كتاب طلائع الطل- إصدار دار مرام للنشر عام 2017 ألمانيا دريزدن – للكاتب المبدع أكثم علي ديب هو كتاب فريد من نوعه، مذهل بإعجازه اللغوي والفلسفي، فلم يحمل لنا التاريخ في طياته كتاباً مثله، الكتاب المرشح لدخول موسوعة غينس في الإعجاز اللغوي هو رواية فلسفية في اللاهوت والحكمة والفلسفة والمرأة والحب والحياة، نصف حروف اللغة العربية فيه وحسب محبوك ومسبوك وكأن كاتبه يملك ناصية الحرف ويتلاعب باللغة ويعيد صياغتها بإتقان وعناية بأحرف مهملة، والأحرف المهملة كما يعرف معظمكم هي: الألف والحاء والدال والراء والسين والصاد والطاء والعين والكاف واللام والميم والهاء والواو
في البحث عن السعادة يبحر الكاتب في عوالم مذهلة، يحاول الإفلات من سلال الزمن التي تقيد الفكر والجسد، يطرح تساؤلات كثيرة، فأول ما في الفلسفة تساؤل كبير، عن الطبيعية عن الإنسان عن العقل والضمير والروح وعن الصراع الذي يكتنف النفس البشرية في ظل واقع يقيد الإنسان ضمن عوالم افتراضية قد تخفي الحقيقة ويصبح الطريق إلى السعادة غير واضح المعالم..
كتاب يبحث في أشياء جوهرية لنعرف من نحن لم نعيش ؟ وكيف نصل إلى السعادة ! السياق المدهش والانتقال من حالة إلى أخرى، من نقاش إلى آخر بل من عالم ومرحلة بما فيها من تصورات ورؤى إلى أخرى بسلاسة، من الفلسفة الإغريقية أفلاطون وأرسطو إلى بين الفلسفة المجردة والفلسفة الروحانية إذا صح التعبير بين الخيال الذي اسقط على واقع معاش مرير.
الكلام :
موسى بطل الرواية ولد وحيداً للبحث عن السعادة المفقودة وعن الحظ الذي لم يجده، ولد في خضم الصراع ما بين الخير والشر مقيداً بسلاسل وأصفاد، لكي يجد الطريق إلى السعادة، إلا أن الطريق صعب والصراع مرير فتارة يغوي الشيطان موسى وتارة أخرى يستعين “بطلال: وأرسل الله له طلالاً، وطلال سرّ أسراره وسمعه وعصاه ورؤاه وحاله” بروحة وعقله وحواسه وبصدى فطرته للسير إلى الأمام لا للوراء.
موسى هو مزيج العقل والضمير والروح في رحلة البحث المريرة في العقائد والطرق والأساطير في الأخلاق و الفلسفة و الواقع، يسقط وينهض ليصل إلى السعادة المفقودة، إنه الإنسان المصمم والعنيد، القوي والضعيف في آن واحد الذي سلك الطريق الوعر للوصول إلى المعرفة بالعلم.
“وُلد موسى أوّل محرّم، عصر الأحد السّادس وراء أوّل العام، على سطح داره المطلّ إلى السّماء كما هو دوماً مطلّ على المساء. اسم أمّ موسى سعاد، واسم والده أحمد. وسعاد سمراء وممكور ورائعٌ ورُداح.وما أكل موسى طعام صدر أمه ولا رأى والده الكهل أحمد. رحل أحمد وصعّد الله روحه وروح سعاد معاً، أول محرّم عصر الأحد السادس وراء أول العام السادس، وما رأى موسى أمه ولا والده، ودّ لو رآهما..”
يظهر الكاتب موسى الحائر الذي يبحث عن إجابات لأسئلة عن العقل والروح إنها الإشكالية المشبعة بالرموز والإيحاءات فاللاحد وللرقم “6” الكثير من الدلالات فالخلق تم في ست أيام، وسته هو رقم عدم الكمال أو النقص، هو رقم الإنسان المحروم من الله، أو بدون الله، والستة تشير إلى الإمام السادس جعفر الصادق و ظهور المذاهب الإسلامية حيث مزج الكاتب ما بين الإمام الكاظم ونتثائي السادس تلاميذ السيد المسيح …أي أن “موسى ومعه طلال ولد لسبر الأعماق في سبيل الوصول إلى السعادة في لحظة مفصليه تحمل الكثير من المعاني فيسأل :
” هل العصا سحر أم وهم أم علم ؟ولما لا ردّ، عاد وسأل السماء وصاح هادئاً :ما كلام الروح وما روح الكلام ؟ كل سؤال حائر. ما رسل الروح وما روح الرسل ؟همس طلال :سؤالك حائر ومائل وحائل.. لا سؤال ولا سائل”
يبحر ويناقش الفلسفة الاغنوستية لا يرتوي فلا أجوبة ولا تحديد فالغيبية غير محددة ولا يمكن لأحد تحديدها، والعقلانية حيث يرد الأصل إلى العقل فقط وينكر دور الحواس أو المعرفة القلبية أو المعرفة عن طريق الوحي، كما يناقش المثالية التي تعطي الأولوية في الوجود للروح على حساب الوجود المادي الثانوي، وهذا يقود موسى وطلال من مكان إلى آخر في النقاش والحوار..
