منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت النزاعات العالمية في معظمها عبارة عن كفاح من أجل الاستقلال ضد الأنظمة الاستعمارية والامبريالية، الغربية منها واليابانية.
وعقب إنهاء الاستعمار رسمياً، تم تطبيق أنموذج جديد للهيمنة الامبريالية، وهو أنموذج الأنظمة الاستعمارية الجديدة التي فرضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، من خلالها، زعماء تابعين يعملون لحسابها، وكلاء لها، لاستغلال ثروات بلدانهم الاقتصادية. ومع صعود هيمنة الأحادية القطبية للولايات المتحدة عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، عام 1999، رسخ الغرب هيمنته على دول أوروبا الشرقية، فكان بعضها عرضة للتقسيم، وإعادة التقسيم، إلى دول أخرى صغيرة خاضعة لهيمنة الناتو.
فرض إمبراطورية أحادية القطب أضرم نيران سلسة من الحروب والنزاعات الإثنية في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية والبلقان وشمال أفريقيا وآسيا وأوروبا الغربية، وفي دول البلطيق، ما أسفر عن عمليات تطهير عرقي، وولّد أزمة لاجئين خطيرة على نطاق واسع. إلا أن انفجار الدول – الأمم انتشر في العالم، وحل خطاب وسياسة “حق تقرير المصير” محل خطاب وسياسة الصراع الطبقي بصفته منارة للعدالة الاجتماعية والحرية السياسية. تبنى المحركون الأساسيون لإقامة الإمبراطورية تكتيك “فرق تسد” لغزو خصومهم بشكل أفضل، وبذريعة دفع “حق تقرير المصير” الليبرالية، دون تحديد ما هو هذا “الحق”، ومن المستفيد منه فعلياً. وخدمت الهويات الفئوية والإقليمية والثقافية والإثنية في استقطاب النزاعات، كما عملت القوى الاستعمارية الجديدة على الإطاحة بالأنظمة “المركزية” التي تكافح في سبيل الحفاظ على “الوحدة الوطنية”.
مفاهيم أساسية: غموض وتوضيح
تمثل “التنمية المشتركة وغير المتكافئة” أحد الجوانب المذهلة لمسيرة العولمة والتنمية الوطنية. يأخذ هذا الأمر عدة أشكال – تنمية غير متكافئة بين مناطق مكونة لبلد واحد، وتنمية أخرى بين بلدان مختلفة، وبشكل عام الحالتين.
إذ تعمل الدول الامبريالية على تركيز الصناعات والتجارة والبنوك في الوقت الذي تجد فيه الدول المستعمرة/ المستعمرة جديداً نفسها كمقاطعات مغلقة تابعة لمواردها من المواد الأولية، ولتصديرها، أو لمصانع التجميع القائمة فيها بأجور بخسة. وغالباً ما تضم عواصم البلدان المستعمرة، والتي تحررت من الاستعمار، السلطة السياسية والثروة والبنى التحتية ووسائل النقل ومؤسسات التمويل، في حين يتقلص دور الأقاليم إلى مجرد توفير المواد الأولية واليد العاملة الرخيصة الثمن. السلطة السياسية والإدارة، ومنها الجيش والشرطة ومكاتب تحصيل الضرائب، جميعها نادراً ما تتركز في المدن القليلة الإنتاجية من الناحية الاقتصادية؛ أما المناطق المنتجة للثروات، ولكنها الأضعف سياسياً، فيتم استغلالها اقتصادياً وتهميشها، وإفراغها من جوهرها.
وعليه، أدت التنمية المشتركة وغير المتكافئة على المستويات الدولية والوطنية إلى صراعات طبقية مناهضة للامبريالية وإقليمية. وهنا، حيث ضعفت الصراعات القائمة على أساس طبقي، اضطلع الزعماء والحركات القومية والإثنية بمهام الزعامة السياسية.
