في الكلمة التوجيهية التي ألقاها أمام المشاركين في (الملتقى العربي لمواجهة الحلف الأمريكي الصهيوني الرجعي)، قال السيد الرئيس بشار الأسد، وهو يضع يده كطبيب وحكيم على جرحنا العربي النازف: “علينا أن نركز بالدرجة الأولى على نقاط الضعف.. على المحاور والأساليب التي اتبعها أعداء القومية، لكي نعرف كيف نتعامل مع كل محور من هذه المحاور، لأن ما نعيشه اليوم لم يحصل فجأة. هو تراكم زمني طويل على مدى عقود، واليوم نتائجه عميقة في المجتمعات، وواسعة بنفس الوقت. القضية ليست قضية سطحية ولا عابرة. الغرب كان بارعاً في أدائه.. كان بارعاً في نصب الأفخاخ. الغرب بنى مخططاته على الوقائع والحقائق التي نعيش فيها، أما نحن فكنا دائماً نبني رؤانا على العواطف. هو كان فاعلاً ونحن كنا منفعلين”.
قد يرى البعض أن ما قاله السيد الرئيس جاء توصيفاً للمشكلة بعد أن “وقعت الفأس على الرأس”، من جهة، وبعد أن نجحنا بقيادته في مواجهتها ميدانياً، من جهة ثانية. وهذا صحيح، ولكن هل يعني ذلك أن الفكر العربي كان قاصراً إلى الحد الذي جعله لا يرى المشكلة إلا بعد الابتلاء؟!
دعونا نعترف بأن جذر المشكلة لا يكمن في طاقاتنا الفكرية كعرب، وإنما في بنيتنا المؤسساتية، سواء تمثلت هذه المشكلة في غياب المؤسسات التي تستفيد من الفكر وتوظفه بشكل عملي ليكون في خدمة السياسي، أو في القصور الذي تعاني منه بعض مؤسساتنا الثقافية والإعلامية. ولا ريب أن هذه الأمور كانت في ذهن السيد الرئيس حين قال: “هل نلتقي اليوم لكي نضيف لقاءً إلى مجموعة لقاءات؟ وهل نلتقي لكي نتذكر الأيام الجميلة؟ أم لنندب الحظ العاثر؟ أم لنمجد شيئاً لا يعيش أفضل أيامه وهو الحالة القومية؟ وهل نلتقي فقط لكي نصدر بيانات سياسية على أهميتها؟ من الضروري أن نتحدث بالسياسة ونصدر البيانات والمواقف تجاه ما يحصل بشكل مستمر، ولكن البيانات السياسية وحدها لا تستطيع أن تعيد الألق لهذه الحالة التي نتحدث عنها الآن. نحن أمام مشكلة حقيقية لها جوانب عدّة، والتعامل فقط مع جانب من جوانبها، وإهمال باقي الجوانب، يعني ألا نصل إلى أي نتيجة، وأن تبقى هذه اللقاءات عبارة عن منصّات صوتية لا تقدّم ولا تؤخّر”.
إذا كانت البيانات السياسية لا تكفي، وإذا كان التعامل مع المشكلة يقتضي دراستها بالعمق، ويفرض على المثقفين أن يفعلوا هذا. وإذا كان السيد الرئيس يدلنا على المشكلة، ويطالبنا بالعمل على معالجتها، فإن السؤال الكبير الذي يطرح نفسه: من أين جاء الخلل؟ وهل تعمل مؤسساتنا الثقافية والإعلامية، أو عملت، بهذا التوجيه، وأدت وتؤدي ما عليها من واجب؟
رغم الضعف الذي تعاني منه مؤسساتنا الإعلامية في مواجهة حشد إعلامي أمريكي صهيوني رجعي لجب لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، حتى أن الحرب التي شنت على قطرنا العربي السوري كان دور التضليل الإعلامي فيها يمثل ما يزيد على 90% من الحرب، خلال السنتين 2011 و2012 على الأقل، إلا أن بعض مؤسساتنا ومنابرنا – ولا نقول الكل – عمل بمنطق الإرجاء والتباطؤ في الأداء، أو تجاهل الخطر الذي يعصف ويقصف، أو غلب منطق “تنفيع فلان على حساب علان”!، أو منطق “الصفّ بالدور” في روتين بيروقراطي عجيب لا يدري أحدٌ كيف جرى تبنّيه في ساعات الخطر – وهي ساعات كلها طوارئ – وجعله فوق كل اعتبار عملي، وكأن الحرب تدور في بلاد الواق واق، وليس عندنا! هذا إذا نحن لم نذهب إلى تفسير هذا السلوك البيروقراطي الإرجائي العجيب على أنه كان مقصوداً من قبل البعض بانتظار أن يتمكن أعداؤنا من “الفريسة”، وفق الوصف الذي صدع به حمد بن جاسم آل ثاني مؤخراً.
