بالنسبة لمتابعي وسائل الإعلام التابعة لهيئة الإذاعة البريطانية (BBC) فإن “الدولة الإسلامية” قامت واستمرت في الوجود لسنوات قليلة قبل أن يسدل على وجودها في “البوكمال”. والسبب هو أن الـ BBC رفضت، وبكل إباء وشمم، أن تتحدث عن إرهابيي داعش، أو إيزيس (ISIS) كما تسمّى في الغرب، وأصرّت على أن تتحدث عن “الدولة الإسلامية” وكأنما هي أولاً حقيقة واقعة، وكأن العالم الذي نحن فيه لا توجد فيه العشرات من الدول الإسلامية.
من الواضح أن هذا النهج الإعلامي الذي اتبعته الـ BBC كان مدروساً ومقصوداً، وأن الغاية من ورائه كانت إبراز دولة داعش المزعومة وكأنما هي النموذج والمثال لـ “الدولة الإسلامية”، وأن ما عداها من الأنظمة السياسية في العالم العربي والإسلامي لا يرقى إلى مستوى “الدولة الإسلامية” المتمثلة بدولة داعش. وما دامت دولة داعش هي “الدولة الإسلامية” الوحيدة الفريدة الجديرة بهذه التسمية، فإنه يترتب على ذلك أمران أساسيان فيما يتصل بعملية تزييف الوعي:
– أولهما أن من واجب المسلم الحق، حيثما وجد في هذا العالم، أن ينحاز إلى “الدولة الإسلامية”، وسيكون أكثر إيجابية وتفاعلاً في حالة التحاقه بهذه الدولة “مجاهداً”.
– ثانيهما أن استهداف هذه “الدولة الإسلامية” هو استهداف للمسلمين، أو بالأحرى لأنموذج ومثال الدولة عند المسلمين، وهذا ما يوجب على المسلمين المسارعة إلى مساندة هذه الدولة في مواجهة مستهدفيها.
قد يتساءل البعض: كيف يمكن التوفيق بين سياسة إعلامية غايتها تحريض المسلمين على الانخراط فيما يدّعون أنه “الجهاد” لحساب “الدولة الإسلامية” وبين ذهاب وزارة الخارجية البريطانية إلى مجلس الأمن الدولي، بالتزامن مع إعلان دولة داعش، لاستصدار قرار يقضي بمحاربتها، وقد تشكل في إثره التحالف الأمريكي الستيني الذي يدّعي محاربة داعش، والذي انخرطت فيه بريطانيا؟
والجواب على هذا السؤال بسيط، وهو أن هذا القرار وهذا التحالف هما من “عدّة الشغل”، كما يقال! فمن أجل إقناع البسطاء والسذج وقليلي الوعي من المسلمين بأن دولة داعش هي بالفعل “الدولة الإسلامية” الداعشية، فإنه لا بدّ من إظهارها على أنها مستهدفةٌ من قبل أعداء المسلمين، وعلى رأسهم أمريكا. وبهذا فإن الحرب على “الدولة الإسلامية”، حتى ولو من قبل الدول الإسلامية، تتمُّ شيطنتها وإظهارها على أنها غير شرعية. وهذا من شأنه أن يعزز عملية الاستقطاب والتجنيد لحساب داعش. وبمثل هذا الأسلوب القائم على خلط الأوراق والخداع، تصير مسألة التجنيد للإرهاب أكثر سهولة ويسراً.
إن الملاحظة التي تستحق الوقوف عندها، هنا، بشيء من التمعن، ونحن نرصد ظاهرة داعش ودولتها المزعومة وكيفية التعامل معها، تتمثل في الحقيقة القائلة بأن أحداً لم يقل بأن الكيان الصهيوني هو طرف في التحالف الأمريكي الستيني. فهذا الكيان تصرّف طوال الوقت على قاعدة الانحياز للإرهابيين ومساعدتهم كلما أمكن ذلك، وبشتى السبل والوسائل. وعلى هذا النحو، فإنه لا يكون قد نأى بنفسه فقط عن التحالف الستيني، رغم ارتباطه العضوي بهذا التحالف كما هو معلوم، ولكنه أيضاً ظهر كنصير للإرهاب التكفيري، وكمؤيد ومستفيد من “الدولة الإسلامية” الداعشية! وقد ضمن بذلك عدم استعداء الإرهابيين، بل ضمن انحيازهم لبناء علاقات معه، وكأن مثل هذه العلاقات من طبيعة الأشياء.
