تطالعنا الذكرى المئوية لوعد بلفور المشؤوم وأمتنا العربية، ومعها الشعب الفلسطيني، يرزحان تحت نير الفرقة وسياط الانقسام. فهذا الذي أسموه “ربيعاً عربياً” يفكك عرى التضامن ويوهن التماسك في مواجهة الأخطار، وهذا الانقسام الفلسطيني – الفلسطيني يفتك بكل ما تحقق من منجزات سطرتها دماء الشهداء ودموع الثكالى وعرق الشرفاء على مدى قرن من الزمن.
ففي الثاني من تشرين الثاني 1917، أطلق وزير الخارجية البريطاني، ارثر بلفور، وعده الشهير لليهود عبر رسالة إلى اللورد ليونيل روتشيلد عبر فيها عن تعاطف حكومة صاحب الجلالة مع أماني اليهود والحركة الصهيونية بإقامة وطن قومي في فلسطين، ووعد ببذل غاية الجهود لتحقيق هذه الغاية، على ألا تُمس الحقوق المدنية والدينية لسكان فلسطين.
لقد كان من نتائج هذا الوعد مأساة إنسانية عصفت بالشعب الفلسطيني دفع ثمنها عناءً وشقاءً ودماً، بدأت مع الموجات الأولى للغزو البشري الصهيوني لفلسطين قبل الاحتلال البريطاني، وتسعرت حينما شرع الاحتلال، الذي أطلق عليه ظلماً اسم “الانتداب”، بدعم المهاجرين الصهاينة وتسهيل بناء المستوطنات على الأرض الأميرية (التابعة للحكومة) التي مُنحت للمستوطنين، وفي ذات الوقت مارس المحتلون الإرهاب والتضييق على الفلسطينيين في وطنهم، فصادروا الأراضي من أصحابها بذريعة أنها مناطق عسكرية، ومنحوها للصهاينة. هذا عدا التسليح والتدريب والدعم اللوجستي، يقابله ملاحقة الثوار الفلسطينيين واعتقالهم وإعدام قادتهم.
بعد إعلان قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، في 15 أيار 1948، بتواطؤ بريطاني ودولي واضح، وبعد طرد الفلسطينيين من أرضهم وتشريدهم في المحيط القريب والبعيد، كابد هذا الشعب مرارة العيش في المخيمات، وعانى الحر والقر، وتحمل الجوع والفقر والمرض. ورغم قسوة العيش في الشتات، تمكن هذا الشعب من تشكيل مجموعات فدائية تقاتل العدو الصهيوني بالكفاح المسلح لدحره عن أرض فلسطين، وتحريرها كاملة، وعودة شعبها المطرود بالقوة والعسف لربوعها.
سار الكفاح المسلح صعوداً بعد حرب حزيران 1967، ثم انحدر نزولا بعد مجازر أيلول الأسود في الأردن عام 1970، حتى انتهى به المطاف بعد عدوان 1982 على لبنان إلى التشتت والتشظي بين تونس والسودان واليمن، فغاب صوت البندقية، ليعلو بدلاً عنه الصوت العبثي للتفاوض مع الاحتلال؛ هذا التفاوض الذي لا تُعرف له نهاية.
فما هي مقدمات الوعد البلفوري وهو يكمل عامه المائة؟ وما هي أسبابه وتداعياته؟ وهل كان اليهود ينظرون إلى فلسطين على أنها أرض الميعاد حقاً، قبل أن تتفتق عبقرية القادة الأوروبيين عن حل “المسألة اليهودية” على حساب مأساة إنسانية فلسطينية فاقت بمرارتها مأساة اليهود في الدول الأوروبية، ولا زال ضحاياها يتوارثون تبعاتها المؤلمة جيلاً بعد جيل، والعالم شرقاً وغرباً، بما فيه منظماته ومؤسساته الدولية، يعي حقيقة ما حصل، ومع ذلك يُنعت الفلسطيني الذي سلبوا أرضه وشردوه بالإرهابي، ويوصف المعتدي المحتل الغاصب للأرض والممتلكات بـ “الدولة المسالمة” التي يهدد الفلسطينيون أمنها واستقرارها.
