فيما يتعلق بالتنظيمات والجماعات الدينية هناك كذب كثير، الغرض منه إخفاء حقيقة أن تلك التنظيمات ما هي إلا واجهات مختلفة للشيء نفسه. فتلك العصابات، وإن تعددت أسماؤها، لا تختلف إحداها عن الأخرى إلا بطريقة الظهور، أما الجوهر فهو واحد، وجميع المحاولات لإظهارها بالأشكال التي نراها إنما تعبر عن مسعى للفصل ظاهرياً بين العنف وجماعات الإسلام السياسي على اختلاف مسمياتها، لكن في حقيقة الأمر ما من جزء من الإسلام السياسي لا ينطوي على فكرة استعمال العنف ضد المجتمعات “من أجل هدايتها”.
يجب أن لا تنسينا تفاصيل الاختلافات العقائدية بين تنظيم ديني وآخر حقيقة أن تلك التنظيمات إنما تسعى لهدف واحد، وهو إخضاع المجتمعات والسيطرة عليها بآليات الخرافة التي تنفي وبشكل قاطع إمكانية قيام حياة إنسانية حرة وكريمة ومستقلة، بعيداً عن فتاوى رجال الدين التي يتم من خلالها تحديد ما هو صالح وما هو طالح في سياق معادلة “الحلال والحرام”.
لقد بات واضحاً أن كل الجماعات والتنظيمات الدينية، سواء التي وصلت إلى الحكم منها أم تلك التي وضعت نفسها في خدمة مشاريع الفوضى في المنطقة، تتخذ من الإسلام وسيلة لخداع وتضليل والجهلة والبسطاء من الناس، وهي في حقيقتها مجرد شركات أمنية أشرفت على تأسيسها أجهزة مخابرات عالمية وهو ما صار معروفاً على نطاق واسع.
“داعش” بين الأطماع الإقليمية والأدوار الدولية
يمكن الجزم بأن أحد أهم المخرجات الاستراتيجية الرئيسة من فترة وجود تنظيم “داعش” هو فتح الباب على مصراعيه لعودةٍ نوعية وتدخلٍ ونشاطٍ كمي لعدد من القوى العالمية والإقليمية، إذ بحلول عام 2014 سيطر تنظيم “داعش” على مساحات واسعة في سورية والعراق، وامتدت سيطرته من شواطئ البحر المتوسط إلى مناطق بجنوب بغداد، لكن اليوم تبدو الأمور مختلفة حيث تغيرت الجغرافيا وتبدلت خرائط توزيع النفوذ في سورية والعراق بعد انهيار ذلك التنظيم الإرهابي.
لم يتجسد الدور الدولي والإقليمي في سقوط “داعش” وحسب، بل كانت البصمات الإقليمية والدولية جلية في تأسيسه وصعوده. فقبل بضعة سنوات وتحديداً إبان حقبة الاحتلال الأمريكي للعراق، لم يكن “داعش” سوى فصيل صغير من تنظيم القاعدة أسسه أبو مصعب الزرقاوي آنذاك. وبعد اغتيال هذا الأخير، أعلن أبو أيوب المصري، القائد الجديد، تأسيس ما أسماه “الدولة الإسلامية” في العراق عام 2006. خلف المصري أبو عمر البغدادي الذي قاد التنظيم الإرهابي حتى مقتله، وأخذ مكانه القائد الجديد أبو بكر البغدادي عام 2010. احتاج البغدادي ثلاث سنوات ليحتوي جبهة النصرة التي كانت تدين بالولاء لتنظيم القاعدة. وبعد أن استكمل عملية الاحتواء هذه أعلن عن تأسيس دولة الإسلام في العراق والشام. وفي عام 2014 قرر البغدادي أن يخلع عن هذا الكيان الحديث عباءة تنظيم القاعدة، فقام بقطع علاقاته مع القاعدة، وخاصة بعد نشوب معارك داخلية بين قوى التنظيم الجديد وجبهة النصرة. ومنذ ذلك الحين، استطاع تنظيم “داعش” أن يسيطر على مساحات شاسعة ومدن كبرى في العراق وسورية.
لعل نقطة التحول الحقيقية في دورة حياة التنظيم كانت حادثة الهروب الكبرى من سجن أبو غريب ذي السمعة السيئة. ففي تموز 2013 حدثت عملية هروب كبرى مشبوهة من سجن أبو غريب العراقي، المعروف بحراسته المشددة من الناحية النظرية، حيث تمكن ما يقرب من 500 قيادي من تنظيم القاعدة محكوم عليهم بالإعدام من الهروب في عملية شابها الكثير من الشكوك. تعدّ عملية الهروب هذه، وفقاً للعديد من المراقبين، حجر أساس لجميع عمليات “داعش” اللاحقة، كما ضاعفت من قوة التنظيم في سورية والعراق. فلم يمض سوى بضعة أشهر على الهروب من سجن أبو غريب حتى استطاع التنظيم أن يحكم قبضته على ثلث مساحة العراق، وبغضون عام استطاع “داعش” السيطرة على الموصل وتكريت في حزيران 2014.
وضع احتلال الموصل بحد ذاته علامة استفهام كبرى، فقد كان يحميها، وهي ثاني أكبر مدينة في العراق، 60 ألف رجل أمن عراقي. من جهة أخرى، كانت التقديرات لعدد المهاجمين من تنظيم “داعش” بين 800 إلى 1500 مقاتل، ما يعني أن نسبة المهاجمين للمدافعين هي 1 على 15، ناهيك عن حقيقة أن معركة الموصل استغرقت ستة أيام، أي كان بوسع بغداد تزويد أولئك المدافعين بالعتاد، بل وحتى مهاجمة “داعش” جواً. وعليه، يبدو أن سقوط مدينة الموصل الغنية بالنفط، والتي كان يتوفر فيها ما يقارب على 400 مليون دولار، كان تسليماً وليس سقوطاً لها.
