يسعى القادة الحكماء للحفاظ على أقصى درجة من المرونة في السياسة الخارجية، ويمكن أن تصبح الالتزامات والاستراتيجيات ذات الجدوى في ظل مجموعة من الظروف إشكالية عندما تتغير الظروف، ويمكن لها أن تكون متهورة وخطيرة، إذ أنها يمكن أن تقيد بلداً ما بالتزامات طويلة الأجل و صارمة. لسوء الحظ، فإن قادة الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية انتهكوا مراراً ذلك المبدأ، وكثيراً ما كان لديهم خيارات محدودة في السياسة الأمريكية “لطمأنة” الحلفاء في أوروبا وآسيا بأن الولايات المتحدة ستتحمل أي مخاطر وتدفع أي ثمن لحماية حلفائها.
لقد أربكت مثل تلك التحالفات القوى العظمى على مر التاريخ، ولعل المثال الأكثر مأساوية حدث خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، فقد قسمت دول أوروبا الرئيسية نفسها إلى تكتلات عسكرية منافسة، دول الوفاق الثلاثي، ودول الحلف الثلاثي، وعندما ازدادت التوترات في عام 1914 في أعقاب اغتيال الأرشدوق فرانز فرديناند، ولي العهد النمسا، حولت هذه التحالفات الخلاف الوجداني المحدود بين النمسا والصرب الصغرى إلى أزمة قارية، ورأت ألمانيا أنه يجب عليها أن تدعم محاولة حليفها النمساوي الهشة لإخضاع بلغراد. عندما تحركت روسيا لحماية حليفها الصربي، أرسلت ألمانيا تحذيرات لموسكو، عندئذ شعرت فرنسا بضغوط لدعم حليفتها الروسية، وعندما هاجمت ألمانيا فرنسا من خلال الزحف عبر بلجيكا، واضطرت بريطانيا إلى دخول المعركة من خلال تحالفها مع هذا البلد الصغير، وكان ذلك بمثابة إشعال شرارة الحرب بين الوفاق الثلاثي والتحالف الثلاثي.
وتؤكد ملاحظات البروفسور إيرل سي رافينال من جامعة جورج تاون المتعلقة بالأحلاف ، فيما بعد، أنها “أحزمة انتقال للحرب”، إذ حولت الخلافات الثنائية إلى نزاع وحشي استنزف ملايين الأرواح، وقد عارض مؤسسو أمريكا “التحالفات المتشابكة” جزئياً لأنهم يخشون من الوقوع في تحالفات عسكرية خطيرة. وقد ميز جورج واشنطن في خطاب الوداع بين التحالفات الدائمة والمؤقتة بالقول إنه يتعين على الولايات المتحدة “الابتعاد عن التحالفات الدائمة مع أي طرف من العالم الخارجي …” لأن مثل هذه التحالفات ستربط الجمهورية بالحلفاء في حالات الطوارئ غير المتوقعة في المستقبل. لكن جورج واشنطن أقر “التحالفات المؤقتة لحالات الطوارئ الاستثنائية”. لقد كان تمييزاً ذكياً وإنذار بالحذر.
وبغض النظر عن تدخل وودرو ويلسون غير الواقعي في الحرب العالمية الأولى، اتبعت الولايات المتحدة نصيحة “واشنطن” طوال القرن الأول ونصف القرن الثاني من وجودها، وتجنب القادة الأمريكيون تحالفات سياسية أو عسكرية مع دول أخرى كما تجنبوا تورطهم في صراعات لا علاقة لها بأمن أمريكا، لكن بعد التصدع الهائل الثاني للنظام الدولي ،في فترة رغم أنها لم تزد إلاّ قليلاً عن جيل واحد، تغيرت وجهة نظر أميركا. وقد أقنعت الحرب العالمية الثانية صناع السياسة أن المشاركة الأمريكية المستمرة -القيادية عملياً – في الشؤون العسكرية العالمية أصبحت حتمية لمنع وقوع مأساة ثالثة. وقد شكل إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 1949 تغييراً حاسماً في هذه السياسة.
