في أحد خطاباته المهمة (ألقاه في مدرج جامعة دمشق في 10/1/2012)، أكد السيد الرئيس بشار الأسد أنه لايجب تعميم أخطاء بعض المستعربين على العروبة، وأوضح أن طرح سورية أولاً الذي ظهر كرد فعل آنذاك، جاء في سياق انعزالي، وكان يعني سورية فقط، مشدداً على أنه لايوجد تناقض بين «عروبتنا وسوريتنا»، وعلى أن العلاقة بين العروبة والوطنية علاقة وثيقة وضرورية للمستقبل وللمصالح… معرّفاً العروبة بأنها حالة حضارية.. قوتها في تنوعها وليس في انعزالها ولونها الواحد…
انطلاقاً من هذا يمكن معالجة إشكالية العلاقة بين الوطنية والعروبة التي ظهرت نتيجة المحنة الكبرى التي عاشتها سورية في السنوات الأخيرة، والتي دفعت البعض إلى حد الكفر ببعض الثوابت الفكرية والسياسية التي كانت ترقى إلى مستوى البديهيات العقائدية.
لابد، بداية، من الإشارة إلى أن إعادة النظر بالثوابت، وطرحها للنقاش أمر طبيعي، بل ضروري. وإذا لم يواكب الفكر الواقع ومتغيراته، ولاسيما الدراماتيكية منها، كما حدث في سورية، فإنه سيتحول إلى فكر جامد يعيق الاستجابة الخلاقة للتحديات الفكرية والسياسية التي يطرحها الراهن بقوة. لكن علينا التفريق هنا بين ردات الأفعال التي تخلو من الموضوعية، وتؤدي بالضرورة إلى مواقف خاطئة، من قبيل تحميل العروبة وزر ماقام به بعض المستعربين كما سماهم الرئيس الأسد، والفصل بالتالي فصلاً تعسفياً بين الوطنية والعروبة انطلاقاً من ذلك، بالرغم من أن علاقة الاتصال بين الاثنتين شكلت واحداً من ثوابت التاريخ السوري الحديث والمعاصر. وبين التفكير الموضوعي والمتأني الذي يعتقد أصحابه أن ذلك الفصل ممكن، وأن الوطنية يمكن أن تكون نتيجة للمواطنة دون حاجة إلى العروبة. فهل هذا ممكن حقاً؟
إن التجربة العربية في مجال بناء الدولة القطرية تُظهر إخفاقاً ذريعاً. فقد أخفقت كل محاولات هذه الدولة استبدال العروبة (الثقافية والسياسية) بهويات محلية مختلقة، كما أخفقت كل مشاريع بناء «الأمة» في الدول العربية على أساس المواطنة وتحويل الأخيرة إلى هوية وطنية. وفي حين ظل انتماء الجماهير العربية في مختلف أقطارها إلى العروبة الحضارية، فإن استبعاد هذا الانتماء من تكوين الوطنيات المحلية أفرغها من مضامينها، وجعلها في أغلب الأحيان وطنيات زائفة، وبلا أي معادل في الواقع، كما فتح الباب على مصراعيه أمام التبعية التي تصل أحياناً إلى حد العمالة الموصوفة، وأمام نمو الانتماءات الطائفية والعشائرية والمذهبية، وغيرها من الانتماءات ماقبل القومية التي تهدد وحدة الدولة القطرية وتماسكها.
وإذا كان الواقع قد أثبت استحالة بناء أمم بديلة عن الأمة العربية، فقد أثبت أيضاً استحالة بناء وطنية على أساس غير عروبي، إلا إذا كانت وطنية شكلية، وعاجزة عن مواجهة التحديات، كما أشرنا.
إن العرب يمتلكون طاقة هائلة وخلاقة اسمها العروبة، فلماذا يُراد طمسها واستبدالها بما ثبت، حتى الآن، أن مصيره الفشل. صحيح أن فاعلية العروبة قد تجمدت إلى حين، عندما تم أدلجة فكرتها واحتكارها. لكن هذا يستدعي النقد الذاتي والتصويب، لا التشكيك في العامل الواقعي الوحيد الذي يمكنه حماية الدولة القطرية من التشظي، فضلاً عن بناء الوطنية فيها على أسس راسخة، وبمضمون استقلالي حقيقي. ذلك أن الوطنية هي الوجه الآخر للانتماء والهوية أي للعروبة التي هي نتاج عملية تاريخية من التفاعل، والتي على أساسها ينبغي أن تُبنى الدساتير، وتُحدد الثوابت الوطنية.
وفي الحالة السورية مثال ساطع على ضرورة وحيوية الاتصال بين العروبة والوطنية، اتصال لايمكن العبث به دون تحجيم الوطن السوري، وإفقاده أهم عناصر قوته ووحدته ودوره. ولم يعد خافياً على أحد أن هذا هو أحد الأهداف الرئيسية للحرب على سورية.
نعم يمكن للمواطنة وتعبيرها الوطني الحقيقي أن يتحققا، لكن ذلك لايتم بالقفز فوق العروبة، بل عن طريقها، وإلاّ كان الفشل، وما هو أخطر من الفشل، نتيجة حتمية لذلك القفز على ما هو ضروري وأساسي لبقاء الدولة الوطنية، وترسيخ أسسها التكوينية أولاً.
المقال التالي