إذاً، هناك العديد من التطورات التي تدفعنا بقوة نحو التفكير بأن القوى العالمية والإقليمية كان لها دور ريادي في تمدد وانكماش تنظيم “داعش”، فلم يول سوى القليل من الاهتمام لحقيقة انضمام عشرات الألوف من المقاتلين الأجانب لتنظيم “داعش”، والذين دخلوا إلى سورية والعراق في وقتٍ أحاطت بهما جيوش العالم، وكانت أعين معظم أجهزة الاستخبارات العالمية تراقب عن كثب كل تطور أو تحرك في هذه البقعة من العالم.
يقول الكولنيل رايان ديلون، المتحدث باسم التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، في مؤتمر صحفي يوم 17 تشرين الأول 2017 إن تدفق المقاتلين الأجانب إلى سورية والعراق قد انخفض من 1500 مقاتل ليصل إلى صفر. يؤكد هذا التصريح شبهات التواطؤ الدولي والإقليمي ليس فقط في وصول هؤلاء المرتزقة إلى مناطق القتال في هذين البلدين، بل في مغادرتهم أيضاً.
ووفقاً لتقرير نشرته شركة الاستشارات الأمريكية “Soufan”، تبين أن عدد المقاتلين الأجانب في تنظيم “داعش” وصل في عام 2014 إلى 40 ألف من أكثر من 110 دولة. وهنا يقول رضوان السيد، الكاتب والأكاديمي اللبناني، إن افترضنا أن عدد المقاتلين المحليين من سورية والعراق مشابه لهذا العدد على الأقل، فإن العدد المنطقي لقوام جيش “داعش” يقارب الـ 80 ألف مقاتل. ووفقاً لأرقام وإحصاءات أمريكية محدثة، فإن عدد جثث مقاتلي “داعش” التي عُثر عليها في الموصل والرقة لا يتجاوز 2000، وأن من تبقى من مقاتلي “داعش” على قيد الحياة لا يتجاوز 15 ألف مقاتل، فهل هذا يعني أن ما يقارب الـ 60 ألف “داعشي” قد تم القضاء عليهم! بالطبع لا، فهذا الأمر غير منطقي، والأمر الأكثر واقعياً هو إما أن تكون الولايات المتحدة قد ضخمت من الأرقام والإحصاءات التي قدمتها، ما أدى لتعظيم قوة “داعش” والخطر القادم منه، أو أن هناك من ساعد في هروب المقاتلين الأجانب إلى خارج سورية والعراق، أو على الأقل خارج المناطق التي تمت استعادتها.
تداولت وكالات الأنباء العالمية خبر عملية إنزال سرية نفذتها القوات الخاصة الأمريكية قبل بضعة أشهر في منطقة دير الزور، ووفقاً لـ “inforeactor”، فإن الاستنتاج الأقرب للمنطق هو أن مهمة القوات الأمريكية لم تكن القضاء على المسلحين، وإنما أخذ شيء ما أو أحد ما معها تحسباً لإيذائه جراء الضربات الجوية، أو ربما مسح بعض الأدلة أو أخذها معها. إذاً، قد يكون سبب هذه العملية الخطرة هو إخلاء مندوبين أمريكيين أو عدد من المقاتلين الأجانب في صفوف “داعش” وذلك قبل وصول القوات السورية وحلفائها. في ذات السياق، اتهمت روسيا الولايات المتحدة بالعمل مع “داعش” لتسليم المناطق الشرقية من دير الزور والفرات للقوات الأمريكية قبيل وصول قوات الجيش السوري والقوات الرديفة. هذا الأمر يتسق تماماً مع واقعة دخول قوات سورية الديمقراطية المدعومة أمريكياً لحقل العمر النفطي، أيضاً، قبل وصول قوات الجيش السوري.
من ناحية استراتيجية، يمكن القول بأنه تحت ذريعة محاربة الإرهاب، مكّن تنظيم “داعش” الأمريكيين من العودة بشكل واضح للمنطقة، إضافة لأدوار متفاوتة لقوى إقليمية على رأسها تركيا و”إسرائيل”. في الواقع، أدت إطالة عُمر دولة “داعش” ثلاث سنوات إلى تحقيق أهداف ومصالح جميع الدول المتدخلة.
فعلى سبيل المثال، تم إضعاف القدرات العسكرية في بلدين عربيين كبيرين قد يمثلان تهديداً يوماً ما، كما تم إنهاكهما اقتصادياً وبشرياً ومجتمعياً، إضافة إلى الزج بتركيا في صراع مفتوح، وإبقاء العنصر الكردي كتهديد مفتوح لاستقرار مستقبل أربعة دول بعد أن تم تقديم العون العسكري والدعم السياسي له، وتم تقسيم مناطق النفوذ على الدول الكبرى في هذه المنطقة من جديد، إضافة لمضاعفة حجم الاعتماد على الدعم السياسي والعسكري الخارجي بعد أن أصبحت معظم العروش مهددة بهذا الخطر، ناهيك عن المكاسب الاقتصادية واستغلال خيرات المنطقة، بداية من نفطها. وقد أبرزت الكثير من التقارير الإخبارية والتحليلات أهمية تجارة النفط التي كان يستغلها تنظيم “داعش” حيث كان يجني ما يقارب 3 ملايين دولار أمريكي يومياً، وذلك من تصدير النفط بشكل شبه رسمي، أو عبر تهريبه للعديد من الدول والأنظمة في المنطقة.
يمكن القول بأن الفوضى والمآسي التي خلفها وجود تنظيم “داعش” تمت في الأصل بقرار دولي. وبعد تجميد الخطر “الداعشي” إلى حين، بدأت تلك القوى تبحث عن نصيب الأسد في المنطقة، عبر تواجد عسكري طويل الأمد أو بإمعان السطوة الاقتصاية وفرض قرارات وواقع تصممه تلك القوى. أما فيما يخص خطر “داعش”، فما زال قائماً، ولا يجب أن نستعجل الحُكم بأن “داعش” قد انتهى.