حملت “القومية” وجهتين متعارضتين تماماً: في الوجهة الأولى، تعمل الحركات الإقليمية المدعومة من قبل الغرب على تلغيم الأنظمة المناهضة للامبريالية بغية تطويع وإخضاع الأمة بأكملها لإملاءات السلطة الامبريالية، أما في الوجهة الثانية فنجد حركات شعبية قومية علمانية، تكافح من أجل الحصول على الاستقلال السياسي بخوض قتال مع القوى الاستعمارية ووكلائها المحليين الذين غالباً ما يكونون إقطاعيين من أقلية دينية أو عرقية.
الدول الامبريالية أدركت دائماً طبيعة النماذج المختلفة لـ “القومية”، وتعرف بينها النماذج التي تخدم مصالحها، فهي تدعم الأنظمة والحركات الإقليمية، أو “القومية المتعصبة” التي ستعمل على تلغميم الحركات والأنظمة والمناطق المناهضة للامبريالية. وهي سوف تتصدى دائماً الحركات “الوطنية” الممتلكة لقاعدة عمالية قوية.
دروس التاريخ
(ألبيون) أقدم اسم معروف لجزيرة بريطانيا العظمى، الامبريالية المخادعة، المملكة المتحدة، ذبحت وجوعت ملايين البشر الذين قاوموها في آسيا (الهند وبورما وماليزيا والصين)، وفي أفريقيا (جنوب أفريقيا وكينيا ونيجيريا)، وفي أوروبا (ايرلندا).
في نفس الوقت، كان الامبرياليون البريطانيون يشجعون المسلمين على قتال الهندوس، والسيخ على محاربة المسلمين، والـغوركا على قمع الماليزيين، ويشكلون مجموعات مقاتلة مختلفة، دينية وإثنية ولغوية، في شبه القارة الهندية، وفي بورما وماليزيا. زد على ذلك، كانت المملكة المتحدة تذكي النزاعات بين المجموعات الدينية والعلمانية القومية والمحافظة في كل الشرق الأوسط.
ومن الطبيعي أن تستخدم القوى الامبريالية استراتيجية “فرّق تسد” بوصف خصومها وأعدائها بـ “الرجعيين” و”السلطويين”، بينما تصف عملاءها بـ “مقاتلين من أجل الحرية يسلكون الدرب نحو القيم الديمقراطية الغربية”، على حد زعمها.
لكن السؤال الاستراتيجي هو معرفة كيف تعرف الدول الامبريالية أنموذجها في “حق تقرير المصير”، إن كان من النوع الذي تدعمه أم من الذي تردعه وتقمعه، ومتى تغير سياستها. إن حلفاء اليوم، الذين وصفتهم وسائل الإعلام الغربية بـ “الديمقراطيين”، بوسعهم أن يكونوا غداً “أعداء الحرية” و”مستبدين” في حال تحركوا ضد المصالح الامبريالية.
وجها حق تقرير المصير
خلافاً للممارسة الامبريالية القائمة على تغيير السياسة تجاه أنظمة مهيمنة وحركات انفصالية، فإن غالبية “أهل اليسار” تدعم بقوة حركات حق تقرير المصير، وتصف معارضيها بـ “الطغاة” و”القمعيين”.
ولكن، وفجأة، قد تتواجد الأنظمة اليسارية والأنظمة الامبريالية على نفس الضفة في حملة ضخمة لـ “تغيير النظام”. إذ يبني اليسار الليبرالي “مثاليته” الخاصة بوصفه القوى الامبريالية بـ “المنافقة والخبيثة” التي تستخدم “معايير مزدوجة”، وهي تهمة مضحكة، ذلك أن المبدأ الأساسي خلف القرار الامبريالي، بدعم أو رفض أية حركة “تقرير مصير”، قائم على مصالح طبقية وامبريالية. بمعنى أوضح، عندما يعود “حق تقرير المصير” بالفائدة على الامبراطورية فإنه يحظى بدعم كامل. إذ ليس هناك مبادئ، أخلاقية وتاريخية، لا تكون مدعومة من مصالح طبقية أو امبريالية تحدد هذه السياسة.