ارتمى موسى الحائر في حضن الشيطان يبحث عن السعادة بالإلحاد، “أعطى موسى عمره كله للمارد، إلا عاماً واحداً هو له، عام حول كامل كله ملكُه، عامٌ ملْكٌ وسحر وعلم كله، وكلما أراد حصول أمر صار…….موسى مولودٌ ملحد….وأطل طلالٌ وطلالٌ ألمٌ ملحد”
يناقش العلمانية الملحدة، وفي لحظة ما عندما “تمايل المساء” يأخذ الإلهام موسى إلى مكان آخر لمناقشة عالم القيم من رؤى أفلاطون لعالم الأفكار والحواس، عالم الحواس حيث وجود الأشياء محتوم بالولادة والزوال، بينما عالم الأفكار يسمح لنا بفضل استخدام العقل بالوصول إلى المعرفة الحقيقية، أي إلى عالم الأفكار أو النماذج الخالدة التي لا تعرف التغير، وإلى وحدة الكون وفكر أرسطو الفلسفي المبني على مفهوم المحرك الأول الذي لا يتحرك أو “الله” السبب الأول لحركات الكون والطبيعة.
إلا أن الطريق طويل.. فهل للعالم روح وهل أصل الوجود هو “فكر وعقل العالم “، موسى يناقش بل يشرح فكر هيغل وكانط.. إلا أنة لا يرتوي والرحلة تستمر.
إنه الصراع ما بين الخير والشر، وتزاحم الأفكار يستمر وينتصر الضمير تارة والعقل تارة أخرى على مارد الشك والأفكار التي تناقض كل شي، فالصورة في هذا الزحام أو الاطلاله على الأشياء والتي قد تبدو جميلة تخفي في العمق ما لا يفهم ! “لا سطح لموسى لا دار لموسى…هدم الحراس الدار”
هل الرسائل السماوية هي الطريق إلى الخلاص! ها هو ذا موسى “المسلم” في منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى الله، أي الوصول إلى معرفته والعلم به والإيمان به، وذلك عن طريق تربية النفس وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، وتحليته بالأخلاق الحسنة.
“أموسى ما الله ؟ صاح المسلم موسى وحوارٌ دارَ :هو الودود الواسع الصمد، مالك الملك ما حدّه أحد، عادل وعدل وحاكم، علّم آدم الأسماء والكلم، والروح كلام الله وماؤه الطاهر، وهو راسم الأعمار ودارس الأمم، رأى كلّ ملِك ومَلَكَ كلّ مُلْك..”
في المرأة :
ووصايا لمعاملة المرأة بود واحترام ورقه وإحسان، وفي ثنائية حواء وادم أي “الإنسان” والضرورة كي يتمكن الإنسان من معرفة نفسه ووحدته مع الخالق فكيف يصل في ظل ثنائية الشهوات والشك وكأننا في صراع ابدي مستمر
الآلهة الأنثى.. الآلهة المسلوبة الإلوهية ومكانتها رغم انقلاب الربوبة من الأنثى عشتار البابلية “ونيت في المثيولوجيا المصرية ” إلى الذكر الإله “أن” في سومر ، “صحا موسى وسار وحده على رمل الصحراء ووصل رمل ساحل سهلٍ ورأى عَرْهَرَاً سمراء كأمه سعاد واسمها: لمى. ومعها وَلَدٌ، ولـ لمى صدر أملس ولها رأس أعمى، صاح موسى وأوصى كل مولّهٍ ومدلّهٍ ومُوْلَعٍ وهاوٍ و وَلِهٍ”
تتولد الأفكار والرأي والحوار حول ثنائية الثالوث ” أطعمها أحمراً واروها أحمراً ” ويبدأ الغوص في اللاهوت في النبيذ والدم وفي القرابين، وكأننا نغوص عبر التاريخ من جديد وتتزاحم الأفكار والمعتقدات في الفكر والرمزية واللاهوت، حيث صنع الإنسان البدائي في العصر القديم تماثيل طينية للإلهة الأم تبرز مناطق خصوبتها، كما ظهرت منذ مطلع الألف الثامن قبل الميلاد وضعية أصبحت كلاسيكية وهي وضعية الإلهة الأم ممسكة بثدييها العاريين، والتي سنجدها خلال الفترات اللاحقة لدى كل ثقافات الشرق القديم تقريباً، كرمز لخصب الإلهة الأم، ثم ظهرت رموز منها الصليب المعكوف والصليب العادي اللذين استمرا رمزين مقدسين في الديانات الأمومية والذكرية على حد سواء، وصولاً إلى “السيد المسيح” وأمه “مريم” آخر أم كبرى في الديانات البشرية، ومازال الصليب المعكوف رمزاً مقدساً لدى الهندوسية والبوذية، كما وجد في نقوش ورسوم الهنود الحمر في أميركا، وصليب النازية ما هو إلا إحياء لرمز مقدس للقبائل التوتونية التي انحدر منها الألمان، ومن الرموز الأولى الفأس المزدوج، كما ارتبطت بها رموز حيوانية أهمها الحمامة والأفعى والثور، وبعد تعلم الإنسان صناعة الجرار الفخارية أصبح الإناء الفخاري أحد رموز “الأم الكبرى”.