أين ذهب داعش؟
تراوحت تقديرات الاستخبارات الغربية لعدد مقاتلي “داعش” في سورية والعراق بين 30 ألف و45 ألف مقاتل. وعلى افتراض مقتل 30 ألف منهم في أفضل الأحوال، فإن هناك ما لا يقلّ عن عشرة آلاف مقاتل ما زال مصيرهم غير معروف. أين سيتوّجه هؤلاء وأين هم اليوم وما هي الساحات الجديدة التي سيظهرون فيها؟
“داعش” ليست ببدعة من الفعل في التاريخ الإسلامي الحديث فهي لم تأتِ من فضاء آخر، بل هي كغيرها من جماعات العُنف الديني المسلّح نتاج متداخل من العوامل التاريخية والسياسية والدينية والمخطّطات التآمرية. وأيّ متابع لتطوّر التيار الجهادي يدرك أنه طفرة جينية خارجة من رحم التزاوج بين الوهّابية والإسلام السياسي الذي ظهر بدوره كتطوّر نوعي عن السلفية الإصلاحية والمشروع النهضوي الذي استهلّه كلّ من جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده وتبعهم في ذلك محمّد رشيد رضا في مطلع القرن العشرين.
إن أية عملية استقراء لتطوّر الفكر الجهادي العنيف عبر تاريخه تجد أنه كان دائماً في حال انفلاش وتوسّع وتجذّر على المستويات الجغرافية والديموغرافية، وأن الأدبيات التي اعتمدها، وما يزال يعتمدها، توسّعت وانشطرت وافتقدت للضبط والحصر والملاحقة. لقد جاءت الثورة التكنولوجية فمكّنت من تطوير الخطاب الجهادي المتطرّف وفتحت له مجالات ما كانت لتفتح لولا الثورات التقنية، واكتشف وسائل وأساليب جديدة للوصول إلى أكبر شريحة ممكنة، وأتقن فن الدعاية واحترف الخطاب ومنح نفسه المشروعية الكاملة رغم تضافر جهود الجميع في مواجهته.
استغل التيار الجهادي المعولم “الثورات العربية” التي اجتاحت العالم العربي عام 2011، فتحرّك لاستثمارها وتوظيفها، فنما “داعش” في العراق، وكان اجتياحه للمناطق “السنّية” بمثابة تسونامي ما لبث أن تمدّد إلى سورية بعد أن أرسل طليعة فاتحة له إليها بقيادة أبو محمّد الجولاني الذي راح يتسلل داخل الفصائل المعارضة المقاتلة ويدرس واقع الأرض وإمكانية تأسيس عمل كبير لتنظيم الدولة، آملاً في توسيع الدولة أو الإمارة الإسلامية التي تشكّل هاجس أيمن الظواهري بعد مقتل مؤسّس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.
لم تقتصر حرب تنظيم “داعش” على سورية وإن كانت بداية الشرارة فيها بل وصلت أفغانستان والفلبين وبورما وشبه جزيرة سيناء وليبيا ودول الساحل الأفريقي واليمن. ومع تمدّد الصدع بين “داعش” والقاعدة على الاستحواذ، استطاع التنظيم الخارج من رحم المطحنة العراقية الاستيلاء على أغلب فروع القاعدة سابقاً، كما تمكن من الحصول على بيعات منها على وقع الانتصارات الضخمة التي كان يحقّقها خلال السنتين اللتين تلتا إعلانه “الخلافة”.
تراجع “داعش”
يتراجع “داعش” اليوم بنفس السرعة التي تمدّد فيها، وصورته التي جاهد لترسيخها كقوة لا تقهر تلاشت بسرعة. ولم تقتصر الحال على صراع “داعش” – القاعدة بل تمدّد إلى القاعدة وفروعها مثل الصراع الحاصل راهناً بين الجولاني والظواهري. لكن هزيمة تنظيم “داعش” عسكرياً أو انشغال فروع القاعدة ببعضها بعضاً لا يعني القضاء على الجهاديات المُتطرّفة فكراً وأيديولوجية، فالفكر لا يمكن القضاء عليه بالقوة الأمنية والعسكرية وحسب، بل يحتاج إلى حال هادئة وطويلة من الرعاية والتعهّد والإصلاح وتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المغذّية لحالات الإحباط والتقوقع والفساد وغير ذلك.
تزداد أهمية المُعالجات الفكرية والاجتماعية مع المقاربات التي تُقدم تفسيراً لأسباب هزيمة مشروع التنظيم، حيث يُرجع كثير من الجهاديين سبب سقوط “داعش” وهزيمته إلى التشدّد والغدر والخيانة والعمالة، أو لتماديه في التعدّي على الفصائل أو لتأثّر الاختراق والهيمنة عليه. إذ أن الجماعات الجهادية ذات التوجّه السلفي الجهادي في المنطقة تعتقد أن انهيار “داعش” يعود لانحرافه السلوكي ولانعدام سويّة قادته وعمالتهم، وليس للأهداف والنصوص التي تحتكم إليه.
كانت “داعش” قبل انهيارها عسكرياً تسيطر في أوج نجاحها على ما يقدر بـ 200.000 كيلومتر مربع في العراق وسورية. وعلى افتراض أن التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب قد تمكّن في أفضل الأحوال من قتل 30 ألف مقاتل من تنظيم “داعش”، فإن هناك ما لا يقلّ عن عشرة آلاف مقاتل ما زال مصيرهم غير معروف، لا سيما وأن الحكومتين السورية والعراقية تمكّنتا من استرجاع غالبية الأراضي التي كانت خاضعة للتنظيم. بناءً عليه، يمكن تقسيم مَن تبقّى من المقاتلين في تنظيم “داعش” إلى قسمين: محليين ومهاجرين.
