إنّ موقع سورية الاستراتيجي منحها أهمية اقتصادية وجغرافية وعسكرية وثقافية كبيرة مما جعلها محط أطماع الكثير من الدول حيث عانت من الاستعمار وويلاته واستطاعت الانتصار والحفاظ على استقلالها، ولا ريب أنّ دور وموقع سورية الجيوسياسي والاستراتيجي ومحاولة إضعافها وتطويعها والتقليص من نفوذها السياسي والعسكري هو أحد أهم أسباب الحرب التي تُشن عليها اليوم ,إنّ لهذه الحرب المدمرة أسبابها المباشرة وغير المباشرة وأهم أهداف هذه الحرب هو ضرب سورية نظراً لدورها وموقعها ودعمها للمقاومة.
الأسباب السياسية للحرب على سورية :
في مراجعة دقيقة للأحداث في السنوات العشر الأخيرة التي سبقت الحرب على سورية سيتضح لنا أنّ المساهمة الفعلية لـ سورية ،ووضع كل إمكاناتها العسكرية أمام حزب الله في معركته ضد الكيان الصهيوني وإجباره على الانسحاب من الجنوب اللبناني باستثناء مزارع شبعا في 25 أيار عام 2000 التي جاءت نتيجة سنوات طويلة من المعارك والعمليات التي شنها الحزب آنذاك على المواقع العسكرية التابعة للكيان الصهيوني لم يكن ليحدث لولا الدعم السياسي والعسكري واللوجستي المفتوح الذي قدمته سورية للبنان ،هذا الدعم الذي زعزع استقرار المستوطنات في الجليل وباقي الأراضي المحتلة ،وأرهق الكيان الصهيوني ووضع حداً لغطرسته حتى أنّ بعض بقايا الصواريخ التي كانت تسقط على المستوطنات الإسرائيلية كانت من صناعة سورية، وهنا فرضت سورية توازنا ًعسكرياً غاية في الأهمية في المنطقة مما جعل الكيان الصهيوني يُعد العِدة للحرب ضد سورية لكسر هذا التوازن ،وبدأت الأحداث تتوالى وبسرعة كبيرة لتأتي الحرب على لبنان في تموز 2006التي انتصرت فيها المقاومة اللبنانية ومن بعدها الحرب على غزة 2008 ،وقبل كل هذا الاحتلال الأمريكي للعراق وما كان له من نتائج كارثية عليه وعلى المنطقة ككل ،فعندما دخلت القوات الأمريكية إلى بغداد في آذار 2003 جاء كولن باول وزير الخارجية الأمريكي إلى دمشق والتقى بالرئيس السوري بشار الأسد وطلب إليه تليين موقفه من أمريكا في العراق ووقف أي مساعدة للمقاومة والاندماج في منظومة الاعتدال والانفتاح على اسرائيل، وأوضح أنّ أمريكا تضع أمن اسرائيل في صلب أولوياتها، لا بل إنّ هذا الأمر كان أهم من العراق كلّه و يتضح من هذه الشروط التعجيزية التي عرضها كولن باول أنّ تنفيذها يلغي الدور الذي أرادته دمشق لنفسها كجزء داعم لمحور المقاومة، فإدارة بوش تريد إغلاق مكاتب حماس والجهاد والمنظمات الفلسطينية والجبهة الشعبية – القيادة العامة المستمرة في المقاومة المسلحة وطرد قادتها من دمشق، وتريد أيضا وقف أي دعم لحزب الله ونشر الجيش اللبناني عند الحدود مع اسرائيل ما يعني إنهاء أي دور لاحق للمقاومة وطبعاً جاء الجواب السوري بالرفض لا بل حتى أن سورية قدمت الدعم للمقاومة العراقية ضد الجيش الامريكي الذي استنزف وأرهق في العراق على يد تلك المقاومة مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تنسحب من العراق حيث غادر آخر جندي أمريكي العراق في 18 كانون الأول 2011، وهذا أيضاً كان أحد أهم الأسباب للغضب الأمريكي على سورية .
إنّ احتضان سورية للمقاومة الفلسطينية واعتبار القضية الفلسطينية القضية المركزية لسورية والرفض القاطع لتوقيع أي معاهدات مع الكيان الصهيوني ومحافظتها على توازن الرعب معه واستمرارها بدعم حركات المقاومة العربية ضد الكيان جعل القوى الاستعمارية بالتعاون مع الكيان الصهيوني تخطط لحرب ضد سورية تستنزف مقدراتها من أجل الضغط عليها لتغيير موقفها. وقد بيّن المراقبون للوضع الإقليمي والعربي بأنّ الدول العربية الجاري تدميرها تحت اسم (الربيع العربي )هي تلك التي احتضنت أو دعمت سياسياّ أو عسكرياّ القضية الفلسطينية ولم تقم أي علاقة مع اسرائيل وهي العراق وسورية والجزائر(التي غرقت بحرب مع الإسلاميين مطلع التسعينيات )واليمن وليبيا .
