ما هي مبررات الاهتمام بدراسة حدث بعد مرور مئة عام على وقوعه؟ هناك مبررات عديدة لا يمكن فهمها إلا من خلال تحليل الوضع الذي مهد لوقوع هذا الحدث، مع الانتباه إلى ضرورة تفادي مطبات تحليله من منظور ما تلاه من تطورات أضفت عليه سمات لم تكن لتخطر على بال أحد ممن ساهموا في صنعه تاريخياً. وفيما يخص تصريح بلفور، نلاحظ وجود سمات مشتركة بين الظروف التي مهدت لإصداره، وما عاشته منطقتنا في فترة ما قبل الحرب الأوروبية الكبرى عام 1914، وصولاً إلى صدور الإعلان عام 1917، وبين الظروف التي تعيشها هذه المنطقة حالياً. إن الصراع على الشرق الأوسط لم ينته بعد، ومازال معظم اللاعبين، الذين تجابهوا قبل قرن من الزمان، في هذه البقعة الاستراتيجية من العالم، مصرين على التشبث بمحاولة إيجاد موقع قدم في شرق البحر المتوسط. ومن غير الممكن فهم أحداث تلك المرحلة التاريخية الهامة إلا من خلال مفهوم “اللعبة الكبرى”، وهي التسمية التي كانت شائعة لوصف الصراع الروسي البريطاني للسيطرة على الشرق، حيث امتدت المنافسة من شواطئ البحر المتوسط حتى جبال أفغانستان بوصفها الممر البري المفضي إلى الهند، “جوهرة التاج” البريطاني. كان الوضع شديد التعقيد جراء تداخل المعلومات الاستخباراتية مع الأوهام، وبسبب تشابك الطموحات الشخصية مع المصالح الدولية، وبسبب بروز شخصيات مغامرة وغامضة، مثل الكولونيل البريطاني لورانس، ومثل الضابط محمد الفاروقي الذي ادعى أمام السلطات البريطانية أنه يمثل “جمعية العهد”، وأنه يتحدث باسم كبار الضباط العرب في الجيش العثماني. كانت الولاءات تتبدل بشكل مستمر وبذرائع مختلفة، لكن الأمر اللافت كان تهميش دور ممثلي سكان منطقة الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وإلى حد لا يقبله العقل. وكانت كل القوى الأوروبية الكبرى تدعي الحرص على مصالح سكان سورية الكبرى التي امتدت حدودها من رأس الناقورة جنوباً حتى جبال طوروس شمالاً، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسط غرباً حتى حدود إيران، أي المنطقة التي عرفت بالهلال الخصيب؛ كما هو الحال اليوم، حيث تتوالى الاجتماعات تحت زعم “مساعدة الشعب السوري”.
إذن لا بد للباحث من التروي والتوقف عند بعض المصطلحات، واستعراض وجهات النظر المختلفة وخلفياتها، والاختلافات في تفسير نصوص الاتفاقيات والمعاهدات، السرية منها والعلنية؛ فعندما كان يجري الحديث عن العرب، كان البريطانيون وأتباعهم يقصدون الناطقين باللغة العربية من سكان ولايات الدولة العثمانية، وهو ما يستبعد حكماً كل الناطقين باللغة العربية في بلدان شمال أفريقيا، من مصر وحتى المغرب الأقصى؛ وعندما كان البريطانيون يتحدثون عن استقلال العرب، كان قصدهم استقلال العرب عن الأتراك وإلحاقهم بحكومة القاهرة. وبالعودة إلى تصريح بلفور، نجد من الضروري التركيز على أنه لم يتخذ شكل وعد، الأمر الذي أضفى عليه لاحقاً طابعاً معنوياً تم استثماره بشكل مدروس، بل كان بمثابة إخطار على شكل رسالة من اللورد جيمس بلفور إلى اللورد روتشيلد حملت، فيما بعد، اسم “وعد بلفور”.
