من المؤكد أن الرئيس الأمريكي ترامب، وهو يتخذ قراره بنقل السفارة الأمريكية من مستوطنة تل أبيب إلى القدس، اعتقد أنه يبرم بهذا القرار صفقة مع اللوبي اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة ليضمن وقوف هذا اللوبي إلى جانبه في مواجهة الأصوات المطالبة بتنحيته.
ومن المؤكد أيضاً أن ترامب افترض أن العرب عَرَبان: عربٌ استعصى عليه وعلى سابقيه من الرؤساء الأمريكيين أمرُ أخذهم رغم كل السبل والوسائل الشيطانية التي اتبعت في هذا السبيل، وعربٌ آخرون هم في جيبه أو في عبّه أو حتى تحت قدميه، وهم لا يملكون إلا الخنوع والخضوع لابتزازه سواء كان هذا الابتزاز مالياً عند من لديهم احتياطيات من المال تثير الجشع، أو سياسياً عند أولئك الذين لا يملكون من الإرادة ما يؤهلهم للاعتراض على أهوائه، أو أنهم ممسوكون من رقابهم بطرائق أخرى، فصاروا يتحدثون عن أدوارهم وكأنها دور وظيفي لا مهرب منه ولا مناص أو يتلمسون لقصورهم في اتخاذ المواقف الأعذار، ولعلهم يعتقدون بأن إرضاءهم للشهوات الأمريكية بات سبيلهم الوحيد للبقاء.
عموماً لقد اعتقد ترامب القادم إلى البيت الأبيض من أوساط رجال المال والأعمال، والمشبع بأساليبهم في المضاربة وعقد الصفقات التجارية، أنه بعد صفقة بيع الحماية للأعراب وقبض ثمنها بمئات المليارات، يستطيع إبرام صفقة بيع القدس للصهاينة وكأنما هي من ممتلكات شركته الخاصة يتصرّف بها كيف يشاء، ثم عقد “صفقة القرن” التي راح يروّج لها، والرامية إلى نقل العلاقة بين الأعراب والغزاة الصهاينة من مستوى العلاقة السرية، أو شبه العلنية، أو التطبيع المتدرّج، أو التحالف الخفيّ، إلى مستوى التحالف العلني، و”على عينك يا تاجر”!! كما يقال. وطالما أن طرفي العلاقة من الأعراب والصهاينة قد قام بينهما التوافق بالفعل على الاقتران، فما الذي يعيق ترامب عن أداء دور العرّاب الذي يجمع بين الصهاينة وبين الأعراب؟!
ومن المؤكد أن ترامب اعتقد بأن هذه الصفقات المتتالية ستقود إلى تحمية الصراع فيما تسمّى بمنطقة الشرق الأوسط بين محورين، بعد أن عملت الأجهزة الأمريكية والصهيونية وتلك السائرة في فلكها لعقود من الزمن على تمزيق شمل العرب والمسلمين واختلاق أسباب التمزق والانشقاق وكأن مثل هذا التمزق وهذا الانشقاق قدر لا مفرّمنه ولا مناص، أو حتى كما لو كان هو طريق الخلاص!! وأنه في ضوء هذه التحمية سيكون بوسع أمريكا أن تلعب أكثر، وأن تجني أرباحاً أكبر.
وهكذا يمكن أن نفهم بأن صفقة ترامب اللاحقة هي صفقة إشعال حرب واسعة في المنطقة على أرضية “صفقة القرن” التي يزعم أنها سلامٌ أمريكي يتحقق بفضل سياسته. ونقول صفقة إشعال حرب واسعة لأن ما يحدث الآن في اليمن مثلاً أن أمريكا تتتقاضى ثمن إسهامها في الخدمات الحربية لصالح التحالف السعودي، مثل خدمات تزويد الطائرات المغيرة بالوقود في الجو أو خدمات استطلاع الأهداف من خلال الأقمار الصناعية الأمريكية، بعد أن بات منطق “ثمن الحماية” يفترض دفع ثمن هذه الخدمات أضعافاً مضاعفة، وذلك بالطبع عدا عن الأسلحة والذخائر. ولنتخيل ما جرى إهداره من قبل التحالف السعودي في حرب عدوانية استمرت قرابة ثلاث سنوات ولا زالت مستمرة، تشنها دول لا تنتج حتى رصاصة، وإنما تعتمد على استيراد كل شيء. ولو لم يكن النظام السعودي يواجه مأزقاً حقيقياً بسبب نفقات حروبه العدوانية ورعايته وتمويله للإرهابيين التكفيريين الوهابيين لما كان من الوارد أن يعمد ابن سلمان إلى اعتقال من اعتقل من الأمراء ورجال الأعمال ليبتز منهم المال. ففي اعتقاله لهم وممارسة الابتزاز فضيحة مؤكدة ما كان ليقدم على ما يثيرها لولا مأزقه المالي الناجم عن هذه الحروب.