المحليون هم أبناء الأرض الذين انخرطوا في تنظيم “داعش” بعد سيطرته على المناطق التي ولدوا وعاشوا فيها. وأغلب هؤلاء سيحاولون العودة إلى حياتهم الطبيعية والاندماج في المجتمع الذي سيعمل على حمايتهم نتيجة الوشائج والروابط العائلية. وقد تسعى الدولة لإيجاد تسوية مقبولة مع هؤلاء. ففي سورية تجري مصالحات برعاية روسية في مناطق مختلفة من البلاد. وفي العراق تعِد الحكومة بالسعي إلى تسوية ملفات أبنائها الذين انخرطوا في التنظيم. ويبقى خطر المحليين قائماً لا سيما وأن علميات الدّمج والتأهيل لا يمكن أن تكون ناجحة تماماً في ظّل الظروف القائمة حالياً.
أما المهاجرون فهم الوافدون من دول مختلفة إلى سورية والعراق وحاولوا الاستيطان فيها، سواء مع عائلاتهم أو على شكل أفراد مقاتلين فقط. هؤلاء ليسوا على صعيد واحد. وهم يشكّلون عقبة كبيرة أمام الأمن العالمي من عدّة جهات، فهم أولاً يحملون جنسيات أجنبية، وحكوماتهم تفضّل التخلّص منهم على منحهم التسوية المطلوبة.
ويمكن فرز المهاجرين إلى أناس سيعودون سراً إلى بلادهم الأصلية ويتحوّلون إلى خلايا فاعلة تنتظر أي خلل في المنظومة الأمنية لتندفع وتمارس عملها. وآخرون سيحاولون البحث عن أماكن ملائمة لعملياتهم الجهادية، أي أراضٍ جديدة للاستيطان فيها. والمرجّح أن المناطق المحبّذة لدى هؤلاء هي: أفغانستان وباكستان والفلبين وبورما والصين شرقاً، وبعض الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وشمال سيناء وليبيا وعموم دول الساحل الإفريقي غرباً، واليمن جنوباً.
عالم ما بعد “داعش”
بعد تعرضه لضربات عسكرية قوية، مني تنظيم “داعش” بهزيمة وتبخرت أحلامه بإقامة دولة الخلافة، فهل زال خطره؟ إن أخطر ما قد يتركه “داعش” خلفه، هو نجاح جهوده في تثبيت أطروحة الذئاب المُنفرِدة أو المتوحّدة بعيداً عن الهيكل التنظيمي حيث تمتلك أدبياته الطاقة الذاتية في إنتاج جيل جديد من المتمرّدين على النظام الدولي والدولة القطرية، متكيّفاً مع التحديات والعقبات الجديدة التي تحول دون تفعيل وتظهير مخرجاته الإيديولوجية بشكل كامل في المجتمع والدولة، من دون أن تكون الفئة الجديدة من الجهاديات المتطرّفة مُستقطبة تنظيمياً أو سبق أن خضع أفرادها لدورات تثقيفية، إذ يكفي أن تكون المادة الدينية المؤدلجة متوافرة على شبكة الإنترنت في بضع ميغابايتات ليسهل تمريرها ونشرها، وهي ستتكفّل بما يلزم.
لقد كُتب العديد من الدراسات والتحليلات الانطباعية حول العلاقات المتبادلة بين العولمة والإرهاب العالمي والتطرف الديني، وثمةَ قدر متنام من أدبيات العلاقات الدولية ونظرية العولمة والديانات المقارنة حول الموضوع. ويلاحظ أن هذه الدراسات مرتبطة بموجات ظاهرة الإرهاب العالمي الحديثة بمختلف أنماطه وأشكاله وأنواعه ومنطلقاته وخلفياته المعرفية، وبزخم الكتابات والمراجعات والتغطية الإعلامية.
بيد أن معظم هذه الدراسات الرئيسة التي تناولت هذه الظواهر خاصة من علماء ومنظري العلاقات الدولية، تناولت الموضوع من وجهة نظر النظرية الواقعية التي تفترض منهجياً أن عالم الدول محكوم بالقوة، وتعبث بأركانه الفوضى وتقض مضاجعه معضلة الأمن.
ولعل ما يعطي الواقعية – بكل أطيافها – هذا البريق والتجدد الدائم وكأنها طائر الفنيق هو هذا الميل الإنساني المستمر للحرب والتطرف والعنف، حيث تبدو الواقعية هي الأقدر على تفسيره، رغم كل النقد الذي يوجه لها، فمثلاً ظل كينث ولتز، أهم منظري الواقعية في هذه الحقبة الحالية من العولمة، حتى وفاته يؤكد أن ظاهرة الإرهاب الحالية -حتى بعد قيام تنظيم القاعدة بهجمات 11 أيلول 2001- لم تتغير في سلوك الدول أو بنيتها؟
وقليلة هي الدراسات والأبحاث التي حاولت مقاربة تلك الظواهر فالتفتت إلى العلاقات المتبادلة بينها من منظور سيرورة العـــولمــــة الملتبسة، لأنها انطلقت من منظور أيديولوجي متحيّز سلفاً يقلل من شأن آثار الإرهاب العالمي ويهاجم العولمة ويحط من شأنها ولا يراها إلا رأس غول آخر لما يطلق عليه – جزافاً – الليبرالية المتوحشة، وهناك محاولات – قد تكون بريئة – تحاول ترسيخ هذا الوجه القبيح للعولمة وعصرها وتحجيمها لتكون فقط مجرد سياسة، أو أيديولوجية، أو قاطرة اقتصادية هاربة منفلتة تتجاوز الحدود القومية للدول.
يقول ريتشارد نيد ليبو في دراسة له بعنوان “لماذا تتحارب الأمم: دوافع الحرب في الماضي والمستقبل 2013” إن النظريات الفاعلة على مستوى الوحدات وعلى مسـتوى الأنظمـة على حـد سـواء بحاجـة إلى تفسيرات أو نظريات أو فرضيات مساعدة إضافية، أي أننا نريد نظريات بحجم العولمة.