تم لاحقاً تحوير التصريح، والترويج له على أنه وعد بهدف منحه شحنة معنوية، وربطه بوعود العهد القديم. ومن الجلي أن نص التصريح لم يتضمن أي تعهد واضح، حيث لم يتطرق إلى موقع الملاذ القومي، ولا إلى حدوده، ولم تكن كلمة فلسطين، وقتها، تحمل أي مضمون جغرافي، بل كانت تستخدم للإشارة إلى مساحة غير محددة، في ممتلكات الدولة العثمانية، تتقلص أحياناً لتقتصر على الأماكن المقدسة، وتتسع أحياناً لتشمل سورية الداخلية. لكن المؤكد أن التصريح لم يقترح إقامة دولة قومية وفق المفاهيم الغربية في مناطق تضم خليطاً من الأعراق والديانات والطوائف التي عاشت، طوال قرون، في دول متعددة الأعراق لا تحكمها سلطة مركزية مباشرة.
ومن الضروري الانتباه أيضاً إلى أن الحركة الصهيونية لم تكن منسجمة وموحدة إزاء التمييز بين الصهيونية اليهودية والصهيونية الأوروبية، وبشكل خاص الصهيونية البريطانية، ذلك أن الصهيونية اليهودية كانت حديثة العهد نسبياً، وقد نشأت بشكل أساسي في مدينة أوديسا، عام 1881، بين صفوف اليهود الروس الذين عانوا من اضطهاد الحكومات القيصرية، ونظمت عملية هجرة اليهود إلى فلسطين لإقامة مستوطنات زراعية قائمة على مبدأ الاكتفاء الذاتي. وكانت هذه الحركة، في السنوات التي سبقت تصريح بلفور، ضعيفة للغاية، حيث كان يهود معظم دول أوروبا قد نجحوا في الاندماج في مجتمعاتهم، وتمكنوا من توطيد مواقعهم في أهم المؤسسات المالية والمصرفية، وفي العديد من القطاعات الصناعية والتجارية، وعلى سبيل المثال، كان في الولايات المتحدة، عام 1917، ثلاثة ملايين يهودي، لم يشارك سوى اثتي عشر ألفاً منهم في نشاط الحركة الصهيونية؛ أما الصهيونية الأوروبية فكانت ذات جذور عميقة نتيجة ارتباطها بالعهد القديم الذي شكل قاعدة مهمة في العقل الأوروبي على الرغم من كل الخطابات الجوفاء عن العلمانية.
الصهيونية اليهودية
كانت فكرة إقامة “ملاذ قومي” لليهود في أرض فلسطين جديدة على معظم اليهود الذين عملوا، طوال قرون، لتثبيت مواقعهم في مختلف بلدان العالم، ولم تكن لديهم أية تصورات، أو أوهام، حيال إقامة دولة خاصة بهم. ويمكن القول إن تيوودور هرتزل (1860 – 1904)، من سلالة يهود السفارديم، كان المؤسس الحقيقي للصهيونية اليهودية.
كان هرتزل صحافياً نمساوياً علمانياً سافر إلى فرنسا لتغطية محاكمة الضابط ألفريد دريفوس، التي قسمت المجتمع الفرنسي، وكانت بمثابة التعبير عن صراع اجتماعي وسياسي في عهد الجمهورية الفرنسية الثالثة، حيث تم اتهام النقيب دريفوس، وهو فرنسي الجنسية يهودي الديانة، بالخيانة، وحكم عليه بالسجن في جزيرة غوايانا. كانت المحكمة مهزلة قضائية شابها الكثير من التجني على المتهم، الأمر الذي صدم هرتزل، اليهودي المندمج في مجتمعه، ودفعه إلى التفكير بـ “المسألة اليهودية”، وبضرورة إيجاد حل غير الاندماج والانصهار في مجتمعات أوروبا الشرقية والغربية؛ وسرعان ما تمكن من صياغة أفكاره الجديدة في كتاب “دولة اليهود” الذي نشره في فيينا، عام 1896، وعرض من خلاله العوامل التي رأى أنها ساهمت في إيجاد مسألة يهودية عالمية، وطرح فيه برنامج حل من خلال هجرة اليهود غير السعداء، وغير المرغوب بهم، إلى أرض تتمتع بالاستقلال الذاتي على أساس نظام وطني – اشتراكي.