ما لم يفهمه ترامب، ولا نظن أنه قادر على فهمه، أن صفقة القدس التي أقدم عليها من شأنها أن تغيّر إلى حد كبير أوراق اللعب في المنطقة، وربما في العالم، وبشكل كبير. وفي أبسط الحالات، فإن هذه الصفقة كانت كفيلة بتبديد كل أو معظم أشكال العمى السياسي الذي زرعه الأمريكيون والصهاينة وأذنابهم في المنطقة والعالم على مدى عقود من الزمن. فحين يكون الخيار بين مصير القدس وبين التصوّرات أو المصالح الضيّقة التي عملوا على استثارتها واستثمارها لزمن طويل، فإن أغلب الناس ستنحاز بشكل تلقائي إلى القدس وفلسطين، حتى ولو على أساس الشعار الذي يردده الجزائريون الآن في حراكهم لنصرة فلسطين أنهم “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة وإنها لمظلومة”. فالإجماع على نصرة القدس وفلسطين أدى إلى اصطفاف جديد قديم، وتراجع تلك الاصطفافات المصطنعة التي روّج لها الامبرياليون والصهاينة والرجعيون وعملوا على تشكيلها على مدى سنوات طويلة لحساب مخططهم الشيطاني.
إن صورة أمريكا التي كان البعض يروّج لها تحت شعارات مثل الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان لخداع الإنسان، أو يحاول الاستعانة بها لتحقيق أهدافه الأنانية الضيقة على حساب الأوطان، ستنقلب إلى صورة العدوّ الأشر الشرير، وكذلك هو حال الشيطان الصهيوني الذي أرادوا تسويقه من خلال حملات التضليل المدروسة، وصولاً إلى الهدف الأكبر المتمثل في تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل. ولقد بات واضحاً الآن نوع المؤامرة التي أدارها هؤلاء والحرب الإجرامية العالمية التي شنوها على بلادنا، وخاصة على القطر العربي السوري، كجزء من حرب أوسع وأشمل غايتها أن يحققوا أحلام الصهاينة وأهداف الاستراتيجية العالمية الأمريكية في وقت واحد.
وباختصار شديد، فإن ما فعله ترامب جعل الطاغوت الأمريكي والشيطان الصهيوني ينكشفان أمام عيون الناس، بما في ذلك أمام عيون الكثيرين من المخدوعين والمضللين الذين ورّطوا في خدمة الطاغوت والشيطان ضمن مؤامرة “الشرق الأوسط الكبير”، أو حتى أقنعوا بأن يقفوا إزاء ما يحدث متفرجين تحت شعار “النأي بالنفس” حتى إذا ما جاء دور فلسطين لابتلاعها نهائياً وازدرادها وجد العرب والمسلمون الآخرون ما يبرر لهم بدورهم “النأي بالنفس” عنها وعن محنتها. ولكنه حين تكون المستهدفة هي القدس، فإنه لا مكان للركون إلى الطاغوت والشيطان، ولا مكان أيضاً للنأي بالنفس. وهكذا، فإن فعلة ترامب غيّرت حالة الاصطفاف في المنطقة ولو على المستوى الجماهيري الشعبي، لأن الاصطفافات على المستوى الرسمي كانت قائمة، ولن يكون تبديلها سهلاً بالسرعة الكلية رغم حجم التحدّي، وهو ما توضحه ردود الفعل الرسمية لأغلبية الحكومات العربية والإسلامية حتى الآن. ومع ذلك، فإن ردود الفعل الشعبية الواسعة جاءت على نحو لم يكن ترامب يتوقعه أو يتوقع استمراريته. وأبسط الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها في هذه الحالة أن اعتماد ترامب لصفقة القدس أفسد عليه وعلى الإدارة الأمريكية ثلاثة أمور:
أولها – تنفيذ “صفقة القرن” كما كان يخطط لها، إذ أنها دخلت مجال الاستعصاء، وصار الأمريكي منبوذاً في الدور الذي كان يزعم القيام به على مدى عقود كوسيط في عملية السلام أو راع لها. فهو الآن خصمٌ معلنٌ وليس حكماً.
