كان يمكن أن نقول “ما هكذا تورد الإبل يا سعد” لولا أن المعطيات كلها ترجّح أن سعداً لم يورد إبلاً، ولم يحدُ قافلة، ولا حتى امتلك زمام أمره، وإنما وجد نفسه في بلاد الحجاز محجوزاً، وفي بلاد عسير في موقف جدّ عسير، وفي بلاد نجد بلا من ينجد. أملي عليه أمرٌ بأن يقرأ نصاً كتبه السعوديون ولعله لم يعرف مضمون هذا النص إلا وهو يتلوه أمام عدسة الكاميرا، ليبثوه بعد ذلك على الناس، ولعله أدرك وهو يؤدّي هذا العمل أنه “سبق السيف العزل”! أرادوا أن يقيلوه فأقالوه، وبادّعاء أنه هو من اختار الاستقالة بما أرادوا أن يقوّلوه قولوه، وأوزاراً فوق طاقته حمّلوه. ومهما كانت النتائج من وراء هذا الفعل فإنهم عن لعبة السياسة – وربما إلى الأبد – أبعدوه، وكأنهم بهذا الفصل الغريب العجيب كسياسي أعدموه.
لا غرابة وقد جرى الأمر على هذا النحو أن تصير سالفة الحريري سارية في البلاد، وموضع التفكر في أصلها وفصلها بين العباد، خاصة وأنها جاءت في يوم توالت فيه الأخبار عن أمراء ورأسماليين سعوديين كبار أقيلوا، أو جرى توقيفهم، بتهم الفساد، فهل احتسبوا سعد الحريري على أحد من هؤلاء فأخذوه بجريرته؟ أم أن له ملفاً منفصلاً عن ملفاتهم؟ أم أن ما فعلوه به يخضع لحسابات أخرى تتعلق بالدور الذي تمارسه السعودية في المنطقة؟ وهل استهدف سعد الحريري بصفته يحمل الجنسية السعودية، رغم كونه رئيس حكومة لبنان فأرادوا تجريده من صفته الرسمية قبل أن يحاسبوه بصفته السعودية؟
أسئلة كثيرة راحت تتزاحم في رؤوس المحللين السياسيين والسياسيين، وما زاد في تزاحمها أن سعداً – وقد صار محل اهتمام مطاردي الأخبار – قد اختفى بعد استقالته عن جديد الأخبار، أو لنقل عن الأنظار، ولم يرد عنه بعد الاستقالة توضيح أو تلميح، ولم يعد الناس يعلمون أهو محتجز، أم أنه أراد أن يستريح ويريح، وألا يورّط بالمزيد بعد أن ورّطه السعودي في إعلان ما لم يكن يريد؟!
مهما كانت الحقيقة وراء ما حدث، فإن النصّ الذي تلاه أو فرضت عليه تلاوته، وما تضمنه من تبريرات وادّعاءات للاستقالة – بما في ذلك ادّعاء وجود من ينوي اغتياله، وكأن رئيس حكومة لبنان لا يستطيع، إن صحّ هذا الادعاء، أن يلاحق مستهدفيه من خلال أجهزة الأمن اللبنانية، بدلاً من الذهاب ليعلن عن ذلك من السعودية – أشعر الناس بأن ما جرى قد يكون مشروع فتنة. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه في هذه الحالة: هل إثارة الفتنة في لبنان هو الهدف السعودي المرتجى، أم أن هناك أهدافاً أخرى أوسع يراد تحقيقها من خلال العبث بأمن واستقرار لبنان؟
إن ما فعله سعد، أو بالأحرى ما فرض عليه السعوديون أن يفعله، يذكرنا بما سبق أن فعله مسعود البرزاني حين أصرّ على إجراء الاستقتاء بهدف الانفصال، مختلقاً أسباب ودوافع الاشتباك على مستوى الإقليم ومحيطه، ثم أعلن استقالته والتفرغ لقيادة البشمركة، بما يزيد من احتمالات الصدام بدلاً من تقليصها. وبالطبع، فإننا لا نملك حتى الآن مؤشرات على ما يراد بلبنان من وراء حمل سعد على الاستقالة، وما يمكن أن يعقب ذلك من ممارسات يفرضها الطرف الذي حمله على الاستقالة.
ثم إن ما فعله سعد، أو فرض عليه أن يفعله، يشبه ما فعله عبد ربه منصور هادي في اليمن، حين أعلن استقالته في صنعاء، ثم رحل إلى الرياض ليبرر حرب “عاصفة الحزم” على اليمن بذريعة إعادة الشرعية المتمثلة برئيس مستقيل؛ والفارق أن سعداً أعلن استقالته من الرياض، لكن دهاة المكر والاحتيال المتسترين تحت الكوفية والعقال، في مملكة الرمال، لن يعدموا، وهم يتابعون استهدافهم للبنان، إمكانية تحويل رئيس الحكومة الذي استقال إلى رمز للشرعية، بعد أن يحاولوا إغراق لبنان في مشكلة سياسية بممارسة كل الضغوط الممكنة على أطراف لبنانية لعرقلة تشكيل حكومة جديدة، وإن كان واضحاً، كل الوضوح، أن لعبة من هذا النوع لن يكفي لتنفيذها الاستعصاء السياسي وإنما لا بد من اللجوء إلى وسائل أخرى.
