لا يمكن تفسير قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان “القدس عاصمة لإسرائيل” بمعزل عن الأزمة التي قد تطيح به من البيت الأبيض!
وليس خافياً على أحد أن أزمة ترامب في الحكم بدأت منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض من خلال اتهامه بالاتصال بحكومة روسيا.. العدوة لأمريكا!
وقد شهدت هذه القضية صعوداً وهبوطاً مع إصرار ترامب على القول: لا أعلم بالاتصالات التي قام بها بعض أعضاء حملتي الانتخابية السابقة مع الروس!!
والسؤال: هل من علاقة بين اتهام ترامب بالاتصال غير الشرعي مع الروس وقراره الأخير المتصمن “القدس عاصمة أبدية لإسرائيل”؟!
في نهاية الشهر الماضي، وبعدما تراجع الاهتمام نسبياً بهذه القضية، طلب ترامب من أعضاء جمهوريين في الكونغرس- بما يشبه الأمر: حان الوقت لإغلاق ملف التحقيق الذي يقوم به المدعي العام المختص، روبرت مولر، حول مزاعم التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، نهائياً!!
وكانت صحيفة الواشنطن بوست نقلت عن أحد المستشارين الخارجيين لترامب قوله إن “الرئيس الأمريكي سيغضب كثيراً إذا لم يحسم الأمر مع نهاية السنة”!
ماذا حصل بعد هذا التهديد المبطن والغاضب للرئيس ترامب؟
أتى الرد سريعاً. قامت لجنة التحقيق، في 1/12/2017، وخلال أقل من 24 ساعة على تهديد ترامب، بتوجيه تهمة “التصريح الكاذب” ضد مايكل فلين مستشار ترامب السابق للأمن القومي!
كما أعلن رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب الكونغرس الأمريكي، مايك كونواي، أن من غير المرجح أن يتم الانتهاء من التحقيق بحلول نهاية العام!
هذا الرد كان بمثابة رسالة واضحة لترامب: الملف سيبقى مفتوحاً، وسيضيق الخناق حول رقبتكم حتى إحالتكم إلى الكونغرس، بتهمة الكذب، للبدء بإجراءات عزلكم وطردكم من البيت البيض!
هذا التطور في ملف ترامب خطير جداً بمنظور غالبية السياسيين والمحللين والمتابعين في الداخل الأمريكي، فقد كشف فلين للجنة التحقيق أنه أجرى لقاء مطولاً مع السفير الروسي السابق في واشنطن، سيرغي كيسلياك، وأبلغه رسالة من المرشح دونالد ترامب: لا تقلقوا، ولا تنفعلوا، من العقوبات التي فرضها أوباما على روسيا لأننا.. قادمون!
المرعب بالنسبة لترامب أن تقوم لجنة التحقيق الخاصة، المكلفة من الكونغرس، بتوجية تهمة له عنوانها “الاتصال بحكومة دولة أجنبية في ظل إدارة أمريكية لاتزال قائمة، وهي قانونياً تملك الحق الحصري بالتواصل مع حكومات العالم”.
ولنتذكر أن أي عضو كونغرس لايمكنه زيارة أي دولة أجنبية دون موافقة من الرئيس الأمريكي، ويقوم هذا العضو بتقديم تقرير مفصل عن زيارته لاحقا للرئيس، فكيف سيكون الأمر إذا قدم مرشح للرئاسة وعوداً لحكومة أجنبية دون علم الرئيس القائم على رأس عمل الإدارة الأمريكية!؟
والسؤال الذي سيبحث المحققون عن جواب له من فلين هو: هل يعقل أن شخصاً أساسياً أصبح مستشاراً للأمن القومي لم يناقش موضوع الاتصال مع السفير الروسي في واشنطن؟
المحققون سيركزون بالتأكيد على هذا الجانب، خاصة أن فلين أبدى استعداده للتعاون لتخفيف العقوبات عليه لاحقا! وقالها فلين يوضوح للإعلام، وكأنه يخاطب ترامب: أنا مستعد للشهادة ضد الرئيس في التحقيقات حول “التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأمريكية”!
ماذا نستنتج من هذا التطور في ملف اتصال ترامب بالروس؟
الإعلام الأمريكي، وخاصة صحيفة الواشنطن بوست، خلص إلى أن عملية التحقيق ستقود إلى أحد خيارين: إما إزاحة ترامب عن منصبه، أو ظهور ترامب جديد بنزعة انتقامية. وإن أياً من السيناريوهين ليس جميلاً، لكن الثاني يبقى مرعبا!
لاشك ان ترامب شعر بالخناق يضيق حول عنقه وهو يرد بجملة واحدة: لاتوجد مؤامرة مع الروس. لست ضليعا بأي أمر! وأعواني كانوا يقومون باتصالات فردية دون أي إرشادات أو تعليمات مني!
لكن مشكلة ترامب في الداخل الأمريكي أن الجميع يصفه بالكاذب، وشعبيته في الحضيض، وهو في معركة يومية مع وسائل الإعلام باستثناء محطة فوكس نيوز، ولا يحظى بفريق عمل متماسك، فالكل مستعد للتخلي عنه في أقرب وفت، كما أن غالبية الأطباء النفسيين يؤكدون أنه مريض عقليا!
