سواء نظرنا إلى الأمر من زاوية الخلفية الإثنية والثقافية، أو من زاوية العقيدة الدينية، فإن ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باتخاذ قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وإعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني الدخيل المصطنع، إنما يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى المركبة.
وحين نقول “الخيانة العظمى المركبة”، فإننا لا نكتفي بالوقوف عند البعد السياسي المصلحي اللاأخلاقي الآني الذي جعل ترامب يتخذ هذا القرار إرضاء للوبي اليهودي الصهيوني في الولايات المتحدة – ولعله بذلك يحاصر الأصوات المطالبة بتنحيته – بل لننظر إلى المسألة في عمقها التاريخي والثقافي والديني.
إن السيد ترامب لا يستطيع أن ينكر الحقيقة القائلة بأن لقب عائلته (ترامب) يدل، في حدّ ذاته، على أصله السلتي، حيث أن هذا اللقب هو تسمية سلتية تعني “الترب”، أو “المثيل”، أو “الصنو”، باللغة العربية الفصحى, إلا إذا تبيّن أن هذا اللقب مستعارٌ لعائلته وليس أصيلاً, وتلك عندئذ قصّة أخرى.
ما الذي يعنيه أن يكون ترامب متحدراً من أصول سلتية؟.
إنه يعني أن أجداده الأولين كانوا من أهل بلادنا القدماء, أو ممّن يطلق عليهم الإخباريون العرب عادة تسمية “العرب البائدة”، ويقولون إنهم “درجوا ولم يعد لهم أثر”. ولكنّ واقع الحال يقول إنهم غرّبوا وتغرّبوا, لكن آثارهم لا زالت باقية حتى اليوم, كما أننا لا نستطيع الزعم بأنه لا أحفاد لهم ضمن تكويننا القومي الراهن, بل، على العكس من ذلك, من المؤكد وجود هؤلاء الأحفاد.
هنا نتساءل: ما الذي تعنيه مدينة القدس بالذات بالنسبة للغربيّ ذي الأصل السلتيّ بالذات؟.
حين نعود إلى رسائل “تل العمارنة” في مصر, والعائدة إلى القرنين الخامس عشر والرابع عشر قبل الميلاد, نجد أن مدينة القدس ترد تحت اسم “كيلة”. ولقد بقي هذا الاسم قائماً حتى الآن في اسم “خربة كيلة” الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس الحالية. ومن المرجح أن هذه هي أيضاً “كيلا المقدسة” التي يرد ذكرها في النشيد الأول من إلياذة هوميروس. فما الذي يعنيه اسم “كيلة”؟.
إن اسم “كيلة” – المدينة – منسوب إلى اسم الإله الخفي سيلي/ كيلي. ومن اسم هذا الإله اشتق أيضاً اسم السلت/ الكلت ليدل على عابديه. واسم هؤلاء السلت/ الكلت أطلق على جميع القبائل التي هاجرت من بلادنا إلى الغرب، وكان القاسم المشترك الأعلى بينها متمثلاً باللغة السلتية/ الكلتية, وهي لغة أكادية وعربية. ولا زال اسم وادي الكلت، الواقع إلى الشمال من القدس، محتفظاً بهذا الاسم للدلالة على الموطن الأصلي للقبيلة التي حملت هذا الاسم، والمتمثل في وسط فلسطين.
لعل السيّد ترامب، وهو يقترف فعلته بحق القدس وأهلها, وبحق فلسطين وأهلها, يجهل هذه المعطيات, وأن أقصى ما يعلمه أن أجداده السلت جاءوا من إقليم في آسيا يدعى “قرافيص”, وأن موقع هذا الإقليم بات مجهولاً بالنسبة لهم. فبمثل هذا المنطق القائم على التعمية يصرّ بعض كتاب الغرب على التعامل مع التاريخ.
إن “قرافيص” هذه هي كلمبة سلتية مركبة من gra بمعنى أرض، وfis بمعنى منتجة، أو بالأحرى مباركة, وهي الدلالة التي نجدها في اسم أحد ملوك الهكسوس (أبو فيس), أي (أبو مبارك). وهذه التسمية تطلق على نمط الزراعة المعتمد على المرتفعات الجبلية الواقعة شمال القدس حتى الآن. كما أن هذه التسمية يحملها جبل قرافيص الواقع بجوار رام الله. ومن هذا الجبل، يبدأ رافد وادي السوينيت “وهي كلمة سلتية تعني الذي يثقب بسهولة”، وهو أحد روافد وادي الكلت، إلى جانب رافد ثان يحمل اسم وادي فارا “وهي أيضاً تسمية سلتية تعني الباحث أو المتعرج، ومنها كلمة فرّ بمعنى دار وبحث في العامية الفلسطينية”.