إن المسألة التي ينبغي التفكير بها في ضوء ما حدث هي أنه ليس من المعقول أن تكون السعودية قد ضحّت بورقة رئاسة الحريري للحكومة، هكذا، لمجرد العبث أو تسجيل موقف ما، لا أكثر ولا أقل، إلا إذا كان هناك استهداف شخصي للحريري، وهو الأمر الذي لم تتضح أبعاده بعد. وعلينا مبدئياً أن نتوقع محاولة لتأزيم الوضع في لبنان، ولكن هل سيأتي هذا التأزيم على أساس الإيقاع بين القوى السياسية اللبنانية بشكل مباشر، أم أن هناك أساليب أخرى محتملة يمكن أن يلجأ إليها السعوديون ومعهم الأمريكيون لتأزيم الوضع في لبنان؟
في الإجابة على هذا السؤال علينا أن نتذكر بأن خطة بندر – فيلتمان، التي اكتملت تفاصيلها التنفيذية عام 2008، لا بد وأن تكون قد شملت لبنان إلى جانب الأقطار العربية الأخرى، وخاصة سورية. ويكفي أن فيلتمان كان يشغل وظيفة السفير الأميركي في لبنان في ذلك الحين للوصول إلى الاستنتاج المنطقي القائل أنه لا يعقل أن يكون شريك بندر في وضع الخطة دون أن يكون لبنان مستهدفاً بالخطة. وحين نتحدث عن خطة بندر – فيلتمان، فنحن لا نتحدث فقط عن أحزاب سياسية يجري الإيقاع بينها، وإنما عن خلايا وشبكات تتألف من أفراد ينتمون إلى كل الطوائف والإثنيات والأحزاب، بل وأيضاً من تجار ورأسماليين، ومن مجرمين عاديين ومرتزقة ومنتفعين؛ وهؤلاء ينتظمون في خلايا متحكم بها من قبل أجهزة الأمن المساهمة في تنفيذ الخطة، وهذه الأجهزة هي التي تحدد لهذه الخلايا المهام التي يتوجب عليها تنفيذها متى طلب منها التنفيذ. إن هذه الخلايا قد تبقى في حالة السكون لسنوات، دون أن يطلب منها القيام بعمل معين، إلى أن تحين اللحظة المناسبة لبدء التنفيذ. وبالتالي، فإن الكشف عن هذا اللون من الخلايا النائمة هو من الأمور الصعبة بالنسبة لأجهزة الأمن التي يفترض أن تكون معنية بتفكيكها وتفادي خطرها؛ فإذا ما تقرر البدء بإثارة الفتنة، بدأت هذه الخلايا النائمة بتنفيذ ما يردها من تعليمات، وراحت تمارس ما هو مطلوب منها من مواقعها المتعددة، ليبدو الأمر وكأن ما يحدث عملياً على الأرض يخضع لمنطق الفعل ورد الفعل، وأنه مجرد ردود أفعال يقدم عليها بعض الأفراد، وليس تنفيذاً لمخطط مرسوم حتى يصل الوضع إلى حالة التصعيد التي يتوخاها اللاعبون. ولعل هذا هو السبب الذي جعل السيد حسن نصر الله، في كلمته حول استقالة الحريري، يحرص بداية على التنبيه إلى أنه لا يجوز لأي طرف من الأطراف أن يقدم على تصرفات من شأنها توتير الأجواء في العلاقات بين المكونات الاجتماعية، ذلك أن مثل هذا السلوك البريء من قبل هذا الطرف أو ذاك يمكن أن يستغل من قبل الخلايا النائمة لتصعيد الوضع إلى حالة تقود إلى تصنيع الفتنة.
دعونا نسلم بأن هذا هو الخطر الأساسي الذي يمكن للبنان أن يواجهه على خلفية استقالة الحريري، أي خلق أوضاع يجري تصعيدها من قبل العملاء وخلاياهم النائمة بشكل متعمد، مع ازدياد حجم الجرائم التي تبدو جنائية، كالسلب والاختطاف وأخذ الخوّات وإحراق بعض المحلات والشركات، وما إلى ذلك من تصرفات غايتها إغراق الإجهزة الأمنية في مواجهة جرائم استثنائية، ثم الدخول وسط هذه الأجواء إلى محاولة الإيقاع بين الطوائف والمكونات الاجتماعية، ودفع الأمور باتجاه صدامات واسعة يصعب التحكم بها وبنتائجها. وإذا وضعنا في الاعتبار الحقيقة القائلة بوجود ترابط عضوي وتكامل بين أمن لبنان وأمن سورية، فبوسعنا أن ندرك أن محاولة أخذ لبنان في هذا المنحى ستكون بمثابة استئناف لمحاولة المس بأمن سورية، بعد الهزائم الكبيرة التي لحقت بعصابات الإرهابيين التكفيريين فيها. إن لبنان سيكون في مثل هذه الحالة بمثابة “ثقب أسود” جديد يضاف إلى الثقوب السوداء التي تحاول أمريكا إيجادها في المنطقة لمواصلة مخططها الرامي إلى نشر الفوضى، بعد أن فشلت الأدوات التي استثمرتها حتى الآن في تمكينها من تحقيق هذه الغاية.
وعلى ذلك، نستطيع القول بأن استقالة الحريري من الرياض لا يمكن أن تكون مجرد نزوة سعودية غير محسوبة، فما لم يثبت أن تلك الواقعة تستهدف شخص الحريري بالذات، فإنها تستهدف حتماً أمن لبنان، وكل ما يترتب على هذا الاستهداف من نتائج.
المقال التالي