دراسة حالة
خلال القرن العشرين، طالب الأكراد في العراق وتركيا وسورية وإيران بـ “حق تقرير المصير”، وقاتلوا ضد دول – أمم باسم “التحرر الإثني”. في حالة العراق، حظي الأكراد خلال فترة 1990 برعاية الولايات المتحدة وإسرائيل، وتم تمويلهم وتسليحهم بهدف إضعاف وتقسيم الجمهورية العراقية القومية والعلمانية. كما نظم الأكراد، ودائماً بمساعدة ودعم الولايات المتحدة، نزاعات محلية في تركيا، وحديثاً في سورية في محاولة لإسقاط الحكومة السورية المستقلة برئاسة الأسد. يصف أكراد اليسار حلفاءهم الامبرياليين، ومن ضمنهم الإسرائيليون، بأنهم “استعماريون تقدميون”.
وباختصار، يعمل الأكراد كوكلاء للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل: إنهمى يوردون المرتزقة، ويوفرون الوصول إلى قواعد عسكرية، وإلى محطات تنصت وتجسس في بلدهم الجديد المحرر لدعم الامبريالية الأمريكية التي اختارها قادة الحرب لديهم كـ “شريك” مهيمن. فهل يعتبر قتالهم حرب تحرير وطنية أم حرب دمى مرتزقة لخدمة الامبراطورية ضد أمم ذات سيادة تقاوم الهيمنة الامبريالية والصهيونية؟
أما في أوكرانيا، فقد رحبت الولايات المتحدة بمسألة حق تقرير المصير عندما نظم الانفصاليون انقلاباً عسكرياً عنيفاً للإطاحة بنظام منتخب جريمته الوحيدة التزامه بالاستقلال إزاء حلف الناتو.
وبالطبع سارعت الولايات المتحدة لدعم الانقلاب ومباركته من خلال تمويل وتشكيل حثالة من الفاشيين الذين تعهدوا بإقصاء وقمع كل أنصار روسيا، خاصة في المناطق الشرقية، دونباس، وفي جزيرة القرم بهدف إقامة قواعد للناتو على الحدود الروسية. إلا أن شعب جزيرة القرم، وغالبيته المؤيدة لروسيا، عارض الانقلاب ومارس حقه في تقرير مصيره بالتصويت لصالح الانضمام والعودة إلى روسيا. نفس الشيء حصل في المنطقة الصناعية دونباس، شرق أوكرانيا، والتي أعلنت استقلالها، وعارضت نظام كييف الفاسد والقمعي الذي وضعته الولايات المتحدة.
لقد كان الانقلاب العنيف، الذي رعته وباركته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في كييف، شكلا واضحاً للإلحاق الامبريالي، في حين كان التصويت السلمي في القرم وطريق حق تقرير المصير الذي اتخذته أوكرانيا الشرقية، دونباس، الرد التقدمي للقوى المناهضة للامبريالية. ولكن، وأمام إخفاق مشروعهما بتحويل أوكرانيا الشرقية والقرم إلى قواعد عسكرية للناتو، للاعتداء منها على موسكو، فقد أدان الأمريكيون والاتحاد الأوربي هذه المبادرة، واصفين إياها بـ “الاستعمار الروسي”.
التيبت والايغور في الصين
انخرطت المجموعات الانفصالية بقوة في احتجاجات مسلحة منذ عدة عقود في التيبت وكسينغيانغ في الصين الغربية. وفي حين يدعون أنهم “مستقلون”، إلا أن قادة حربهم الإقطاعيين يعادون التقدم والتطورات الايجابية التي حققتها الثورة الصينية (من بينها إلغاء العبودية في التيبت، وإلغاء تجارة الأفيون، وضمان مهر الزواج، وتوسيع نطاق التعليم الجامعي في المناطق الإقطاعية المسلمة). تعاونوا مع الولايات المتحدة والهند التوسعيتين حيث بنى الدالاي لاما قصره ومخيمات أنصاره المسلحين والمشكلين من قبل استخبارات الامبريالية الغربية. وفي الوقت الذي يدعي فيه الغرب أن الدالاي لاما رجل مقدس يحب السلام، ولا يتوقف عن إلقاء الخطابات والحوار أمام جمهور يعبده، فإن هذا المقدس لم يصدر أية إدانة لحروب الإبادية الأمريكية ضد البوذيين في فيتنام وكوريا وأماكن أخرى.