لقد جاء الوعد البريطاني لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين حصيلة حلقات مترابطة من الأحداث والتطورات التي شكلت بمجموعها موجة ركبها اليهود الصهاينة فأخرجتهم من أوروبا واضطهادها، لترسو سفنهم على شواطئ فلسطين التي دخلوها تحت حراب المستعمر البريطاني، ليتحول المضطهَد (بفتح الهاء) إلى مضطهِد (بكسر الهاء)، وكأن المطلوب من الفلسطينيين أن يتحملوا نتاج فساد وجرائم اليهود خلال تواجدهم التاريخي في القارة الأوروبية، وأن يدفعوا ضريبة اضطهاد اليهود وطردهم من بلدانهم بما اقترفت أيديهم، وإذا رفض الفلسطينيون هذا الخيار، فهم إرهابيون يسعون لتقويض “دولة مسالمة””. ”
فساد اليهود واضطهادهم في أوروبا يدفع ثمنه الفلسطينيون
حياكة المؤامرات والتجسس، وصرافة النقد والتعامل بالربا، وتجارة الرقيق وتسويق المخدرات وإدارة دور البغاء والاشتغال بالدعارة، وتهريب الذهب والمجوهرات، كل هذه الأعمال التي تدر أرباحاً طائلة هي من اختصاص اليهود الأوروبيين في عصور الظلام، وبضعة قرون لاحقة.
وعن هذه الفترة تقول الموسوعة البريطانية: “كان لدى التجار والمرابين اليهود ميل شديد للتخصص في التجارة.. وكان ما ساعدهم في ذلك مهارتهم وانتشارهم في كل مكان من العالم.. لذا كانت معظم تجارة أوروبا في العصور المظلمة في أيديهم.. لاسيما تجارة الرقيق..”. ولأن السيطرة على المال والاستماتة على زيادته يترافق غالباً بتجاوزات قانونية، فقد كانت الرغبة الجامحة للسيطرة على المال هي السبب الرئيس الذي أدى لملاحقة يهود أوروبا وطردهم منها مرات عدة.
ومن أعمالهم الخبيثة المخالفة للقانون، والتي قاموا بها في بريطانيا – على سبيل المثال – للحصول على المال، قيامهم ببرد أطراف العملات الذهبية للحصول على كميات ضئيلة من براده الذهب يتم جمعها حتى تصبح كميات كبيرة، فيعيدون سبكها وبيعها. ولدى كشف العملية ساد ارتباك اقتصادي وضعفت الثقة في العملة الإنكليزية، وشارف الوضع المادي على الانهيار. وعندما كثر الفساد اليهودي في بريطانيا، بظهور بيوت الدعارة والحانات والملاهي التي لم يعتد عليها البريطانيون – آنذاك- تسببت في طردهم عام 1190، فكانت بريطانيا أول دولة أوروبية تلجأ لهذا الإجراء.
وتوالت عمليات الفساد ليهود أوروبا، وحدثت على إثرها عمليات الطرد في دول عدة. ففي عام 1306 تم طردهم من فرنسا. وفي عام 1343 تبعتها ألمانيا، وفي عام 1348 طردتهم سكسونيا، ثم هنغاريا عام 1360 ، فبلجيكا 1370، وسلوفيكيا 1380، والنمسا 1430، وهولندا 1444، وإسبانيا 1492، وليتوانيا 1495، ثم البرتغال 1498، وإيطاليا 1540، وبافاريا 1551، وبعد فترة هدوء امتدت لثلاثة قرون، وبسبب اغتيالهم القيصر الروسي، قامت روسيا القيصرية بارتكاب مجزرة بحقهم، ثم طردتهم عام 1881 إلى أوروبا الشرقية. وكان ختامها مجازر النازية ضدهم في الحرب العالمية الثانية.