كان هرتزل علماني التوجه وبراغماتياً، ولم يكن للمعتقدات الدينية مكان في مشروعه، وهو سعى لكسب التأييد لمشروعه من خلال تقديم صياغات متنوعة تبعاً لخلفية الأشخاص الذين التقاهم، حيث وعد القيصر الروسي بتخليصه من اليهود المزعجين، في حين وعد السلطان العثماني بالمساعدة في حل مشاكله المالية، وتحويل فلسطين إلى بقعة مزدهرة. باشر هرتزل حملة صحفية لتهدئة الرأي العام في لندن فيما يتعلق بالقضية الأرمنية، كما تعهد لزعماء من العرب بتوحيد جهود اليهود والعرب في مواجهة ضغوطات الحكومة العثمانية؛ ونجح في إعطاء دفعة قوية للحركة الصهيونية التي انتشرت بين صفوف الجماعات اليهودية في روسيا، ونشرت فروعاً صغيرة لها في ألمانيا وإنكلترا، وفي أماكن أخرى.
لكن مشروع هرتزل لم يكن يتضمن إقامة دولة يهودية في فلسطين، وفق ما يتبين من وثائق المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية، في 29/31 آب 1897, وضم 197 مندوباً كان بعضهم من اليهود الأرثوذكس، والبعض الآخر من القوميين والليبراليين والملحدين والفوضويين والاشتراكيين، والقليل من الرأسماليين. وقد صرح هرتزل خلال المؤتمر، قائلاً: “نريد أن نضع حجر أساس الدار التي ستؤوي الأمة اليهودية”، وقال إن الصهيونية تسعى لأن يحصل الشعب اليهودي على موطن آمن وشرعي ومعترف به علناً، كما أعلن إن “الصهيونية تعني العودة إلى الجماعة اليهودية قبل أن تعني العودة إلى الأرض اليهودية”. وقد حدد المؤتمر الوسائل التالية لتحقيق المشروع الصهيوني:
– أولاً، تشجيع المزارعين والعمال اليهود على الاستيطان في فلسطين.
– ثانياً، تنظيم وربط كل اليهود عن طريق إقامة المؤسسات الملائمة، على الصعيدين المحلي والدولي، بما يتوافق مع قوانين كل دولة يقيم فيها يهود.
– ثالثاً، رعاية وتعزيز الشعور والوعي القومي اليهوديين.
– أخيراً، القيام بخطوات تمهيدية للحصول على موافقة الحكومات المعنية، عند الضرورة، بهدف تحقيق أهداف الصهيونية.
لكن هذا الأمر لم يحظ بإجماع الحركة الصهيونية اليهودية، كما يتبين من قرار منظمة “أحباب صهيون”، في بريطانيا، بمقاطعة المؤتمر الصهيوني الأول، كما رفض مجمع حاخامات ألمانيا المشروع انطلاقاً من ثلاثة نقاط، أولها أن جهود من يدعون “صهاينة”، لإقامة دولة قومية يهودية في فلسطين، تتعارض مع الوعد الممنوح لليهود وفق الكتب المقدسة، وثانيها أن اليهودية تفرض على أتباعها القيام بخدمة الوطن الذي ولدوا فيه، وتحثهم على التمسك بالدفاع عن مصالحه الوطنية، من كل قلوبهم وبكل قوتهم، وصولاً إلى النقطة الأخيرة الهامة التي نصت على أن استيطان فلسطين من قبل الفلاحين والمزارعين اليهود لا يتعارض مع واجبات اليهود تجاه أوطانهم، لأن الأمر لا يتعلق بأي شكل بتأسيس دولة قومية.
