لم يستأثر كتاب “السعودية الديكتاتورية المحمية” الذي أصدره الفرنسي جان ميشال فولكيه عام 1995 عن دار ميد ويست للنشر بباريس بالكثير من اهتمام الإعلام “الحر” العربي والعالمي!.
ومع أن الكتاب يروي “كيف تُنتهك حقوق الإنسان في مملكة آل سعود، وكيف تُحرم المرأة من حقوقها باسم إسلام يُحرّف عن تعاليمه ومقاصده”.. فلم يأخذ حقه في وسائل الإعلام “الحر” لأن السعودية محمية من قبل الحكومات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية بجناحيها الحزبيين الديمقراطي والجمهوري.
وكان علينا أن ننتظر حتى عام 2004 ليظهر كتاب جديد يروي بالتفاصيل كيف تحولت السعودية إلى “محمية أمريكية وراعية للإرهاب” وهو كتاب “اعترافات قاتل اقتصادي” للكاتب جون بيركنز والذي يسرد فيه مذكراته الشخصية كقاتل قرصان اقتصادي.
وعلى الرغم من أهمية الكتاب، إلا أنه لم يترجم إلى العربية إلا في العام 2009 في الأردن ثم ترجم في مصر عام 2012 وقد حملت نسخته الأردنية عنوان “اعترافات قاتل اقتصادي” وقد صدر عن دار ورد للنشر والتوزيع، فيما حملت نسخته المصرية عنوان “الاغتيال الاقتصادي للأمم..اعترافات قرصان اقتصاد” وقد صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
والقرصان هو التسمية السرية لما يُسمّى بالخبير أو المستشار في الشركات الكبرى المكلف بأعمال ومهام لصالح الطبقة الحاكمة في أمريكا، حيث تكشف فصول الكتاب الهيمنة الأمريكية على نظام آل سعود، وتعرض ما هو أشمل من ذلك بكثير، وتجيب على السؤال المهم، وهو: كيف تهيمن الولايات المتحدة على العالم الثالث؟.
يكشف القرصان الأمريكي بيركنز أن هذه الهيمنة تتم من خلال ثلاثة أساليب، هي: القراصنة الاقتصاديون، وفرق الاغتيالات، والغزو العسكري.
وما يهمنا الآن في هذا الكتاب الشيق والجريء هو الفصل المتعلق بالسعودية: المحمية الأمريكية.. وراعية الإرهاب العالمي.
وإن أهم معلومة سيكتشفها القارئ أن قيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هذه الأيام بشفط 480 مليار دولار من خزائن نظام آل سعود هو أمر ليس بجديد ولا مفاجئ، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة كانت تقوم بشفط مليارات النفط السعودية منذ أكثر من أربعة عقود، بل إن إطلاق وصف السعودية بالبقرة الحلوب كان استخدم للمرة الأولى في منتصف سبعينات القرن الماضي، وليس الآن فقط!.
الأغنام.. ألهمتني الحل
يروي القرصان الأمريكي بيركنز حادثة قديمة ألهمته فيما بعد الأسلوب الخلّاق للسيطرة الأمريكية على مليارات النفط السعودي، ويقول: (في عام 1974 أراني أحد دبلوماسي المملكة العربية السعودية صوراً فوتوغرافية للرياض عاصمة بلاده، ومن ضمنها صور لقطيع من الأغنام يرعى بين أكوام القمامة خارج مبنى حكومي، وحين سألت ذلك الدبلوماسي عنها، صدمتني إجابته، حين قال لي إنها وسيلة التخلص من القمامة، قال:لا يمكن لمواطن سعودي كريم الأصل أن يجمع القمامة، نحن نتركها لقطعان الأغنام والماشية!.
ويضيف بيركنز متعجباً ومستغرباً: “أغنام في أكبر مملكة نفط في العالم.. لقد بدا لي أمراً لا يصدق.