هناك حقيقة انتبه إليها أعداؤنا، ولم ننتبه إليها رغم أننا نعيشها باعتبارها جزءاً من الطابع القومي العربي. وهذه الحقيقة تقول إن الإنسان العربي، سواء كان بدوياً أو حضرياً، أمياً أو متعلماً، من بين الصفات المرتبطة بحالته الحضارية عشق الأخبار وتقصّيها. وقد اعتاد على هذه المسألة منذ آلاف السنين، منذ أن كانت القوافل التجارية تتنقل في المنطقة حاملة معها أخبار المدن والقبائل والأمصار، كما أنه كان بحاجة إلى معرفة الأخبار بحكم الحياة البدوية الرعوية التي تتطلب البحث عن أماكن ملائمة للانتجاع، أو منذ أن كان بطن من القبيلة ينتقل إلى موقع آخر فيحتاج بقية أبناء القبيلة إلى معرفة أخباره. وهكذا، فإن أحد ملامح “الطابع القومي العربي” يتمثل في كون السؤال الأول الذي يطرحه المرء متى التقى بآخر: ما الأخبار؟!
هذه الحقيقة عرفها الغرب عنا من بين ما عرف. وكان يعرفها أصلاً من خلال سلوك القبائل السلتية التي هاجرت من بلادنا إلى الغرب، وبعض سليلي هذه القبائل هم بالتأكيد من بين موظفي الأجهزة الأمنية الأمريكية والأوروبية التي تستهدف المنطقة العربية. ومعنى هذا أن معرفتهم بهذه الصفة هي أعمق حتى من معرفتنا، وأن قدرتهم على توظيفها سبقت قدرتنا. وهذا من بين ما جعلهم فاعلين بينما كنا نحن منفعلين.
حين أوجدت ما باتت تعرف الآن بفضائيات الفتن منذ تسعينيات القرن الماضي، أعطيت الطابع الإخباري على مدار الساعة. وراحت تبث الأخبار من العاجل إلى الآجل دون كلل أو ملل. ولم تفعل ذلك بمحض الصدفة، إذ أن المشاهد العربي متى سئم من مشاهدة برنامج ما، أو وجد أنه لا يعنيه، تحول فوراً إلى قناة تبث آخر الأخبار ليرى إن كان قد طرأ شيء. وهكذا نجحت تلك الفضائيات في استقطاب جمهور عريض مجبول على حبّ معرفة آخر الأخبار.
وحين بدأت عاصفة “الربيع العربي” بالهبوب، كانت تلك الفضائيات جاهزة مع مراسليها الميدانيين غير المرخصين، أو غير الشرعيين، ومع أولئك الذين جرى إعطاؤهم وصف “شهود العيان”، ومع عمليات تزييف الصور، وتضخيم الخبر ودعمه بالصورة وما يتطلبه ذلك من تقنيات. وكان جزء كبير من جمهورنا متابعاً لها أصلاً بحكم صفتها الإخبارية. وبالتالي، فإنه لم يشعر سوى أنها تؤدي الوظيفة المعتادة في نقل الأخبار من مواقع الأخبار، وأنها تتعامل مع الأمور بمنطق “الرأي والرأي الآخر”، أو بمنطق “الاتجاه المعاكس”!! ولم تكن الوقائع التي شهدتها تونس ومصر وليبيا ضمن عاصفة الربيع بالوقائع البسيطة، بل كانت في صلب اهتمام الإنسان العربي، الأمر الذي جعله معنياً بمتابعة الأحداث أولاً بأول، مفترضاً أن هذه الفضائيات تؤدي وظيفة إخبارية بريئة. وحين انتقل الاستهداف إلى سورية، وكان على الفضائيات السورية أن تعدّل من أسلوبها في التغطية الإعلامية، ومواجهة ما يحدث من تضليل، كان الكثير من الناس حين يفتقدون من إعلامنا الخبر اليقين، لسبب أو لآخر، أو حين يشعر المواطن بأن هناك شيئاً ما حدث ولم يعلن عنه بعد، سرعان ما يلجأ إلى تلك القنوات الإخبارية لعلها تسعفه لمعرفة ما يحدث من حوله، وكل ما يحدث بالطبع يعنيه ويهمه.