لم يكن لدى هرتزل أي مانع في تنفيذ مشروعه في أي موقع جغرافي، لذا وافق على اقتراح إقامة الملاذ الآمن قرب مدينة العريش. وعندما تعذر ذلك، وافق على اقتراح تنفيذ المشروع في أي مستعمرة بريطانية في أفريقيا، الأمر الذي تسبب بانقسام الحركة الصهيونية، حيث قام أنصار المشروع بتأسيس “المنظمة اليهودية الإقليمية”، بزعامة إسرائيل تزانغفيل الذي رأى أن التخلي عن جبل صهيون لا يمثل تضحية عقائدية، وأن تحديد مكان الملاذ القومي اليهودي لا يرتبط بالتاريخ الغيبي، بل بالظروف القائمة. وعدا عن هذا، لم يكن يهود ألمانيا وتركيا راضين عن محاولات فصلهم عن مجتمعاتهم على أساس انتمائهم الديني بوصفهم يهوداً، وكانوا يعارضون تدخل النزعة القومية اليهودية في شؤونهم المحلية. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، بادر بن غوريون وبن زافي، اللذان درسا الحقوق في الآستانة، إلى اقتراح تشكيل وحدات عسكرية يهودية بهدف الدفاع عن الدولة العثمانية، لكن جمال باشا رد على ذلك بنفيهما، فسافرا إلى الولايات المتحدة، وسخرا جهودهما لمحاولة دفع الجالية اليهودية لدعم الدولة العثمانية، ولم يغيرا موقفهما إلا عام 1918، عندما نقلا ولاءهما إلى بريطانيا.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى موقف اليهود في العديد من الولايات العثمانية، والذين تمسكوا بأماكن إقامتهم، وكانت لهم جالية مزدهرة في بغداد تسيطر على النشاطات التجارية. ولم يقتصر الأمر على بغداد، حيث عاش اليهود في تناغم مع العرب في مختلف أرجاء بلاد الرافدين حتى بداية الانتداب البريطاني، وناهز عددهم هناك المائة ألف شخص، عام 1920، عمل الكثير منهم في التجارة، وتمكن البعض، مثل آل ساسون، من تأسيس امبراطوريات اقتصادية من خلال التحكم بالتجارة مع الهند. بل وكان هناك بعض الجنود اليهود في الجيش العثماني، والبعض الآخر قاتل تحت راية الحسين بن علي، وفق رواية نوري السعيد، الضابط الذي شارك في القتال ضد العثمانيين، في محاضرة ألقاها في السادس من أيار 1947، في دار الضباط في بغداد، حيث قال: “وقد لفت نظري وجود مائة متطوع من اليهود العراقيين، وعلى رأسهم ضابطان يهوديان، جاؤوا من معتقلات الأسرى للعمل تحت راية الملك حسين. وقد حاولت القيادة البريطانية والفرنسية فصل هؤلاء المتطوعين عن بقية إخوانهم، واستخدامهم في جبهة فلسطين، فلم تفلح، إذ أصروا على الخدمة تحت الراية العربية في الحجاز”.
الصهيونية الأوروبية
ثمة مرجع مهم حول الفكر الصهيوني، وضعته الباحثة الفلسطينية الأمريكية ريجينا الشريف، تحت عنوان (الصهيونية غير اليهودية وجذورها في التاريخ الغربي)، نشرت ترجمته في سلسلة (عالم المعرفة) الكويتية، عام 1985. يوفر هذا الكتاب الكثير من المعلومات حول مكانة الفكر الصهيوني في العقل السياسي الغربي، ويرى أن الخطاب الذي وجهه نابليون بونابرت إلى اليهود، عام 1799، كان أول تصريح علني يعبر عن الفكر الصهيوني الغربي، حيث جاء فيه: أيها الإسرائيليون! انهضوا، فهذه هي اللحظة المناسبة. إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملةً إرث إسرائيل. سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب العالم”، غير أن الأفكار الصهيونية تبدو، بالمقابل، عميقة الجذور في الفكر البريطاني المستند إلى العقيدة البيوريتانية، وهاجس السيطرة على العالم.
إذن، سارت كل من الصهيونية الأوروبية والصهيونية اليهودية في مسارين متوازيين، وكان لكل منهما ديناميتها الخاصة، ودوافعها المتميزة؛ فالصهيونية اليهودية نشأت في الامبراطورية الروسية، وطبقت برنامجاً من شقين: هجرة القادرين مالياً إلى العالم الجديد، وهجرة الفقراء المتدينين إلى فلسطين العثمانية، في حين كانت الصهيونية الغربية متجذرة في العقل الغربي. ولكننا نستدل، لدى التدقيق في الكتابات الصهيونية – كما ترى الباحثة الشريف – أن غير اليهود هم من طوروا أفكار وبرامج الصهيونية اليهودية، وأنهم هم من نشروا فكرة الوعي القومي اليهودي الموجه إلى فلسطين.