ولم يكن يخطر على بال القرصان الأمريكي بيركنز أن صور”الأغنام” ستلهمه فيما بعد الأسلوب الفعال لمنع حظر نفطي جديد على أمريكا وحلفائها، ويقول: (في ذلك الوقت كنت واحداً من مجموعة مستشارين في بداية عملنا، وكانت مهمتنا وضع تصور لإيجاد حل للتغلب على أزمة النفط، وقد ألهمتني تلك الأغنام كيفية استنباط ذلك الحل، آخذاً في الحسبان معدل التطور في المملكة العربية السعودية عبر القرون الثلاث السابقة).
لا تسامح مع أي حظر جديد للنفط
لا يخفي القرصان الأمريكي بيركنز أن اهتمام بلاده ينصب على النفط السعودي، والعمل على إلزام الأسرة السعودية بعدم فرض حظر نفطي عربي جديد على العالم الغربي مقابل حمايتها من أي تطورات أو محاولات يمكن أن تطيح بها عن سدة الحكم.
ويكشف بيركنز أن قرار السعودية بقطع النفط عن الغرب خلال حرب تشرين عام 1973 صدم العالم الغربي، وفي 16 تشرين الأول أعلنت إيران ودول الخليج الخمسة زيادة سعر النفط بنسبة 70% وفي اليوم التالي قاموا بتخفيض الإنتاج بنسبة 5% كل شهر وفي 20 تشرين الأول فرضت السعودية وغيرها من البلاد العربية المنتجة للنفط حظراً كاملاً على سفن النفط المتجهة للولايات المتحدة.
ويعترف بيركنز أن فترة الحظر التي انتهت في 18 آذار عام 1974 وعلى الرغم من أنها كانت (قصيرة) إلا أن تأثيرها كان هائلاً “فقد ارتفع سعر نفط السعودية من 1.39 دولار للبرميل في أول كانون الثاني 1970 إلى 8.32 دولار في أول كانون الثاني عام 1974”.
ويكشف القرصان الاقتصادي أن صدمة الشهور القليلة لحظر النفط أدت إلى تقوية الإمبراطورية الكوربوقراطية وهي (الشركات الكبرى والبنوك الدولية والحكومة ) كما لم يحدث من قبل.
وبما أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تقبل حظراً جديداً للنفط يمكن أن يتكرر مستقبلاً من دول الخليج العربي وبخاصة السعودية فقد (أسفر الحظر عن مواقف وتغيرات شديدة الأهمية في دلالتها، وأيقنت وول ستريت وواشنطن أنه من غير الممكن التسامح مع مثل ذلك الحظر مرة أخرى).
من أولوية إلى هاجس
يقول بيركنز: إن حماية مصادر إمدادات الولايات المتحدة من النفط كانت تمثل دوماً أولوية لإدارتها، لكنها تحولت إلى هاجس بعد عام 1973 (ولقد رفع الحظر مكانة السعودية كلاعب في عالم السياسة ودفع واشنطن لإدراك الأهمية الإستراتيجية للملكة العربية السعودية على الاقتصاد الأمريكي، وأكثر من هذا، فقد شجعت الولايات المتحدة قيادات “الكوربوقراطية” للبحث الحثيث عن سبل لاستعادة أمريكا لأموالها المدفوعة في النفط مرة أخرى، والتفكير الجاد في استغلال واقع نقص الهياكل الإدارية والتأسيسية التي تُمكّن حكومة السعودية من إدارة ثروتها الكبيرة إدارة صحيحة)!.
لم تنتظر الإدارة الأمريكية طويلاً لتنفيذ خططها، وبدأت واشنطن بعد نهاية عملية الحظر مباشرة بالتفاوض مع السعوديين، وعرضت عليهم مقايضة المساعدة التقنية والمعدات والتدريبات العسكرية وفرصة للنهوض ببلدهم لتلحق بركب القرن العشرين مقابل دولارات النفط، كان الهدف ضمان عدم تكرار حظر النفط مطلقاً.