يناقش الكاتب كل ما هو خارج المألوف ونقيض الأشياء ويتكفل المارد بذلك، في حوار حول الأساطير ومعتقدات الأمم والروح والرسل، و الأفكار المتضادة، حول العلم ودوره حيث ترتقي الأمم به ويصبح وسيلة للدمار والخراب إذا غابت الأخلاق، ويعبر بنا إلى أماكن متباعدة زمنيناً ومكانياً، فمن قدسية المكان إلى مناقشة مفهوم العوالم المتوازية، والعودة إلى المعتقدات القديمة ورمزية عطارد، فعطارد عند الصينيين القدماء هو أساس تكوين العالم وطور الماء حسب العناصر الخمسة، وفي الميثولوجيا الهندوسية استخدم له اسم بوذا، كما هو الإله أودن حسب الميثولوجيا الإسكندنافية، في حين مثَّل المايا عطارد بالبومة وأحياناً بأربع بومات، اثنتان منهما للظهور الصباحي واثنتان للظهور الليلي، وكلهم يَخدمون كرسل للعالم السفلي.
“طار المارد على حُصُرٍ أعدّها لهم، ولما طاروا وعلّاهم، وسط عُراص، رأى موسى ماءً ولآلئ ورأى رملاً وأهراماً. ما الماء ؟ ماء حلو. وما الماء الواسع اللألاء ؟هو الطّمُّ ماء مالح واسمهُ اللِّهَم والدَّاماءُ. وما الطود ؟ هو الأهرام. وحط هؤلاء على الرمل وطوى أمامهم. هل كلم الله موسى؟ كلمه وعلمه وسوّاه وساواه.وهل رآه ؟طر إلى ملك دارس، طر إلى ملك الروم.طر إلى ساحل عارٍ. طر إلى عطارد ”
وينتقل بنا الكاتب إلى صراع الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية “الإلهُ ( كاوس ) والإله ( حُدد ) والإله ( أَمورو ) والإله ( حَورِس ) والإله ( رع ) والإله ( سُوكر ).”
كاوسهو الربة الأولية لهذا الكونفي الميثولوجيا الإغريقية وهي الربة التي تجسد المكان غير المحدد والمادة التي لا شكل لها والتي سبقت كل خلق وكل خليقة وكل ما هو معروف،
و كاوس بالإغريقية القديمة معناها الفراغ والظلام اللذان بلا حدود و تعرف أيضاً بأنها الفراغ العشوائي الأولي للكون أو ما يسمى أيضا السديمالكوني الأولي. والآلهة الأخرى سوكر (إله الأعياد التذكارية) وحورس وهرقل وغيرهما، وصولاً إلى السقوط المر حيث يقتل سوكر الجميع ولا حكم بلا رعاع.
في شياطين الشعر في الإلهام والوحي للإجابة عند تساؤلات فلسفية :
“ومرّوا على أمراد الصدح: مِسْحَلَ والصّلادمَ ومدرك وهادر، وسأل موسى مسحلاً :
– أمسحلُ ما أسماء الهواء لو حرّكه الله. رد مسحل :هو الإعصار والحرور والسّموم والصرصر والملاح. وما أسماء الرّاح ؟ ردّ الصلادم :هو الراح والمسكر والمدام والسَّكْرَكُ والمِصطار.”
