” نحن اليوم في حرب مع أمريكا… حرب دائمة، حرب اقتصادية… حرب بلا قتلى ظاهرياً إلا أنها حرب للموت.. الأمريكيون قساة و شرهين … يريدون مايشاؤون .. سلطة مطلقة على العالم دون مشاركة أحد…” هذا ما قاله ذات يوم الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران.
يظهر اعتراف ميتران مدى قساوة العلاقات الدولية و يضفي النسبية على خطابات حسن النية لصالح سياسة الأمر الواقع، هذه الدعابة حاضرة هنا لتذكرنا بأن العالم اليوم بات غابةً يوحي فيها الغربيون بوحدة الوجه ضد أعداء وخصوم الإمبراطورية، لكنهم فيما بينهم هناك اقتتال حتى الموت. تكفي رؤية كيف تحاول الولايات المتحدة فرض معاهدة (نافتا )على منطقة ما وراء الأطلسي. وفي ظل هذه الظروف ندرك كيف ستعمل كل ما بوسعها لكسر ديناميكية الصين، الهند وروسيا ، خاصة بعد تأسيسهم منظمة ” بريكس”.
ما فائدة منظمة التجارة العالمية؟
تم تأسيس منظمة التجارة العالمية عام 1995، مقرها في جنيف، سويسرا وتضم 161 دولة هدفها تسهيل التجارة، وعليه فان الهدف الرئيس لمنظمة التجارة العالمية العمل على تنشيط ونجاح الانفتاح التجاري، لذلك سعت لتقليص العراقيل أمام التبادل- الحر، ومساعدة الحكومات على تسوية خلافاتهم التجارية، ومساندة المصدرين والموردين ومنتجي البضائع والخدمات في نشاطاتهم. تخدم منظمة التجارة العالمية كإطار للتفاوض بين الدول بغية تذليل العوائق أمام التجارة وضمان التزام الدول بواجباتها. كما أنها تعمل على تسوية النزاعات التي قد تولد بين الدول بسبب اتفاقاتها، ولكن تبين لنا أن هذه المنظمة فصلت على مقاس الدول الأكثر ثراءً وعندما تجف الموارد وتصبح نادرة تبدأ الذئاب تنهش بعضها بعض.
رسوم على الصلب و الألمنيوم : أول فرقعة لمنظمة التجارة العالمية
شكل إعلان ترامب فرض الرسوم على الصلب والألمنيوم صدمة للجميع وأثار موجة حادة من ردود الأفعال التي وصفت القرار “بغير المقبول” و” إجراءات ظالمة”، كما أثار سخط الدول الصناعية ودرجة اقل عند دول “البريكس”، إذ ستفرض الولايات المتحدة رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب، و 10% على واردات الألمنيوم ” لحماية صناعة الحديد الأمريكية التي قضي عليها على مدى عقود من التجارة غير العادلة” على حد تعبير ترامب. ورغم أن هذا القرار يضر بشكل مباشر صادرات الصين باعتبارها المنتج الأكبر عالمياً للصلب، إلا أن أوروبا اعتبرت أن فرض الرسوم يمكن أن يمتد ليطال منتجات أخرى ما سيقوض حرية التجارة العالمية. رئيس اللجنة الأوربية جان-كلود جنكر شجب هذا القرار بالقول: ” ناسف بشدة للقرار الأمريكي … وسوف يباشر الاتحاد الأوربي بأسرع وقت ممكن بإجراء مشاورات حول تسوية الخلافات مع الولايات المتحدة في جنيف” وربما يفكر بفرض رسوم على بعض المنتجات الأمريكية لتوجيه رسالة إلى ترامب، كاستهداف الشركات الأكثر تأييداً له في الولايات المتحدة حيث تسعى المفوضية الأوربية لان يكون التأثير السياسي لهذه الإجراءات الانتقامية في الولايات المتحدة في حده الأقصى للحد من انعكاساته على المستهلكين الأوروبيين. كما يمكن أن تتخذ بروكسل خلال أسابيع إجراءات “إنقاذية” لحماية الصناعة الأوربية . فقد نوه وزير الخارجية الألماني إلى ضرورة أن يتصرف الاتحاد الأوربي بطريقة حازمة رداً على الرسوم الجمركية العقابية الأمريكية، التي تهدد آلاف الوظائف في أوروبا. ردة فعل الكرملين لم تكن اقل حدةً ، فقد أعلن أن موسكو ستقوم بتحليل دقيق وإعادة النظر في علاقاتها التجارية مع واشنطن. وزير الخارجية الكندي من جهته أعرب عن رفض بلاده للقرار الأمريكي معتبراً أي رسوم ستفرض على الصلب والألمنيوم غير مقبولة بتاتاً. ساكن البيت الأبيض وعد بمعاقبة ما اعتبرها ممارسات تجارية شائنة، تحديداً من جهة الصين التي تشكل 2% من واردات الصلب الأمريكية و توسعها الصناعي الكبير ساهم إلى حد كبير بإنتاج الصلب الفائض على مستوى العالم ما أدى بالنتيجة إلى انخفاض الأسعار. السلطات الصينية طالبت الولايات المتحدة بكبح جماح لجوئها إلى إجراءات حمائية و مراعاة قوانين التجارة المتعددة الأطراف، وإذا تعقبت خطاها دول أخرى فسيكون لها تأثير خطير على نظام التجارة العالمية.