ومن ذات المنظور، يمكن القول بأن السياسي البريطاني لويد جورج لعب دور الجسر الذي ربط بين الصهيونية الغربية والصهيونية اليهودية، وهو الذي مارس دوراً رئيسياً في دعم مشروع الاستيطان اليهودي في فلسطين، وكان – وفق رأي دافيد فرومكين، مؤلف كتاب (نهاية الدولة العثمانية) – الحلقة الأخيرة في سلسلة من الصهاينة المسيحيين في بريطانيا. نقرأ في مذكرات لويد جورج تحفظه على اتفاقيات سايكس بيكو لأنها نصت على تقسيم فلسطين، ومنح فرنسا مساحات شاسعة منها، وإخضاع مناطق أخرى إلى إدارة دولية، وقد كتب حول هذه النقطة أنه “من غير الجدير أن نفوز بالأرض المقدسة، ثم نقوم بتمزيقها”. كان لويد جورج من أنصار قيام بريطانيا بدور قيادي في إعادة اليهود إلى فلسطين، وهو ينتمي إلى فئة البيوريتانيين الذين قصد البعض منهم الولايات المتحدة، بوصفها أرض الميعاد، وأسس قواعد متينة للفكر الصهيوني، وهو يمثل امتداداً لأفكار قديمة حملتها الكنيسة الإنجيلية في بريطانيا.
كان هاجس الساسة البريطانيين الفوز باللعبة الكبرى، وهم تربوا على سياسة بذل كل الجهود الممكنة لمنع توسع الامبراطورية الروسية باتجاه المياه الدافئة، أو في المناطق المتاخمة للهند. وضمن هذا السياق، واظبت لندن، طوال عقود من السنين، على دعم السلطان العثماني في مواجهة القيصر الروسي. لكن الموقف تغير نتيجة التقارب بين الدولة العثمانية والامبراطورية الألمانية، وبرزت فكرة تفكيك الدولة العثمانية، وتقاسم تركتها، بين حلفاء الساعة؛ وبالتالي التنسيق بين بريطانيا وروسيا وفرنسا وإيطاليا. كان لكل طرف مصالحه الخاصة التي تتقاطع مع مصالح الأطراف الأخرى، أو تتعارض معها، لكن الجميع اشترك في فكرة التعامل مع شعوب المنطقة بوصفها أدوات يمكن تسخيرها لخدمة المجهود الحربي. ينطبق ذلك على العرب والأكراد والأرمن والكلدان والآشوريين واليهود، وغيرهم من المجموعات التي سكنت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط؛ وضمن هذا السياق، تم بذل الكثير من الوعود البراقة دون وجود أدنى نية للوفاء بها.
كتب الكثير حول دور المنظمة الصهيونية في الولايات المتحدة في تمهيد الطريق أمام إصدار تصريح بلفور، كشرط لدخول واشنطن الحرب إلى جانب الحلفاء المنهكين، لكن الوقائع التاريخية تشير إلى أن الولايات المتحدة دخلت الحرب قبل ستة أشهر من إصدار التصريح الذي سعت مختلف الأطراف لاستثماره دعماً لمصالحها؛ ففي حين أصر الجنرال اللنبي على التكتم على التصريح وتجاهله، بل ومحاولة التملص منه بعد تراجع أهمية إرضاء فرنسا، وغيرها، إثر استيلاء بريطانيا على فلسطين وسورية الداخلية، قام كل من الأتراك والألمان، بالمقابل، بنشر نصه بين صفوف الضباط والجنود العرب في الجيوش العثمانية، دون أن يؤدي ذلك إلى أي تغيير في ولاء معظم هؤلاء للدولة العثمانية، فيما عملت المنظمات الصهيونية على استغلاله لحشد دعم يهودي للفكرة الصهيونية، لكن التصريح لم يحظ بتغطية إعلامية بعد أن شحب بريقه نتيجة اندلاع الثورة البلشفية.