والعولمة المقصودة هنا ليست رطانة ملتبسة مشبعة بالتنظير والجمود، بل عولمة قادرة على تحمل الشكوك والحذر والتوجس والخوف، وتعطي الناس العاديين والمهمّشين الأمل، وتمنحهم الأمن وتدفعهم للإيمان بها وبنواياها الطيبة وتدفعهم للدفاع عنها وحمايتها من الغلو والتطرف والإرهاب، عولمة لا سياسية ولا اقتصادية ولا اجتماعية ولا ثقافية فقط، بل عولمة كُلانّية أكبر من مجموع أجزائها وتجلياتها.
عولمة نشتم رائحتها ونشعر بها ونسمعها ونتذوقها في الشوارع والأزقة والحواري الضيقة في المدن والأرياف والبوادي، متخطيةً للحدود على اتساع الكون كله، عولمة تدفع البشر للحرية والمساوة وكسر قيود الواقع والحواجز الوهمّية باسم الدين والجنس والعرق والقومية ولون البشرة، والوقوف والصراخ بوجه الظلم والطغيان وامتهان كرامة البشر.
وعلى الرغم من أن المؤشرات الكمّية المختلفة لا تزوّد الدارسين والباحثين بإجابات قطعية حول العلاقة بين الظواهر الثلاث، إلا أن الانطباعات التي ترسخت حد “المسلّمات” ترسم خطوط تواصل متينّة بين ظاهرتي التطرف والإرهاب العالمي، مع التركيز الشديد على أنَّ التطرف الديني محرك ذو وزن نسبي كبير ومؤثر في الإرهاب العالمي، لأنَ انفلات دورة التطرف والإرهاب الحديثة عقب ثورات الربيع العربي مؤشرٌ قوي على ذلك.
وفيما تلعب آليات العولمة التكنولوجية أدواراً واسعةً وعميقة في الإحساس بظاهرة العولمة وإدراكها والتفاعل معها بشكلٍ متزامن وآني يتخطى الزمان، تبدو ظاهرتا التطرف والإرهاب العالمي -إلى حدٍ بعيد – خاضعتين لمنطق الدورات الذي قصده نيكولا كوندراتيف، ويحفزها الصراع والتنافس على المسلمّات ذات الطابع الديني التي لا زالت تؤثر في بنية النظام الدولي المعاصر وسلوكه.
ويؤكد عالم الأديان خوسيه كازانوفا أن العالم طوال عقد الثمانينيات لم يشهد أزمة سياسية ذات شأن في أحد أرجاء العالم لا تقف وراءها يد الدين، حيث أصبح الدين عاماً ودخل النطاق العام وكسب بذلك رواجاً. وفجأة، صارت جماهير متنوعة من سياسيين ووسائل إعلام وعلماء اجتماع تعير الدين انتباهاً[1].
ويمكن القول إن الإرهاب العالمي ارتبط بعلاقة تبادليّة موجبة مع ظاهرة العولمة، وكانت الظاهرة الأكثر خطورة وحضوراً في المشهد العالمي خلال العقود الثلاثة الماضية حتى أحدث دورة في موجات الإرهاب ممثلة بتنظيم “داعش” وإعلان أبي بكر البغدادي الخلافة الإسلامية في نينوى – العراق، رغم أن أهم منظري السلفية الجهادية في العالم في العصر الحديث الأردني عاصم محمد طاهر العتيبي “أبو محمد المقدسي” وعمر محمود عثمان “أبو قتادة” قد عارضا خلافة “داعش”، إذ وصفها المقدسي بأنها (سفك للدماء) ووصفهم أبو قتادة بأنهم (خوارج العصر)، بينما وصفهم زعيم القاعدة الحالي، أيمن الظواهري، بأنهم ورثة الخوارج وضباط بعث العراق.
إن أهم دافع ومحرك للعنف والتطرف والإرهاب القائم والمرتكز على الإيديولوجية الأصولية الإسلاموية السياسية الدينية هو القناعة الدينية العميقة والمتينة جداً والطموح أو الأمل بإعادة أمجاد الخلافة الإسلامية الراشدة، أو هي بالنهاية معراج للجنة ولقاء الحور العين.
ويلاحظ في ظل حقبة العولمة الحالية وأبرز تجلياتها ثورات الربيع العربي أن التطرف والإرهاب العالمي يرتديان حلة إسلامية تمتد وتتشابك خيوطها وتكاد أن تصل كل مكان في العالم، حيث التطرف والإرهاب، الذي يتخذ الإسلام واجهة له، يضرب من آسيا إلى إفريقيا إلى أوروبا إلى أمريكا، مركزاً على ما يسمى بالدول الفاشلة أو الهشة والأطراف والأركان البعيدة والرخوة كحواضن له، رغم أن بعضهم يصر على القول إن المسلمين، وقد تجاوز عددهم 1.62 مليار مسلم أي ما نسبته 23% من سكان العالم، لا يمثلون مجموعة موحدة ولهم وجهات نظر مختلفة لمقاربات الحياة؛ وأن ظاهرة الإسلاموفوبيا مبالغ فيها.
طبعاً هذا لا يعني بحالٍ من الأحوال أن ليس هناك غلواً وتطرفات دينية أخرى غير الإسلام، بل هناك أطياف واسعة من أشكال التطرف في مختلف الديانات التي باتت تتقاسم “الفضاء العام” للحياة والدين.
