانيا الاتحادية، أي رئيس وزرائها كان بعد هتلر بلفوراً ألمانياً على غرار بلفور البريطاني صاحب الوعد المشؤوم.
إن ما سردناه الآن يمكن أن يكون مع التوسع فيه أساساً أو بعض الأساس لاستعادة عربية لذكرى تصريح بلفور المشؤوم على أن تستمر هذه الاستعادة حتى نهاية العام الحالي ومطلع العام المقبل، ذلك لأن الليلة الفاصلة والواصلة بين عامي 1964 – 1965 هي ليلة انطلاق الثورة الفلسطينية الحالية والتي انطلقت وبدعم كامل من سورية العربية وحزب البعث العربي الاشتراكي وثورة الثامن من آذار 1936.