والآن, وبغض النظر عن الظروف التاريخية التي حملت بعض أهل هذا الوطن القديم على أن يغرّبوا ويتغرّبوا, هل يجوز لأحفادهم أن يطعنوا هذا الوطن مثلما فعل ترامب الآن؟.
لعل ترامب، الذي يتعامل مع السياسة بمنطق الصفقات التجارية، سيقول إنه أخذ من الفلسطينيين ليعطي اليهود الصهيونيين، فما صلة أجداده السلت بفعلته هذه؟
ونقول للسيد ترامب: تعال، وأصخ السمع، وشغل العقل، وفكر! ألا يقول اليهود بأن ما يجعلهم يتمسكون بالقدس كونها سرّة الأرض, وصلة ما بين الأرض والسماء؟! ألا يزعمون بأن ما يربطهم بالمكان يتمثل في اعتقادهم القائل بأنه المكان الذي كان عليه هيكل سليمان، مدّعين وراثة الهيكل وصاحبه؟ ألا يجعلهم هذا يطلقون على جبل الموريا “المختار” اسم “جبل الهيكل”، وكأن “الهيكل” هو كل شيء بالنسبة لهذا المكان؟.
حسناً يا سيّد ترامب! على هذا الجبل يوجد المسجد الأقصى وقبّة الصخرة، وعليه أيضاً توجد كنيسة القيامة. وهذه الحقيقة تكفي لأن تثير عليك، وعلى من اتبعت من اليهود الصهاينة، القيامة. وها أنت ترى كيف أن العالم أخذ يفور ويغلي غضباً مما فعلت.
هل أنت معنيٌّ بأن تفهم سرّ هذا الغضب؟ وهل أنت معنيٌّ بأن تفهم ما إذا كان غضباً عادياً “سياسياً مصلحياً” أم غضباً مقدّساً؟ وهل أنت معنيٌّ بأن تفهم ما إذا كان هذا الغضب عربياً إسلامياً ومسيحياً وإنسانياً بتعابير عصرنا الراهن، أم أنه أعمق من ذلك بكثير حتى أنه يستفز مشاعر أولئك السلت الذين يفترض انتماؤك إليهم؟.
دعنا نقف أولاً – يا سيد ترامب – عند فلسطين, وعند الفلسطينيين الذين طغيت وبغيت عليهم وتجبّرت، ظاناً أن رئاستك لأمريكا تسمح لك بالعبث بمقدرات الشعوب كما تشاء, فأردت أن تسلبهم أعز ما يملكون.
بوسعك أن تطلب من أحد موظفيك في البيت الأبيض أن يوافيك، خلال لحظات، بمعلومات حول دلالة اسم فلسطين تحت مسمى Pilachthon، وسيأتيك الخبر اليقين بسرعة لا تتوقعها. فهذا الاسم الذي يرد في مسرحية (ابتهال امرأة) للكاتب اليوناني القديم أسخيلوس يعني أولاً: الأرض القديمة, سُرّة الأرض, التي منها بدأ تكوين الأرض التي دحيت من حولها الكرة الأرضية كلها, بما في ذلك أمريكا الشمالية التي تحكمها، وتريد من خلالها أن تتحكم بأراضي الآخرين، وبما في ذلك سرة الأرض.. إنها فلسطين يا سيد ترامب بشهادة كاتب يوناني، وليست “إسرائيل” التي يراد لها أن تطمس الحقيقة الأصلية. ثمة معلومة أخرى، لا تقل أهمية، سيوافيك بها من تكلفه بهذا البحث السريع, وهو أن فلسطون/ فلسطين، يا سيد ترامب، هو الإنسان الأول الذي لم يولد من أب وأم، وإنما خلق من طينة أرض فلسطون فسمّي باسمها. وهكذا سيتضح لك أن فلسطين، أو فلسطون، هو اسم الأرض والإنسان معاً عند بدء التكوين, وقبل أن يوجد بنو إسرائيل بملايين السنين. فهل يجوز لك – بعد هذا – أن تطغى على هذه الأرض وإنسانها لحساب اليهود الصهاينة؟ وهل يجوز لك أن تلغي أصل التكوين، وفق الفكر اليوناني، لتعتمد رواية مختلفة؟ وهل يجوز لك أن تحلّ أسطورة “جبل الهيكل” لتحل محل الدلالات الأصلية المرتبطة بالأرض المباركة أو المقدّسة، في عملية تزوير تسوقها الأهواء والشهوات الصهيونية؟.