فهذا القس الأمريكي جون هاغي، وهو متطرف مسيحي صهيوني ومؤسس “المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل” الذي ترعاه كنيسته الضخمة وشبكته الإعلامية في تكساس، يدّعي أن مرض إيبولا هو عقوبة إلهية لتقسيم القدس التي يرعاها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، أما القس الأمريكي رون بيتي فعلل ظهور مرض إيبولا بالسماح للمثليين بالزواج في بعض الولايات الأمريكية؟
وتشهد حقبة الإرهاب العالمي الحالية كثيراً من الاتجاهات الجديدة والمميزة، منها أن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والسويد والنرويج والدنمارك أصبحت تُصدّر المتطرفين والإرهابيين إلى مناطق الصراع التي فتحت ثورات الربيع العربي أبوابها وخاصة في العراق وسورية، التي يرى بريان فيشمان خبير الإرهاب الأمريكي في أكاديمية ويست بوينت أنها تشكل مأوى آمناً للإرهابيين، ويقدر عدد المقاتلين الإسلاميين فيها من كل أنحاء العالم بحوالي 80 ألفاً، ووفقاً لبيانات ودراسات وكالة المخابرات الأمريكية المركزية CIA والمركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي I.C.S.R، وهو شراكة من خمس جامعات مقرّها جامعة كينغز كوليدج في لندن، إن عدد المقاتلين الأجانب بلغ 15000 ألفاً 80% منهم من العرب والأوروبيين وينتمون إلى 80 دولة في العالم. كما أكد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف في تصريح له لصحيفة كوميرسانت في 29-9-2014 أن مقاتلي “داعش” ينتمون إلى 80 دولة. وهذا يعني مدى تعولم الإرهاب وتخطيه للحدود القومية للدول، كما يعني أن هؤلاء سيشكلون مصدر خوف وقلق لدولهم، عندما يعودون إليها بعد أن اكتسبوا خبرات قتالية وعملياتية متنوعة.
لقد أكد التقرير السنوي لمكتب مكافحة الإرهاب التابع لوزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب العالمي الذي نشر في نيسان 2014 والذي يرصد أهم تطورات واتجاهات الإرهاب العالمي، أن تنظيم القاعدة والتنظيمات المتفرعة منه أو التابعة له، لازالت تشكل تهديداً لـ أمريكا وحلفائها في العالم، وأن هناك زيادة في عدد مقاتلي تنظيم القاعدة والمجموعات الإرهابية الأخرى، وأهمها وأخطرها في الحقبة الحالية من العولمة هو تنظيم “داعش”، الذي استفاد من ضعف الدول في هذه المنطقة لاسيما عقب “ثورات الربيع العربي”، حيث تشير أحدث تقديرات المخابرات الأمريكية في أيلول 2014 أن مجموع مقاتلي “داعش” في سورية والعراق يتراوح بين 20 ألف إلى 35 ألف مقاتل.
ولفت التقرير الانتباه إلى أن تهديد الإرهاب في ازدياد، بل قد تطور بسرعة عام 2013 من خلال ازدياد عدد الجماعات الإرهابية حول العالم، ممثلة بتنظيم القاعدة والمنظمات الإرهابية الأخرى وأحدثها “داعش”، الذي برز في سورية أولاً، ثم فاجأ العالم منتصف حزيران 2014 حينما سيطر على الموصل وبعض مناطق العراق وسورية، وأعلن إقامة الخلافة في نينوى – فقد ازداد عدد الهجمات الإرهابية بنسبة 43% عام 2013 مقارنة بالعام 2012 وقدرت بـ 97.7 عمليةً عام 2013، نتج عنها 17800 وفاة و32500 جريح، وكان أغلبها في أفغانستان والهند والعراق ونيجيريا وباكستان والصومال وسورية وتايلند واليمن، علماً بأن أكثر هذه الهجمات دموية كان في أفغانستان وقام بها مقاتلون من طالبان.
لقد عبّر جيمس كومي مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكي عن قلقه العميق من وجود آلاف المقاتلين الأجانب في سورية، مشيراً إلى الميل المتزايد لعشرات الأمريكيين وآلاف الأوروبيين للسفر إلى سورية للمشاركة في المعارك هناك، مؤكداً أن الأمر أسوأ من النمط الذي سارت عليه الأمور في الثمانينيات والتسعينيات في أفغانستان عندما شكل المقاتلون الأجانب – خاصة العرب – تنظيم القاعدة، وأن الأمر يزداد سوءاً بمرور الوقت، متوقعاً خروج المقاتلين في مرحلة ما من سورية متأثرين بأفكار القاعدة. وقال مسؤولون أمنيون واستخباراتيون أمريكيون وبريطانيون إن كثيراً من الهجمات الانتحارية في سورية والعراق ينفذها مقاتلون عرب وأجانب وخاصة من أوروبا، وذكر تقرير صادر عن جهاز المخابرات الهولندي في 23/4/2014 أن هولنديين اثنين نفذا هجومين انتحاريين في العام 2013 في سورية والعراق، وذكرت تقارير أخرى أن مواطنين من الدنمارك وآخر من طاجكستان نفذا عمليات مشابهة، ويلعب “الجهاديون” المتحدثون بالإنكليزية الدور الأبرز في هذا المجال.
وقد كشف وزير الخارجية البلجيكي في تصريحات لإذاعة RTL في 12/1/2014 أن مجموع الأوروبيين والشباب المقيمين في أوروبا الذين توجهوا إلى سورية للقتال في صفوف المعارضة يتراوح بين 1500 و2000 شخص، موضحاً أن من بينهم 200 من بلجيكا وحدها، وقد قُتل نحو 20 منهم فيما عاد البعض الآخر، وقريب من هذه الأرقام كانت وسائل إعلام بريطانية مثل صحيفة الغارديان في 16/4/2014 قد أشارت إلى أن نحو 1900 شخص من أوروبا غادروا للقتال في سورية من بينهم 296 من بلجيكا و249 من ألمانيا و412 من فرنسا و366 من بريطانيا.
ومن الجدير بالذكر أن هذه الأرقام والإحصائيات تتغير باستمرار وتتفاوت من مصدر إلى آخر، لكنها تعطي مؤشراً على الاتجاه العام للأدوار التي بات يلعبها الأوروبيون في بنية الإرهاب الإسلامي العالمي وهيكليته.