وبتوقيع معاهدة حلف شمال الأطلسي، ربط هاري ترومان أمن أمريكا مع أمن أوروبا “الديمقراطية” لمنع الاتحاد السوفييتي من غزو أو حتى تخويف هذه الدول الغربية. ومع ذلك لم تنشئ معاهدة حلف شمال الأطلسي تحالفاً دائماً، فبعد 20 سنة الأولى يمكن لأي عضو المغادرة بعد سنة من إبلاغ الحلف بذلك. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من أن المادة /5/ من المعاهدة قد حددت أن العدوان على أحد أعضاء حلف شمال الأطلسي سيعتبر عدواناً على جميع الأعضاء، إلا أن اللغة لا تتضمن التزام الولايات المتحدة التلقائي بالذهاب إلى الحرب. وبدلاً من ذلك، ظلت سلطة الكونغرس في إعلان الحرب (نظرياً على الأقل) كما هي دون تغيير، مما يعطي واشنطن خيار تقديم الدعم دون تدخل عسكري كامل.
ومع ذلك، أثار قرار ترومان بإنشاء الناتو جدالاً، إذ تخوف البعض من أن الحماية دون الالتزام التلقائي بالذهاب إلى الحرب لن يكون ذا قيمة. وعبر آخرون، ولا سيما السيناتور الجمهوري روبرت أ. تافت من ولاية أوهايو، عن قلقهم من أن أمريكا تربط نفسها بشكل وثيق بمصير ومشاكل البلدان الأوروبية. وفى خطاباته أمام مجلس الشيوخ التي تعارض إقرار معاهدة حلف شمال الأطلسي وفى كتابه اللاحق
“السياسة الخارجية للأمريكيين”، أكد تافت على مزايا الحفاظ على أقصى قدر من المرونة في السياسة الأمريكية وأطلق عليها سياسة “اليد الطولى”.
تخوف تافت من أنه على الرغم من اللغة الحذرة للمعاهدة، فإن واشنطن ألغت خياراتها، وقد أدى قرار الإدارة عام 1951 بتوسيع وظيفة الجيش الأمريكي في ألمانيا الغربية، ونشر أكثر من 100 ألف جندي في القارة إلى إنشاء قوة كبيرة رادعة على المدى الطويل في حال وقوع هجوم سوفييتي. وسيكون من المستحيل تقريباً تجنب المشاركة المباشرة في حرب أوروبية إذا كان الأمريكيون من بين أولى الضحايا لها. وكان من المفترض أن يكون الانتشار مؤقتاً، حتى يتمكن الأوروبيون من بناء قوات دفاعية خاصة بهم. وأعرب دوايت ايزنهاور، القائد الأعلى للناتو في عام 1951 وخليفة ترومان في رئاسة أمريكا، عن وجهة نظر مفادها انه إذا لم يتم سحب هذه الوحدات خلال 10 سنوات فإن مشروع الناتو سيكون قد فشل. بدلاً من ذلك، زاد حجم القوة تدريجياً إلى أكثر من 300 ألف جندي. ولا يزال الوجود العسكري الأمريكي، وإن كان على مستوى منخفض، قائماً حتى يومنا هذا.
وقد زاد ايزنهاور في الواقع من ربط أمن أمريكا بأمن حلفاء واشنطن الأوروبيين. وقد أظهرت عقيدته بالرد الهائل أن الولايات المتحدة ستعامل الهجوم على أي عضو آخر في حلف شمال الأطلسي على أنه هجوم على أمريكا. وقد تتضمن الاستجابة الأمريكية تصعيداً للحرب النووية. وهذا ما كشفه كتاب إيفان توماس الشهير “خدعة آيك” ولكن، على الرغم من بعض الانتقادات في الولايات المتحدة لعدم المرونة الخطيرة لهذه السياسة، بدا حلفاء الناتو يشعرون بالارتياح. وقد قلل موقف ايزنهاور من خطر أن واشنطن ستفصل بين المصالح العسكرية الأمريكية والأوروبية. وافترض الأوروبيون أن من شأن هذا الربط الوثيق، أن يمنع أيضاً الاتحاد السوفييتي من السعي إلى تفكيك التحالف.