لقد تجاهلت شبكة المشاهير/ ضحايا الغرب المؤيدة للتيبت وللإيغور، والممولة جيداً، العلاقة بين الدالاي لاما وأسياده الامبرياليين الذين هم من يحدد في نهاية المطاف الدلالة العملياتية لـ “حق تقرير المصير”.
في كوسوفو.. تقرير المصير يديره تجار عبودية إرهابيون بيض
تحررت يوغسلافيا من الفاسدين المتعاونين مع النازية على يد أنصارها الشيوعيين عقب الحرب العالمية الثانية، وغدت مجتمعاً اشتراكياً متعدد الإثنيات، سلمياً يدير أموره بنفسه ولنفسه. في عقد التسعينيات، شن حلف الناتو عدوانه، وتدخل عسكرياً في البلاد، ما أسفر عن حلها وتحويلها بالعنف إلى دويلات وأقاليم متناهية الصغر “مستقلة”. لقد تم تدمير تجربة قيام دولة اشتراكية متعددة الإثنيات في أوروبا. وبعد عملية تطهير عرقي وحشية للسكان غير الألبان، تم إرساء دولة دمية للناتو – هي كوسوفو – تخضع لسيطرة إرهابي معروف عالمياً، رقيق أبيض من صنع الولايات المتحدة، هو هاشم تاجي وحثالته من جيش تحرير كوسوفو.
ونتيجة لحملة القصف الأمريكي العنيفة على بلغراد ومدن أخرى، بدعم عسكري من الناتو، حصلت كوسوفو على “حق تقرير مصيرها”، وأصبحت حاملة طائرات أرضية أمريكية ضخمة، ومركزاً لمعسكر بوندستيل، مستفيدة من تخفيضات بيوت بغاء جيش تحرير كوسوفو لمتعة جنود المارينز. ولأن كوسوفو تخدم بأن تكون موقعاُ متقدماً مرتزقاً يديره سوقيون وحثالة انطلاقاً من أرضهم، سارعت واشنطن وبروكسل إلى المصادقة على مطالبهم واعتبرتاها “دولة مستقلة محررة”. من جهة أخرى، تخدم البلاد بأن تكون مستودعاً دولياً لتجارة مرعبة هي الاتجار بالأعضاء البشرية من أجل استزراعها في أنحاء العالم. وفي زيارته لدولة المافيا هذه، التي تم تطهيرها عرقياً، اعترف قائد الناتو مؤخراً: “قصفنا الجهة السيئة”.
قاد تفكك يوغسلافيا إلى خلق دويلات انفصالية متعددة تخضع لهيمنة اقتصادية من قبل الاتحاد الأوروبي، وللهيمنة العسكرية الأمريكية. وبلغة الغرب، سمي ذلك بـ “تقرير مصير ديمقراطي”، بينما تقول الحقيقة المرة أنه تطهير عرقي كبير، وإجرام وإفقار خطيرين.
