لم يكن مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي، أول أمس، نهاية المطاف، ولم يدّع أحد ذلك أصلاً، لكنه شكّل نهاية مرحلة بالتأكيد. فالاتفاق على بيان ختامي تضمّن الأسس والمبادئ التي ينبغي أن تحكم مستقبل السوريين، ترجم “عملياً”، وللمرّة الأولى، الرغبة والإرادة السورية المشتركة في التوصّل إلى حل سياسي، وشكّل محطة مهمة ومفصلية عكست سياسياً، ولأول مرّة أيضاً، مخرجات اجتماعات أستانا، التي تُعنى أساساً بالوقائع الميدانية على الأرض. لقد أحدث المؤتمر الفرز الأولي المطلوب للنهوض بأي حل يستند إلى الحوار، حينما رفض الاستماع لشروط ومطالب الأطراف والمجموعات التي كانت لا تزال تراهن على ممارسة الإرهاب كأداة لتأكيد الموجودية وإثبات الحضور، وهو أضفى طابعاً رسمياً على العملية المُجهضة لـ “الفصل بين المتطرفين والمعتدلين”، كما كرّس مضامين محددة لمفهوم “الاعتدال” بحيث بات يندرج تحته، وحسب، أولئك الذين ارتضوا التخلي النهائي عن السلاح للانضواء تحت سقف الدولة الجامعة الموحّدة، والنظام الجمهوري بهويته العربية السورية، ومن خلال ممارسة العمل السياسي الوطني، الهادف والمسؤول.
شكّل المؤتمر أوسع مظلة حوارية جمعت السوريين من الداخل والخارج، حتى الآن، منذ بدء الحرب، وهو بلور، على هذا النحو، الإجماع الأوسع الذي ستتحدد على تخومه حقيقة المواقف والالتزامات والمسؤوليات الوطنية من عدمها. صحيح أنه لا يتعارض مع جنيف ولن يكون بديلاً عنه – والأحرى أنه يتكامل معه – ولكن الصحيح أيضاً أنه سيوفّر لجنيف الأرضية الصلبة والأهم على طريق إطلاق الحوار الجدي والعملي والقابل للتطبيق؛ وهو سيكون بالتالي الركيزة الرئيسية لتجاوز حالة المراوحة والتعطيل، التي يفرضها واقع التدخلات الأجنبية، الذي سيجعل من “معارضات ما خارج إطار سوتشي” مجرد استطالات وزوائد وظيفية مشروطة بحدود قوة نفوذ خارجي يصعد ويهبط على وقع التطوّرات الميدانية، وعلى خلفية التناقضات الآخذة بالتفاقم في صفوف معسكر الحرب. لقد أحبط الإصرار على عرض وثائق المؤتمر على الأمم المتحدة، والتأكيد المتكرّر على التمسّك بمسار جنيف، اتهامات مسبقة مبيّتة كان يمكن لها أن تشكّل ذريعة للانقضاض على كامل المسار السياسي، بل وحتى وسيلة لإسباغ الشرعية على العودة لتسليح المجموعات الإرهابية والتلويح مجدداً بخيارات تصعيد العنف والحرب.
لقد رسم المؤتمر الملامح الأولية للتعافي السياسي السوري، وأحدث أعرض اصطفاف يمكن من خلاله البدء بحوار مُنتج وإيجابي بين وطنيين سوريين حقيقيين، وليس الاكتفاء بالدوران في حلقة مفرغة وحوارات الطرشان في مواجهة عملاء ووكلاء للمصالح والأجندات الخليجية والأطلسية. ولعل ذلك ما يفسّر حقيقة تردد بعض الأطراف في المشاركة، أو الإحجام عنها في اللحظة الأخيرة، بل وإنابة “الضامن” التركي، في سابقة مذهلة تفضح حجم ومدى الارتهان والتبعية لأجنبي لا يخفي مشاريعه الاحتلالية والتوسعية، ويفسّر أيضاً واقع الحفرة السياسية التي انتهى إليها هؤلاء حين يستمرؤون تدمير سورية، الوطن والدولة، عبر لعبة التسويف والمماطلة في جنيف فيما يرفضون أي قنوات موازية أو داعمة يمكن من خلالها فتح ثغرة في جدار الاستعصاء، أو شق مسار آمن ومضمون للخروج من أزمة تدمي بلداً يفترض أنهم ينتمون له، أو يحملون جنسيته وجواز سفره على الأقل.
لن يكون ما بعد سوتشي كما قبله، ولن يكون بوسع أحد تجاهل ما توافق عليه السوريون في المنتجع الروسي. لقد اجتازت مسيرة الحل نقطة اللاعودة التي ستحشر وراءها كل المترددين والمتآمرين في الجحر القذر للتواطؤ والعمالة والخيانة للوطن السوري العظيم. إنه الشعور بالمسؤولية الوطنية والتاريخية الذي يتسامى اليوم بعد سبع سنوات من حرب مدمرة لم يدفع فاتورتها الباهظة من الويلات والدمار والدم سوى السوريين أنفسهم، وهو الوعي الوطني الذي لطالما شكّل الرصيد الأكبر والأغلى لدى السوريين المتجذّرين في ثقافة وحضارة وعطاء هذا المشرق العربي.