يحدث أحياناً في لعبة كرة القدم أن يتسبب الدفاع عن ميمنة أو ميسرة الفريق بأن يسجل الفريق الآخر هدفاً في مرماه، حدث تسجيل لاعب لهدف في مرمى فريقه هذا تسع مرات في بطولة كأس العالم 2018 وهو أكبر رقم لهذا النوع من الأهداف في تاريخ البطولة. لكنك لن تجد مثالاً أكثر وضوحاً مما وقع في ملاعب روسيا، كما أنك لن ترى مثالاً أوضح مما قامت به إدارة ترامب التي عقدت العزم على شن حرب تجارية مع الصين، الأمر الذي يشبه تسجيل اللاعب لهدف في مرمى فريقه، وإدارة ترامب قوية في مقاربتها لكنها عمياء في تصويبها ومؤذية في تبعات أفعالها.
بدأ مسؤولو الولايات المتحدة بتحصيل تعرفات جمركية مقدارها أربعة وثلاثون مليار دولار فرضت على البضائع الصينية وذلك بعد أشهر من التحذيرات والتهديدات والمفاوضات الفاشلة مع الصين، وفي رد منها على هذا الإجراء قالت بكين أنها سترد بالمثل عبر رفع رسوم استيراد لحم الخنزير من الولايات المتحدة وفول الصويا والسيارات، جاء الرد على الرد بأن وعد ترامب بالانتقام من خلال رفع التعرفة الجمركية إلى مبلغ يتجاوز مائتي مليار دولار على البضائع المستوردة من الصين إن قامت الصين بالمضي في فرض تعرفتها الجمركية.
يشار إلى هذا النوع من التراشقات بمصطلح الحرب التجارية، إلا أنه قد يكون من المجدي أن نفكر بالأمر على أنه أزمة ضرائب عالمية. كثيرة هي الألفاظ التخصصية في مجال التجارة، فمن تلك الألفاظ كلمة “تعرفة” و”رفع سعر” و “إجراءات انتقامية”. غير أن التعرفة ببساطة هي: الضريبة التي تدفعها الشركات التي تستورد بضائع أجنبية، وهو ما يؤثر على ارتفاع أسعار تلك البضائع ليجعل الشركات المحلية –نظرياً- تغدو أكثر تنافسية، وإليكم مثالاً سريعاً: فقد زادت التعرفة الأمريكية على الخمور المستوردة من اسكتلندا من أسعارها لصالح المشروبات الأمريكية، وهذا عقوبة لشاربي المنتجات الاسكتلندية، غير أنه يساعد صانعي الويسكي الأمريكي عبر جعل منتج “بوربون” يحظى بمزيد من الجاذبية.
قال ترامب “الحروب التجارية أمر جيد والفوز بها سهل” ولنتأمل تفاصيل ما قاله. أول ما يقال هو أن الحروب التجارية ليست بالأمر الجيد في أي سياق. لقد تواردت تقارير كثيرة عن الأضرار التي تسببت بها التعرفات الجمركية التي فرضها ترامب، مثال ذلك أن شركة هارلي ديفيدسون [منتجة الدراجات النارية الأمريكية/المترجم] أعلنت أنها ستنقل بعضاً من معاملها خارج الولايات المتحدة لتعوض ما تدفعه من تعرفات جمركية مفروضة على صادرتها إلى الاتحاد الأوروبي، كما أجلت المصارف استثماراتها في المعامل الأمريكية الجديدة خشية أن يطالها أثر زيادة التعرفة، أما منتجو الويسكي فيشعرون بالقلق من بدء فرض التعرفة إذ أن نتائجها خلال ستة أشهر قادمة قد لا تكون محمولة. ولعل ترامب سيرى أن الوضع يجري لمصلحته، فمن أصل ثلاثين ناحية إدارية لكل منها ممثل في الكونغرس صوتت خمسة وعشرون ناحية لصالح ترامب مع أنها منيت بأقسى العواقب بعد فرض ترامب للتعرفة على الصين.