والآن, تعال، يا سيد ترامب، لقراءة المشهد من زاوية أخرى.
في هذا المكان الذي تريد أن تطوّبه لليهود الصهاينة، على حساب أهله، يوجد المسجد الأقصى الذي يسعى الصهاينة إلى هدمه. فهل تعلم أن تسمية هذا المسجد جاءت من السماء، وليس من البشر الذين هم تحت هذه السماء؟ لعلك لا تعلم هذا! ولا فكرة لديك بأن هذه التسمية جاءت في قوله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء [سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله]. ولكي نفهم دلالة المسجد الأقصى هذه, والتي جاءت من السماء ليلتزم بها من هم في الأرض, لا بدّ من العودة إلى قوله تعالى في سورة الروم [غلبت الروم+ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون]. لماذا وصف المسجد بالأقصى، ووصفت الأرض بأدنى الأرض؟.
لنرجئ الآن الحديث عن مضمون الآيات الواردة في السورتين، وصلته بما نحن فيه الآن، وبما أقدم عليه ترامب, لنقول للسيد ترامب بأننا – وإياه – بحاجة للعودة إلى القاموس السلتي القديم لمعرفة أصل الدلالة القرآنية. فسرّة الأرض هي محور الأرض “وصلة ما بين الأرض والسماء”. ومحور الأرض، على هذا النحو، يعتبر الأقصى بالنسبة لأي نقطة أخرى على وجه الأرض, ولكنه في الوقت نفسه يعتبر الأدنى، أي الأقرب، بالنسبة للسماء. من أين جاءت كلمة “الأقصى” لتدل على المحور؟ لقد جاءت من كلمة aksi السلتية بمعنى المحور. ولكن ثمة مفاجأة أخرى تقدمها لغة السلت في هذا السياق، فكلمة أقصى axsa السلتية تعني أيضاً درجات قرابة الدم. وعندئذٍ، يستطيع السيّد ترامب أن يطالع ما تقوله كل الدراسات السلتية التي تناولت فصيلة الدم عند السلت، والخصائص الأخرى السلالية، عن التطابق بينهم وبين العرب في بلاد الشام. فالأقصى هنا هو الأدنى!
والآن، ما الذي فعله ترامب؟.
في خلفيات ما ورد في سورة الروم، قصة مجزرة ارتكبها اليهود ضد مسيحيي القدس والكنائس المسيحية، عام 614 م، وذهب ضحيتها أكثر من 90 ألف مسيحي. وهذا هو السبب الذي جعل مسيحيي القدس يطلبون من الخليفة الراشدي، عمر بن الخطاب، ألا يسمح لليهود بالإقامة في القدس, وكان هذا هو شرطهم لتسليمه مفاتيح المدينة المقدّسة. وهذا الشرط جرى تضمينه في العهدة العمرية. والآن يأتي ترامب – الذي يفترض أنه مسيحي – ليسلم القدس لليهود. أليست هذه مفارقة كبرى وخيانة كبرى يرتكبها ترامب في حق المسيحيين الذين يدعي الانتماء إليهم؟ كيف يمكن لترامب – إذا كان مسيحياً مخلصاً لديانته المسيحية – أن يقدم على هذا الفعل الذي يضع فيه القدس وكنيسة القيامة والمسجد الأقصى وقبة الصخرة تحت السيطرة اليهودية, متجاهلاً الحقيقة القائلة بأن اليهود، حين سلموا السيّد المسيح للحاكم الروماني وطلبوا صلبه, قالوا: “دمه علينا وعلى أبنائنا”؟ فإذا ادّعى ترامب، وأمثاله من المسيحيين الأمريكيين المتصهينين، أن تمكين اليهود من القدس يعجل بعودة السيّد المسيح, قلنا له ولأمثاله: أنظروا إلى تظاهرات الفلسطينيين ضد ترامب وقراره كيف انضم إليها الكثيرون من اليهود الأمريكيين لأن عقيدتهم تقول بأن عودتهم هذه رهينة بقدوم المسيح المخلص, وليس بإرادة أشخاص مثل هرتزل أو وايزمن أو بن غوريون أو دونالد ترامب, ممّن ينفذون برامج شيطانية عنصرية استعمارية لا صلة لها بالدين في كل أشكاله, وهي تشكل خرقاً لكل الديانات بما فيها الديانة اليهودية. إن السيّد ترامب – في فعلته هذه – يكون قد خالف الإرادة الإلهية المتمثلة في قوله عز وجل للسيد المسيح عيسى بن مريم [وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة]. فها نحن نرى كيف أن [الذين كفروا] صاروا هم الصفوة المتحكمة بالقرار السياسي الأمريكي, وبات الرئيس الأمريكي أداة في أيديهم, أي أن سلوك الحكام الأمريكيين صار معاكساً للإرادة الإلهية, فهل يمكن لأصحاب هذا السلوك أن يفلحوا، أم أنهم يغامرون بمصير أمريكا من خلال هذا السلوك؟.
