فريد جنبرت
في كتابه الجديد المعنون بـ “سياسة التحالفات السورية (1918-1982)”، يقوم الدكتور بشار الجعفري، مندوب سورية الدائم في الأمم المتحدة، برصد أبرز المحطات التي مر بها تاريخ سورية الحديث، بدءاً من تشكل مفهوم الدولة الوطنية المستقلة لدى القوى والأحزاب السورية الوطنية والقومية، مروراً بفترة الانتدابات التي عصفت بالشرق الأوسط، وانتهاءً بفترة الاستقرار في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. لكن ما يميز هذا الكتاب هو المنهجية المختلفة التي تبناها د. الجعفري بهدف عرض أكبر قدر ممكن من الأحداث التاريخية والتقلبات السياسية التي مرت، ليس فقط على سورية، بل على الشرق الأوسط عموماً. هذه المنهجية، أسماها الدبلوماسي السوري بـ “الخطة المستندية”، أي مقاربة التاريخ السوري استناداً إلى الوثائق الحكومية والصحف السياسية ونظريات الأحزاب السورية والحياة السياسية لصانعي القرار السوريين الذين صنعوا التحالفات السورية.
ويجب التنويه هنا بأن الكتاب عبارة عن مضمون أطروحة دكتوراه دولة في العلاقات السياسية الدولية، حصل عليها الكاتب من جامعة السوربون في باريس عام 1989. ولكن المؤلف قام بتنقيحها ومراجعتها وإضافة معلومات عليها على مدار السنوات السابقة مع البقاء ملتزماً بقواعد البحث العلمي والأكاديمي. علاوة على ذلك، لم يعتمد د.الجعفري على التسلسل التاريخي في سرد الأحداث، بل على تبويب أفكاره ضمن مواضيع محددة عنون بها الأقسام التي تشكل الكتاب.
يتوزع الكتاب على قسمين رئيسيين: قسم نظري معنون باسم (ثقل مقومات المجتمع السوري في تقرير السياسة السورية)، ويتألف من بابين: الأول (المؤثرات الداخلية)، ويتحدث فيه الكاتب عن “النشاطات السياسية الداخلية في سورية” وعن تاريخ نشوء الأحزاب القومية العربية والانعزالية والشيوعية وحتى الاسلاموية فيها، أما في الثاني (المؤثرات الخارجية)، فيتحدث عن “الأثر الاستعماري والوحدة” و”الواقع الإسرائيلي”، ويقدم فيه المؤلف خلفية تاريخية للحركة الصهيونية وأهدافها منذ وعد بلفور عام 1917 انتهاءً باحتلال إسرائيل للجنوب اللبناني. في القسم التطبيقي، المكون من ثلاثة أبواب، يبين الكاتب آلية عمل السياسة الخارجية السورية وكيفية تعاطيها مع ميزان القوى الإقليمي، المتغير بشكل دائم، وذلك من خلال شرح هذه النقطة بشيء من التفصيل في الباب الأول، والمعنون (التحالف المتكافئ والاتحاد، سورية والعراق)، وأيضاً في الباب الثاني (التحالف المتكافئ والانصهار، سورية ومصر)، بالإضافة إلى تفكيك الغموض بما يخص علاقة سورية بالاتحاد السوفيتي، والتي كانت ضرورة “جيو – استراتيجية”، وذلك في الباب الثالث (التحالف غير المتكافئ، سورية والاتحاد السوفيتي). أما في مقدمة الكتاب، فيقدم د.الجعفري تعريفات رئيسية في مفاهيم (السياسة الخارجية السورية – ومفهوم الأحلاف)، و(الوحدة الإستراتيجية والأمن القومي العربي)، وهي مفاهيم يجب على القارئ معرفتها لفهم محتوى الكتاب بشكل جيد، بالإضافة إلى عرضه لتاريخ سورية بشكل مختصر في فصل (المسار التاريخي)، والذي يضم ثلاثة مواضيع رئيسية (سورية منذ أقدم العصور، والحلقة العربية – الإسلامية في مجابهة القومية اليونانية – الرومانية، والانحلال تحت التأثير الاستعماري).