دور العامل الذاتي
كان إعلان بلفور بمثابة خطوة فرضتها ضرورات الحرب العالمية الأولى، وتوالي سنوات الصراع الذي اندلع نتيجة تضافر مجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية. كان العامل المشترك بين قادة مختلف البلدان المتصارعة يتمثل في وهم تحقيق انتصار سريع على الخصم، استناداً إلى القاعدة المعروفة التي تقول بأن “كل دولة تدخل الحرب الجديدة على أساس تجربتها في آخر حرب خاضتها”. وبالتالي، كانت كل الحسابات قائمة على فكرة حرب سريعة تنتهي بهزيمة العدو، وقيام المنتصر بفرض إرادته على الطرف المهزوم. لكن سرعان ما تبين خطأ تلك الحسابات، وتحولت الحرب إلى حملات تبادل فيها المعسكران المتجابهان نشوة النصر ومرارة الهزيمة. وكانت الدولة العثمانية في مرحلة انتقالية في ظل حكم جماعة “الاتحاد والترقي”، التي استولت على السلطة عام 1908، وأوصلت إلى الحكم مجموعة من الضباط الذين يفتقرون للخبرة؛ وكانت المفاجأة هي في نجاح الجيش العثماني في تحقيق بعض الانتصارات في المرحلة الأولى من الحرب.
المقاتلون اليهود
في المرحلة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى، كانت الجاليات اليهودية، في مختلف بلدان العالم، تسعى لتجاوز المسألة اليهودية، وهي قضية انعتاق اليهود التي برزت في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، ومهدت الطريق لحصول اليهود على حقوق المواطنة في البلدان التي عاشوا فيها.
وكان هنالك تياران أساسيان لعبا دوراً هاماً بين الجاليات اليهودية: تيار أنصار الاندماج في المجتمعات التي عاش فيها اليهود، وتيار انفصالي يسعى للتعامل مع اليهود بوصفهم شعباً موحداً تم طرده ظلماً من وطنه. وكانت الحركة الصهيونية هي الشكل الأبرز للتيار الانفصالي، ولكنها كانت محدودة الانتشار، ومترددة. سعى معظم اليهود لتأكيد انتماءهم للدول التي عاشوا فيها؛ ففي بلدان أوروبا الغربية، استثمر المثقفون اليهود قضية دريفوس، وعلت أصواتهم للمطالبة بحقوق المواطنة الكاملة، أما في بلدان أوروبا الشرقية، التي عاشت في ظل أنظمة استبدادية تبنت أفكاراً معادية لليهود، فكان الخيار المتاح هو مشاركة القوى الثورية في جهودها لقلب الأنظمة الاستبدادية، وكان دور اليهود شديد الوضوح في الأحداث الثورية التي شهدتها روسيا القيصرية، حيث كان الكثير من زعماء انتفاضة أكتوبر من أصول يهودية. ويمكن إبراز واقع غلبة تيار الاندماجيين من خلال استعراض أعداد المقاتلين اليهود الذين توزعوا على مختلف الجيوش المتصارعة، وفق ما أشارت إليه بعض الدراسات، بما يقرب من مليون وخمسمائة ألف، حيث ضم الجيش القيصري الروسي قرابة خمسمائة ألف مقاتل يهودي، كما شارك في المعارك 38 ألف مجند من يهود فرنسا والجزائر، من أصل 180الف يهودي شكلوا الجالية اليهودية. وكان عدد اليهود الألمان 480 ألفاً شارك 96 ألف منهم في المجهود الحربي، كما شارك في القتال خمسون ألف يهودي إنكليزي من أصل 270 ألف يهودي بريطاني. وبعد دخول الولايات المتحدة الأمريكية الحرب، في 6 نيسان 1917، شارك 250 ألف جندي يهودي في القوات التي أرسلتها واشنطن إلى ميادين القتال.
لكن، وعلى عكس رغبة الأغلبية العظمى من اليهود في القتال تحت لواء البلدان التي عاشوا فيها، تجاهل معظم المؤرخين وقائع مشاركة اليهود في المعارك المختلفة، وسلطوا اهتمامهم على المعارك التي خاضها الفيلق اليهودي، الذي شكلته بريطانيا من يهود غير بريطانيين مرتبطين بالحركة الصهيونية، الأمر الذي ضمن للحركة المشاركة في “مؤتمر السلام” ضمن صفوف المنتصرين.