وما كان لافتاً منذ بداية ما سُمِي (بالربيع العربي )أنّ ثمّة سعياً لخلق منظومة جديدة لإضعاف محور المقاومة كالإعلان عن ضم الأردن والمملكة المغربية إلى مجلس التعاون الخليجي .والمراقب اليوم لتصريحات ما تُسمَى( بالمعارضة السورية )في الخارج سيلاحظ تركيزها على عدد من النقاط تتلخص بـ تقليص عدد أفراد عدد الجيش السوري والحد من نفوذه بإضعاف قدراته العسكرية وامتناع سورية عن المطالبة بالسيادة على هضبة الجولان وإلغاء كل مطالبة باستعادة لواء اسكندرونة والتنازل عن مساحات واسعة في مناطق في محافظات كـ حلب وادلب لمصلحة تركيا، وإلغاء كل العقود الموقعة مع دول وقفت إلى جانب سورية كـ روسيا والصين والسماح بمرور خط نفط قطري عبر الأراضي السورية نحو تركيا ثم أوروبا ,كل ذلك من أجل حماية اسرائيل وإقامة نظام سوري يدور في فلك الدول ذات الارتباط العضوي بالحماية الغربية .
ومما لاشك به أنّ كل الدلائل تشير أن الحرب على سورية هي لمصلحة الكيان الصهيوني ,حيث أنّ تفكيك سورية وتقسيمها وزرع الفوضى فيها سيعني سقوط رمز العروبة (سورية )وهذا بدوره يعني تصفية القضية الفلسطينية وبالتالي تحقيق الكيان الصهيوني لحلمه في تأسيس “دولة صهيونية” في المنطقة ,فما أن اندلعت الحرب على سورية التي دخلت عامها السابع حتى انتقل الدعم الاسرائيلي من الظلمات والغرف السوداء إلى العلن بوقاحة لافتة وقامت الطائرات الاسرائيلية أكثر من مرة بمهاجمة مواقع سورية عند الجولان المحتل أو في الداخل السوري ,بالإضافة إلى تقديم الكيان الصهيوني كل التسهيلات اللوجستية لمرور الإرهابيين في مناطق حدودية فضلاً عن استقباله جرحى الإرهابيين في مستشفياته كل هذا أمام عدسات الكاميرات.
تعتبر سورية من أهم المراكز الجيوسياسية والاقتصادية بالنسبة لأطراف المعادلة الدولية الرئيسية، فموقع سورية على ضفة البحرالمتوسط الشرقية تجعلها بوابة ساحلية للقارة الآسيوية، كما يربط موقع سورية بين القارات الثلاثة آسيا وإفريقيا وأوروبا مما يجعلها على تقاطع خطوط التبادل والتجارة بين هذه القارات ،إنّ الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض الدول الغربية تريد السيطرة على سورية من أجل مد خطوط الطاقة من الخليج العربي إلى أوروبا عبر سورية لكسر حاجة أوروبا للغاز الروسي، وكذلك جعل الأراضي السورية ممراً للاستيراد والتصدير إلى دول الخليج العربي.
إنّ هذا الانخراط الجدي نحو محور المقاومة لمساعدة المقاومين في لبنان وفلسطين لعب دوراً مفصلياً في تسريع خطة التدمير الممنهج للجيش السوري، وللدولة، ولدور السوريين، فمنذ اندلاع أولى شرارات الحرب عام 2011 و تجييش كل تلك الآلة الإعلامية العربية والغربية ضد الدولة السورية. ومن الأيام الأولى للأحداث كان واضحاً أنّ الهدف من كل ذلك هو تسريع الخطوات لإسقاط هذا الدور وجرى تسليط الضوء على معلومات وإخفاءه عن أخرى تماماً كما يحصل في كل دعاية سياسية وأمنية ذات خطط مرسومة بدقة كل ذلك لضرب دور سورية وموقعها ,ويتبين لنا من الوثائق أنّ تدمير سورية كان مخططاً له منذ سنوات طويلة و ارتفع منسوب الخطط بعد اجتياح العراق وازداد أكثر بعد الانخراط أكثر من أي وقت في محور المقاومة والتحالف مع إيران وروسيا وحزب الله . كانت تلك الخطط تنتظر أي نافذة للولوج عبرها إلى سورية وجاءت الحرب لتُشرع الأبواب كافة فلم تكن مصادفة أن تُجمِع كل الدراسات والخطط الأمريكية والإسرائيلية على أنّ التقسيم العربي أمر لا مهرب منه تماماً كما جرى في السودان وعند إقامة كردستان العراقية. وهنا من الصعب التفكير بأنّ مئات آلاف المقاتلين الأجانب يعبرون كل الحدود الغربية والعربية والتركية ويصلون إلى ساحات القتال بدون تسهيل وأيضاً يصعب على العقل أن يصدق أنّ مئات آلاف الأطنان من الأسلحة والذخائر والأموال تدخل دون أن تفتح لها الحدود .إنّ أهم الأهداف التي أراد خصوم سورية تحقيقها هو تدمير وإشغال سورية بحرب لا تُعرف نهايتها ودفع السوريين لكره العروبة وعدم ذكر أي حديث عن حق العودة وإثارة الفتن الطائفية وتعزيز الإسلاموفوبيا (كره المسلمين )في الغرب بحيث صار كل مسلم مشتبه فيه لدرجة أن بعض الدول تجاهر بحصر الهجرة بالمسيحيين فقط ،وكل ذلك لإفراغ ليس فقط سورية بل المشرق كله من ثروته المسيحية ومكوناته الأخرى .