وما يميز الكتاب هو تمييزه لمقاربتين أساسيتين في الدبلوماسية السورية يعكسهما نسيج التحالفات الإقليمية والدولية في المشرق العربي. ومن أجل ذلك ستركز هذه القراءة على هذه الزاوية الأساسية، بالإضافة إلى تناول إشكالية مهمة متمثلة بعرض التجارب السياسية لشخصيات دبلوماسية سورية معاصرة، والتي بدأتها د. بثينة شعبان في كتاب “عشرة أعوام مع حافظ الأسد 1990-2000 “، مروراً بكتاب “الرواية المفقودة” للأستاذ فاروق الشرع، وانتهاءً بكتاب د. الجعفري.
سورية.. ساحة معارك دائمة
في الجزء الأول من الكتاب، يحاجج د. الجعفري بأن سورية، نتيجة موقعها الجغرافي المتميز وكونها “قلب القارة الآسيوية” وصلة وصل بين آسيا وأوروبا، كانت ومازالت بوتقة للصراعات الإقليمية والدولية. فمنذ بزوغها كجزء من الهلال الخصيب، أصبحت هدفاً للكثير من الإمبراطوريات، بدءاً من غزو الفرس لها، مروراً ببابل وروما، ووصولاً إلى الفتوحات الإسلامية. وقد أصبحت دمشق، في العصر الأموي، المركز والمحرك السياسي والفكري والثقافي للإمبراطورية العربية. علاوة على ذلك، لم تنعم منطقة الهلال الخصيب بالراحة، فقد تم استهدافها من قبل مشاريع استعمارية عديدة شكلت دولة معاصرة غير قادرة على إعادة وحدة الهلال الخصيب الذي قسمته اتفاقية سايكس-بيكو.
أيضاً، جعل واقع التجزئة الأليم من سورية أرضاً للتصادم ونزاعات المحاور. وقد قام د. الجعفري بعرض تاريخي لهذه النزاعات: صراع العرب مع بيزنطة على سورية، ومشروع حلف بغداد البريطاني الذي أراد توحيد منطقة الهلال الخصيب للوقوف ضد المد الشيوعي والعروبي، والوحدة مع مصر والنزاع مع رجعيي ممالك النفط، بالإضافة إلى حروب الوكالات بين الكتلة الشرقية والغربية في الشرق الأوسط. إذاً، منطقة الهلال الخصيب هي أرض نزاعات بشكل دائم، وبالأخص سورية كونها قلب هذه المنطقة الشرق أوسطية، بالإضافة لاستهدافها بمشاريع استعمارية عدة أخطرها وعد بلفور، الذي خصص له د. الجعفري فصلاً كاملاً (الواقع الإسرائيلي) للكشف عن أبعاده الجيوبوليتيكة والخلفيات الإيديولوجية للقوى السياسية الغربية التي طعنت بمراسلات الحسين – مكماهون، وبالوعود البريطانية لإقامة وطن عربي كبير يحكمه العرب وعلى رأسهم الشريف حسين.
الصراع ما بين المثالية والواقعية
للإجابة على هذه الأسئلة، يجب متابعة مسار عمل السياسة الخارجية السورية في الماضي، وهذا ما حاول د. الجعفري القيام به. فمنذ استقلال سورية، سعت الكتلة الوطنية، بزعامة هاشم الأتاسي، الملقب بأبي الجمهورية، ومن ثم شكري القوتلي، لتبني سياسة وحدوية عروبية لا تتوافق مع المعطيات القائمة، مما أدى إلى انشقاق الكتلة الوطنية إلى حزبين أساسيين: الحزب الوطني السوري وحزب الشعب. علاوة على ذلك، حمل القوتلي الجيش مسؤولية الخسارة في حرب فلسطين (1948)، مع أن خسارة الحرب تعود للدراسة الخاطئة لشبكة التحالفات السورية الخارجية، والنقص في العتاد والتخطيط.. الخ.