تعود فكرة تشكيل الفيلق اليهودي إلى الصحافي اليهودي فلاديمير جابوتنسكي الذي سيلعب لاحقاً دوراً هاماً في تغيير مسار الحركة الصهيونية “التقليدية” بزعامة بن غوريون. كان جابوتنسكي على اطلاع على الوضع في بريطانيا، ومدى حجم عملية حشد القوات التي عانت من نزيف بشري مرعب؛ وكانت بريطانيا ملاذاً للعديد من اليهود الروس الفارين من الاضطهاد، وكان هؤلاء، بحكم القانون، معفيين من الخدمة العسكرية. لاقت الفكرة هوى الكابتن جون هنري باتيرسون الذي قاد كتيبة يهودية في معارك غاليبولي، فقام بطرح مشروع تشكيل قوة من المهاجرين اليهود بهدف إرسالها للقتال في فلسطين، في حال قررت بريطانيا اجتياحها؛ ولكن الفكرة لقيت، بالمقابل، معارضة شديدة من قادة الجالية اليهودية البريطانية، الذين خافوا من تداعيات ذلك على وضع اليهود في ألمانيا والبلدان المتحالفة معها. بعد جهود كبيرة، أقرت الحكومة تشكيل الفيلق اليهودي بهدف إرساله إلى فلسطين، وعلق لويد جورج على القرار بأن “اليهود سيكونون أكثر نفعاً من العرب”. وهكذا، تمكنت الحركة الصهيونية اليهودية، التي ربطت مشروعها بالمخططات البريطانية لإعادة تشكيل تركة الدولة العثمانية، وبما يتوافق مع مصالح بريطانيا، من تثبيت مواقعها بين صفوف المنتصرين من خلال إبراز نفسها بوصفها ممثلاً لأماني اليهودـ، في تجاهل واضح لمعارضة كبار الشخصيات المالية والسياسية الأوروبية لتصريح بلفور ولمشاريع الحركة الصهيونية؛ أي أن بريطانيا فرضت على “مؤتمر السلام” النخبة القيادية لليهود المرتبطين بها، وعلى نحو يشابه محاولتها فرض قيادة عائلة الحسين بن علي بوصفها ممثلاً للعرب، في تجاهل واضح للزعامات المحلية، وهو الأمر الذي عارضته فرنسا التي لم تقبل بالأمير فيصل في “مؤتمر السلام” سوى بصفته ممثلاً للحجاز. ومن المثير للدهشة واقع نجاح الحركة الصهيونية في كسب تأييد معظم الزعماء العرب، وبشكل خاص عائلتي ابن سعود والحسين بن علي. كما قامت الحركة الصهيونية بتنسيق الجهود مع النواب العرب في “مجلس المبعوثان” العثماني.
جاء في مذكرات حاييم وايزمان أن السياسي العربي الوحيد الذي التقى به، وكان معارضاً للمشروع الصهيوني، كان نوري السعيد، الذي ظل متمسكاً بولائه لمشروع اتحاد فيدرالي تحت الحماية البريطانية. ولا يتعلق الأمر هنا بإطلاق أحكام على الزعماء العرب، ففي تلك الفترة لم يكن الوجود اليهودي في فلسطين يمثل أي تهديد جدي، حيث لم يتجاوز عدد اليهود في فلسطين الستين ألفاً، نصفهم من التابعية الروسية، الأمر الذي عرضهم للملاحقة من قبل جمال باشا، الحاكم العسكري لسورية، الذي قرر تهجيرهم من فلسطين، قبل أن يتراجع عن ذلك تحت ضغط الحليف الألماني؛ وهنا تكمن المفارقة، فقد كانت برلين مركز قوة الحركة الصهيونية، ولم ينزاح هذا المركز إلى الولايات المتحدة إلا لاحقاً.