استقلال كتالونيا.. وإسبانيا الفرانكوية – الجديدة
تخضع اسبانيا لهيمنة نظام يتحدر من الديكتاتور الفاشي فرانشيسكو فرانكو. رئيس الوزراء، ماريانو راخوي، وحزبه “الحزب الشعبي”، وكذلك الملك فيليب السادس، يواجهون فضائح فساد خطيرة، من تبييض الأموال إلى عقود البناء العامة – الخاصة الاحتيالية بملايين اليوروهات. السياسات الليبرالية الجديدة التي يطبقها رئيس الوزراء أدت بطريقة خطيرة إلى كارثة مالية قادت بدورها إلى معدل بطالة بلغ 30%، وبرنامج تقشف حرم العمال الإسبان من حقهم في التفاوض الجماعي. ولمواجهة مواصلة تقرير مصير كاتالونيا عبر انتخابات حرة وديمقراطية، نظم راخوي اجتياحاً عسكرياً وبوليسياً. سيطروا على صناديق الاقتراع، واعتقلوا الزعماء، وفرضوا سيطرتهم الكلية على الإقليم. إذن، الممارسة السلمية لحق تقرير المصير من قبل الكتالونيين، وعبر انتخابات حرة ومستقلة عن أي تلاعب امبريالي، قوبلت برفض الاتحاد الأوروبي وواشنطن اللتين اعتبرتا الأمر “غير قانوني” لأنه أعلن العصيان على راخوي وجوقته الفرانكوية – الجديدة.
حق تقرير مصير فلسطين.. الاستيطان والهيمنة الإسرائيلية بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية
على مدى أكثر من نصف قرن، دعمت واشنطن الاحتلال الوحشي الإسرائيلي لـ “الضفة الغربية” الفلسطينية، وتنكرت بشكل منهجي لحق الشعب الفلسطيني، ومعه ملايين اللاجئين في الشتات، في تقرير مصيره بنفسه. واشنطن تسلح وتمول التوسع الاستيطاني الذي تم من خلال السيطرة العنيفة على الأراضي الفلسطينية والموارد الفلسطينية وممارسة سياسة التجويع والاعتقالات والتعذيب والاغتيالات بحق فلسطينيين جريمتهم الوحيدة هي مطالبتهم بحقهم في تقرير مصيرهم. الأكثرية الساحقة من موظفي وزعامات الكونغرس الأمريكي، سابقين وحاليين، يستلهمون بإذلال من رؤساء المنظمة اليهودية الإسرائيلية التي ترسل مليارات الدولارات إلى صناديق تل أبيب. إسرائيل، وحلفاؤها الصهاينة في قلب الحكومة الأمريكية، يتحكمون بالولايات المتحدة، ويحرضونها على شن حروب مدمرة في الشرق الأوسط، ويعملون ضد تقرير مصير أمم عربية وإسلامية ذات سيادة.
السعودية.. عدو سيادة اليمن
حارب النظام الاستبدادي السعودي حق تقرير المصير لدول الخليج واليمن. وقد شرد السعوديون، مدعومين بالسلاح والمستشارين الأمريكيين، ملايين المدنيين اليمنيين خارج بيوتهم، وقتلوا بلا رحمة آلاف الأطفال والشيوخ والنساء والشباب بعمليات القصف الجوي. وخلال العقد الأخير، قام السعوديون بقصف اليمن، وحصاره، ودمروا بناه التحتية، وتسببوا بتفشي وباء الكوليرا بشكل جماعي وخطير، وهدووا بالمجاعة ملايين الأطفال، مستهدفين إلحاق الهزيمة بحركة التحرر اليمنية التي يقودها الحوثيون، بينما قامت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بتزويد النظام السعودي بأسلحة بلغت قيمتها أكثر من 100 مليار دولار ، وقدمتا الدعما اللوجستي، خاصة عبر تزويد الطغاة السعوديين بالمعطيات الجغرافية لقصف وعرقلة أي عمل دبلوماسي ترعاه الأمم المتحدة لتخفيف عذابات اليمنيين. وفي جريمة الحرب الخطيرة هذه، فإن واشنطن وإسرائيل هما الشريكان الأقرب إلى مملكة آل سعود في إنكارها لحق الشعب اليمني المضطهد في تقرير مصيره، وهو الذي قاوم محاولات السيطرة السعودية منذ سنوات طوال.
.. أخيراً
تعمل الامبريالية الأمريكية، كما كل الطامحين من بناة الإمبراطورية، على قمع أو دعم حركات حق تقرير المصير تبعاً لمصالحها الطبقية والامبريالية. ولنكون أوضح: حق تقرير المصير مسألة سياسية، وليست مبدأ أخلاقياً – قانونياً عاماً.