لقد كانت المشكلة في البداية إعلامية قبل كل شيء ، وكانت كل لحظة زمنية فيها – إذا اقترنت بالتجاهل وبدّدت بلا استثمار – تسهم في توسيع حجم الكارثة المدبّر لها أن تطالنا. ولنعترف بأنه من نتائج الهجوم الإعلامي الشرس، مقترناً بالأحداث الغريبة المتناثرة المصنّعة، وحاجة المواطن إلى معرفة ما يحدث من حوله، فإن بعض مواطنينا البسطاء ممن جذبوا لمتابعة ما تقوله فضائيات الفتن، انتهوا إلى مقاطعة الإعلام السوري المحلي مقاطعة كلية. وقد يقول قائل: “إنها مشكلة مضت وانقضت”. ولكننا نقول، من واقع احتكاكنا بالمواطنين، أن هذه المشكلة قد استوطنت في عقول جزء من مواطنينا ولا زالت مستوطنة، وقد لا نعرف أبداً حجم هذه الظاهرة، وربما كانت محدودة، ولكنها قائمة حتى الآن وموجودة. وهذا عملياً جزءٌ مما نبهنا إليه السيد الرئيس في كلمته. فاستعادة هؤلاء المواطنين الطيّبين إلى فضاء الثقة بإعلامهم وأولي الأمر منهم هو جزء من مشكلة الإحساس بالانتماء، وما لحق بها من أرزاء.
هل كنا مستعدين ومؤهلين قبل عاصفة “الربيع العربي” لمواجهة حرب شاملة على النحو الذي واجهناه؟ وهل كانت حالتنا العربية قبل هبوب العاصفة في خير حالاتها؟
قبل عاصفة “الربيع العربي” بسنوات، دعيت لإلقاء محاضرة في المركز الثقافي العربي في مصياف، وكانت غالباً حول معطيات الصراع العربي – الصهيوني. وفي ذلك الحين، التقيت بمدرس فاضل من أبناء مصياف، متخصص في مجال التربية وعلم النفس، لا تسعفني الذاكرة لإيراد اسمه. والمهم أن وجهة نظره في “الحالة” آنذاك تضامنت مع وجهة نظري حول وجود حالة إحباط عُمل عليها لسنوات وسنوات، وأخذت تسيطر على الحالة القومية بشكل عام، وفهمت منه أنه عاكف على إنجاز كتاب حول هذه المشكلة.
