ارتبط وجود منطقة الشرق الأوسط تاريخياً في الفكر الاستراتيجي الأمريكي بهدف تأمين مصادر النفط للأسواق الأمريكية. فالدور الهام الذي يلعبه النفط في الاقتصاد العالمي ليس هو إلا أحد الأسباب التي تمنع الولايات المتحدة من الابتعاد عن الشرق الأوسط. وما الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة على المستوى الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي لحلفائها في منطقة الشرق الأوسط إلا للهيمنة على أسواق النفط ولضمان بقاء ممرات الشحن..
لقد كان للهبوط الأخير في أسعار النفط تداعياته على الدول المنتجة للنفط وعلى آلية صنع القرار في “منظمة الدول المصدرة للنفط” (“أوبك”). فالكثير من الدول التي زادت إنفاقها في أعقاب “الربيع العربي” تغرق اليوم تحت ديون كبيرة، وحتى الدول الغنية المنتجة للنفط في الخليج وجدت نفسها مرغمة على التعامل مع انخفاض الأسعار من خلال تجديد إصدارات الديون. وعلى الرغم من أن دول الخليج تملك صناديق ثروات سيادية وشبكات أمان كبيرة تخوّلها التعامل مع انخفاض الأسعار، إلا أنها قد تضطر إلى النظر في آفاق إعادة التمويل، والقيام بإصلاحات هيكلية، وإجراء تخفيضات في استثمارات صناديق الثروة السيادية في مجالات معينة كالعقارات وأسواق الأسهم الأوروبية.
وقد برز مؤخراً عامل جديد بالنسبة للولايات المتحدة هو ارتفاع معدل إنتاج النفط نتيجة التحسينات التي أدخلت على تكنولوجيا التصديع المائي. والتحسينات الكبيرة في مجال كفاءة الطاقة إذ أصبحت الولايات المتحدة تنتج نسبة أكبر من نفطها الخاص وتستهلك نسبة أقل نسبياً .
ومن هنا انبثق مشروع “سياسة الطاقة” نتيجة المفاجأة التي أصابت صانعي السياسات جرّاء الاتجاهات الأخيرة التي شهدتها أسواق الطاقة والمخاوف من احتمال تراجع دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط نظراً لارتفاع إنتاج نفطها المحلي. وبالفعل، فإن الارتفاع في الإنتاج المحلي وما يرافقه من شعور متواصل بأن حرب العراق عام 2003 كانت بسبب الحاجة إلى نفط الشرق الأوسط، أدى بالبعض إلى الاستنتاج أنه يجدر بالولايات المتحدة أن تشيح بنظرها السياسي والعسكري عن المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، إنّ زيادة مستوى الاعتماد الذاتي يعزز قدرة واشنطن على الضغط على المنتجين في الشرق الأوسط في القضايا المتعلقة بالإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، فعندما كان وضع أسواق الطاقة متأزماً تضاءل نفوذ الولايات المتحدة في هذه القضايا.
أمريكياً هناك سلبيات لتنامي اعتماد الولايات المتحدة على انتاجها المحلي من النفط، خصوصاً إذا بدأت بعض دول المنطقة تقلق من تخلي واشنطن عن دورها كلاعبٍ رئيسي في أمن المنطقة، فقد تستخدم وسائل لضمان أمنها لا توافق عليها الولايات المتحدة. فضلاً عن ذلك، فبينما تقلل أمريكا اعتمادها على نفط الشرق الأوسط، قد تواجه الإدارات الأمريكية المستقبلية صعوبات أكبر في حشد الدعم المحلي اللازم للتدخل في الشرق الأوسط خصوصاً بعد احتدام الصراع بين الصين والولايات المتحدة وروسيا والعديد من القوى الصناعية الصاعدة على مصادر الطاقة ولذلك أضحت العديد من مناطق الوفرة في مصادر الطاقة مناطق صراع ابتداءً من منطقة الخليج العربي مروراً بآسيا الوسطى وبحر قزوين وأمريكا اللاتينية وصولاً إلى القارة الإفريقية.