يعرض لنا الكاتب بأسلوب سلس لماذا فشلت الوحدة المصرية – السورية. فقد كانت التطلعات للوحدة العربية في الأربعينيات والخمسينيات قوية لدرجة أنها تحولت في النهاية ليوتوبيا مثالية لا تتماشى مع الواقع والمعطيات الجيوبوليتيكية. فشكري القوتلي، رغم نواياه القومية العروبية الصادقة، تسرع في الذهاب إلى مصر وحث عبد الناصر على الوحدة، متجاهلاً الانقسامات الداخلية للمجتمع السوري في ذلك الوقت وعدم نضجه بعد لهكذا خطوة. إضافة إلى ذلك، تمت الوحدة على مبدأ الاندماج وليس الفيدرالية، مما أدى إلى حل جميع الأحزاب الوطنية السورية، ومن ضمنها كان حزب البعث. كان الانفصال هو السبب الأساسي لقيام ثورة الثامن من آذار والتي ثارت أولاً على الرؤيا السياسية المثالية الضيقة للطبقة الحاكمة في سورية. فمن جهة، هذه الطبقة لم تكن واعية بشكل كافٍ لخطورة حلف بغداد الذي كان يُراد منه، إضافة إلى محاربة المد الشيوعي، تطويق المد العروبي، وذلك من خلال تحول هذا الحلف إلى “المعاهدة” المركزية، حيث ضمت عدة دول غير عربية، بعدما انسحب العراق منها عقب ثورة 1958. ومن جهة أخرى، لم يكن للطبقة السياسية الحاكمة بعيد الانفصال أي دعم شعبي لها يمكّنها من الاستمرار وخصوصاً أنها كانت دائما تقف ضد الجيش الذي ثار عليها في النهاية.
عندما تسلم حزب البعث دفة الحكم في سورية، برز تياران رئيسيان فيه: تيار بقيادة وزير الدفاع، آنذاك، حافظ الأسد وتيار بزعامة صلاح جديد، ما أدى إلى تصادم هذين التيارين وأفضى ذلك إلى الحركة التصحيحية. وهذا ما يقوله الجعفري: “كان لابد في النهاية من حدوث المواجهة في فترتين: ففي نهاية شهر تشرين الأول العام 1970، أظهر اجتماع المؤتمر القومي العاشر لحزب البعث في دمشق، مجدداً، التفاوت العميق بين آراء وزير الدفاع والمعتدلين من جهة، وآراء المتشددين بقيادة صلاح جديد من جهة أخرى. وعندما وقف اللواء الأسد على المنبر، نادى بتحرير الاقتصاد وديمقراطية الدولة واتخاذ موقف أكثر حذراً في النزاع مع إسرائيل والتقارب مع الأردن”. يسمي الجعفري الحركة التصحيحية بفترة الإنفتاح لأنها أعادت “الصلة مع الجماهير”، وأخذت بعين الاعتبار موازين القوى في المنطقة من أجل تحقيق استقلال سورية وعدم تحويلها لدولة وظيفية. لذلك، يصف الكثير من المحللين والمؤرخين السياسيين الرئيس الراحل حافظ الأسد بـ “البراغماتي”، ويعتقد الكثير من قليلي المعرفة بأنها صفة سلبية، ولكنها هي التي أعطت لسورية فترة الرخاء والاستقرار وعدم التبعية طوال عقود.
براغماتية وحدوية
البراغماتية الوحدوية هي الصفة التي يطلقها د. الجعفري على سياسة الرئيس الراحل حافظ الأسد. فهي من جهة، لم تتخل عن المبادئ القومية الأساسية لحزب البعث، والتي كانت البوصلة للرئيس الراحل، ومن جهة أخرى احتفظت بمساحة واسعة للمناورة من أجل تحقيق هذه الأهداف الوحدوية. فمثلاً، لم يتردد الرئيس الراحل في التفاوض مع الولايات المتحدة، حتى فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي، و”يمكن تفسير التحسن الملموس في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وسورية من وجهة نظر اقتصادية أيضاً، لأن تسلم الرئيس الأسد السلطة اتسم بإعادة توجيه مسار الاقتصاد السوري في اتجاه تشجيع الاستثمارات الغربية في سورية”.