وعلى العكس من ذلك، فقد أقلق تبني جون كينيدي اللاحق لسياسة “الاستجابة المرنة”، التي تهدف إلى استبدال الرد الهائل، عواصم حلف شمال الأطلسي، كما وثق كريستوفر لاين من جامعة تكساس في كتابه الأساسي “سلام الأوهام”، حين طالب أعضاء حلف شمال الأطلسي في أوروبا ضمانات متعددة بالتضامن الأمني. كان المسؤولون الأمريكيون تقريباً ملزمين دائماً. وقال روبرت إ س.مكنمارا وزير الدفاع في فترة كينيدي “إن الولايات المتحدة مستعدة للرد بشكل فوري بالأسلحة النووية على استخدام الأسلحة النووية ضد عضو أو أكثر من أعضاء الحلف. والولايات المتحدة مستعدة أيضاً للرد بالأسلحة النووية على أي هجوم سوفييتي تقليدي بقوة لا يمكن التعامل معه بالوسائل التقليدية”.
وقد سادت هذه النظرة طوال الحرب الباردة. وخلال السبعينيات، عارضت إدارتا نيكسون وفورد بشدة تعديل مانسفيلد، حيث كان يهدف زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الديمقراطي مايك مانسفيلد إلى خفض القوات البرية الأمريكية في أوروبا وأماكن أخرى في العالم، وإن لم يلغها. وقد حارب هنري كيسنجر مستشار الأمن القومي للرئيس نيكسون (وزير الخارجية في وقت لاحق) التخفيضات المقترحة بشراسة. وذكر في مذكراته أنه لا بد من تعزيز الانتشار الأمريكي ، ولا سيما في أوروبا، وليس تقليصه. يقول كيسنجر: “في الجوهر، كان مانسفيلد انعزالياً”، مستعيداً الزعم التقليدي من قبل دعاة الوضع الراهن لرفض الدعوات إلى سياسة خارجية أكثر مرونة وضبطاً. وقال كيسنجر إن اقتراح مانسفيلد خطير، لأن “حلفاءنا سيرتبكون” بسبب المخاوف من أن التزام واشنطن العسكري تجاههم لم يعد موثوقاً به.
وتجاوزت التطمينات حدود التصريحات الرسمية ومقاومة التدابير التشريعية المرفوضة. وظلت عمليات الانتشار التقليدية الأمريكية قوية، وصعدت واشنطن الأمور خلال أواخر السبعينات وأوائل الثمانينيات. وذلك عندما قرر زعماء الناتو نشر الصواريخ الأمريكية متوسطة المدى، ذات الرؤوس النووية في أوروبا كقوة لتعزيز ردع الحلف وتعزيز الصلة بين قوات الناتو التقليدية والنظم الإستراتيجية الأمريكية العابرة للقارات، وبالتالي ضاقت خيارات واشنطن بشكل أكبر في حال اندلاع الحرب.
حتى إن زعماء الولايات المتحدة قوضوا مطالبهم الخاصة بتقاسم أكبر للأعباء بينما يحتفظ أعضاء الناتو الآخرون بنفقات دفاعية منخفضة، يستمتعون بالاستجمام المجاني الذي تتحمله أمريكا. وفي وقت مبكر من كانون الأول عام 1953، أكد وزير الخارجية جون فوستر دالس بشكل جلي أن الولايات المتحدة قد تبدأ “إعادة تقييم مؤلم” لالتزامها الدفاعي في أوروبا، إذا لم يبذل الحلفاء جهودا أكثر جدية لبناء قدراتهم العسكرية.
وبعد أكثر من ستة عقود، أعرب وزير الدفاع تشاك هاغل عن تلميحات إلى وضع حد لصبر واشنطن. وحذر هاغل الأوروبيين خلال اجتماع وزراء الدفاع في حلف شمال الأطلسي في شباط 2014، قائلاً: ” يمكن لتحالفنا أن يستمر طالما كنا مستعدين للقتال من أجله، والاستثمار فيه”. وأضاف، كان ذلك إلزامياً وليس اختيارياً.
