بدراسة متأنية لأعمال الشغب التي انطلقت عشية رأس السنة في بعض المدن الإيرانية، والظروف التي أحاطت بتلك الأعمال، وطبيعة شعاراتها، يتبين لكل متابع أن المظاهرات التي جرت في محافظة كرمنشاه غرب البلاد، وكذلك في مشهد شمال شرق البلاد، وسائر المدن الإيرانية، هي مظاهرات سياسية بامتياز استخدمت بعض الشعارات المطلبية بمثابة غطاء للشعارات السياسية التي رفعت خلال المظاهرات.
والشعارات التي رفعت من قبل المشاركين في مختلف المدن تركزت على ترديد نفس العبارات مثل: “الموت لروحاني”، “لا لسورية”، “لا للبنان”، “لا لغزة”، “الفساد في كل مكان”، كما أن المؤشر الأهم على الطبيعة السياسية لهذا التحرك هو قيام المتظاهرين في مشهد بالتجمع في محيط منزل السيد إبراهيم رئيسي أهم مساعدي الإمام الخامنئي، ما يدل على أن هذا التحرك يستهدف في الأساس رمز الثورة الإسلامية، الإمام الخامنئي، وليس الإصلاح الاقتصادي ورفع مستوى المعيشة؛ وهذا يؤكد أن هذه التحركات تدار بشكل مركزي في كل المحافظات الإيرانية. وهنا بيت القصيد، لأنها ليست أعمالاً فردية أو عفوية يقوم بها محتجون على ظروف اقتصادية صعبة، أو مطالب حياتية محقة. وهناك معطيات تدل على أن من يشرف على إدارة هذا التحرك في إيران هو غرفة عمليات ميدانية تشرف مباشرة على إدارة العمليات في مناطق غرب إيران ومقرها أربيل، ويدير هذه الغرفة هيئة قيادة مكونة من أربعة ضباط كبار أمريكيين، وثلاثة ضباط إسرائيليين، وأربعة ضباط من النظام السعودي، وممثل شخصي لمحمد بن سلمان، وثلاثة مسؤولين من منظمة “مجاهدي خلق” الإيرانية المعارضة. كما أن هناك غرفة عمليات ميدانية مسؤولة عن إدارة العمليات في شرق إيران ومقرها مدينة حيرات الأفغانية، وتشرف على هذه الغرفة هيئة قيادية مكونه من ثلاثة ضباط أمريكيين، وثلاثة ضباط إسرائيليين، وضابطين من النظام السعودي، وممثل شخصي لمحمد بن سلمان، وممثل عن جماعة جيش العدل، وممثلين عن جماعة “مجاهدي خلق” المعروفة لدى الشعب الإيراني بمنافقي خلق.
هذا إضافة إلى غرف عمليات مساندة في كل من دبي، والریاض، وکابول، وباکو، ولندن، وستراسبورغ، ونيويورك، وتل أبيب. وهذا السيناريو الناجح بحسب اللوبي الأمريكي قد تم تجريبه في ليبيا وتونس وفي العراق وخصوصاً في سورية لضرب البنى التحتية وإشغال الجيش والشعب والدولة والقيادة بهدف قلب الحكم في تلك الدول بما يتوافق مع رؤية أمريكا وحلفائها من العربان وإسرائيل لما هو مرسوم للمنطقة.
ولا شك أن مقاربة الأحداث التي تتكرر في إيران بين الفينة والأخرى، وبأوقات متفاوتة، ولأسباب مختلفة بعضها ظاهري مباشر والآخر باطني مستتر، يحتاج إلى قراءة فاحصة وشمولية.
لقد واجهت وتواجه الجمهورية الإسلامية تحديات جدية وهائلة وغير مسبوقة، وأخطرها تلك التي تتسرب إلى الشارع وتنبثق عنه، والأسباب معروفة، بعضها اقتصادي وبعضها سياسي، وبعضها مرتبط بالحريات المدنية، وما واجهه بلد كإيران ونظام حكم كالجمهورية الإسلامية، منذ ١٩٧٩، هو:
1- عصيان وتمرد في المناطق الحدودية على خلفية دوافع قومية ومذهبية (خوزستان، كردستان).
2- ١٩٧٩-١٩٨٠، محاولة انقلاب ضباط القاعدة الجوية في همدان، عام 1979، بإشراف وتخطيط من الـ CIA.
3- عمليات اغتيال كبار الشخصيات على يد زمرة الفرقان (مطهري، مفتح، رفسنجاني، قائد أركان الجيش الفريق قرني وآخرون) ١٩٧٩-١٩٨٠.