ولكي تحقق واشنطن هدفها “السامي” فرضت على آل سعود إنشاء (وكالة التنمية الأكثر غرابة في التاريخ، وهي اللجنة الأمريكية السعودية للتعاون الاقتصادي التي اشتهرت اختصاراً بـ “جيكور”، وابتدعت تلك اللجنة مفهوماً جديداً في برامج المساعدة الأجنبية المتعارف عليها، حيث كانت تعتمد على الأموال السعودية لتمويل الشركات الأمريكية في بناء المملكة العربية السعودية).
بعيدا عن رقابة الكونغرس
ويشرح القرصان الأمريكي أسباب إنشاء مثل هذه الوكالة الغريبة من نوعها في التاريخ، فقد كانت واشنطن بحاجة إلى ابتكار حل يتيح لها التحرر من أي رقابة على أساليب عملها أو كيفية إنفاق المليارات السعودية بإدارة أمريكية كاملة (وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية كلها والمسؤولية المالية كانت قد عُهد بها إلى وزارة الخزانة الأمريكية، فقد كانت هذه اللجنة المشتركة تتمتع باستقلالية بلا حدود، في النهاية أٌنفقت سنوياً مليارات الدولارات في فترة تجاوزت خمسة وعشرين عاماً من دون رقابة الكونغرس، ولأن الموضوع لم يكن به أموال حكومية أمريكية، فلم يكن للكونغرس أية سلطة للتدخل في الأمر، وبالرغم من دور وزارة الخزانة كوسيط).
ويروي بيركنز كيف أصبح له دور رئيسي في هذه اللجنة كقرصان اقتصادي “مستشار وخبير” عندما لجأت وزارة الخزانة الأمريكية للاستعانة بشركة (مين) كاستشاري في نهب المليارات السعودية، ويقول: (كان الشغل الشاغل للخزانة الأمريكية ابتكار الأساليب الفعالة لاستنزاف ما تربحه السعودية من النفط لصالح الإمبراطورية الكوربوقراطية، وكانت وظيفتي تنحصر في التنبؤ بما قد يحدث في المملكة العربية السعودية إذا استثمرت مبالغ طائلة في الإنفاق على تطوير البنية التحتية، وخطط إنفاق تلك المبالغ، وباختصار فقد طُلب مني تطبيق قدراتي الإبداعية بأقصى ما أستطيع في تبرير استنزاف مئات الملايين من الدولارات من اقتصاد السعودية بشرط إدماج شركات الهندسة والبناء الأمريكية).
وكانت الإدارة الأمريكية تدرك جيداً أنها لا يمكن أن تثقل بلد يعوم على النفط بالديون، كما تفعل مع دول العالم الثالث لذا كان مخططها استنزاف عوائد النفط السعودي، وهذا ما أكد عليه بيركنز: (لقد فهمت بالطبع أن الهدف الأساسي هنا ليس كالمعتاد، وهو أن نثقل كاهل هذا البلد بالديون التي لن يستطيع سدادها، بل بالأحرى كان الهدف إيجاد طرق تضمن إعادة أكبر نسبة من الدولارات المدفوعة في النفط مرة أخرى إلى داخل الولايات المتحدة، وعلينا في هذه العملية أن نجر المملكة العربية السعودية إلى هذا الطريق، وأن نجعل اقتصادها يزداد تشابكاً وخضوعاً لمصالحنا).