وأما سورة الإسراء, فإنها تنبئنا بالإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل, وذلك في قوله عز وجل [وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرّتين ولتعلنّ علوّاً كبيراً]. ولقد بدأ الإفساد الأول بما يسمّونها بالثورة المكابية, وما كانت بثورة، بل إفساداً في الأرض, واستمرت حتى العام 70 م، حيث أنهيت على أيدي القوات السورية المصرية النبطية المشتركة بقيادة طيطس؛ وأما الإفساد الثاني، المقترن بالعلو الكبير، فهو الذي نعيش وقائعه الآن, وإن إحدى مظاهر العلو الكبير من وراء هذا الإفساد هيمنة اللوبي اليهودي الصهيوني، بالإضافة إلى السيطرة اليهودية الصهيونية على رأس المال المالي في أمريكا ووسائل الإعلام فيها، وفي العديد من دول الغرب. وما فعله ترامب بانحيازه لليهود الصهاينة, ونقل السفارة إلى القدس, هو مظهر إضافي من مظاهر هذا الإفساد, وهو خيانة للسيد المسيح، وجميع المؤمنين برسالته من مسيحيين ومسلمين، لحساب اليهود الصهيونيين. ولكن هذا الانحياز لن يجلب للسيد ترامب سوى العار, أما اليهود الصهاينة فمصيرهم الهزيمة المحققة تجسيداً لقوله عز وجل عمّن دخلوا المسجد أوّل مرة عام 70 م [وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّة وليتبروا ما علوا تتبيراً].
لقد اختار ترامب، إذن، الإساءة للمسلمين والمسيحيين، بل ولليهود الأرثوذكس, مثلما اختار الإساءة لأصوله السلتية الفلسطينية أو العربية, ولن يجلب من وراء هذه الإساءة سوى اللعنة, إذ أن حكمه في نظر الجميع هو حكم المارق الفاسق الضال.
والآن! ماذا عن البديل الذي قيل إن ترامب, وربما أيضاً من سبقوه من الرؤساء الأمريكيين, قد اقترحوه ليكون عاصمة لـ “دولة فلسطين الصغيرة”، بدلاً عن القدس، في سياق ما يطلقون عليها الآن تسمية “الصفقة الكبرى”؟.
يقال إنهم يعدّون لأن تكون “أبو ديس” هي العاصمة البديلة لفلسطين.
فما الذي تعنيه “أبو ديس”؟.
دعونا نقول، أولاً، إننا لسنا في معرض المفاضلة بين جزء من أرض فلسطين وجزء آخر. فكل أرض فلسطين هي في نظرنا أرض مقدّسة, وكل شبر من هذه الأرض يتمتع في نظرنا بالقداسة، ويعتبر جزءاً لا يتجزأ من الوطن الذي نرفض تجزئته. لكن “أبو ديس” تنهض بدورها لتكون شاهداً إضافياً على خيانة ترامب العظمى.