تؤدي تقلبات أسعار النفط والابتكارات التقنية، بالإضافة إلى زيادة الحساسية لخيارات السياسات البيئية، إلى تغيير وجه النقاشات الدائرة حول وقود المستقبل، ليس في الولايات المتحدة فحسب بل في العالم أجمع. ومن غير الواضح إلى متى سيبقى العالم ينعم بإمداد كاف من النفط. ولكن من المرجح أن يبقى النفط مهيمن على مدى السنوات العشرين المقبلة. إذ تشير التوقعات على المدى القصير إلى أن أسواق النفط تتمتع بكمية كافية ووافية من النفط. ففي الاجتماع الذي عقدته منظمة “أوبك” في حزيران 2015، بدا أن الانتعاش الناشئ عن الطلب – الذي سجّل أعلى مستوياته منذ خمس سنوات – يؤدي إلى تحسن ملحوظ في أسعار النفط. وعلى الرغم من هذا التفاؤل حول الأسعار، حالت التباينات بين دول «مجلس التعاون الخليجي» ودول “أوبك” الأكثر فقراً، دون التوصل إلى قرار بشأن سقف سعري جماعي. وعلى النحو ذاته، جاء اجتماع حزيران 2016 انعكاساً لاجتماع العام السابق. وعلى الرغم من أن العديد من الدول المنتجة الكبيرة أجمعت على الحاجة إلى رفع أسعار النفط لتحفيز الاستثمار، لا تزال التفاوتات هائلةً بين دول «مجلس التعاون الخليجي» وتلك التي يُطلق عليها “الدول الخمسة الهشة” أي ليبيا والعراق ونيجيريا وفنزويلا والجزائر.
ولكن هل تعتزم الولايات المتحدة الاستغناء عن نفط الخليج؟، وهل حقاً ستشهد ثلاثينيات القرن الحالي تحقيق اكتفاء ذاتي لأمريكا من الطاقة؟
علينا هنا الرجوع إلى التاريخ أي ما يقرب من قرن منذ اكتشاف البترول في الخليج والذي أدى إلى تحقيق نهضة شاملة في الدول التي استعانت بالخبرات الأوروبية والأمريكية في بداية الأمر، خلال أعمال الحفر والتنقيب والمسوحات الجيولوجية والنقل عن طريق الأنابيب، وغيرها من سائر التقنيات المرتبطة باستخراج البترول وإيصاله إلى الأسواق العالمية. إلى جانب النهضة الشاملة بدأت مطامع الدول الاستعمارية تتجه إلى تلك الدول، خاصة حين تحول النفط إلى سلاح مقاومة خلال أحداث حرب تشرين 1973، حيث اجتمعت الدول الخليجية المنتجة للبترول وقررت مساندة مصر وسورية في حربهما ضد الكيان الصهيوني، فتم خفض الإنتاج تدريجياً بنسبة 5%، قبل اتخاذ قرار جماعي بمنع تصدير النفط تماماً للدول الداعمة لإسرائيل والتي تمدها بالأسلحة، و أسهمت تلك القرارات في تخفيف الضغط عن الجيوش العربية على الأرض، مصر وسورية.
تسبب قرار قطع البترول في حدوث أزمة في الطاقة، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية التي عمدت إلى تزويد العربات بالبنزين، بنظام التبادل وفقاً للأرقام الفردية والزوجية على مدى أيام الأسبوع، وكانت طوابير العربات تمتد لأمتار، وكانت محطات الوقود تعلق علماً أحمر صغيراً للدلالة على خلوها من الوقود.
عانت الولايات الأمريكية كثيراً من هذه المقاطعة ووكلت هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية وقتها، للتفاوض مع دول الخليج الذي بدوره قام بزيارة إلى مصر وسورية لتسوية الأمر.