ترامب يوقد فتيل الحرب التجارية
مما لا شك فيه أن القرار الأمريكي اتخذ بعد تفكير عميق وعن سابق إصرار، وبحسب فيليب بلينكينسوب وسوزان هيفي فقد اتخذ الرئيس الأمريكي موقف تحدي بإعلانه أن الحروب التجارية صائبة ويمكن الفوز فيها، ويرى الكثير من الخبراء الاقتصاديين أن الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم ستعمل على تقويض المزيد من الوظائف وفرص العمل بسبب ارتفاع الأسعار الذي سينجم عنها للعديد من المنتجات كصناعة السيارات و البترول ما سينعكس بقوة على الاستهلاك المحرك الأساسي للاقتصاد الأمريكي. صندوق النقد الدولي من جهته له رأيه في هذا السياق واعتبر أن القيود المفروضة على الواردات، التي أعلنها الرئيس الأمريكي، ستلحق الضرر ليس فقط باقتصاديات الدول الأخرى ، وإنما أيضاً بالاقتصاد الأمريكي نفسه. اللجنة الأوربية وصفت الرسوم الجمركية بتدخل سافر يعادل الحمائية، وأشار رئيسها، جان كلود جنكر، إلى أن اللجنة ستفرض رسوم جمركية على مجموعة (Harly-Davidson ) و(جينز Levis ) كرد على القرار الأمريكي. وأضاف:” نود أن تربطنا علاقات منطقية مع الولايات المتحدة ولكن لا يمكننا أن نرضى بان نكون كالنعامة”.
على مر التاريخ، لم تفكر أوروبا يوماً بفرض رسوم على الصلب الصيني، وتطلق على هذه الرسوم الجمركية “رسوم مضادة للإغراق”، وهنا نتذكر سياسات الإعانات الأوروبية للزراعة بقيمة 25 مليار يورو وأمريكية بقيمة 55 مليار دولار تم فرضها على الدول الراغبة في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية التي تحظر وثيقتها الإعانات .
احتمال موت منظمة التجارة العالمية
” هل بوسع ترامب إيقاف موت منظمة التجارة العالمية والتبادل-الحر؟” هذا ما كتبه المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية 2016، ماتيلد غولا، الذي قاد طيلة حملته الانتخابية حرباً حقيقية ضد التبادل التجاري الحر. في نهاية شهر تموز 2016 أعلن ترامب، المرشح، خروج الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية التي وصفها بـ
“الكارثة”. ويرى فيليب مارين، بروفسور الاقتصاد والعلوم، انه إذا حاول مدير منظمة التجارة العالمية إقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بالبقاء في المنظمة، فذلك لان خروج الولايات المتحدة من المؤسسة التي أسست عام 1995 مؤشر على موتها، ذلك أن واشنطن المساهم الرئيسي في ميزانية منظمة التجارة العالمية التي تضم 162 دولة ملتزمة بتقليص القيود على التجارة، وفي حال خروجها من المنظمة، فلن تعد تفيد بشيء.