والمرعب في الأمر أن هؤلاء الأوروبيين ينضمون إلى الجماعات الأكثر تطرفاً، مثل تنظيم “داعش” الذي تشير دراسة أعدها المعهد الملكي في لندن ونشرتها مجلة فوكس الألمانية بتاريخ 16-6-2014 إلى أن هناك 3000 مقاتل من الدول الأوروبية يقاتلون معه في العراق.
وقد أكد جيل كيرشوف المنسق الأوروبي لمكافحة الإرهاب في تصريحات خطيرة نشرتها وكالة الصحافة الفرنسية في 25/9/2014 أن عدد الجهاديين الأوروبيين الذين توجهوا إلى سورية والعراق للقتال قد ارتفع إلى نحو 3000 مقاتل مشيراً إلى أن معدل التدفق لم يتراجع، وخاصة بعد إعلان تنظيم “داعش” قيام دولة الخلافة وأن معظم هؤلاء جاؤوا من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا وهولندا والدانمارك والسويد وإسبانيا وإيطاليا وإيرلندا والنمسا. وإن بين 20% و30% من المواطنين الأوروبيين أو المقيمين في أوروبا عادوا إلى دولهم، واستأنف بعضهم حياتهم الطبيعية، لكن آخرين يعانون من صدمات، بينما هناك قسم متشدد منهم يشكل تهديداً، مضيفاً إن الخوف ليس من هجوم واسع على غرار اعتداءات 11/ أيلول/2001 على أمريكا، بل من فرد مزود برشاش يمكنه أن يسبب أضراراً كبيرة.
وتشكل هذه الظاهرة مصدر قلقٍ كبير للدول الأوروبية بسبب الخوف من احتمال تنفيذ العائدين من هؤلاء لعمليات إرهابية في أوروبا. ولفت الوزير البلجيكي إلى ثغرة قانونية تتمثل بعدم وجود قوانين في الدول الأوروبية تنص على معاقبة من يذهب للقتال في سورية، باستثناء القانون الفرنسي.
لكن المضحك المبكي أن فرنسا تعرضت لهجومٍ إرهابي عنيف جداً من هذا النوع بتاريخ 9 كانون الثاني 2015 ذهب ضحيته 12 شخص من كوادر صحيفة شارلي إبدو بحجة قيامها بنشر رسومات مسيئة للنبي محمد والسخرية من المسلمين.
وأمام العودة المنتظرة للمقاتلين من العراق وسورية، تواجه أوروبا الموّجة الرابعة من الجهاديين، فقد كانت الموّجة الأولى تتمثل بعودة الآلاف من الذين ذهبوا لقتال الاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان، حيث شكلت سنوات التسعينيات بداية تغلغل الفكر السلفي في أوروبا، وتمثلت الموجة الثانية بانتقال كثيرين إلى البوسنة والهرسك لمقاتلة الصرب، وجاءت الموجة الثالثة من الجهاديين الأوروبيين بعد تفجيرات 11/أيلول/2001 عندما التحق مقاتلون قدماء وشباب جدد بحركة طالبان لمقاتلة القوات الغربية وخاصة الأمريكية والبريطانية، كما شملت الموجة الثالثة المقاتلين الذين توجهوا إلى العراق الذي عد بمثابة مدرسة لتفريخ خبراء تفجير السيارات والعمليات الانتحارية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على مدى عولمة الإرهاب، إذ إن هذه قضية مفزعةٌ ومقلقةٌ جداً للسياسة العالمية وللدول الغربية وأجهزتها الاستخبارية خشية من عودة هؤلاء إلى بلدانهم ونشر الفوضى والتطرف وجعل الساحات الغربية مسرحاً مفتوحاً لنشر التطرف والإرهاب، وهو أمرٌ متوقع حدوثة بشكل واسع وعميق خلال العقدين القادمين.
ويترافق ذلك مع بروز اتجاهات حديثة في الإرهاب العالمي طابعها تركيز شديد دقيق ومنظم وعميق باتجاه شيطنّة مفهوم الجهاد في الإسلام في الأدبيات التي تتناول الظاهرة، خاصة الأمريكية في المجلات المتخصصة ومراكز الدراسات مثل مركز ستراتفور Stratfor ومركز راند Rand ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وForeign Affairs Magazine وForeign Policy Magazine، إذ يُستبعد مفهوم الإرهاب المخيف ويستبدل بمفاهيم جديدة مثل: الجهاد، المجاهدين، الجهاد العالمي، والجهادّية وتنويعات أخرى، بمعنى أنه عندما يتم الحديث عن العمليات الإرهابية في العالم يستخدم مفهوم “الجهاد العالمي”، وجماعات الجهاد العالمي.
هذا مع الوقت والتركيز والتكرار المكثف والمستمر في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها المركزية الغربية مستفيدة من آليات العولمة التكنولوجية، حتى يألف الذهن والأذن انزياح ثم اختفاء مفهوم الإرهاب كلياً، ويحل مكانه الجهاد أو يصبح مقترناً به، ثم تدخل المفردة كما هي في اللغة العربية قاموس اللغة الإنجليزية واللغات الأخرى، وتتوارى تدريجياً كلمة إرهاب من الاستخدام أو تهمل، خاصة أن تجارب التأريخ لمفهوم الإرهاب تدل على ذلك، لأن المفهوم أصلاً تطور بعد الثورة الفرنسية من مفهوم إيجابي إلى آخر سلبي كما هو مستخدم حالياً، مع الأخذ بعين الاعتبار الكثير من الالتباسات والتشوهات التي مازالت ترافق جسم هذا المفهوم، منذ ولادته الأولى باللغة الفرنسية.[2]
كما يلاحظ أنه وبالقدر الذي تتوسع فيه ظاهرة التطرف، وتنتشر بفعل آليات العولمة التكنولوجية عبر الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تتغير وتتطور وتتعقد مؤشرات الإرهاب العالمي، ولقد أكد تقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب 2014 أن المتطرفين توسعوا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكارهم وتبادل الخبرات والأفكار والتعليمات والتجنيد والتوجيه، وقد كشفت دراسة قام بها الأكاديميان البريطانيان شيزار ماهر وجوزيف كاريتر من المركز العالمي لدراسة التطرف والعنف السياسي على مدى 18 شهراً، أن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية وبرنامج سكايب كانت الأدوات الرئيسة لتجنيد دفعة من الجهاديين الجدد في أوروبا وأمريكا، وذلك عبر الترويج للجهاد في سورية وجمع التبرعات المالية عن طريق تلك الوسائل. ولفتت الدراسة إلى أن المقاتلين الأجانب الذين انضموا للقتال في صفوف فصائل المعارضة السورية خلال العام 2012 كانوا مشاركين فاعلين على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد استطاع تنظيم “داعش” أن يتفوق في مجال الدعاية الجهادية ضد الغرب، فقد فاجأ الجميع بقدرته وتقنيته العالية في مجال الدعاية للجهاد عبر الإنترنت، سواء باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي تويتر أو يوتيوب، حيث يسير التنظيم وفق أيديولوجية متماسكة وإصرار بالغ على الدعاية الجهادية عبر شبكة الإنترنت، في مقابل ذلك يسعى الغرب وكذلك العرب للتحالف لإضعاف قوة وسائل الإعلام “الداعشية”.