في تلك الفترة، يشرح لنا الكتاب أنه، وقبيل الحركة التصحيحية بوقت قليل، كان هنالك صراع أساسي داخل حزب البعث تمثل بالصراع التقليدي بين المثالية والواقعية أو البراغماتية. فجناح “صلاح جديد” كان يسارياً متشدداً إلى حد الجمود العقائدي، حتى أن هذا الجناح وافق على الارتهان الكامل للإتحاد السوفييتي بالإضافة إلى إرساله فرق دبابات لمحاربة النظام الأردني دون الأخذ بالمعطيات والنتائج السياسية والدولية لهكذا عمل. وقف اللواء الأسد ليذكر بمذهب الاعتدال، وليقول بأن سياسة جديد وجناحه تجعل سورية تابعاً للإتحاد السوفيتي، مما يجعل السلطة السياسية السورية منعزلة كلياً عن العالمين العربي والدولي. وبذلك عزل اللواء الأسد الجناح المتشدد من حزب البعث، والذي تحول إلى جناح ماركسي راديكالي، وأعاد العلاقات مع الممالك والدول العربية وحتى مع الدول الغربية، دون التخلي على حلفائه التقليديين. وبهذا الصدد كتب د. الجعفري: “من دون أن يتخلى عن حلفائه المحافظين الجدد، كان الرئيس الأسد يرغب بالاستمرار في سياسة التعاون العسكري مع حليفه الرئيسي الاتحاد السوفييتي. وأكد على اتجاهه عندما أوفد وزير الدفاع اللواء “مصطفى طلاس” في نهاية حزيران إلى موسكو، أي بعد شهرين من زيارته الخاصة للاتحاد السوفييتي”.
في العملية هذه، أي الحركة التصحيحية، حافظ الرئيس حافظ الأسد على استقلال سورية ضمن لعبة توازنات إقليمية ودولية خطيرة. ويمكننا القول بأنه في العقود الماضية اتسمت السياسة الخارجية السورية بالواقعية ما سمح لها بلعب دور إقليمي هام دون الإرتهان لأي قوى دولية معينة.
بغداد ودمشق والرياض
عانت سورية من مشاكل عديدة وخطيرة. فقد كانت هنالك تحديات عربية-عربية هددت دمشق. ومن أهمها التحدي القائم في بغداد. ويذكرنا الكاتب بالتنافس التقليدي والقديم بين بغداد ودمشق على الشرق الأوسط منذ العهدين الأموي والعباسي، وقد استمر هذا التنافس حتى بعد استقلال البلدين. وكان أخطر تنافس بين العاصمتين عندما أعلنت المملكتان الهاشميتان عن حلف بغداد لتقويض المد الديمقراطي والجمهوري القادم من سورية ومصر. لكن بعد سقوط الهاشميين في بغداد وقيام جمهورية عراقية موالية للسوفييت وللمحور العربي، بدأ التقارب بين دمشق وبغداد. لكن سورية والعراق عانيا من مشاكل عديدة حالت دون تحقيق حلف متين بينهما، بالإضافة لتدخل الرياض الدائم لتقويض أي عمل لتوحيد الجمهوريات العربية العلمانية. وبذلك، تم تأسيس مجلس تعاون دول الخليج، والذي طلب من الأردن الانضمام إليه، وخصوصاً بعد تحييد مصر وخروجها من الصراع العربي بعد معاهدة كامب ديفيد. فأي مد ثوري عروبي كان عبارة عن خطر على هذه الممالك وعلى نظام التحالفات الذي بنته مع الغرب.
بالرغم من ذلك، لم تكن جمهوريتا العراق وسورية على وفاق تام. ويذكرنا د. الجعفري بالخلافات التي كانت قائمة في ذلك الوقت: توقيع صدام حسين وشاه إيران في الجزائر على اتفاقية حصلت من خلالها إيران الشاهنشاهية على عربستان مقابل ترسيم الحدود مع العراق وتأمينها من أعمال الشغب التي كانت تدور بشكل شبه يومي. عارضت سورية هذا القرار وبدأت الحرب الناعمة بين البلدين، علاوة على الخلاف المستجد الذي حصل إثر إنشاء سد الطبقة على نهر الفرات، بالإضافة إلى الاتهامات المتبادلة بين البلدين والتي وصلت إلى حد الصراع شبه العلني فيما بينهما. وبهذا الصدد يقول د. الجعفري: “اتهم العراق سورية بفرض حصار اقتصادي عليه من خلال منع مرور البضائع من تركيا إليه عبر أراضيها. كما اتهمها بمصادرة البضائع المتجهة إليه عبر الميناءين السوريين: اللاذقية وطرطوس وميناء طرابلس اللبناني. وتلا ذلك الاتهام، قيام السلطات العراقية بتاريخ 22 آب بطرد مستشار في السفارة السورية في بغداد بتهمة قيامه بأعمال تخريبية. وردت دمشق بطرد السكرتير الثالث في السفارة العراقية في دمشق، كما أعلنت الحكومة السورية بتاريخ 17 أيلول عن ارتكاب أعمال تخريبية لصالح العراق، في حين زعمت بغداد في السادس والعشرين منه أن سورية عززت حملتها ضد السفارة العراقية في دمشق، ودمرت ثماني سيارات دبلوماسية تابعة لها”.