إن الحقيقة التي لا يمكن لأحدٍ أن ينكرها هي أن قيام “الدولة الإسلامية” الداعشية كان أمراً مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالاستراتيجية الصهيونية في المنطقة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن قيام ما أسميت بـ “الدولة الإسلامية” كان يمكن أن يتم، وبسهولة أكبر، في مكان آخر غير المنطقة الواقعة بين سورية والعراق. فمثلاً كان بوسع الإرهابيين أن يعلنوا عن قيام “دولة إسلامية” في جزء من أفغانستان حتى بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، مع ملاحظة أن دولة طالبان في أفغانستان كانت قد قامت لسنوات، ومع ذلك لم يخطر ببال القاعدة ولا ببال مشغليها أن يطلقوا على دولة طالبان صفة “الدولة الإسلامية”، وهي ظاهرة تستوجب الوقوف عندها والتأمل. وكان بوسع الإرهابيين أيضاً أن يعلنوا عن قيام مثل هذه الدولة في ليبيا، بعد الإجهاز على العقيد معمر القذافي في تموز 2011، ولكنهم لم يفعلوا. وهناك فرص أخرى أتيحت للإرهابيين لإعلان “دولة إسلامية” ولم يستثمروها، بما في ذلك تلك الفرصة التي أتيحت في البلقان حين جرى تسخيرهم للمساهمة في حرب قادت إلى تقسيم تلك البلاد.
لماذا إذن تجاوزوا كل الفرص التي أتيحت لهم على مدى عقدين من الزمن أو أكثر، ليستقر القرار على إعلان قيام هذه “الدولة” في المنطقة الواقعة بين سورية والعراق، محاولين جعل سيطرتها تمتدّ من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، متخذين من البادية الواسعة منصات انقضاض على المناطق الحضرية في الغرب والشرق، وعلى ضفاف دجلة والفرات والخابور؟
لقد فعلوا ذلك بهدف عزل سورية عن العراق عزلاً تاماً، وهو أمر يعني أيضاً عزل إيران عن سورية. وهذا العزل إنما يخدم الاستراتيجية العسكرية الصهيونية بالدرجة الأولى خدمة مباشرة، فاختيار موقع “الدولة الإسلامية” الداعشية، إذن، لم يأتِ هكذا بالصدفة، بل كان نتاج تخطيط صهيوني وحسابات صهيونية.
والواقع أن خطة العزل من خلال دولة داعش المزعومة لم تكن الهدف النهائي للمخطط الصهيوني الشيطاني الذي قاد الأمريكيون عملية تنفيذه في المنطقة، فقد كان الهدف الفعلي للمخطط هو تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل. وكان هذا التمكين يتطلب الإجهاز على سورية بواسطة العصابات الإرهابية المتعددة، ثم انتقال هذه العصابات لاستهداف إيران، أو على الأقل لمشاغلة إيران بمواجهة الإرهاب الذي يحاول التسلل إليها من اتجاهات متعددة. وبالطبع، فإن احتفاظ الإرهابيين بقوتهم، ولو إلى حين – كما كان أصحاب المخطط الشيطاني يأملون – كان من شأنه أيضاً شل العراق ما لم يؤدّ إلى تمزيقه شذر مذر. وكل هذا يعني عملياً التخلص من القوى التي تتصدّى للمشروع التوسعي الصهيوني لحساب هذا المشروع.
هنا نستطيع أن نجمل صورة المخطط المرسوم بالصيغة التالية: الوهابيون يمهدون الأرض أمام اليهود الصهاينة لتمكينهم من تحقيق كامل أحلامهم، أو أنهم يؤدون دور القاطرة التي تقطر من ورائها عربات المشروع الصهيوني.
مثل هذا المشهد، الذي يؤدي فيه الوهابيون دور القاطرة لحساب اليهود الصهاينة، لن يكون السابقة الأولى في التاريخ الحديث.
يقول الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان في مذكراته: “إن إنشاء الكيان السعودي هو مشروع بريطانيا الأول، وأن المشروع الثاني من بعده هو إنشاء الكيان الصهيوني بواسطته”، ويورد أنه في يوم 11 آذار 1932، قال له ونستون تشرشل: “أريدك أن تعلم أنني وضعت مشروعاً لكم ينفذ بعد نهاية الحرب {الحرب العالمية الثانية} يبدأ بأن أرى ابن سعود سيداً على الشرق الأوسط، وكبير كبرائه، على شرط أن يتفق معكم أولاً، ومتى قام هذا المشروع عليكم أن تأخذوا منه ما أمكن، وسنساعدكم في ذلك. وعليك كتمان هذا السر، ولكن انقله إلى روزفلت، وليس هناك شيء يستحيل تحقيقه عندما أعمل لأجله أنا وروزفلت رئيس الولايات المتحدة”.