ورفض أعضاء الناتو الأوروبيون بشكل روتيني مثل هذه التحذيرات بأنها تفتقر إلى الجدية. وقد حدد آلان تونلسون، المحرر المساعد السابق في مجلة “فورين بوليسي”، بشكل مناسب، عدم جدوى نهج واشنطن بتقاسم الأعباء:”لم يقدم القادة الأمريكيون تحذيراً كافياً للأوروبيين لتحمل مسؤوليات عسكرية نسبية أكبر. كان التحذير ناقصاً،لأن واشنطن لا تظن أبداً أنها تستطيع تحمل الابتعاد عن الناتو أو حتى تقليص دورها، إذا ما ظل الحلفاء صامدين. والأسوأ من ذلك أن قادة الولايات المتحدة قاموا بإيصال هذه الرسالة بشكل متكرر إلى الأوروبيين، وفي كثير من الأحيان في خضم الجدل حول تقاسم الأعباء.
ولم تقتصر الحاجة الملحوظة لدى قادة الولايات المتحدة للحد من خيارات واشنطن السياسية على الناتو، إذ كان هناك انتشار للتحالفات الأمنية بقيادة الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك معاهدات الدفاع المتبادل الثنائية مع اليابان عام (1951(، وكوريا الجنوبية عام (1953)، والصين الوطنية (1954)، وعلى الرغم من أن هذه المعاهدات تجنبت بعناية اللغة التي تلزم أمريكا بالذهاب إلى الحرب إذا ما تعرض حليفها إلى الهجوم، فقد أشارت البيانات المتعددة من الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى أن مثل هذا القيد الرسمي لا ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. وعلاوة على ذلك، أظهرت السفن الحربية والطائرات الأمريكية في أقصى غربي المحيط الهادئ والقوات البرية الأمريكية في اليابان وكوريا الجنوبية أن الولايات المتحدة سوف تشارك في أي حرب قد تنشب، لقد اختار القادة الأمريكيون مرة أخرى تقييد الخيارات السياسية للجمهورية.
وظهر لأول وهلة أن دونالد ترامب قد يغير هذا النهج الأمريكي التقليدي تجاه الحلفاء واعتماد إستراتيجية أكثر مرنة وخاضعة لشروط، إذ أكد ترامب في خطابه الأبرز في السياسة الخارجية خلال الحملة الرئاسية لعام 2016 أن “حلفاءنا لا يتحملون نصيبهم العادل” من جهود الدفاع الجماعي. وأضاف “أن الدول التي ندافع عنها يجب أن تدفع تكاليف هذا الدفاع، وإذا لم تفعل ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لترك هذه الدول تدافع عن نفسها”. تشير هذه اللغة بقوة إلى أن الالتزام العسكري ليس مطلقاً.
كما أشار ترامب في تموز 2016 إلى أن مسألة الدفاع الأمريكي عن جمهوريات البلطيق تعتمد على ما إذا كانت قد وفت بالتزامات التحالف. ورداً على سؤال في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” حول ما إذا كانت دول الحلف بما فيها ليتوانيا ولاتفيا واستونيا يمكنها الاعتماد على الولايات المتحدة لتقديم المساعدات إذا ما هاجمتها روسيا، قال ترامب: “هل وفوا بالتزاماتهم تجاهنا؟ إذا كانوا قد وفوا بالتزاماتهم تجاهنا، فإن الجواب “نعم”، ضمنياً، إذا لم يفوا بالتزاماتهم، فإن الإجابة ستكون” لا”.
وأشار الصحفيون سريعاً إلى أن مثل هذه التعليقات شكلت إحباطاً في أوروبا. ورد كل من المؤيدين المحليين والخارجيين، بشكل غاضب وساخط، مشددين على الرباط الوثيق بين المصالح الأمنية للمنطقتين. وقال عضو مجلس الشيوخ الجمهوري في ولاية كارولينا الجنوبية ليندسي غراهام: “إن تصريحات من هذا القبيل تجعل العالم أكثر خطورة، والولايات المتحدة أقل أمناً، لا يمكن أن أتخيل كيف يجب أن يشعر حلفاؤنا في حلف شمال الأطلسي، ولا سيما دول البلطيق “. وأضاف أنه يشعر يقيناً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كان “سعيداً جداً”. وقال غراهام إن” ترامب كان يقول أساساً للروس والأطراف السيئين الآخرين إن الولايات المتحدة غير ملتزمة تماماً بدعم حلف شمال الأطلسي”. وأضاف جينز ستولتنبرغ الأمين العام للناتو” إن التضامن بين الحلفاء هو قيمة رئيسية للناتو”. وهذا أمر جيد للأمن الأوروبي وجيد للأمن الأمريكي”.