إذاً، تضاربت مصالح الممالك والجمهوريات العربية مع الأحلام الوحدوية في أكثر من فترة، ما أدى إلى انفجار الأوضاع الإقليمية بين العواصم العربية. وقد عرض د. الجعفري هذه الخلافات بدقة، لكن هل لهذا العرض من فائدة؟ إذا ما عدنا للفصلين الأكثر أهمية في الكتاب (براغماتية الأسد الوحدوية، والسياسة الواقعية)، يمكننا أن نجد الجواب على ذلك. فالرئيس الراحل استطاع التوفيق بين المبادئ العروبية والمصالح الوطنية، وهي معضلة لم تستطع بغداد في ذلك الوقت، ولا الرياض حالياً، أن تحلاها، ولا نزال نرى آثارها حتى الآن.
محاور الصراع العربي-العربي
كما رأينا في الفقرة السابقة، كانت المصالح العربية – العربية دائما تتضارب فيما بينها حتى انعكس ذلك في صلب آلية صنع القرار في سورية خلال الخمسينيات من القرن الماضي. فمثلاً، وكما ذكرنا سابقاً، انقسمت الكتلة الوطنية إلى حزبين: الحزب الوطني وحزب الشعب. ولكن كان لهذا الانقسام، مع حلول الاستقلال، أبعاد جيوبوليتيكية متصلة بصراع المحاور العربي – العربي. فقد كان الحزب الوطني حزباً “تقليدياً محافظاً يستمد اندفاعه من مدينة دمشق حيث تؤيده ارستقراطيتها، ويضم في صفوفه الأغنياء الجدد والوجهاء التقليديين وأصحاب الأملاك. كما كان نصيراً لسياسة الحياد الإيجابي ويميل للتفاهم مع مصر”. أما نقيضه حزب الشعب، فقد كان “يميل إلى بغداد، وقد شارك أكثر من مرة في مشاريع تهدف إلى توحيد سورية بعرش الهاشميين في العراق. وتعتبر مدينة حلب نقطة ارتكاز الحزب لأنه يعبر أساساً عن المصالح الاقتصادية والتجارية لبرجوازية الشمال السوري، المهتمة بالمنافذ التجارية }…{“.
يريد المؤلف، من خلال تقديمه لهكذا معلومات تاريخية، أن يبرهن بأن سورية كانت دائماً تواجه محاولات انعزالية متمثلة بالمشاريع الهاشمية، وتريد توحيد سورية تحت مظلة ملكية يتحكم بها البريطانيون. علاوة على ذلك، واجهت السعودية ومصر، بقيادة الملك فاروق، تلك المشاريع لأنهما، وكما يثبت الكاتب، لم تريدا وجود مملكة عربية كبيرة تواجههم، بالإضافة إلى العداء القديم بين آل سعود والهاشميين.
تشير هذه المعطيات إلى أن سورية دولة محورية لا يمكن تجاوزها جراء محاولات جميع الأطراف العربية والأجنبية إما ضمها لمشاريعهم أو حتى محاولة تدميرها كما يحصل الآن، وذلك بسبب مواقفها وأهميتها الجيوسياسية.