وإذا انتقلنا إلى مواقف الحسين بن علي وأبنائه، على سبيل المقارنة، فسوف نلاحظ أن كل الوعود التي كان قدمها لبريطانيا لم تكن قابلة للتحقق، فهو لم يمتلك، في واقع الأمر، أي نفوذ على الضباط العرب في الجيش العثماني، حيث ثابر معظم هؤلاء الضباط على القتال في سبيل الدولة العثمانية، وكان من أبرزهم البطل يوسف العظمة الذي شغل مناصب عسكرية هامة نتيجة لكفاءته، وظل وفياً للدولة العثمانية حتى نهاية الحرب. وسرعان ما تتالت المؤشرات على نية لندن التملص من تعهداتها، ففي الأول من تموز 1916، أي بعد مرور قرابة شهر على إعلان ثورة الحسين، بادرت وزارة الحربية إلى إعلام مجلس الوزراء البريطاني بأن العرب لم يستجيبوا لنداء الحسين، وكان ذلك بمثابة التمهيد للتملص من كل الوعود التي تضمنتها مراسلات الحسين – مكماهون. ولم يكن الأمير فيصل قادراً على المناورة، لذا وضع كل أوراقه في يد البريطانيين الذين نصبوه ملكاً على سورية الداخلية، في حين قامت فرنسا باحتلال الساحل السوري بأكمله، وطالبت بريطانيا بتنفيذ بنود اتفاقيات سايكس بيكو التي نصت على وضع فلسطين تحت إدارة دولية، الأمر الذي تعارض مع طموحات فرنسا في السيطرة على الساحل السوري، من العريش حتى اسكندرونة، كما تعارض مع طموحات الحركة الصهيونية التي حاولت تعديل الوضع.
كان مارك سايكس يرى أن المشكلة الحقيقية، في كبح مشاريع الحركة الصهيونية، كانت تتمثل في الموقف الفرنسي الذي شكك في جدية قدرة الحركة الصهيونية على دعم المجهود الحربي للحلفاء. وضمن هذا السياق، تم تنظيم اجتماع بين وايزمان وسايكس، في 7 شباط 1917، بحضور ناشطين من الحركة الصهيونية، ومن ضمنهم ناحوم سولوكوف. وفي اليوم التالي، 8 شباط 1917، بادر سايكس إلى تنظيم لقاء جمع سولوكوف بالوزير الفرنسي بيكو الذي صارح سولوكوف بتمسك فرنسا بضم فلسطين، وأن هذا الموقف يحظى بتأييد 95 % من الشعب الفرنسي.
لكن الجنرال اللنبي تحفظ على ذلك بعد أن مال إلى فكرة وضع سورية بأكملها تحت الحماية البريطانية، ومنح بريطانيا صفة الطرف الراعي لكل من اليهود والعرب، وهذا ما عبر عنه سايكس عندما كتب: “أرغب في رؤية حلف أنغلو فرنسي دائم متحالف مع اليهود والعرب والأرمن، بحيث تغدو وحدة القومية الإسلامية عديمة الضرر، بل تضمن حماية الهند وأفريقيا. وفي الواقع، كان ميزان القوى على الأرض في مصلحة البريطانيين الذين حظوا بتأييد العشائر العربية عن طريق بذل الأموال لزعمائها الذين لم يكن لديهم أي فكرة عن موضوع بناء دولة حديثة على أساس قومي.
والآن، وبعد مرور مائة عام على تصريح بلفور، نلاحظ أن المشروع الصهيوني فشل في إقامة “ملاذ” قائم على مبادئ “الحرية والديمقراطية والمساواة”، حيث تحولت إسرائيل إلى كيان عنصري بامتياز، وتراجعت كل الأفكار الليبرالية التي تغنت بها الحركة الصهيونية؛ ولم يكن رفض الحكومة البريطانية تقديم اعتذار عن الظلم الذي لحق بعرب فلسطين سوى التعبير الواضح عن حقيقة أن وعد بلفور وقيام “دولة إسرائيل”، وتجاهل حقوق عرب فلسطين، إنما ينسجم مع الخلفية الفكرية للثقافة الاستعمارية القائمة على الأصولية؛ فمن منظور الفكر البروتستانتي الغربي، يجب تجميع اليهود في منطقة محددة تمهيداً لعودة المسيح، وهو الأمر الذي عبر عنه وزير خارجية الولايات المتحدة، الألماني الالأصل، دونالد رامسفيلد، عندما قال: “لن يكون هناك سلام في الشرق الأوسط إلا بعد عودة المسيح:، الأمر الذي يشير إلى مدى ترسخ الفكر الأصولي في العقل السياسي الغربي الذي يقود العالم في مسار يتضمن احتمال نشوب صراع بين دول تمتلك أسلحة نووية، دون مبالاة بما قد يترتب عن ذلك من دمار مرعب.