ومع ذلك، ظهر بشكل عرضي، عدم اكتراث ترامب بالمادة/ 5/ من حلف الناتو حتى بعد تنصيبه. فقد أشارت مجلة “فورين بولسي” إلى أنه عقب جلسة علنية عقدت في قمة الناتو في 25 أيار رفض ترامب تأييد شرط الدفاع الجماعي للناتو، ما دفع زعيم مونتينيغرو إلى المغادرة ، وبدا قادة التحالف الذي يضم 29 عضواً “مذهولين”.
كما لم يقيد ترامب شكوكه في التزام الناتو، فقد أشارت بيانات مختلفة على الاستعداد للنظر في التغييرات الأساسية في جوانب أخرى من الإستراتيجية الأمنية الأمريكية. وقال ترامب إنه لن يعترض بالضرورة إذا ما قررت اليابان وكوريا الجنوبية بناء الردع النووي الخاص بهما. كما أبدى انطباعاً واضحاً بأن الالتزامات الدفاعية في معاهدة الدفاع مع اليابان كانت “متبادلة” حقاً. وفي أثناء حملة انتخابية في دي موين في ولاية أيوا، أعرب عن تشكيكه. وقال ترامب “إنكم تعلمون أن لدينا معاهدة مع اليابان، تفرض عليها، إذا ما هوجمت اليابان، استخدام القوة الكاملة وكل إمكانيات الولايات المتحدة”. وأضاف ” لكن إذا تعرضنا للهجوم لا يتعين على اليابان القيام بأي شيء، يمكنهم الجلوس في المنزل ومشاهدة التلفاز”.
تحرك ترامب والمعنيون بعد أن تولى منصبه تدريجياً لطمأنة الحلفاء في أوروبا وفي شرق أسيا بأن الالتزام الأمني الأمريكي يظل ثابتاً. وأوضح نائب الرئيس مايك بينس هذا الأمر بشكل قاطع: “لا ترتكبوا أخطاءً، التزامنا لا يتزعزع، وسوف نفي بالتزاماتنا تجاه شعبنا بتوفير الدفاع الجماعي لجميع حلفائنا … فأي هجوم على أحدنا هو هجوم علينا جميعاً”. وبالمثل، أكد القادة العسكريون الأمريكيون في شرق آسيا أن التزام واشنطن بالردع الواسع تجاه اليابان وكوريا الجنوبية سيكون مضموناً “من خلال جميع أشكال القدرات العسكرية بما فيها الأسلحة التقليدية والنووية.
تحتاج الولايات المتحدة إلى إستراتيجية أمنية أكثر مرونة، ويجب على قادة الولايات المتحدة تبني سياسة روبرت تافت “اليد الطولى”. فالقوة العظمى الحكيمة ستبقي خياراتها مفتوحة قدر الإمكان، فليس من المنطقي أن تقوم بالتزامات أو تنشر قوات عسكرية أمريكية بطريقة يمكن أن توقع الولايات المتحدة في فخ حروب لا علاقة لها بالمصالح الأمريكية الحيوية، ولكن هذا ما فعله صناع القرار الأمريكيون منذ عقود ولا زالوا يفعلون.
فالمادة/ 5 / من الناتو تقترب بشكل حاسم من الالتزام التلقائي بالذهاب إلى الحرب إذا تورطت أي دولة عضو في أي نزاع مسلح، فتحديد ما إذا كان الحليف هو ضحية أو معتدي يمكن أن يكون صعباً للغاية. فجمهوريات البلطيق، على سبيل المثال، لها علاقات متوترة نوعاً ما مع جارتها الروسية. وفي اثنتين منها أيضاً أقليات روسية كبيرة يحتمل أن تفكر موسكو بحمايتهم إذا أصبح التمييز ضدهم صارخاً ومرهقاً. وفي حال اندلاع القتال، سيكون من الصعب للغاية الامتناع عن تقديم المساعدة للعضو الحليف، حتى لو تسببت حكومة البلطيق بالمشكلة.