لكن هذه المحاولات لن تجدي نفعاً، لأن هذه الدول بحاجة ماسة إلى أساليب جديدة تتجاوز إغلاق حسابات تويتر الفردية، وإزالة أشرطة الفيديو من اليوتيوب وبخاصة أن الجماعات الجهادية، وتحديداً “داعش”، باتت قادرة على الحفاظ على استمرار وجودها عبر الإنترنت من خلال تبادل المحتوى عبر شبكة واسعة من المجاهدين عبر الإعلام في تجسيد لما يسُمى بالحرب الإلكترونية، وتستخدم “داعش” استراتيجية قوية لنشر المحتوى السمعي والبصري، من خلال شبكة مترابطة تعيد تكوينها باستمرار، فضلاً عن أن لديها متخصصين في هذه الحرب الإلكترونية، وبالتالي فإنهم يعيدون تشكيل أنفسهم بشكل سريع إذا تعرضوا لأية محاولة لاستهداف حساباتهم.
وفي مؤشرٍ على الدور الكبير والخطير لشبكة الإنترنت في نشر التطرف وتجنيد الجهاديين في أوروبا، أعلن متحدث باسم المفوضية الأوروبية أن الاتحاد الأوروبي سيطلب من عمالقة الانترنت وخاصة غوغل وفيسبوك وتويتر مساعدته في محاربة التطرف والجهاديين في المواقع الإلكترونية.
ولذلك عقد في لوكسمبورغ 8 /10/2014 اجتماع بين سيسليا مالمستروم المفوضة الأوروبية المسؤولة عن الشؤون الداخلية ووزراء داخلية دول أوروبية وممثلين عن شركات الانترنت لبحث الأدوار والتقنيات التي تسمح بالرد على نشاطات الإرهابيين على الإنترنت والطريقة التي يمكن للمؤسسات الخاصة والحكومية التعاون من خلالها.
كلما توسعت وتعمقت سيرورة العولمة تعمق التغير في النظام العالمي الذي نعرفه حالياً، وتغيرت كثير من الفرضيات والمسلمّات التي تحكم السياسة العالمية، وتغيرت مقاربات دراسة العولمة والإرهاب والتطرف ومغادرة “الحكمة التقليدية” التي أصبحت من مخلفات الحرب الباردة.
وكلـما تمـاهى وانـدمج الإرهابيون مـع آليـات العولمـة التـكنولوجية وزادت أهـمية الأطراف الفاعلة من غير الدول مثل الجماعات الإرهابية، وسَهُل وقل عدد المنفذين وأصبح بمقدور شخص واحد -ذئب منفرد – تنفيذ أعمال إرِهابية واسعة التأثـير والانتشار وتحولت التكـنولوجـيا كبـديل للملـهم البـشـري الـذي يتـمثل بالـشيخ أو القــائد أو الـمعلم، وزوّدت المتطرفين بالعون والخبرة والتوجيه وكيفية صناعة أدوات الإرهاب المدمرة كلما أصبحت جهود مكافحة الإرهاب الدولية والعالمية عملاً مضنياً وسباقاً محموماً تتفوق فيه الأطراف الفاعلة من غير الدول الجماعات الإرهابية على فُرادى الدول والتحالفات الدولية.
لا بل وتحولت الأجهزة الأمنية المختلفة المكلفة بمكافحة الإرهاب وبالعمل الوقائي والحيلولة دون تنفيذ الأعمال الإرهابية قبل وقوعها إلى مجرد أجهزة ودوائر للمطافئ.
فلم يعد هناك أهمية لوجود ملفات معدة وجاهزة للإرهابيين، أو وجود البناء الهرمي التراتبي للتنظيمات الإرهابية، والاجتماعات السرية والخلايا والعلاقات الخيطية، أو التثقيف والنقاء الفكري والأيديولوجي والالتزام الديني.
إنّ التجارب الأخيرة لعمليات تنظيم “داعش” 2015 و2016 خاصة في فرنسا وبلجيكا تؤكد أنه لم يعد مهماً أن تكون ملتزماً دينياً حتى تنفذ عمل إرهابياً باسم “داعش” فالفكرة العولمّية تكفي. ولعل عملية نيس في فرنسا التي استخدم فيها أسلوب دهس المواطنين العزل، والتي قتل فيها 84 شخص وإصابة قرابة 100 التي نفذها محمد أبو هلال بتاريخ 15تموز 2016م أحدث دليل على ذلك.
المراجع:
[1] كازنوفا، خوسيه، (2005)، الأديان العامة في العالم الحديث، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، بيروت.
[2] الشَرَفات، سَعود، (2016)، الإرهاب العالمي والتطرف: صراع الظواهر وتضارب المسلمات في ظل العولمة، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة الأولى.