مدير المنظمة نوه إلى أن منظمة التجارة العالمية تصدعت جراء قرار جائر بفرض رسوم جمركية على الصلب والألمنيوم، والحرب التجارية لن تكون في مصلحة احد، خطر التصعيد حقيقي ويهدد الجميع كما أظهرت ردود الفعل الأولى للدول الأخرى، ومنظمة التجارة ستراقب الوضع عن كثب. نفهم مشاعر الأوربيين عندما نعلم على سبيل المثال أن الولايات المتحدة وأوكرانيا تحاربان مشروع ( Nord Stream 2 ). وترى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن هذا المشروع الاقتصادي لا يشكل أي تهديد لأمن الطاقة الخاص بالاتحاد الأوروبي وهو مشروع اقتصادي بحت ونشجع على تنويع مصادر الطاقة. مشروع “Nord Stream 2” الذي قدرت تكلفته ب 9،5 مليار يورو سيكون هيئة ذات قناتين ، انطلاقاً من الساحل الروسي حتى ألمانيا مروراً ببلجيكا استطاعته الإجمالية ستكون 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً، والجزء البحري سيمضي عبر المناطق الاقتصادية حصراً والمياه الإقليمية لروسيا، فنلندا، السويد، الدانمارك، وألمانيا، فقط أوكرانيا والولايات المتحدة عارضتا المشروع ، إذ تخشى كييف خسارة العائدات التي تجنيها من عملية نقل الغاز الروسي، في حين تأمل واشنطن تصدير غازها إلى أوروبا.
أوروبا تسعى للتحرر من الولايات المتحدة:
بالنسبة لدونالد رامسفيلد، بدأت أوروبا العجوز تشعر بقساوة ومرارة العبودية الأمريكية في كافة المجالات، وها هي تهجم بطريقة ناعمة وتريد التوقف عن أن تكون “مستعمرات عسكرية” للولايات المتحدة، فهل تتقدم بعض الدول الأوربية نحو حرب ما؟ في نهاية شباط 2018 دعت أنجيلا ميركل أوروبا ” ليكون مصيرها بيدها” علماً أن رئيس تحرير موقع ” Attack the System” أشار إلى أن أوروبا ستكون
” مستعمرة عسكرية” بالنسبة للولايات المتحدة، فإذا قادت سياسة مستقلة إزاء الصين أو روسيا، فسوف تواجه نزاعاً لا مفر منه مع واشنطن، بحسب سبوتنيك-كيخ بريستون.
أوروبا ضاقت ذرعاً من تبعيتها العسكرية و السياسية لواشنطن ما من شانه أن يولد حرباً سياسية بين الولايات المتحدة و الاتحاد الأوربي ويهدد بخلق مشكلة معقدة للناتو، إضافة إلى وجود شعور معادي لأمريكا يسود في أوروبا. ذلك أن عدد من الدول الأوربية محبطة ومستاءة من فكرة كونها مستعمرات عسكرية للولايات المتحدة وتنشد المزيد من الاستقلالية، بحسب السيد بريستون الذي ذكر بان الدول الأوربية كانت تتبع الولايات المتحدة بسبب الدعم العسكري الذي تحصل عليه عن طريق الناتو ولكن لقاء ثمن باهظ هو تقليص استقلالها السياسي. وحسب بيرستون، فقد خطت فرنسا وألمانيا خطىً عديدة في هذا السياق. إذ تبنت برلين موقفاً أكثر مودةً إزاء روسيا وبوسع دول أوربية أخرى أن تحذو حذوها، ولكن إذا أصرت أوروبا على التصرف كفاعل مستقل وتسعى لتخفيض التوتر في علاقاتها مع روسيا والصين، فان الولايات المتحدة ستعارضها. فالولايات المتحدة تستغل النفوذ الذي تتمتع به في قلب حلف الناتو وكذلك مساهمتها الكبيرة في تمويل الحلف، لتفرض سيطرتها وسطوتها على دول أوروبا الغربية و تدريجياً على أوروبا الشرقية. وإذا بدأت هذه الأمم قيادة سياسة أكثر استقلالية، فسيكون هناك نزاع سياسي بين أوروبا والولايات المتحدة ، برأي بريستون.