إعلان الشرارة الأولى للحرب على سورية في 15 آذار 2011
عندما أيقنت الولايات المتحدة الأمريكية والحلف الصهيوني العربي المنضوي خلفها من استحالة تحقيق انتصار عسكري على الدولة السورية بفضل توازن الرعب الذي يفرضه الجيش والدولة السورية ضد الكيان الصهيوني وخوف تلك الدول على اسرائيل قررت أمريكا ومن راءها الكيان الصهيوني والدول الداعمة لهما زرع عملاء لهم في الداخل السوري والعمل على تفتيت البنية الاجتماعية والاقتصادية السورية، وهؤلاء كانت مهمتهم تخريب وإيقاف عجلة التطوير في مفاصل الدولة ومؤسساتها عن طريق نشر الفساد والعمل ضد مصلحة المواطن السوري وتأليبه ضد دولته فمن يراقب من أعداء سورية الوضع الثقافي والاجتماعي والنهضة العمرانية الكبيرة والانفتاح الاقتصادي الذي عمل الرئيس بشار الأسد على تطبيقه منذ وصوله إلى سُدة الرئاسة سيتملكه الخوف من الدور البارز، والآخذ بالتعاظم الذي سيُمكن الجمهورية العربية السورية من لعبه ومن النفوذ الكبير والمؤثر الذي سيزيدها قوة ومناعة.
لذلك أخذت الحرب على سورية مسارين الأول يقوم على تعطيل وتخريب وإيقاف عجلة التطوير والتحديث إذ بدأ عملاء تلك الدول بنشر الفساد وخاصة في المناطق التي كان مخططاً لها أن تبدأ الحرب فيها، والمسار الثاني يقوم على زرع التطرف والإرهاب في بنية المجتمع السوري وذلك عن طريق جيش من الدعاة الإسلاميين المتشددين والممولين من أطراف خارجية والذين انتظروا ساعة الصفر لتوجيه الشباب للخروج إلى الميادين والساحات، وهذا ما بدا جلياً منذ بدء الأحداث في مدينة درعا وكان بتحريض من بعض رجال الدين هناك، حيث كانت كل المظاهرات تخرج من الجوامع وبدأ اللعب على مصطلح الغرائز الدينية في مجتمع يتميز بفسيفساءته وبتعدده وبتنوعه التي ميزته عن غيره من المجتمعات الأخرى في المنطقة، وما إن بدأت مرحلة ما يسمى (الربيع العربي )حتى أعلنت ساعة الصفر لبدء الحرب على سورية وبدأت القنوات الإعلامية الغربية والعربية وبتنسيق تام فيما بينها بتأجيج النفوس في سورية للتظاهر ضد الدولة وتخريب الممتلكات العامة وبتلفيق الأكاذيب والإدعاءات، وتصوير المقاطع المفبركة ضد الدولة السورية وقوات الأمن والجيش، وبداية قام بعض المأجورين بتحريض الناس على التظاهر وهم بمعظمهم من الفئة الإسلامية المتشددة في سورية الفئة التي تأثرت بكذبة التحريض الطائفي التي لعب على وترها الإعلام المشارك في الحرب على سورية وهنا كانت الشرارة لانطلاق الحرب وما لبثت أن تحولت هذه المظاهرات إلى تمردٍ مسلح وقامت أولى العمليات الإرهابية في مدينة درعا على يد فئة من المتشددين المتطرفين، والتي راح ضحيتها عدد من أفراد الجيش العربي السوري ,وبدأت الأحداث بالتسارع حيث أصبح بمقدور أي إرهابي أفغاني أو باكستاني أو تونسي أومن أي جنسية أخرى أن يصل إلى سورية للقتال ضد الدولة والجيش السوري وفُتحت الحدود والمطارات وقُدِمت الخدمات والتسهيلات اللوجستية لإيصال كل هذه الأعداد التي تريد المشاركة في القتال وأغلقت معظم الدول سفاراتها في سورية من أجل ممارسة مزيد من الضغط على الدولة السورية، وعقدت المؤتمرات تحت مسميات مختلفة كأصدقاء الشعب السوري وغيرها من المسميات التي لم تكن إلاّ من أجل التمويل وإعطاء الضوء الأخضر للجماعات المتطرفة ومن يقف خلفها لمواصلة قتالها هناك ,كل هذه الألوف المؤلفة من الإرهابيين الأجانب والمحليين الذين تغلغلوا بين السكان المدنيين في المدن والأحياء والقرى والتي اتخذوها منطلقاً للهجوم على الجيش السوري، وكل هذه التسهيلات لم تحبط من عزيمة الدولة السورية والجيش السوري عن متابعة دورهما في التصدي والمقاومة .