إن ما حدث بيننا من توافق على الرأي حول وجود المشكلة – أي مشكلة الإحباط، عدا عن ظواهر أخرى- حفزني في ذلك الحين إلى التفكير بإنجاز بحث معين يتمثل في معرفة الميكانيزمات، أو الأساليب، التي يمكن أن يتبعها الأمريكيون في إثارة الفتن، على أساس الافتراض بأن بلادنا باتت مستهدفة بالفعل بهذه الفتن. ولم يكن هناك أي مرجع أو مصدر مباشر يتناول هذا الموضوع الذي يعتبر سرّاً من الأسرار التي تحتفظ بها الجهات الأمريكية المعنية. ولنتذكر أن واقعة اغتيال رفيق الحريري، عام 2004، كانت من بين الوقائع التي تشير إلى طبيعة الفتن التي يجري تدبيرها لاستهداف العرب. وكان عليّ أن أنجز تلك الدراسة بالاعتماد على مصدر واحد هو العقل وإعمال الفكر لاستخلاص ما يمكن أن يعتمده الأمريكيون من أساليب. ولعل ذلك البحث – على قصره كدراسة مكثفة – هو البحث الوحيد الذي استغرق مني طاقة فكرية مستثمرة على مدى أسبوعين من الزمن، بدلاً من إنجاز بحث آخر في مثل حجمه خلال ساعة أو اثنتين. فالمشكلة هنا أن تتصور كيف يفكر الطرف الآخر، أو العدو، وكيف يمكن أن يتصرف. وما كان يدبّر لنا في ذلك الحين كان يتمّ في الخفاء، وإن كانت هناك مؤشرات قائمة على وجود مخطط يجري التمهيد له بالفعل.
أذكر أن الدراسة تضمنت 13 ميكانيزماً. ولو طلب أحدٌ مني الآن أن أعددها فلن أستطيع دون العودة إلى الموضوع المكتوب والمنشور. وأذكر أن الدراسة، في صيغتها الأولى، تضمنت إشارة إلى دور ما تسمّى بدول الاعتدال العربي وفضائيات الفتن التي كانت تروّج نفسها في ذلك الحين استعداداً لـ “الربيع”، أو بالأحرى للفوضى. لكن هذه الإشارة جعلت الزميل الإعلامي الذي انتهت إليه الدراسة يمتنع عن نشرها. ولم أكن قد احتطت بالمحافظة على نسخة منها. وصدف في زيارة له أن فاجأني بإخراج الدراسة من إضبارة محفوظات لديه، ودفعها إلي لتبرئتها من الإشارة إلى تلك الجهات العربية. فكان إنقاذ الدراسة في تلك اللحظة أهم بالنسبة لي من نشرها، لأنني لو حاولت كتابتها من جديد فقد لا يسعفني العقل للوصول إلى كل تلك الاستنتاجات. فمسألة إعمال الفكر في موضوع ما، دون الاستناد إلى مراجع، قد يتجلى فيها العقل وقد يتخلى. وهكذا “طهرت” الدراسة من تلك الإشارة لدول الاعتدال وفضائياتها، حتى لا يغضب “الشقيق” السعودي، أو القطري، إذا نحن أشرنا إلى خطر استثمارهم من قبل الأمريكي لاستهدافنا. وجرى نشر الدراسة أو استنقاذها بالفعل. وأذكر أن النشر حدث في أوائل العام 2010، أي قبل إطلاق عاصفة “الربيع العربي” بسنة كاملة.
ولقد قمت بعد ذلك، وبعد عاصفة “الربيع” بحوالي سنة من الزمن، بإنجاز دراسة تطبيقية قارنت فيها بين ما كان قد حصل ويحصل على الأرض، وبين تلك الميكانيزمات للتثبت من أنها قد استخدمت جميعاً في مؤامرة “الربيع”، وكان علينا عندئذٍ أن نشير إلى الدور الذي لعبه “محور الاعتدال” الخليجي في خدمة تلك العاصفة بعد أن كان قد أسفر عن وجهه. ومع ذلك، فإنني لا أذكر أنني نشرت هذه الدراسة التطبيقية، ولا أظنها ستنشر، ما لم يتم ذلك في إطار التوثيق أو ضمن كتاب، وإن كنت قد ألقيتها كمحاضرة في المركز الثقافي بأشرفية صحنايا.