الأغنام.. مفاتيح الحل
وبأسلوب يمزج بين السخرية والجدية وبما يشبه اكتشاف نيوتن لنظرية الجاذبية عندما شاهد التفاحة تسقط عن الشجرة إلى الأرض، صرخ بيركنز مبتهجاً: وجدتها.. وجدتها، هكذا فعل القرصان الاقتصادي بيركنز عندما استحضر صورة الأغنام أمام المبنى الحكومي (وبمجرد ما بدأت تنفيذ المهام المكلف بها، أدركت أن الأغنام التي تجوب شوارع الرياض هي أحد مفاتيح الحل، فقد كانت هي العامل المحرج للمواطنين السعوديين الذين يسافرون كثيراً حول العالم متنقلين من مكان فخم لآخر، واتضح أنه يجب استبدال تلك الأغنام بشيء أكثر ملائمة لهذه المملكة الصحراوية التي تتلمس طريقها للعالم المعاصر، وأدركت كذلك أن رجال الاقتصاد القائمين على منظمة الأوبك يؤكدون على حاجة البلاد المنتجة للنفط لإنتاج المزيد من المشتقات النفطية لتعظيم القيمة المضافة بدلاً من تصدير النفط خاماً فقط، وكان رجال الاقتصاد يحثون تلك البلاد على تطوير صناعة النفط الذي يستخرجونه لاستخدامه في إنتاج مشتقات من النفط يستطيعون بيعها لبقية بلاد العالم بسعر أعلى مما يحصلون عليه عن بيع النفط الخام، وبهذا الإدراك انفتح الباب على إستراتيجية تؤدي لأن يربح الجميع، وبالطبع كان موضوع الأغنام مجرد نقطة البداية).
ما يقصده القرصان الاقتصادي بيركنز أن مهمته كانت “جليلة” جداً وتتكفل بتخليص السعودية من قمامة “النفط” باستخدام أحدث الطرق التكنولوجية بدلاً من الأغنام “وهو ما سيجعل السعوديين فخورين بهذه التقنية الحضارية”.
لم تقتصر “تقنية الأغنام” التي اكتشفها القرصان بيركنز من خلال صورة فوتوغرافية بالمصادفة على تصنيع “قمامة النفط”، بل وجدها صالحة كمعادلة يمكن تطبيقها على معظم القطاعات الاقتصادية في المملكة، وهي (وصفة للنجاح في عيون العائلة المالكة ووزارة الخزانة الأمريكية ورؤسائي في شركة “مين”، وطبقاً لهذه المعادلة ستصبح الأموال مخصصة للتركيز على إنشاء قطاع صناعي يقوم بتحويل النفط الخام إلى منتجات صالحة للتصدير، وستنشأ في الصحراء مجمعات لصناعة البتروكيماويات وتحيطها مناطق صناعية وعمرانية ضخمة، ومن الطبيعي لمثل هذه الخطة، أن تتطلب إقامة محطات توليد كهربائية تصل قدراتها إلى آلاف الميغاواط، وخطوط للنقل والتوزيع، والطرق السريعة، وخطوط أنابيب النفط، وشبكات الاتصالات، ووسائل مواصلات متضمنة مطارات جديدة، وتحسين الموانئ، والاستعانة بعدد كبير من الأفراد للصناعات الخدمية، والبنية التحتية الأساسية لإدارة كل هذه المشاريع).
ويبقى الهدف : زيادة التبعية لأمريكا
يسهب القرصان الاقتصادي بيركنز بسرد خططه التي استلهمها من “معادلة الأغنام” التي تستولد مئات المشاريع التي تستنزف مليارات النفط السعودي وتحقق الأرباح الطائلة للإمبراطورية الأمريكية على مدى العقود القادمة ومن دون أن ينسى التأكيد مراراً وتكراراً القول: (كان عليّ دائما أن آخذ بالحسبان الأهداف الحقيقية، مثل رفع النفقات إلى الحد الأقصى لصالح الشركات الأمريكية، وزيادة تبعية المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة، ولم أستغرق طويلاً حتى أدركت أن الأمرين يسيران معاً على خطين متوازيين، فكل خطط المشروعات الجديدة تقريباً ستتطلب صيانة مستمرة وعمليات تحديث من فترة لأخرى، وخاصة إنها مشروعات على درجة عالية من التقنية المعقدة لضمان تولي الشركات الأمريكية التي نفذتها عمليات الصيانة والتحديث..).