قيام مملكة آل سعود، إذن، كان القاطرة التي لا بدّ منها لتمكين الصهاينة من إقامة كيانهم في فلسطين عام 1948. وتمكين هذه المملكة من نشر إرهابييها الوهابيين بات هو القاطرة التي لا بدّ منها لتمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل.
ما الذي يربط بين الطرفين السعودي والصهيوني اليهودي على هذا النحو؟
يقول جون فيلبي، الذي صار وهابياً يحمل اسم محمد عبد الله فيلبي، في مذكرته: “عندما قررت الذهاب إلى الحجاز في مهمة حج لقضاء حاجة، حمّلني بن غوريون رسالة إلى عبد العزيز آل سعود نصّها: “يا صاحب الجلالة.. يا أخي في الله والوطن. إن مبلغ العشرين ألف جنيه إسترليني ما هو إلا إعانة منا لدعمك فيما تحتاج إليه في تصريف شؤون ملكك الجديد في هذه المملكة الشاسعة المباركة. وإني أحب أن أؤكد لك أنه ليس في هذا المبلغ ذرّةٌ من الحرام، فكله من تبرعات يهود بريطانيا وأوروبا الذين دعموك لدى الحكومة البريطانية”. ويستطرد فيلبي قائلاً: “وقد استفسر مني عبد العزيز عن بعض العبارات الواردة، فأفهمته أن اليهود هم حكام بريطانيا بالفعل. إنهم الحكم والسلطة والصحافة والمخابرات، ولهم النفوذ الأقوى، وكانوا وراء دعمك، وكانوا وراء الاستمرار في صرف مرتبك حتى الآن عن طريق المكتب الهندي، كما كانوا في السابق وراء قطع المرتب لاختبارك هل ترفض أو لا ترفض التوقيع بإعطاء فلسطين لليهود”. وقد حملني عبد العزيز رسالة إلى بن غوريون هذا نصها: “إننا لن ننسى فضل أمنا وأبينا بريطانيا العظمى، كما لم ننس فضل أبناء عمنا اليهود في دعمنا وفي مقدمتهم السير بيرسي كوكس، وندعوا الله أن يحقق لنا أقصى ما نريده، ونعمل من أجله، لتمكين هؤلاء اليهود المساكين المشردين في أنحاء العالم لتحقيق ما يريدون من مستقر لهم يكفيهم هذا العناء”.
يبدو أن “المستقر” لم يعد يتسع لليهود “المساكين” من “أبناء العم” حسب تعبير عبد العزيز، أو “الإخوة في الله والوطن” حسب تعبير بن غوريون، فصار مطلوباً من القاطرة الوهابية أن تسهم في تحقيق أحلام هؤلاء اليهود في أخذ ما يريدون من أرض العرب. وهذا ما يفسر تلك الفتاوى التي صدرت مؤخراً عن عبد العزيز آل الشيخ، سليل محمد بن عبد الوهاب، الذي وصل به الأمر إلى حدّ تجريم المقاومة والمطالبة بمحاربتها، ودعوة الفلسطينيين إلى عدم اعتراض انتهاك اليهود لحرمة ثالث الحرمين الشريفين متمثلاً بالمسجد الأقصى في القدس. كما يبدو أن أبناء وأحفاد عبد العزيز أرادوا أن يردوا لليهود لقاء ما أرسلوا لعبد العزيز من المال الذي لم يمسّه “الحرام”. ولا ندري عن أي حرام تحدث بن غوريون إذا كان قد اعتبر، ومعه عبد العزيز والإنجليز، قتل وتشريد عرب فلسطين، وعرب آخرين، ومصادرة أراضي وممتلكات وبيوت العرب، عملاً من أنواع الحلال الذي يبيحونه لأنفسهم، حيث لا حرمة في نظرهم إلا لحياة اليهودي وممتلكاته. فما الذي جمع بين عبد العزيز واليهود حتى صار الإنجليزي بحاجة إلى تأكيد سيطرة اليهود على بريطانيا نفسها من أجل إقناع عبد العزيز بأن ما يفعله الانجليز هو في صالحه وصالح “إخوانه”، أو “أبناء عمه” اليهود!
إنها القاطرة الوهابية للمشروع الصهيوني. وبعد أن فشلت هذه القاطرة في إيصال الصهاينة إلى غايتهم من خلال الإرهاب التكفيري، خرج آل سعود ليحاولوا إقناع الفلسطينيين بما أسموها بـ “الصفقة الكبرى”، لتكون هذه الصفقة سبيلاً لتمكين الصهاينة من السيطرة على المنطقة من خلال التطبيع، وما يواكب هذا التطبيع من هيمنة اقتصادية. فلعل هذا في نظرهم هو البديل المؤقت للاجتياح الذي فشلوا في تحقيق أهدافه.