لعل هناك من الزملاء الآخرين من انتبهوا منذ ذلك الوقت المبكر إلى ما يُدبّر. ولكن ما الفائدة من الانتباه أو عدمه ما لم تكتمل العلاقة بين المفكر والسياسي والإعلامي، كما قال السيد الرئيس في كلمته؟
إن الإعلامي، في الواقع، ورغم أن دوره هو نشر الرسالة الإعلامية، يتحمل القسط الأكبر من المسؤولية. فعليه أن يتصرف كبارومتر حساس لمعرفة ما يقوله إعلام الأعداء، وما يجب الرد عليه، عدا عن متطلبات الإعلام في إشباع حاجة المواطن إلى المعرفة بما يحدث حوله. ولذلك، قد يتوجب على الإعلامي أن ينبه المفكر أو الباحث إلى المواضيع التي تجب معالجتها، وقد يفعل ذلك بمبادرة منه، أو في ضوء توجيه سياسي له. ولكن كيف يمكن أن نفسر سلوك الإعلامي إذا هو لم يقصّر فقط في فهم ما يحدث، ولكن أيضاً في مواجهة ما يحدث؟
هي ظاهرة عانينا منها للأسف الشديد، وخاصة في الفترة الأولى لبدء الأحداث!
إحدى الصحف مثلاً، وجدت في المقالات التي تحاول تحليل الاحتمالات المتعلقة بعاصفة “الربيع العربي”، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2011، أي قبل أن تصل العاصفة إلى سورية – وهي مقالات تعرض للظاهرة الجماهيرية وكيفية استغلال الأمريكيين لها، وما يحيط بتلك العاصفة من شبهات، لعل المواطن ينتبه إلى السمّ الذي دُسّ في الدسم ، ويتم تطعيمه ضد الخطر قبل أن يصل إلى ساحتنا – على أنها تشكيك بالمنجزات الثورية المتحققة من خلال “الربيع العربي”، ولكونها متحمسة لهذه الإنجازات امتنعت تماماً عن نشر تلك المقالات.
يذكرني موقف هذه الصحيفة، المتحمس لعاصفة “الربيع”، بندوة نظمناها في ذلك الحين في اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين لمناقشة ما يحدث تحت مسمى “الربيع العربي”. أحد الزملاء، وكان يجلس أمامي مباشرة، كان حين أتحدث عن التلاعب الأمريكي بالظاهرة الجماهيرية، ومخاطره، يأتي، مراراً وتكراراً، بحركة في وجهه تعني أنه لا يوافق على ما يسمع. فقد كان من الصعب حقاً، خلال تلك الفترة، تصنيف ما يجري، حتى وإن حاول المرء دراسته على قاعدة الاحتمالات وليس الجزم في إصدار الأحكام. ولكن ما ينطبق على جمهور المتلقين شيء، وما ينطبق على المفكر والسياسي والإعلامي شيء آخر.
أليس غريباً، ونحن نواجه هجمة إعلامية تضليلية شرسة لم يسبق لها مثيل، وتجد من واجبك أن تكتب عن فضائيات الفتن، وأن تنبه الناس إلى أساليبها، وما تهدف إليه من وراء هذه الأساليب، بينما أنت ترى كيف تفترس الناس افتراساً، وأن تقدر بأن الواجب يستوجب إيصال مثل هذه الدراسات إلى الناس عبر كل السبل المتاحة وبالسرعة الكلية، أن تجد أن هناك صحيفة تنشر ما تكتب بشكل فوري، وأخرى تضع المادة في أدراجها لتنشرها بعد ستة أشهر، بينما تحتاج مادة أخرى إلى سنة كاملة عند غيرها لكي تنشر. حولٌ بكامله، أو نصفُ حول، يحتاجه نشر مادة من المؤكد إنها إن نشرت، وإن لم تنشر، لن تغيّر وحدها موازين الصراع . ولكن أما كان يمكن، لو نشرت في وقت كتابتها، أن تسهم في إنقاذ البعض – مهما كان هذا البعض قليلاً أو كثيراً – من براثن التضليل؟ هل يكون الإعلامي الذي تلكأ في النشر حولاً، أو نصف حول، قد أدى واجبه كإعلامي، أم يكون قد أدى دوراً مضاداً للإعلام الوطني؟ ما معنى نشر الموضوع بعد أن يكون “من ضرب ضرب ومن هرب هرب”؟
على أية حال، إن من نشر الموضوع عن فضائيات الفتن، بعد نصف حول، تحول إلى “الاتجاه المعاكس”، وارتحل. وهذا يعني أن المسألة لم تكن مجرد إهمال، أو جهل بواجب العمل الإعلامي ومتطلباته، وما يجب أن يتلمسه الإعلامي من حساسية تجاه الزمن حتى أن عليه أن يتعامل مع الإعلام بالدقائق والثواني. ولكن، ونحن نشير إلى واقعة من هذا النوع، علينا ألا ننسى الحقيقة القائلة بأن الكوادر العاملة في الإذاعة والتلفزيون قد استنفرت بالفعل لمواجهة أكبر التحديات، وأدت دوراً عظيماً لا يمكن نكرانه في مواجهة الحرب العدوانية، وقدمت العديد من الشهداء أثناء قيامهم بأداء الواجب الإعلامي، وكانت عند حسن ظن السيد الرئيس حين استنهضها في زيارة لمبنى المؤسسة لتسجل الانتصار على الإعلام المضاد.