شياطين الشعر هم شياطين الجنة لا النار، الحب لا الحقد، الحرية لا الاستعباد حين ادعى المتنبي النبوة، لم يفعل ذلك طواعية، بل استجابة لشيطان أو جنية كانت تسكنه باستمرار، وللشعر شيطانيين يدعأ احدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، بل أكثر من ذلك انه سمي شيطان كل شاعر باسم خاص فكان شيطان الأعشى مثلاً يسمى”مسحل”.
وينتقل بنا الكاتب في سردية تاريخية وعرض بانورامي عابر للتاريخ والزمن مشبعة بالعبر حيث لا أثر للأمم السابقة “سر إلى ملك عاصٍ وعادٍ.ألا ملل !لا ملل، ولا كلل ،….. حطاماً :حطام دور، وحطام العموم، ورأى دمار المواسم والحصاد ورأى ما حامَ و رأى ما عامَ، وروّعه وراعه ما رأى، وسمع الرصاص ورأى الدماء والأهوال”
وصولاً إلى الواقع الحالي الذي نعيشه حيث الحرب والفوضى والانقسام المجتمعي والتآمر على سورية وحتمية انتصارها فالقضية عادلة.
في الساحل والجبل والشام :
“أموسى اسمع: لأرسطو صدح مسرول على الكامل وهو صدح محصور لأهل الساحل والطوى كرماء الأصول والوصول طرّاً ولأهل أمّ العماد معاً :”
يمدح الكاتب في حواره الجميل أهل الساحل والجبل وبلاد الشام أو دمشق في استحضار للتاريخ ولعبق الثقافات والرؤى الفلسفية التي تشبعت بها هذه المنطقة وكأننا أما سردية تمتد من العصر الهيليني التي تميز بغلبة النموذج الإغريقي حيث انصهرت الثقافات المختلفة للاغارقة والرومانيون والمصريون والبابليون والسوريون والفرس لتكون دواء يشرب على جرعات متفرقة وبشكل سحري حيث تلتقي كل التصورات الدينية والفلسفية والعلمية فيما يشبه الخليط، الفلسفة التي اتجهت إلى إنقاذ الإنسان بالاتجاه إلى السلام ليتحرر الإنسان من القلق والموت والتشاؤم وهنا يصبح الحد الفاصل بين الدين والفلسفة ضيئلاً جداً.
السردية تعبر بنا إلى الحاضر بكل ما في ذلك من تراكم وقيم مضافة وعبر وحكمة، فكل الأديان السماوية من نبع واحد عنوانها العدل والعمل الصالح والعبرة في مال الأمم الأولى.
“واعلم أموسى :
مَرَّ عصر الأمم الأُولى كما مر عصر هؤلاء…ومكر أهل الأمم الأولى كما مكر أهل وعصر هؤلاء…..والمعاد مدلٌّ إلى الله وهو المآل المحمود
وللهود إسلام ولأهل الصالح إسلام ولأهل الإسلام إسلامٌ لا كلهم
ولله إحكام وصل السعداء إلى دار المأوى والسرور والسرمد.”
في النهاية يعود بنا الكاتب مرة إلى المحطة الأولى بعد رحلة في الحكمة والفلسفة والعلم والمعرفة يعود بنا من الصراع المرير من أجل الوصول إلى المعرفة والسعادة، فالطريق شاق وتوزان العقل والنفس والروح هو السبيل لذلك ولا وصول إلا بالعلم والمعرفة، انه موسى وطلال وأرسطو…هو أنا وأنت… فما نراه جميل لوهلة “السطح ” كما تعودنا نحن البشر.. يخفي الملحمة البشرية بكل ما فيها من ألم وأمل..وطريق العبور إلى السعادة الأبدية محفوف بالمخاطر…لا يكتمل إلا بتوازن العقل والفكر والمعتقد..إلا بالتبصر والعلم.
“ولمّا أكمل الله لهما وعد المارد، صار موسى وعمر موسى للمارد وأكمل الله لهما العلم والسر والسحر.. وما وُلد موسى لا على سطح داره ولا دارُه مطلٌّ لا على مساء ولا على سماء.
موسى ما وُلِد، وما رحَلَ وما أكل وما أرواه أحد، لموسى دارٌ واحدٌ هو رحم أمه.. أرداه الله وأهلكه وأهلَه وهو ما رام إلا الرحم. والكلام لعمركم وصل إلى مواصله.والسلام.”
صحيح أن موسى لم يولد ولكن كتاب طلائع الطل قد ولد، في تناغم ما بين الإعجاز اللغوي والدفق الفلسفي والموسيقا الشعرية التي ترافق القارئ في رحلة ممتعة لمناقشة ما يختلج النفس البشرية من أفكار ورؤى، كتاب في الضمير الفردي والجمعي في العقل وفي الأخلاق وفي الحكمة.
المقال السابق
المقال التالي