وثانيها – متابعة الاستفادة من التضليل الذي مورس خلال عقود من الزمن في إثارة الفتن تحت شعار “الشرق الأوسط الجديد”، بعد أن انكشفت أوراق المضللين.
وثالثها – بلورة حلف صهيوني – أعرابي معلن ضدّ محور المقاومة، بعد أن باتت “صفقة القدس” الترامبية شوكة في حلوق المنحرفين المارقين الفاسقين من الأعراب ولعنة تطاردهم. وهذا من شأنه أن يفسد على ترامب طقوس الصفقة اللاحقة وفق مخططه، أي “صفقة القرن”.
إن صفقة ترامب المقدسية على هذا النحو باتت بمثابة “صفعة” لا “صفقة”.
هي صفعة لأصحاب المخطط الشيطاني الذي كان موضوعاً قيد التنفيذ في المنطقة بدءاً من احتلال العراق عام 2003، ومروراً باغتيال رفيق الحريري ليكون مدخل فتنة في لبنان والمنطقة، ووصولاً إلى مؤامرة “الربيع العربي” التي أريد منها أن تكون الحصان الذي تركبه المؤامرة بخطوات مدروسة وصولاً إلى تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل، والتي أدى صمود سورية وحلفائها إلى إحباطها.
وهي صفعة للشيطان الصهيوني الذي أراد للمنطقة من حوله أن تحترق بينما هو يتلذذ متابعاً للمشهد دون أن يحرق أصابعه أو يديه، ودون أن يورّط نفسه في الحريق إلا بأقل مقدار ممكن، طالما أن هناك مرتزقة أو ضالين مضللين يخدمون المخطط الشيطاني وينتحرون في خدمته، منتظراً بلوغ تلك اللحظة التي يتمكن فيها من تحقيق حلمه في التوسع بين الفرات والنيل دون أن يدفع ثمناً لتحقيق هذا الحلم. فالإرهابيون التكفيريون ومن في حكمهم ممّن جندهم أصحابُ المخطط الشيطاني كانوا هم الأداة التي عليها أن تحترق من أجل تمكين الصهاينة من غايتهم. فلقد وجد هذا الشيطان نفسه بسبب “صفقة” ترامب التي تحولت إلى “صفعة” بمواجهة انتفاضة فلسطينية وتحشيد لكل القوى الشعبية العربية والإسلامية والإنسانية في مواجهة المشروع الصهيوني. وضمن هذا المناخ بات الإرهابيون محاصرين أو على الأقل باتت فرص تجنيد إرهابيين آخرين أكثر تعقيداً.
وهي صفعة للطاغوت الأمريكي نفسه، بعد أن أسقطت “صفقة ترامب المقدسية” كل أوراق التوت التي كان يتستر بها الأمريكي المخادع في إدارته للصراع لحساب الشيطان الصهيوني، فلقد ظهر هذا الأمريكي على وجهه الحقيقي كذئب مفترس ينقض على أغلى ما يملكه العرب والمسلمون والمسيحيون وحتى اليهود من غير الصهاينة. وتكشفت الأبعاد الحقيقية لمؤامرة “الشرق الأوسط الجديد” بعد أن كانت المؤامرة قد انطلت على كثيرين عجزوا عن فهم أبعادها، وأخذوا بمنطق رفض التسليم بوجود مؤامرة من وراء ما يحدث، ظانين أنهم هم الفاعلون وليس من يحرّكونهم. فما الذي يستطيع قوله الآن أولئك الذين تذرعوا طوال الوقت برفض”نظرية المؤامرة”؟ هل قرار ترامب بشأن القدس يؤكد المؤامرة أم ينفيها؟
ثم هي صفعة لأدوات الطاغوت والشيطان الذين وجدوا أنفسهم مكشوفين ومنبوذين، تلاحقهم لعنة القدس، فلا يستطيعون لها ردّاً أو صدّاً. ولا ريب أنهم يحسبون الآن حساب ردود الفعل التي يمكن أن تنجم عن هذا التطوّر، وما تنطوي عليه ردود الفعل هذه من إفساد لطقوس مخططهم الشيطاني، بل ومن احتمالات “انقلاب السحر على الساحر”. ومع ذلك فإننا نلاحظ أن الرجعيين الأعراب يحاولون بأي شكل من الأشكال تجنب الحديث عن القدس وعن قرار ترامب ويمنعون تنظيم فعاليات شعبية للاحتجاج على هذا القرار أسوة بشعوب العالم الأخرى، الأمر الذي أكد من جديد، ولكل شعوب العالم، حقيقة الاستبداد الذي تمثله الأنظمة الرجعية البدوقراطية المعتمدة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