لقد أشار الرئيس بشار الأسد منذ اندلاع أولى شرارات الحرب على سورية بأنه كان على يقين أن أصابع الخارج هي التي ستعبث في الداخل هذا كان ما قد صرح به في مقابلة أجرتها معه قناة الخبر الايرانية في 4/11/2015 ,حيث أوضح فيها أنه :”عندما يكون هناك تدخل خارجي لا يمكن لهذا التدخل أن يعطي تأثيراً سلبياً كبيراً إلا إذا كانت هناك فجوات في هذا الوطن أو في هذا المجتمع .ونحن قلنا منذ البداية إن هناك أشياء كثيرة بحاجة لإصلاح في سورية وهناك ثغرات موجودة، هذه الثغرات نتحمل مسؤوليتها جميعاً كسوريين .طبعاً الدولة تتحمل مسؤوليتها في هذا الموضوع بالدرجة الأولى .وكلما ارتفع مستوى المسؤول يتحمل المسؤولية الأكبر .هذا بشكل عام ,لكن عندما نأتي لحقائق ما حصل في سورية لا نستطيع أن ننفي أهمية العامل الخارجي .عندما كان هناك دفع أموال من أجل الخروج في تظاهرات تحت عناوين لها علاقة بالدستور أو بالقوانين أو بالإصلاح ,قمنا منذ البداية بالتجاوب مع كل هذه الطروحات بالرغم من أننا نعرف بأن جزءاً كبيراً منها غير صادق وغير حقيقي ,ولكنه كان عنواناً .ومع ذلك دعونا منذ البداية لحوار سياسي بين القوى السياسية السورية .وكانت النتيجة اللاحقة لذلك الحوار هي تغيير الدستور ,تغيير البنود التي كانت تعتبر كما كانوا يدعون أو كما كان يدعي البعض بأنها سبب الأزمة .تم إصدار قوانين جديدة فيها المزيد من الحريات ,تشكلت أحزاب جديدة في سورية .تم تغيير قانون الإعلام .تقريباً تم إجراء كل الأشياء التي طلبت أو التي استخدمت كعناوين للتظاهر “.
الخاتمة :
أثبتت سورية ككل المرات التي تعرضت فيها لحربٍ ضروس أنّها عصية على السقوط الكامل دفعت ثمن ذلك كبيراً من دماء أبناءها وجيشها،كما انهار الكثير من بناها التحتية،و دُمِرت شواهد حضاراتها العريقة أو نهبت لكن المستحيل أن تُقسم مهما تعاظمت المؤامرات، فهي سترفض التقسيم تماماً كما رفضت الإغراءات لتغيير جلدها ,سورية ليست دولة مارقة أو عابرة هي بلد الحضارة والتعدد هي مفترق وملتقى الأبجدية التي وُلِدت فيها التقت فيها ولا تزال الحضارات والثقافات. إنّ تسلسل الأحداث المحلية والإقليمية والدولية الذي أدى لقيام الحرب على سورية والعمل الحثيث على تدمير سورية بجيشها وشعبها وثقافتها وحضارتها عبر الغرف السوداء كل ذلك حدث لنقل سورية من دورها المحوري في الشرق الأوسط إلى شبه دويلات مفتتة ومقسمة تحكمها النعرات والغرائز الطائفية، ولكن تبقى الحقيقة الوحيدة الواضحة والبديهية أنّ من خطط لهذه الحرب المدمرة، ومن فتح الحدود والمخازن من الدول المتآمرة عليها لا يهمه إن حصل إصلاح أم لا، الأهم بالنسبة له هو القضاء على سورية ودورها، ومن خلالها القضاء على ما بقي من فلسطين ومن كرامة في الوطن العربي.