4- حادث الهجوم الأمريكي المباشر والفاشل في طبس، نيسان ١٩٨٠.
5- الحرب العراقية الإيرانية المدمرة 1980- 1988.
6- إعلان التمرد المسلح لمنظمة “مجاهدي خلق”، وبدء مسلسل الاغتيالات والعمليات الانتحارية ضد الحكم ورموزه وأنصاره في حزيران ١٩٨١ (حصدت حسب إحصائيات رسمية ١٧ ألف شهيداً) منهم شهداء الحزب الجمهوري، ورئيس جمهورية، ورئيس الوزراء حينها رجائي وباهنر، ووزراء ونواب وقادة عسكريون، وشخص السيد الخامنئي الذي نجا من محاولة اغتيال في ٦ حزيران ١٩٨١، وغيرها كثير طال كبار العلماء ومنهم ثلاثة من أبرز أئمة الجمعة، ومن المقربين للإمام الخميني في تلك الفترة.
7- الاعتداء الأمريكي المباشر بإسقاط طائرة الإيرباص المدنية في تموز ١٩٨٨، وهجمات البحرية الأمريكية على المنصات النفطية الإيرانية في نفس السنة، علاوة على الإجراءات السياسية والاقتصادية الأمريكية الخانقة ضد إيران خلال عهد الرؤساء المتعاقبين، كارتر وريغان وكلينتون وبوش وأوباما، وأخرهم ترامب.
8- فتنة الانتخابات الرئاسية ٢٠٠٩، وما جرى فيها من اصطفافات داخلية حادة، وتدخل وضغط سياسي وإعلامي كبير من قبل المتربصين بإيران إقليمياً ودولياً، إلى جانب دخول أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية على الخط بشكل مباشر وسافر.
9- اغتيال العديد من العقول والعلماء النوويين في طهران بين ٢٠٠٩-٢٠١١.
كل هذه أشكال من المواجهة التي ما كانت تخمد يوماً إلا لتشتعل من جديد، وخلف معظمها غرف عمليات تقف خارج الحدود، وتحظى بدعم ورعاية إقليمية (سعودية – إسرائيلية)، ودولية (أمريكية وأوروبية)، وبعض الأحيان حتى أممية (مجلس الأمن)، وإزاء هذا المسلسل من الصدام والمواجهة ماذا كانت النتيجة؟
حتى الآن لازالت الدولة ومؤسساتها وتوقيتاتها الدستورية بخير، بل وإن النظام، استراتيجياً، بات أقوى عوداً وصلابة وإرادة ونفوذاً بعد أن أضحى بلداً نووياً – بالستياً بامتياز، لكنه يواجه أزمة اقتصادية حادة وخانقة بعضها عارض وطارئ، وبعضها مرتبط بوضع اقتصادي عالمي متأرجح وسيء بسبب هبوط أسعار النفط منذ عام ٢٠١٤.
هنا تأتي المطالبات الشعبية والتدخلات الأجنبية المبرمجة والناعمة لتفعل فعلها المخرّب، ولتكون موقداً ومظهراً لبعض الاحتجاجات المطلبية المحقة، فيما تلتقي إرادة المخربين الداخليين مع خطط وبرامج المخرّبين الخارجيين لحرف المسارات وإدارة الحراك بمفاعيل سياسية وانقلابية. ولا شك أن الأحقاد والجهل والعقل الجمعي تجد مرتعا خصباً في مثل هذه الحالات، وها نحن نشهد بين الفينة والأخرى مثل هذه الهزّات رغم محاولات التحصين والتوعية بين الشباب والأجيال الصاعدة وقد أتت أُكلها إلى حد كبير، إلا أن ثغرات لا زالت غير محصنة بسبب مفاعيل ثورة العولمة كالفضائيات والانترنت وغيرها التي تفعل فعلها المعكوس، ولا يظن أحد أن رؤية مثل هذه المشاهد لاحقاً غير ممكنة، لأن الأسباب والمؤثرات والأرضية لا زالت وستزيد كل يوم، وهذه هي إحدى تجلّيات صراع الحق والباطل المستمرة.
وتبقى عناصر الردع والقوة الإيرانية الفريدة هي صمام الأمان، لأن هناك قيادة صلبة وواعية، وشعباً غيوراً يتحد بشكل غريب في الشدائد وحاضر في الميدان، وأجنحة سياسية متصادمة في التوجه العام متحدة في مقابل الخطر الوجودي، وأجهزة تعبوية نابعة من عمق الشعب.