الجزائر ومنظمة التجارة العالمية وضرورة الاعتماد على الذات:
يروي التاريخ أن كل الدول الأخرى التي انضمت إلى منظمة التجارة العالمية أصبحت بدرجات مختلفة خاسرة ، مصابة بعولمة قاسية و مفصلة على قياس الكبار. وكذلك الأمر بالنسبة للاتحاد الأوربي الذي فرض علينا صفقة المغبون. أطلقت الجزائر عملية الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية عام 1995. والجدل الحقيقي ليس هنا، وإنما في مستقبل البلاد الاقتصادي، ومع 30000 مورد مقابل 300 مصدر استثمرنا كثيراً في المجال الاجتماعي وهذا أمر جيد لكنه لا يجلب الغنى والثروة. إذاً كان لابد من المضي نحو اقتصاد العلم و المعرفة، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية فخ، وعليه يتعين علينا التركيز على المخاطر الحقيقية المحدقة بنا. يجب ألا نصدق أن الجزائر بمأمن عن الخطر بل من السهولة بمكان أن تسقط ، فلا شيء مستحيل بالنسبة لمهندسي النظام العالمي الجديد. لقد تم إخطارنا وتنبهينا قبل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، في المؤتمر الرابع لقمة دول عدم الانحياز عام 1973 عندما شجب الرئيس الجزائري آنذاك” بومدين “من على منبر الأمم المتحدة التبادل غير العادل بين الشمال والجنوب، وطالب باسم دول العالم الثالث بإرساء أسس نظام اقتصادي جديد أكثر عدلاً، رافضاً كل أشكال التبعية و العبودية، وكل تدخل وكل ضغط سواء أكان سياسي، اقتصاد، أو عسكري ، ونعلم كيف انتهى كل ذلك.
أخيراً:
حقيقةً، كل هذه الهندسة التي وضعت بصبر وتأني بعد اتفاقات “بريتون وودز” لقيادة العالم توشك على الانهيار. فكلما تخلت دول العالم الثالث عن موادها الأولية، كلما زاد فقرها وضعفها وفقد نفوذها فتخسر كل شيء من جهة التجارة و من جهة القوة العسكرية، بينما تمضي الإمبراطورية و أتباعها في فرض إتاوة على العالم. لكن الفرقعات ظهرت في 15 آب 1971 عندما اقر نيكسون أن الدولار لم يعد يدرج على عيار الذهب. ومع ذلك تم إطلاق مؤسسات مثل البنك العالمي ومن ثم صندوق النقد الدولي وحلف الناتو، في حين تلاشت أخرى مثل ميثاق “فارصوفيا” الذي اختفى عام 1989 مع تفكك الاتحاد السوفييتي. بعد ذلك ظهرت منظمة التجارة العالمية عام 1995 التي تنص على حجم مبادلات الموارد وليس على حركة الأشخاص ” فيزا.. مهاجرين”. مع نهاية فترة التسعينات، توجب على الغرب ، الإمبراطورية و أتباعها الأوربيين إيجاد شيطان بديل، فوجدت ضالتها في التطرف الإسلامي والديمقراطية المحمولة جواً لمقاضاة كل المخالفين والمعارضين لها.
بالنتيجة ظهرت ثلاث ثوابت، أولها قدوم مجموعة “البريكس” التي تنادي بعالم متعدد الأقطاب والتي تنافس العالم القديم بديناميكيتها الاقتصادية، ووفرة المواد الأولية وعلى رأسها الطاقة والتغيرات المناخية. دول الجنوب المسلوبة والمنهوبة ترى الدول الغنية تتنازع فيما بينها. المؤسسات التي وضعتها الإمبراطورية لا تستمر إلا عندما تكون في خدمة الإمبراطورية أولاً و أتباعها ثانياً . هكذا انسحبت الولايات المتحدة من منظمة اليونسكو ومن اتحاد الأمم المتحدة من اجل اللاجئين، المتهم بقول الحق ومساعدة فلسطين.
مع رئيس معتوه كـ ترامب الذي بطريقة ما يفعل ما يقوله (وعوده الانتخابية) ، فهناك أيام مظلمة ترتسم إزاء علاقات الإمبراطورية مع أتباعها. آخر الأخبار تقول أن ترامب استثنى كندا والمكسيك مؤقتاً بانتظار مراجعة اتفاق ” ألينا”، الحرب التي تلوح في الأفق ستكون بين الولايات المتحدة والصين تحديداً، القوة الاقتصادية الهامة في العالم والتي تستعد للرد على حرب ترامب التجارية حيث أعلن وزير الخارجية الصيني أن بلاده سترد الرد المناسب في حال فرضت واشنطن إجراءات تجارية ضدها، مضيفاً :” في عصرنا المعولم هذا، من يلجؤون إلى الحرب التجارية يختارون العلاج الخاطئ لان جل ما يفعلونه أنهم يعاقبون أنفسهم.. علمتنا دروس التاريخ أن الحروب التجارية ليست الحل الأمثل لمعالجة المشاكل”.
عن: ريزو انترناسيونال 11/3/2018