أمام وقائع عشناها من هذا النوع، لا بدّ لنا وأن نعترف بصحة التشخيص الذي قدّمه السيّد الرئيس بشار الأسد، حين قال إننا “كنا منفعلين بينما كان الطرف الآخر فاعلاً”. ففي جميع الأحوال، كان علينا أن نمارس الدفاع عن النفس في مواجهة حرب من نوع جديد تحتاج معرفة أبعادها الحقيقية إلى البحث والدراسة والتدقيق، أو حتى إلى أن نعيش الوقائع ونواجهها بكل ما فيها من حلو ومرّ.
والآن، ونحن نقترب من نهاية السنة السابعة من الحرب التي استهدفتنا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو التالي: هل بدأت مؤسساتنا الثقافية بالتوثيق لتلك الحرب؟ وهل تسعى هذه المؤسسات إلى تكليف باحثين ومفكرين يخضعون هذه الحرب، بكل ما فيها من المعطيات، للدراسة؟
لا يبدو حتى هذه اللحظة أن نيّة التوثيق ضمن المجال الثقافي واردة. وما نراه يحدث، حتى الآن، أن مبادرات من إخوة في لبنان ودور نشر لبنانية توثق أو تترجم ما كتبه صحفيون غربيون تعتبر كافية، أو أنه من غير الواضح من هي المؤسسة، أو الجهة، المعنية بتوثيق الحرب ودراستها، وهي مسألة أكبر من أي جهد فردي. كما أن من المستحيل أن يعتمد بصددها على القطاع الخاص، أي دور النشر الخاصة. وفوق هذا، فإن هناك معطيات تحتاج إلى النشر قبل أن ينشأ واقع جديد يفرض علينا مجاملة هذا الطرف الخارجي أو ذاك. فإذا دخلنا في باب المجاملة، لاعتبارات سياسية وإعلامية، فقدنا إمكانية التوثيق الصحيح والدراسة الجدية. فإذا كنا قبل عاصفة “الربيع” مضطرين إلى عدم الإشارة إلى دور “محور الاعتدال” في خدمة المخطط الأمريكي الصهيوني في إثارة الفتن، فإننا، في حالة المصالحات، قد نجد أنفسنا في وضع مماثل ملزمين بموجبه ألا نفسد طقس المصالحات العربية أو غيرها. وباختصار شديد، فإن التقصير في التوثيق الآن يمكن أن يتحول إلى تقصير دائم، أو أن يجعل هذا التوثيق مستقبلاً قاصراً عن ذكر كل الحقائق.
إن التوثيق لمثل هذه الحرب الكبرى هو، في الواقع، ضرورة لا بد منها قبل الدخول على خط دراسة هذه الحرب من مختلف جوانبها. فالمسألة ليست مسألة أحداث وقعت في الماضي القريب ويطوى عليها الستار، بل هي مسألة تجربة في الحرب هي الأولى من نوعها على صعيد العالم كله، وعلى مستوى التاريخ البشري كله. ومن دراسة تجارب هذه الحرب، بجميع أبعادها، سيكون بوسعنا أن نتحوّل من منفعلين إلى فاعلين، أو على الأقل أن نجد السبل التي تحول دون أن يكون الغرب الذي يستهدفنا فاعلاً بينما نكون نحن منفعلين.
المقال السابق
المقال التالي