مع خروج التظاهرات في إيران سارعت الإدارة الأمريكية إلى دعمها، مؤكدة أنها تتابع تقارير الاحتجاجات في المدن الإيرانية، وقد ناشدت كافة الدول إعلانها التأييد العلني للشعب الإيراني ومطالبه لاستعادة حقوقه الأساسية، حسب تعبيرها، ودعا رئيس مجلس النواب الأمريكي بول رايان إلى دعم هذه التظاهرات. وفي مقاله على موقع شبكة “فوكس نيوز”، دعا الكاتب كريستيان ويتون الإدارة الأمريكية إلى تقديم دعم معنوي للمتظاهرين.
واشنطن ليست وحدها من سارع إلى التعليق على ما يحصل في إيران، فإسرائيل خرجت بخلاصة مفادها أنه لا يمكن هزيمة إيران عسكرياً أو سياسياً، وبالتالي فإن التوجه إلى زعزعة استقرارها من الداخل هو المهم.
واستعادت صحيفة جيروزاليم بوست كلاماً للوزير الإسرائيلي السابق رافي آيتان، وهو الذي عمل مع الموساد، وعرف إيران جيداً – بنظر الصحيفة- حيث قال “إن ضربة عسكرية لإيران غير قابلة للتطبيق، ومع احتمال فشل الرئيس الأمريكي في تغيير الاتفاق النووي، تبقى الطريقة الحقيقية الوحيدة لوقف إيران هو عبر استثمار المزيد في تغيير النظام”.
تنافس على الدور الإقليمي
وفيما يخص تدخل النظام السعودي، فالكل يعلم أن العلاقات الإيرانية السعودية تعيش حقبة قد تكون الأشد حلكة منذ عقود، وتنذر الأوضاع الإقليمية والدولية بخروج الأمور عن إطارها السابق.
وواضح أن الخلافات بين البلدين قديمة ومحورها التنافس على الدور الإقليمي في المنطقة منذ نجاح الثورة الإسلامية في العام 197، لكن عوامل وظروف إقليمية ودولية لعبت دوراً في ترجيح كفة هذا الطرف أو ذاك، وسعى كل منهما إلى نسج علاقات مع دول المنطقة لترجيح كفته، فتارة تحالفت السعودية مع العراق وأخرى مع مصر من أجل كبح صعود الدور الإيراني، فيما فتحت طهران علاقات مع سورية وحزب الله والمقاومة الفلسطينية زادت من الأوراق الإقليمية التي توظفها في صراعها مع الغرب من جهة، وفي معركة تثبيت نفسها كقوة إقليمية رائدة في الإقليم.
وفي مقابل دعم السعودية الكبير مادياً ومعنوياً للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في حربه مع إيران، ما بين عامي 1980 و1988، استطاعت إيران بناء علاقة قوية مع سورية منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ووصلت إلى شراكة استراتيجية في تسعينيات القرن الماضي واستمرت حتى الآن.
وعبر هذا التحالف استطاعت طهران الدخول إلى معادلة الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال دعم حزب الله في لبنان، وبناء تحالف مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين. وحينها اضطرت السعودية إلى تقديم تنازلات واضحة في اتفاق الطائف، عام 1989، عندما وافقت بموجب الاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان على السماح لحزب الله بمواصلة حمل السلاح واعتباره سلاحاً لمقاومة إسرائيل، وصب هذا التفويض في مصلحة إيران بدرجة كبيرة.
واستغلت إيران غضب المحافظين الجدد واللوبي الصهيوني، في واشنطن، على السعودية عقب تفجيرات 11 أيلول 2011 التي تبين أن أغلب منفذيها من السعوديين، وانشغال جورج بوش الإبن في حروبه “الكونية” على الإرهاب، وقطعت مراحل مهمة في برنامجها النووي، كما وظفت انهيار حكم طالبان في أفغانستان لزيادة نفوذها في المنطقة.
“الربيع العربي” يشعل الصراع
كشفت مواقف البلدين من ثورات “الربيع العربي” التباين الكبير في نظرة الطرفين للأحداث، وكيفية العمل لتوظيفها في المعركة الإقليمية، فمواقف السعودية واضحة في دعم أي حراك جماهيري يمكن أن يؤدي إلى انقلابات سياسية مع الأخذ بالحسبان أن نظامها ليس أفضل حالاً، وربما يكون أسوأ بكثير في ملفات حقوق الإنسان والحقوق السياسية.