تقع “أبو ديس” على مسافة 4 كم إلى الشمال من مدينة القدس, واسمها (أبو ديس) لا يعني أنها أسميت على اسم شخص كان له ابنٌ اسمه ديس. فهي تحمل اسماً رومانياً سلتياً مشتركاً بامتياز, يجد أساسه في اسم الإله “ديس باتر” “ديس الأب الفاطر, وفي السنسكريتية ديوس بيتارDyaus Pitar”. وكان “ديس باتر” إلهاً رومانياً وسلتياً للعالم الأسفل، وهو في الأصل إله الغنى, وإخصاب الأراضي الزراعية, والثروة المعدنية تحت الأرض. وكان اسمه يختصر عموماً إلى الاسم المبسط “ديس” مثل ديس في الكوميديا الإلهية. واسمه يعني الغنيّ، أو أبو الغنى، ولعل هذا ما يفسر إطلاق تسمية الديسة على الغابة الغنية بأشجارها في بلادنا. ويقول يوليوس قيصر في كتابه عن حروب الغال، وهم من السلت، إنهم اعتبروا “ديس باتر” على أنه الجد، أو الإله المتعالي، عندهم. وقد صار هذا الإله متحداً مع الموت والعالم السفلي بسبب ثروة الأرض والمعادن والجواهر الثمينة. ولعله اكتسب هذه الدلالة منذ أن كان الغال ينزلون في يثرب “المدينة المنورة”، حيث كان سكانها قديماً غلية “الغال”، وفالج “البلجي”، وأرض مدين، حيث يوجد وادي الغال وسط مدين الجنوبية مثلما يوجد فيها أيضاً وادي الديسة ضمن مدين الداخلية. فتلك المنطقة من الحجاز عرفت قديماً بغناها بالثروات المعدنية والأحجار الكريمة. ونحن نجد امتداد هذه المواقع الحجازية في بلدة الديسة وقاع الديسة ووادي الغال في شرقي الأردن، كما في أبو ديس في فلسطين، وفي موقعي غالية وغويلية إلى الجنوب من دمشق. وكل هذه المعطيات ترجّح أن هذه كانت مواقع انتشار الغال السلتيين قبل رحيلهم أو رحيل بعضهم إلى أوروبا. ووفق روايات الإخباريين العرب، فإن هؤلاء تعرّضوا لغزوات بني إسرائيل, وكان بنو إسرائيل سبب إفنائهم أو رحيلهم. وأما في أوروبا فقد ظل الغال يعتبرون “ديس” جداً أعلى لهم.
وقد تعددت الاجتهادات في دلالة كلمة “ديس” في العربية. لكن أكثر ما يعنينا هنا أن “دس” ترد بين أشكال التعبير عن النفس الإنسانية عند المصريين القدماء. وهنا يقول د. علي فهمي خشيم إنهم ميزوا بين أنواع أو مراتب من النفوس, أو مظاهر النفس, إذ نجد “بأ” تقابل النفس الحيوانية “الدنيوية”, و”كا” تقابل النفس الإلهية “الأسمى الخالدة”, و”أخ” تقابل جانب الخير في النفس “المطمئنة, الزكية, النورانية”, وأما “دس” فتقابل جانب الشر من النفس “اللوامة أو الأمارة بالسوء”. ونتساءل عندئذ: أمن أجل هذا اختاروا “أبو ديس” لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية. فإما أن تمثل إله الموت، وإما أن تمثل النفس اللوامة الأمارة بالسوء؟!.
يصل د. خشيم في نهاية تحليله إلى ارتباط دلالة “دس” “ديس” بقوله عز وجل [ونفس وما سوّاها + فألهمها فجورها وتقواها + قد أفلح من زكاها + وخاب من دسّاها]. ويقول إنه اختلفت التفسيرات حول دلالة “دسّاها”. ولكن ثمة اتفاق، في الدلالة العامة، على أن “دسّاها” من “الدس”، أو “الدسس”، الذي يفيد الخسّة والخبث والشرّ والسوء, شأن النفس الحيوانية. والحقيقة أننا إذا عدنا إلى اللغة السلتية التي ينتمي إليها اسم “ديس” أصلاً، سنجد أن كلمة دَسيو dusjo تعني: النفس، الروح. وأن كلمة دس dus تعني الرديء، السيّئ. فنحن إذن أمام دلالة الروح، أو النفس السيئة أو الرديئة, النفس التي [خاب من دسّاها]. وصحيح أننا أمام مفاهيم لغوية دينية ميثولوجية لها أصولها القديمة, ولكن هل اختاروا تجريدنا من مدينتنا المقدسة – مدينة الإله الخفي كيلي – وحشرنا فيما يرونها مقبرة للأموات يحكمها إله الموت “ديس” لتكون عاصمة لدولة فلسطون؟.
لنتذكر النقطة التي بدأنا منها، والمتعلقة بسرة الأرض ومحورها فلسطون, والإنسان الأول الذي خلق من طينة هذه الأرض فلسطون, لنر بعد ذلك كيف يريدون حشر الأرض والإنسان، وتجربتهما التاريخية مع جميع الأديان، في أضيق مكان, ليكون بوسع اليهود الصهاينة أن يفسدوا في الأرض كما يشاءون. وعندئذٍ, سندرك حجم الخيانة العظمى المركبة التي أقدم عليها ترامب ودلالاتها التاريخية، ليس فقط بالنسبة إلى عرب فلسطين، أو العرب, بل إلى كل ما يمتّ إلى تاريخهم الحضاريّ في هذا الكون بصلة.