بعد كل هذا، ما الخطوة التي رأى ترامب أنها ناجعة وفعالة للخروج من المأزق وقطع الحبل الذي بدأ يلتف حول عنقه، والتي يمكن أن تغلق الملف، وتنهي التحقيق، وتبقيه في البيت البيض لينتقم من جميع الذين عملوا لطرده أو عزله من الرئاسة؟
لاننسى أن ترامب “بيزنس مان” ناجح جدا بعقد الصفقات، وما قراره بإعلان القدس عاصمة أبدية لإسرائيل سوى صفقة رابحة له ولحليفه نتنياهو!
وكما يعرف الجميع، فإن نتنياهو – مثل أي رئيس حكومة إسرائيلية – هو بمثابة الرئيس الفعلي للكونغرس الأمريكي.. كل الأعضاء يقفون مرارا وتكرارا للتصفيق له خلال إلقاء خطبه أمامهم أكثر مما يصفقون لرئيسهم الشكلي!
وبما أن الكونغرس هو من سيتخذ إجراءات عزل الرئيس بعد انتهاء لجنة التحقيق، فإن بإمكان نتنياهو الطلب من الكونغرس إغلاق القضية نهائيا.
مافعله ترامب، بعد خمسة أيام من توجيه تهمة الكذب لمستشاره السابق فلين، هو إبرام صفقة مع حليفه نتنياهو مضمونها: أمنحك القدس مقابل منع طردي من البيت الأبيض! وبالتالي، فإن ترامب، لينقذ نفسه من العزل أو الطرد، هرب إلى الأمام.. إلى القدس!
السؤال الآن: هل سينقذ نتنياهو ترامب، أم سيتركه وحيدا يواجه مصيره، بعدما فاز بالجائزة الكبرى؟!
مهما كان الجواب. لنعد إلى جوهر الموضوع الذي يهمنا في المنطقة!
إن ضارة “إعلان ترامب القدس عاصمة أبدية لإسرائيل” هي بالتأكيد نافعة لمحور المقاومة ولصوابية استراتيجيته: ما أخذ بالقوة لايسترد إلا بالقوة.
كما أن الإعلان الأمريكي لللقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والذي رأى الكثيرون أنه بمثابة “إعلان حرب” على العرب والمسلمين لأنه استهدف قدس أقداسهم، قد يكون الفرصة الذهبية الأخيرة لأنظمة عرب إسرائيل لإنقاذ ماتبقى من كرامتهم المسفوحة منذ اتفاقية سيناء الثانية، عام 1973، أي قبل “كامب ديفيد” على مذبح الصهيونية العالمية!
بعد الاعتراف.. ليس أبداً ماقبل الاعتراف!
لم يعد هناك من مساحات رمادية، فأوهام السلام مع العدو سقطت بالضربة القاضية، واتفاقية أوسلو اصبحت ناجزة مع إنهاء المواضيع العالقة التي كانت السلطة الفلسطينية تفاوض حولها، منذ أكثر من عشرين عاما: المستوطنات تحيط بالضفة العربية وتتوسع يوما بعد يوم، ولاعودة للاجئين الفلسطينيين، ولا انسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأخيراً أصبحت القدس عاصمة أبدية لإسرائيل!
ما الرد الذي يتوقعه الشعب العربي من أنظمة عرب إسرائيل؟
قطعاً، لن ينتظر الشعب العربي بيانات إدانة واستنكار. فقادة العدو توقعوا أن ردود الأفعال لن تكون على مستوى الحدث “التارخي”، لأن حلفاء إسرائيل القدامى، الذين تربطهم معها اتفاقات ذل وإذعان، والخلفاء الجدد بزعامة آل سعود، منشغلون بمحاربة حركات المقاومة، وبمحاربة إيران، بل “هم يطلبون مساعدتنا للتصدي للتمدد الإيراني في المنطقة”!
قرار “القدس عاصمة أبدية لإسرائيل” سيضع عرب الصهاينة أمام خيارين لاثالث لهما: إما الاستسلام والإذعان والتسويق لـ “صفقة القرن” بإقامة دويلة فلسطينية مسخ بالكاد يتمتع رئيسها بصلاحيات رئيس بلدية عاصمتها “أبو ديس”، أو الإنتفاضة على الصهاينة والأمريكان والانضمام إلى محور المقاومة.
وليس أمام أنظمة عرب إسرائيل الوقت الكثير، فساعة الحسم حانت، ولا مجال إطلاقا للتسويف والمناورة! المطلوب – عاجلاً وليس آجلاً – الرد على قرار الحرب الذي أعلنه ترامب.
لقد أخذت أنظمة عرب إسرائيل فرصة أكثر من أربعين عاماً لتحقيق سلام مزعوم مع إسرائيل، وكانت النتيجة ضياع فلسطين كاملة تقريباً، بما فيها القدس. وعليها الآن إما التنحي وإفساح المجال للبديل المقاوم، أو الاستمرا ر بنهجها والانضمام إلى حلف تقوده إسرائيل، بإشراف أمريكي، للتصدي لحلف المقاومة.
وفي الحالة الأخيرة، عليها تحمل مسؤولية قرارها أمام شعوبها!
المقال التالي