هناك احتمالات أخرى مثيرة للقلق أيضاً، لنأخذ في الاعتبار حادث تشرين الثاني عام 2015 الذي أسقطت فيه تركيا مقاتلة روسية كانت قد دخلت المجال الجوي التركي لمدة 17 ثانية فقط، كانت رد فعل موسكو على هذا العمل الفاحش محدودة وسلمية، ولكن ماذا ستكون خيارات واشنطن لو أمر بوتين بضربات جوية ضد بطاريات الصواريخ التركية التي قامت بالهجوم، ويمكن للمرء أن يجزم أن تركيا لم تكن ضحية عدوان بل هي التي ارتكبت عدواناً. بيد أن القادة الأمريكيين كانوا سيتعرضون لضغوط هائلة للوفاء بالالتزام الأمني تجاه عضو في التحالف.
إن مواصلة نشر القوات العسكرية في المستقبل يزيد من المخاطر التي تنطوي عليها الالتزامات الأمنية الصارمة التي تفرضها الولايات المتحدة بالفعل، ومن غير الحكمة وضع القوات والدبابات والطائرات الحربية والقذائف في بلدان الناتو بالقرب من الحدود الروسية، حيث حتى يمكن لحادث بسيط أن يبتلع هذه الوحدات على الفور في القتال، مما يلغي بشكل فعال خيارات واشنطن السياسية. في الواقع، لهذا السبب يريد هؤلاء الأعضاء نشر الولايات المتحدة قوات هناك. وأكد دانيال سيليغوسكي، الباحث البارز في المعهد البولندي للشؤون الدولية، أنه ” من المنظور البولندي فإن نشر القوات الأمريكية في بولندا ودول البلطيق يعني ردعاً حقيقياً لأنه يزيد من احتمال مشاركة القوات الأمريكية في حالة عدوان محتمل من روسيا”.
فبالنسبة للولايات المتحدة تقيد خيارات سياستها بشدة فيما يتعلق بالحرب والسلام أمر مشكوك فيه بما فيه الكفاية عندما تنطوي الرهانات على حلفاء مهمين استراتيجياً. لكن توسع عضوية حلف شمال الأطلسي منذ منتصف التسعينيات يزيد كثيراً من احتمالات الحماقة. وتتحمل أمريكا الآن نفس المخاطر للدفاع عن “حلفاء” صغيرين وهامشيين استراتيجياً (في الواقع اتكاليين عليها) مثل سلوفينيا والجبل الأسود وجمهوريات البلطيق.
والشيء نفسه ينطبق على تواجد القوات الأمريكية بالقرب من المنطقة منزوعة السلاح بين كوريا الديمقراطية وكوريا الجنوبية، فالمنطقة المجردة من السلاح يمكن أن تكون نقطة الاندلاع في أي صراع قد يقع بين الكوريتين، وسيتم جر العسكريين الأمريكيين إلى الحرب من اللحظة الأولى.
إن تجاهل قادة الولايات المتحدة لعنصر الاختيار في المشاركة في حرب يشارك فيها حلفاء الولايات المتحدة هو النقطة الكاملة لنشر مثل قوات رادعة مثل تلك التي نشرت خلال الحرب الباردة. ولم يكن عدم المرونة حكيماً حتى عندما واجهت الولايات المتحدة تهديداً وجودياً لأمنها. إذ من الحماقة غير المعقولة أن تكبل بتلك الأغلال التي فرضتها على نفسها عندما لا يوجد مثل هذا التهديد. تحتاج أمريكا إلى سياسة للقرن الحادي والعشرين التي تزيد من خياراتها، بالحد من التزاماتها وما يرافقها من مخاطر.
*تيد غالين كاربنتر، باحث بارز في دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو، له 10 كتب، وأكثر من 700 مقال ودراسة سياسية حول الشؤون الدولي، ومحرر مساهم في صحيفة “ناشيونال إنترست”.