بلغت خسائر الولايات المتحدة بسبب خفض إنتاج دول الخليج حوالي تريليون دولار، وضع الرئيس الأمريكي وقتها، ريتشارد نيكسون، خياراً لاحتلال ثلاث دول من دول الخليج، والسيطرة على نفطها، في حال استمرت دول الخليج في قطع البترول عن أمريكا، وأيقنت الإدارة الأمريكية أن دول الخليج أصبحت قوة لا يستهان بها بسبب النفط وينبغي إيجاد مصادر بديلة للنفط وللطاقة.
لذلك ارتأت أن السبيل الأمثل لمنع تكرار أزمة الطاقة مرة أخرى هو تخزين احتياطي النفط، فجرى تجهيز 60 كهفاً صخرياً تحت سطح الأرض، وقد وصل إنتاجها حالياً إلى ما يقرب من 700 مليون برميل من النفط، لتتخطى بذلك الاحتياطي الطبيعي للمملكة العربية السعودية، صاحبة أعلى احتياطي في العالم.
وقد نقل الصحفي البريطاني كريس بارانيو، في تحقيق له عن تفسير الحكومة الأمريكية لتخزين كل ذلك الكم الهائل من النفط، أن “الاحتياطي الاستراتيجي يشكل رادعاً مهماً في مواجهة وقف واردات الولايات المتحدة من النفط، وأداة مهمة في السياسة الخارجية”.
من جهة أخرى تعتبر منطقة الخليج العربي، منذ أمد بعيد، منطقة ذات أهمية للسياسة الخارجية الأمريكية؛ ولذلك فقد انطلقت السياسة الأمريكية تجاه تلك المنطقة من ضرورة حمايتها من أي منافس للولايات المتحدة، والذي من شأنه تهديد المصالح الأمريكية هناك، ولاسيما الحصول على النفط بأسعار منخفضة لها وإلى حلفائها؛ ولهذا فقد أعلن الرئيس كارتر في خطابة لحالة الاتحاد في 1980، أن أي محاولة من القوى الخارجية للسيطرة على الخليج يمثل تهديداً للمصلحة الأمريكية ويستدعي التدخل بالقوة لحماية المصلحة الأمريكية، وبالتالي حماية دول منطقة الخليج من التدخل الخارجي وكان يقصد بالقوى الخارجية (الاتحاد السوفيتي في حينه). وقد كانت أولوية أيضاً لإدارة كلينتون حيث تضمنت وثيقة الأمن القومي في عام 1996 أن أي تهديد لمنطقة الخليج العربي يمثل تهديداً للمصالح الأمريكية؛ مما يتطلب استخدام القوة المسلحة. وقد ظهر هذا جلياً إبان العدوان العراقي على دولة الكويت في بداية التسعينيات حيث انتفضت واشنطن لقيادة تحالف دولي للدفاع عن دولة الكويت، رغم عدم وجود تحالف رسمي بين الدولتين قبل مهاجمة العراق الكويت .
إن تدخل الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط جاء بآثار عكسية على أسعار النفط وعلى إنتاجه بدايةً من التأييد الأمريكي لإسرائيل في حرب تشرين 1973، والتأييد الأمريكي للعراق إبان حربها مع إيران التي رفعت أسعار النفط. صاحب السياسة الأمريكية غير المتزنة بالمنطقة سخط وغضب عربي شعبي من الولايات المتحدة؛ مما فرض قيوداً على تصدير النفط العربي إلى الولايات المتحدة التي تعتمد عليه في ثورتها الصناعية. ولهذا فشلت سياسة (كارتر ـ كلينتون) .
وفي دراسة “كليفورد سينجر” الخبير في مجال الطاقة والذي عمل بوزارة الطاقة الأمريكية ، بعنوان “النفط والأمن” تناول فيها دور النفط في العمليات العسكرية ولخص السياسات الأمريكية لتأمين مصادر الطاقة في ثلاثة تحركات هي:
– التدخل العسكري الجماعي وليس الأحادي كما كانت تتبنى إدارة بوش في الصراعات الدولية أو الداخلية التي لها تأثير على مصادر الطاقة.
– تبني الولايات المتحدة لسياسة الارتفاع التدريجي في سعر النفط من خلال التفاوض بين المستويات الإنتاجية ومنظمة أوبك.