وبما أن الهدف استنزاف مليارات النفط السعودي لصالح إمبراطورية الكوربوقراطية الأمريكية من جهة وتجذير التبعية السعودية للولايات المتحدة من جهة أخرى، فقد اكتشف قراصنة الاقتصاد منجماً من ذهب لا ينضب وهو “التهديد الخارجي” للأسرة الحاكمة، يقول بيركنز، (وهذا دفعها إلى عقد صفقات شراء أسلحة أمريكية بمئات مليارات الدولارات وهي صفقات تتجدد مرة بعد مرة سنوياً، وبما يضمن استمرار صناعة الأسلحة العسكرية الأمريكية إلى الأبد).
وهكذا عمل الأمريكيون على هذا “الحبل” الذي سيضيق الخناق على نظام آل سعود عاماً بعد عام والذي من شأنه على حد تعبير بيركنز: (جعل المملكة العربية السعودية تابعة لنا، لكن بطريقة مختلفة جداً، إضافة إلى ذلك فإن التطور الاقتصادي للملكة سوف يستتبعه في الغالب نمو صناعة أخرى وهي صناعة أمن شبه الجزيرة العربية، وإن الشركات المدنية المتخصصة بالصناعات العسكرية والهيئات الصناعية التابعة للجيش الأمريكي سوف توقع عقوداً سخية وعقود صيانة وإدارة طويلة الأجل، وإن وجود تلك الشركات والفنيين سيتطلب مرحلة أخرى من مشروعات الهندسة والبناء، بما في ذلك المطارات والقواعد العسكرية، وإدارة الموارد البشرية، وكل مشروعات البنية التحتية المرتبطة بمثل هذه المرافق).
ولا يخفي بيركنز شعوره بالزهو والفخر والغرور وهو يخطط لمشاريع تستنزف موارد النفط السعودي لصالح إمبراطورية الكوربوقراطية الأمريكية، فالجميع وممثلو وزارة الخزانة بشكل خاص، كانوا متأثرين بأفكاره الخاصة بالاتفاقيات طويلة الأجل بشأن الخدمات والإدارة، مما حفز واحداً من المشاركين في التخطيط لأن (يبتكر جملة جديدة لطالما استخدمناها فيما بعد، وهي أن المملكة هي البقرة التي يمكن أن نحلبها حتى بلوغنا سن التقاعد، وبالنسبة لي فقد استحضرت تلك الجملة في ذهني صور الأغنام وليس الأبقار على الدوام).
وداعاً للحظر النفطي
لكي تضمن الإمبراطورية الأمريكية عدم اللجوء مجدداً إلى فرض حظر نفطي على الغرب ولو لعدة أيام، فقد عملت على إلزام نظام آل سعود بقطع تعهد بالتعويض عن أي نقص في إمدادات النفط قد تفرضه دول أوبك أو أحد أعضائها مستقبلاً، ويكشف بيركنز: (أرادت واشنطن أن يتعهد السعوديون بضمان إمداداتهم بالنفط، وأن تكون الأسعار في مستويات قد تتذبذب، لكن بحدود مقبولة للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، فإذا هددت البلاد الأخرى مثل إيران أو العراق أو اندونيسيا أو فنزويلا بمنع بيع النفط لنا، فإن المملكة العربية السعودية ستزيد من إنتاجها لسد النقص، وأنه عندما تدرك الدول الأخرى أن السعودية ستفعل ذلك، ستشعر تلك الدول بالإحباط وترتدع على المدى الطويل عن مجرد التفكير في منع البيع، ومقابل هذا الضمان ستمنح واشنطن لبيت آل سعود صفقة مغرية إذ إنها ستلتزم بدعمهم سياسياً دعماً لا نظير له، ودعمهم عسكرياً عند الضرورة، وبذلك تؤمن لهم استمرارهم في الحكم).
معادلة الحماية مقابل النفط
لأن الولايات المتحدة تعرف مكامن الضعف في بيت آل سعود وما زرعته في عقولهم “الصغيرة” من خوف بأنهم مهددون بالغزو من دول الجوار، يجزم بيركنز بأنه (كان من الصعب على بيت آل سعود رفض تلك الصفقة بموقعهم الجغرافي ونقص القوة العسكرية وخشية تعرضهم للهجوم من جيران مثل إيران وسوريا والعراق).