إن “صفقة” القرن التي تحولت إلى “صفعة” هي إذن مقامرة مغامر لم يحسن قراءة المشهد، ولم يدرك أن هناك شيئاً ما خفيّاً في الشعور الجمعي العربي والإسلامي، وقد امتد ليشمل الشعور الجمعي المسيحي والإنساني أيضاً، ربما بدا أنه كان مستتراً تماماً عن الأعين، وبعيداً تماماً عن حساب الاحتمالات، ولكنه متى جاء من يصدمه أو يستفزه في لحظة ما، فإنه سرعان ما يتحوّل من حالة السكون إلى حالة الحركة، ومن حالة انعدام الفعل إلى حالة ردّ الفعل، ومن حالة الإحجام إلى حالة الإقدام. وحين يكون ردّ الفعل هذا شاملاً وواسعاً، وعلى امتداد الكرة الأرضية، فإن حواجز الاحتلال الصهيوني مهما تكثفت لن تستطيع حجبه أو قهره، وقواعد أمريكا العسكرية المنتشرة في العالم لن تستطيع صدّه، والأنظمة الموالية لأمريكا لن تستطيع ردّه. بل إن ما يحدث عملياً هو أن كل تقصير في الردّ على الصفقة وصاحب الصفقة، يصير سبباً لتعرض المقصّرين لصفعة بعد صفعة، ولمطاردتهم من قبل الجماهير الغاضبة، أو بتعبير آخر يضع أمريكا وما لها من مصالح في دول العالم الأخرى أمام اختبارات عسيرة، قد تتفاوت شدتها وقوتها من مكان إلى آخر، ولكنها في المحصلة تربك اللاعب الأمريكي وتربك أدواته. وبتعبير آخر، فإن ما فعله ترامب بالضبط، هو أنه استثار ردود الفعل الواسعة في مواجهة السياسة الأمريكية، ولا نظن أنه قادر على احتواء ردود الفعل هذه مهما كانت الأساليب التي يتبعها.
إن الاهتمام الزائد الذي أبداه ترامب تجاه التفجير البسيط الذي حدث في منهاتن بنيويورك ليس سوى مؤشر على خوفه من أن تنتقل عدوى الإرهاب الذي وقفت المخابرات الأمريكية وراء تصنيعه واستثماره في بلادنا إلى شوارع المدن الأمريكية كجزء محتمل من رد الفعل على “الصفقة” أو “الصفعة” الترامبية في القدس، أو أن تظهر مقاومة لهذا القرار حول العالم، وضد الوجود الأمريكي في بلدان العالم، أو حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. فأجهزة مخابراته تنبئه يقيناً بوجود مخاطر فعلية في أن تجتاح أمريكا موجة من العنف تكون من نشأة محلية لا تستطيع أن تتحكم بها المخابرات الأمريكية. ومثل هذه الظاهرة يمكن أن تأتي من أوساط غير تلك الأوساط الوهابية التكفيرية التي اعتادت المخابرات الأمريكية على استثمارها ورصدها في آن معاً. فالقدس بما لها من مكانة خاصة في نفوس الكثيرين يمكن أن تستقطب مقاومين كثيرين للسلوك الأمريكي والصهيوني عبر العالم بدوافع غير تلك التي تحكم تنظيم القاعدة وبوسائل غير وسائل تنظيم القاعدة. وهذا يعني أن يصبح كل الرافضين للصهيونية وعنصريتها ومن يقفون وراءها في أمريكا مشاريع مقاومة للسلوك الأمريكي العدواني تجاه القدس وفلسطين، ومن ثم تجاه العرب والمسلمين. فاستهداف القدس يعني في التحليل النهائي استهداف الأمتين العربية والإسلامية كما يعني استهداف مسيحيي العالم الرافضين للصهيونية.