– تبني سياسات محلية من شأنها تكييف الاقتصاد الأمريكي مع ارتفاع أسعار منتجات النفط.
ويرى كاتب الدراسة أن استقلالية أمن الطاقة الأمريكية سوف يمكن الولايات المتحدة من التعامل بحرية سياسياً ودبلوماسياً مع المملكة العربية السعودية والعديد من دول منطقة الشرق الأوسط لاسيما الخليجية المنتجة للنفط.
وتنوه الدراسة إلى أن التنقيب عن النفط محلياً يحظى بالقبول الشعبي عندما تكون أسعار النفط منخفضة، ولكنه يواجه معارضة وهجوم سياسي عندما ترتفع أسعار النفط، كما أن اقتراح فرض المزيد من الضرائب التدريجية على منتجات النفط النهائية لتخفيض معدل استهلاك النفط يواجه معارضة سياسية. ويلقى تقديم الدعم إلى مصادر الطاقة البديلة للنفط في الوقت الذي ترتفع فيه أسعار الأخير قبولاً سياسياً وشعبياً ولكنه يواجه أيضاً معارضة من كل أطياف المجتمع الأمريكي حال انخفاض أسعار النفط عالمياً . وأن التقليل التدريجي للواردات النفطية سوف يقلل من فرص واشنطن للتعامل مع الدول المستوردة للنفط. ولهذا يرى معد الدراسة أن الخفض التدريجي للواردات النفطية يضر بالأمن القومي الأمريكي على عكس من يقول أن خفض الواردات النفطية يصب في مصلحة الأمن القومي الأمريكي.
وحول نفس الموضوع رأت مجلة فورين بوليسي أن أهمية الشرق الأوسط بالنسبة للإدارة الأمريكية بدأت في التراجع، وأن الأسباب التقليدية لانخراط واشنطن وتدخلها في المنطقة تغيرت، حيث كانت أهم المبررات في الماضي تعتمد على احتواء النفوذ الروسي خاصة أثناء فترة الحرب الباردة (حالة الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق وحلفاء كل منهما منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي وحتى أوائل التسعينيات) والاعتماد الخطير على النفط العربي وحماية أمن إسرائيل، ثم ظهرت أسباب أخرى مثل مكافحة “التطرف والإرهاب”، و”بناء الديمقراطية” في أفغانستان والعراق.
وأشارت المجلة إلى احتمالية ظهور ثورة في مجال الطاقة في المستقبل في أمريكا الشمالية، قد تقلل بمرور الوقت اعتماد واشنطن على النفط العربي، ونوهت إنه للمرة الأولى منذ نحو ربع قرن، بدأ إنتاج الولايات المتحدة من النفط في التزايد بشكل حاد، إلى جانب الزيادة في إنتاج الغاز الطبيعي، ويتوقع البعض أن أمريكا ستصبح أكبر منتج للنفط والغاز في العالم خلال عشر سنوات، حيث توقع الخبير في شؤون النفط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، مايكل ليفي، أنه بحلول عام 2020 ستكون واشنطن قادرة على إنتاج 10 ملايين برميل يومياً، وهو حجم إنتاج السعودية الحالي من النفط يومياً. وفي حالة حدوث ذلك ستصبح أمريكا أقل اعتماداً على الشرق الأوسط كمصدر للطاقة.
كذلك أظهرت دراسة اقتصادية حديثة، قامت بها شركة “بريتيش بتروليوم” البريطانية أن الولايات المتحدة ستتحرر تماماً من الاعتماد على نفط الشرق الأوسط بحلول عام 2030، وذلك بسبب التوسع في الإنتاج المحلي من الغاز الطبيعي، ونقلت الدراسة عن أوباما قوله إن اكتشافات الغاز الأمريكية يمكن أن تكفي مائة عام.
ويبقى السؤال اليوم هل التوسع في إنتاج الطاقة من قبل الولايات المتحدة سيضاعف نفوذ واشنطن في المنطقة وهل سيفتح أمامها المجال لتعزيز المصالح الأمريكية بحزمٍ أكبر على مختلف الجبهات؟