وكانت الصفقة رابحة جداً للإمبراطورية الكوربوقراطية، وهي فعلاً أغرب صفقة في التاريخ لأن بيت آل سعود (وضع دخل السعودية من النفط تحت يد الحكومة الأمريكية مقابل حماية أمنها).
ويلخص “توماس ويبمان” الصحفي السابق والأستاذ المساعد في معهد الشرق الأوسط ببلاغة نقاط هذه الصفقة كالتالي: (إن السعوديين قوم يسبحون في المال، وسيورّدون مئات الملايين من الدولارات إلى وزارة الخزانة التي ستحتجز هذه الدولارات في البنوك لحين الحاجة إليها، وسيضمن هذا النظام تدوير أموال السعوديين للعمل في الاقتصاد الأمريكي مرة أخرى).
تهديد.. ووعيد
بعد التخطيط المحكم لهذه الصفقة التاريخية بدأت مرحلة التنفيذ وكانت مهمة الإدارة الأمريكية إلزام نظام بيت آل سعود بالتصديق عليها دون إبداء أي رأي في أي بند من بنودها ولو على سبيل الاستفسار وليس التعديل أو الرفض.
كانت المهمة سهلة فأرسلت واشنطن “هنري كيسنجر” مبعوثاً حكومياً فوق العادة إلى آل سعود، يقول بيركنز: (كانت مهمته الأولى أن يُذكّر العائلة المالكة بما حدث لجارتهم إيران عندما حاول مصدق طرد شركات النفط البريطانية، والمهمة الثانية أن يحدد خطة جذابة بحيث لا يستطيعون رفضها في الواقع، وأن ينقل للسعوديين ضمنياً عدم وجود بدائل لديهم).
يواصل بيركنز عن جولة هنري كيسنجر بالقول: (لا شك أنه تركهم بذلك الانطباع الواضح بأن عليهم، إما أن يقبلون عرضنا وسيكسبون ضماناً بأننا سنساندهم ونحميهم كحكام، وإما يرفضون ويذهبون في طريق تشبه طريق مصدق في إيران)، وكان متوقعاً حين عاد كيسنجر إلى واشنطن، وقد جلب معه رسالة موجزة جداً، فحواها: لقد استجاب آل سعود لعرض الولايات المتحدة.
دعم الإرهاب
لعل الجانب الخطير في هذه الصفقة التي وصفها بيركنز أكثر من مرة بأنها أغرب صفقة في التاريخ هو الجانب المتعلق بسكوت الولايات المتحدة الأمريكية، وأحيانا موافقتهاـ على دعم نظام آل سعود للإرهاب والإرهابيين في العالم، ويصف بيركنز هذا الدعم بأنه: (سابقة جديدة سيحتذى بها في الشرعية الدولية فيما بعد، وكان هذا شديد الوضوح في قضية عيدي أمين، عندما جرى نفي الديكتاتور الأوغندي سيء السمعة في عام 1979 خارج بلاده، حيث حصل على حق اللجوء السياسي في المملكة العربية السعودية، ورغم أنه كان سفاحاً طاغية ومسؤولاً عن موت مابين مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف شخص، وقد تمتع بحياة مرفهة، ومنحه آل سعود منزلاً وسيارات وخدماً، ولقد اعترضت الولايات المتحدة على ذلك بهدوء، وطريقة متفق عليها..).
وإذاً، لم تشكل قضية عيدي أمين تهديداً للغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، لكن الأمر اختلف فيما بعد عندما رعت العائلة السعودية الإرهاب العالمي، وهو الإرهاب الذي ضرب الولايات المتحدة في عقر دارها، وحسب بيركنز: (فإن الأفدح ضرراً كان الدور الذي جرى السماح للسعودية بأن تلعبه في تمويل الإرهاب العالمي، حين غضت ودعمت الولايات المتحدة الطرف عن تمويل بيت آل سعود لأسامة بن لادن في أفغانستان لمواجهة الإتحاد السوفييتي في ثمانينات القرن العشرين، وأسهمت الرياض وواشنطن معا بإمداد “المجاهدين” بمبلغ يقدر بـ 3.5 مليار دولار، إلا أن الولايات المتحدة والسعودية تجاوزت ذلك الحد بكثير).