وذهبت السعودية إلى التدخل عسكرياً لوقف الحراك الشعبي في البحرين تجنباً لانتقال الشرارة إلى المناطق الشرقية، وأمطرت السعوديين بمساعدات ومنح مالية مباشرة بنحو 40 مليار دولار، وخصصت عشرة أضعاف هذا المبلغ لمشروعات استثمارية، ودعم قطاع الأعمال.
وفي المقابل، فإن الجمهورية الإسلامية انطلقت من أن الحراك هو مؤامرة على محور المقاومة، لكسر “الضلع” السوري. وتطورت مقاربات الطرفين لحلول الأزمات المنبثقة عن “الربيع العربي”، فبعد فشل المبادرة الخليجية في احتواء الأزمة اليمنية، شكلت السعودية تحالفاً عربياً إسلامياً، وبدأت حرباً جوية تلاها تدخل بري في مسعى مزدوج الأهداف للقضاء على الحوثيين وقوات صالح.
وواضح أن الظروف الدولية الحالية تساهم في تأجيج الصراع بين الطرفين وانتقاله إلى مرحلة جديدة ربما تكون أشد من المراحل السابقة، فبعد الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 تشعر إيران بفائض قوة، خاصة أن الاتفاق يفتح على رفع الحصار، وإبعاد شبح الانهيار الاقتصادي عنها.
ورغم التباين في عدد من المواقف تبدو طهران واثقة من تحالفها مع موسكو ومحور الممانعة، فيما تجد السعودية نفسها مضطرة لاشتقاق وتطوير سياسات جديدة تعوض عن القرار الاستراتيجي الأمريكي لإدارة باراك أوباما بالانسحاب من المنطقة التي تعيش على صفيح ساخن من اليمن إلى سورية مروراً بالعراق وفلسطين والبحرين، من دون استثناء السعودية وإيران.
استبعاد تحول المظاهرات إلى “ربيع إيراني”
انطلقت المظاهرات الإيرانية من بواعث اقتصادية في المقام الأول، ثم لحقت بها السيناريوهات السياسية نتيجة عوامل داخلية وخارجية. وبحسب أحمد السيوفي، الكاتب الصحفي المصري المتخصص في الشأن الإيراني، فإن تزايد البطالة والمشاكل الاقتصادية أحد الأسباب الرئيسية للاحتجاجات، وقد كان هناك خطة للإصلاح الاقتصادي قام بها الرئيس روحاني في دورته الأولى تحت مسمى “الاقتصاد المقاوم”، وتعتمد على المشاريع الإستراتيجية لتكون بديلاً عن النفط الذي ترتكز عليه الميزانية الإيرانية، لكي تكون هناك بدائل في حال فرض حصار على النفظ الإيراني كما حدث في السابق، وطالب الرئيس روحاني بأن يتحمل المواطن حتى العام 2020، وهو الزمن المحدد لبداية جني ثمار هذا الإصلاح.
أما الجانب الآخر لتلك المظاهرات فهو أن طهران كانت تنتظر الأموال التي كان من المفترض الإفراج عنها من الولايات المتحدة الأمريكية وفقاً لاتفاق 5+1، ولكن في عهد ترامب لم تفرج الولايات المتحدة عن الأموال الإيرانية بل تم تجميد المزيد من الأموال، وهو الأمر الذي أضاف مزيداً من التخبط على الميزانية المتردية بالفعل.
إلا أن المشهد الإيراني متميز على الدوام لأنه موضوع في دائرة الاستهداف الغربي، والولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من مرة ترصد موازنة لإسقاط النظام في إيران، لذا فإن التصريحات الحالية حول تأييد المظاهرات ليست جديدة على الحكومة أو مفاجئة لهم، بل إن طهران لديها معلومات حول عمليات الاستهداف الغربي والأمريكي لها.
كما أن إيران تعلم أن هناك دوراً خارجياً يستثمر تلك المظاهرات لتحقيق أهدافه، مثلما حدث في 2009، حيث كانت الشعارات التي يتم ترديدها في المظاهرات غير معروفة من قبل من في الداخل، وكانت تأتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي من دول خارجية، وتختلف تظاهرات اليوم عن 2009 لأنها انطلقت هذه المرة منذ لحظتها الأولى للأسباب الاقتصادية بعكس 2009 والتي كانت سياسية منذ اللحظة الأولى، والحكومة الإيرانية خبيرة في تلك المظاهرات ومن الصعب أن تأخذ أبعاداً أكبر وتتحول إلى “ربيع إيراني” على غرار “الربيع العربي”.
إعداد: قسم الأبحاث