إن الاستخدام الانتقائي، وسوء استخدام حق تقرير المصير من قبل الامبريالية، ليسا حالتي “نفاق” أو “ازدواجية معايير”، كما يشكو أنصارهما في اليسار الليبرالي، ذلك أن واشنطن واشنطن معياراً واحداً: هل تخدم هذه الحركة في تقدم الإمبراطورية من خلال تأمين وتعزيز الأنظمة التابعة وأنصارها؟ إن كلمة” تحرير” ما هي سوى تزويق لضمان ولاء أتباعها من المعارضة في الدول المستقلة. وعلى مدى عقود طويلة، تم تشجيع دول أوروبا الشرقية ودول البلقان ودول البلطيق على القتال من أجل تقرير مصيرها تجاه حلف وارسو الذي كان يقوده السوفييت آنذاك، لتجد نفسها فيما بعد تحت نير قيادة الناتو وواشنطن. في معظم الحالات، انهارت سيادتها ومستوى المعيشة فيها، ليتبع ذلك عملية تطهير عرقي، وبشكل خاص الإقصاء الجماعي والمخيف لصرب كرواتيا وكوسوفو، والقمع الثقافي واللغوي لذوي العرقية الروسية في ليتوانيا وأوكرانيا.
“مقاتلو الحرية” الأكراد يتبعون أسياد حرب ممولين من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، ويستولون على مدن وموارد نفطية وأراض من شانها أن تعمل كقواعد عسكرية امبريالية ضد حكومات سيادية في العراق وسورية وإيران.
ضمن هذا السياق، يكون أسياد الحرب والاوليغارش الأكراد أتباعاً مخلصين، ويشكلون جزءاً من السياسة الإسرائيلية – الأمريكية ذات التاريخ الطويل في تقسيم وإضعاف الحلفاء المستقلين لفلسطين، ولليمن، ولكل حركات التحرر الحقيقية. ومن الواضح أن المعايير التي تتيح إقرار شرعية مطلب حق تقرير المصير تقتضي تحديد ما إذا كانت المصالح الطبقية أو مصالح المناهضين للامبريالية هي التي على المحك.
فيما وراء النزاعات المباشرة، تصبح أنظمة مستقلة عديدة بدورها سلطات قمعية لأقلياتها ولمواطنيها الناقدين. وبوسع ” حق تقرير المصير” أن يقود، في نهاية الأمر، إلى أفراد يعانون من الانفصام يقمعون الآخرين من خلال تعبد شعبهم الأسطوري. وعادة ما يتعمد البلدان والحكام المستقلون حديثاً إنكار حق تقرير المصير لأقلياتهم، خاصة تلك التي كانت قد اصطفت إلى جانب السلطة السابقة.
بقدر ما يقتصر “الكفاح الوطني” على الاستقلال السياسي، لن يكون بمقدوره إلا أن يقود إلى إحداث “تغيير بسيط للحراس،” ويحافظ على استغلال طبقي قمعي، ويخلق أشكالاً جديدة للقمع الثقافي والإثني والجندري. وفي بعض الحالات، قد تتجاوز الأشكال الجديدة للقمع الطبقي الشروط السابقة المتوارثة من عهد التبعية الامبريالية.
الأكراد، والتيبت، والقوميون الفاشيون الأوكرانيون، والإيغور، وآخرون مزعومون أنهم مقاتلون من أجل الحرية، اتضح أنهم وكلاء عسكريون من أجل تدخل أمريكي عدواني على دول مستقلة هي الصين وإيران وروسيا وسورية والعراق. وكل أشكال الدعم، التي يقدمها اليسار لـ “حركات التحرر” المشكوك فيها هذه، تصطف خلف الإمبراطورية.
إن العولمة الرأسمالية هي اليوم العدو الأكبر لتقرير مصير حقيقي. العولمة الامبريالية تدعم دويلات متشرذمة فقط من أجل تحويلها إلى أتباع جدد يحملون نفس رايتها ونشيدها الوطني.