وفي أواخر 2003 نشرت مجلة “يو إس نيوز وورلد ريبورت” دراسة مستفيضة بعنوان “العلاقات السعودية” وخرجت بنتيجة فحواها: “إن البراهين دامغة ولا تقبل الشك على أن المملكة العربية السعودية حليفة أمريكا منذ وقت طويل وأكبر منتجة للنفط في العالم قد أصبحت على حد تعبير مسؤول رفيع في وزارة الخزانة بؤرة تمويل للإرهاب بداية من أواخر ثمانينات القرن العشرين، وبعد الصدمة المزدوجة للثورة الإيرانية وحرب السوفييت في أفغانستان، أضحت المساعدات الخيرية السعودية شبه الرسمية هي المصدر الأساسي لتمويل حركة “الجهاد” التي تنمو بمعدل سريع، وفيما يقرب من عشرين دولة كانت الأموال تستخدم في إعداد معسكرات تدريب وشراء الأسلحة وتجنيد المزيد من المتطوعين، وقد وقال بعض كبار ضباط الجيش المحنكين إن منح السعودية الأموال بسخاء للموظفين الأمريكيين جعلهم يغضون البصر عما يحدث، ولأن عقوداً تبلغ قيمتها مليارات الدولارات على هيئة عطايا وهبات ورواتب ذهبت إلى قطاع عريض من موظفي الولايات المتحدة السابقين، الذين تعاملوا مع السعوديين ومنهم سفراء ورؤساء المراكز الاستخباراتية التابعة لـ سي آي إي وحتى وزراء، وألمحت تقارير التنصت على الاتصالات أن أفراداً من العائلة المالكة لم يكتفوا بمساندة تنظيم القاعدة، بل ساندوا أيضا جماعات إرهابية أخرى).
شراكة بين الاقتصاد والإرهاب
قد تكون هذه المعلومات معروفة اليوم للكثيرين لكن أهميتها تكمن بتوثيقها من قبل كتاب ومراكز بحوث أمريكية تكشف يوما بعد يوم عن أدلة جديدة على العلاقات السرية بين واشنطن والرياض.
يقول القرصان الاقتصادي بيركنز: (في تشرين الأول 2003 كشفت مجلة “فانتي فير” عن معلومات لم تكن معروفة للملأ من قبل، وذلك في تقرير مفصل بعنوان “حماية السعوديين” وكشف القصة التي ظهرت حول العلاقة بين عائلة بوش وبيت آل سعود من جهة وعائلة بن لادن من جهة أخرى، والتي لم تدهشني، فقد كنت أعرف أن هذه العلاقات تعود على الأقل إلى زمن عملية غسيل الأموال التي جرت في المملكة العربية السعودية والتي بدأت في عام 1974، وأبان الفترة التي عمل بها جورج بوش الأب سفيراً للولايات المتحدة في الأمم المتحدة وهي 1971-1973 ثم حين أصبح رئيس الـ سي آي إيه في الفترة 1976-1977 والذي أدهشني فعلاً أن الحقائق المحجوبة أصبحت أخيراً بمتناول الصحف).
أخيراً
بعد أيام قليلة من حادثة 11 أيلول عام 2001 انطلق بعض أثرياء السعودية ومن بينهم أفراد من عائلة أسامة بن لادن من الولايات المتحدة على متن طائرات خاصة، لم يُسمح لأحد بتفتيش الطائرات ولم يتعرض الركاب لأي استجواب، ويسأل بيركنز بخبث: هل ساعدت علاقة بوش الطويلة مع السعوديين في تسهيل حدوث هذا؟.