النقطة الثانية هي أنه يسهل الفوز بالحرب التجارية إن كنت –مثلاً- تفرض ضرائب على جزيرة صغيرة تقودها حكومة ضعيفة لا يعلم ما مصيرها في انتخابات قريبة ولا تستطيع أن تنهض بصناعاتها. لكن الصين ليست كتلك الجزيرة، فلها اقتصاد سوق اجتماعي هائل وليس من ضغط سياسي على حكومتها. هنالك مقولة من إحدى الأفلام مفادها “لا تدخل في حرب تجري على الأرض في آسيا” وغالباً ما يشار إلى تلك المقولة بأنها خاطئة، لكن ما لا يعرفه كثيرون هو مقولة “لا تعادِ اقتصاد السوق الاجتماعي عندما تكون معدلاته تسير حسبما هو مقرر لها”.
وعليه؛ ماذا يريد ترامب أن يحققه هنا؟ حري بنا القول إن علاقة الشركات الأمريكية والأوروبية قوية بالصين التي تمكنت من الحصول على براءات اختراع لتقنيات وفرت ظروف البيع في الأسواق الصينية. أما ترامب فقد بعثر حلفاءه يمنة ويسرة، إذ رفع الضرائب على الفولاذ المستورد من كندا والاتحاد الأوروبي إضافة إلى إهمال حلفاء الناتو، وذلك في الوقت الذي تناشد فيه كندا لأجل الحصول على مساعدات عالمية. من شأن تلك التكتيكات والاستراتيجيات أن تؤدي إلى تضارب في الاتجاهات.
يقول جوش ميلتزر العضو البارز في برنامج الاقتصاد العالمي والتنمية “لقد ألحق ترامب خسائر اقتصادية بالبلاد دون تحقيق أية أهداف محددة، بل زادت التعرفات الجمركية على حلفائنا وأبعدناهم عنا، وهو ما سمح للصين من أن يصفونا بالخارج عن الإجماع الدولي”.
التحليل الأوسع مما ذكر للتو هو أن فترة رئاسة ترامب والتجارة الصينية يتمتعان بعلاقات تاريخية كامنة، ففي مطلع القرن الماضي بدأ الأمريكيون بشراء الكثير من المنتجات الصينية بعد انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، وأصبحت أسعار تلك المنتجات أقل في العام 2001، غير أن شراء البضائع من الصين دمر ملايين الوظائف ولا سيما في المدن التي توجد فيها منشآت صناعية، وبحسب ما قاله المحلل الاقتصادي ديفيد ارتور فإن تلك المدن هي التي صوتت لصالح دونالد ترامب بعد سنوات، إذن فنحن لا نبالغ إن قلنا إن التجارة مع الصين كانت ذات أثر على القوة العاملة بشكل أثر على وصول ترامب إلى سدة الرئاسة.
هنالك طرق مجدية لتحسين وضع العمال الصناعيين أفضل من شن حرب اقتصادية على العالم بأسره، إذ كانت شبكات الأمان والفوائد العالمية والسياسات الفدرالية ستجعل العمال ينتقلون إلى مدن أخرى للتصدي للآثار الحادة للعولمة في بعض الصناعات “لكن الولايات المتحدة” والكلام لمليلتزر “لم تشجع حركة انتقال العمال بل منعت التجارة الحرة، كان الأولى أن يكون –لإدارة ترامب- نظام شامل يثبت العاملين في مواقعهم، لكن الولايات المتحدة ما فعلت ذلك”.
فشلت السياسة الاقتصادية الأمريكية في جعل العولمة آمنة وديمقراطة، وفي هذا السيانرايو فإن هدف الولايات المتحدة الاقتصادي لا يبدو فقط مثل هدف مفاجئ في مرمى الفريق نفسه، بل إن اللاعبين أنفسهم يسجلون في مرماهم حتى وإن لم يمس اللاعبون الآخرون الكرة.
المقال السابق
المقال التالي