لكن هذا العرض للمؤلف فيما يتعلق بالتاريخ المستمر للحروب على الأرض السورية يطرح إشكالية هامة جداً.. هل يتعين علينا الافتراض بأن سورية هي عبارة عن دولة وظيفية؟ أي هل نستنتج بأن الدولة – الأمة السورية الحديثة هشة ومصطنعة لدرجة تحولها إلى أداة لصراعات المحاور الإقليمية والدولية؟ هل علينا التشكيك باستقلال سورية الحديثة، وخصوصاً بأن فترة الانقلابات في البلاد كان تتحكم بها قوى عربية عديدة، أولها السعودية؟ هل يقودنا ذلك في النهاية إلى الافتراض بأن سورية غير قادرة على أن تكون مستقلة لأن وجودها يعتمد على صراعات المحاور؟ يرينا د. الجعفري بأن الرئيس الراحل حافظ الأسد هو من أعطى صفة الاعتدال والاستقلالية لسورية وذلك من خلال تعامله مع أحداث المنطقة ببراغماتية دون التخلي عن المبادئ العروبية – الوحدوية، مع ابتعاده عن التشنج العقائدي الراديكالي لأسلافه ومعاصريه من السياسيين. ويمكن في هذا الصدد عرض مواقف سورية من حرب الخليج الأولى (الحرب الإيرانية – العراقية)، حيث وقفت ضدها بهدف عدم تحويل الحرب إلى حرب عربية – فارسية، بالرغم من التمويل الأعمى لصدام حسين من قبل دول الخليج. علاوة على ذلك، أدت هذه الحرب إلى تحويل الأنظار عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وسعت إلى إفشال “ثورة إسلامية صديقة”، يقول د. الجعفري، تقف مع القضية الفلسطينية.
خاتمة
لا يمكننا الإحاطة بكافة مواضيع الكتاب ضمن هذه الدراسة الموجزة بسبب الكم الكبير من المعلومات التاريخية للفترة محل البحث. فقد تحدث د. الجعفري عن حقبة تاريخية مهمة جداً تتضمن نشوء الدولة السورية الحديثة والاستقلال والقوى السياسية الفاعلة فيها وتحالفاتها في الداخل والخارج.. الخ.
لذلك سلطنا الضوء على تناول الكتاب من زاوية تصادم الرؤى القائم في تلك الفترة ضمن السياسة الداخلية السورية، والتي انعكست على السياسة الخارجية للبلاد، وذلك بين المثالية والواقعية، والتي هي، في اعتقادنا، الموضوع الأساسي للكتاب، بالرغم من تركيز المؤلف على فكرة أن كثيراً من الكتاب وقعوا في خطأ التصنيفات العامة، فتارةً يصفون سورية كـ “إحدى البلدان الراديكالية المتشنجة” وتارةً أخرى كـ “إحدى البلدان الواقعية البراغماتية”. لكن هل يمكن حقاً اعتماد أطروحة الكتاب القائلة بأن ذكاء الدبلوماسية السورية هي التنقل “من الصلابة إلى المرونة، ومن الواقعية إلى المثالية وبالعكس أيضاً”. أليس هذا التنقل بحد ذاته براغماتية واقعية بحتة، تستفيد من المعايير المثالية لتحقيق منفعة البلاد؟ إضافة إلى ذلك، هل أراد د. الجعفري إظهار تفاعل العاملين الداخليين السياسي والإجتماعي مع العامل الخارجي الذي يشكل سياسة التحالفات؟ أم أن عنوان الكتاب فضفاض لدرجة يصبح فيه اللغط ممكناً؟ أي هل الكتاب هو دراسة لسياسة التحالفات الداخلية للقوى السياسية والحزبية في سورية، أم أنه دراسة لشبكات التحالفات الدولية التي نسجتها سورية في تلك الفترة؟
على أي حال، تكمن أهمية الكتاب، في جانب منه، في دخوله عملية التأريخ وعرض الخبرات السياسية لشخصيات سورية رسمية كان بدأها كل من النائب السابق السيد فاروق الشرع، والمستشارة السياسية د. بثينة شعبان. فالعودة لفترة الاستقلال وما بعدها لها أهمية لا تنكر بما تتضمنه من صراعات وتحالفات وسياسات إقليمية ودولية تؤثر حتى هذه اللحظة على سورية.
سياسة التحالفات السورية (1918-1982)
الطبعة الأولى: نيسان 2015
بيسان للنشر والتوزيع. لبنان، بيروت