لقد فتحت الدول الإسلامية التابعة للإمبراطورية العثمانية أبوابها في وجه اليهود المطرودين من دول أوروبا. وكذلك فعلت بولندا التي تسللوا إلى مراكز القرار فيها واتسعت دائرة نفوذهم لدرجة بدؤوا معها يفكرون في إقامة “دولة إسرائيل” على الأرض البولندية. لكن قسماً كبيراً من اليهود آنذاك عادوا سراً إلى بلدانهم الأصلية في أوروبا ليمارسوا نشاطهم القديم، والكل يأمل في إقامة الدولة اليهودية على أرض الدولة التي يقيم فيها.
أما “المسوغ الديني” الذي يشرعن قيام دولة يهودية على أي جزء من أراضي الدول الأوروبية أو غيرها، فهو متروك للحاخامات، القادرين على اختلاق النصوص وإيجاد المبررات الدينية وقولبة النبوءات، بما يضفي على إقامة دولة خاصة بهم، في أي مكان من العالم، شرعية مزيفة مغلفة برداء ديني، واعتبار هذا المكان هو الأرض الموعودة.
ومن الدلالات التي تؤكد قدرة حاخامات اليهود على تطويع شرائعهم بما يتلاءم مع الظرف، لتنسجم مع المستجد والطارئ، فقد اعتبر الحاخامات أن الهجرة من القارة الأوروبية إلى قارة أمريكا، بعد اكتشافها وبدء حملات الاستيطان فيها، تحاكي خروج موسى مع بني إسرائيل من مصر، وأن أمريكا هي فلسطين الجديدة. وهذا يدعم الرأي القائل بعدم اهتمام اليهود بفلسطين العربية بالقدر الذي سوقه الغرب وتمسك به اليهود المتطرفون.
وعد نابليون سبق وعد بلفور
في أوج التنافس الاستعماري بين انكلترا وفرنسا في القرن السابع عشر للسيطرة على جزر الهند الشرقية، نجحت بريطانيا في الوصول بحراً إلى تلك الجزر عبر الالتفاف حول أفريقيا. وبعد احتلال نابليون بونابرت لمصر، عام 1799، خامره هاجسٌ بشق طريق بري يربط مصر بالهند. مروراً بفلسطين وسورية (بلاد الشام) لمنافسة بريطانيا التي أقامت “شركة الهند الشرقية” التي بدورها أخذت تتدخل بالسياسة الهندية، وتديرها بما يخدم المصالح البريطانية.
انطلق نابليون من مصر باتجاه فلسطين. ولدى وصوله إلى مدينة عكا عجز عن احتلالها رغم حصارها لمدة شهرين خسر خلالهما 1200 من الجنود, ولاح شبح الهزيمة لنابليون الذي لم يعتد على الهزائم بعد، ولم يجد مخرجاً من المأزق إلا بطلب العون من يهود فلسطين وسورية والعالم، مدغدغاً عواطفهم ببعض ما ورد في كتبهم المقدسة، فاستهل نداءه لهم بعبارة: “أيها الشعب الفريد أنتم ورثة فلسطين الشرعيين.. فرنسا تقدم لكم إرث آبائكم، استعيدوا ما سلب منكم بالقوة، ودافعوا عنه بدعم فرنسا ومساعدتها..”، وعرض عليهم أن يساعدوه في فتح بلاد الشام، لقاء وعدٍ بمساعدتهم لتحقيق وجودهم السياسي في فلسطين كأمة مثل سائر الأمم، وإعادة بناء “هيكلهم” في القدس، على أن يُنجَز هذا الوعد بعد النجاح في استعادة ما أسماه “وطنهم الشرعي”.
لم يكن اليهود آنذاك في وضع يسمح لهم بتقديم أي عون لنابليون، لذلك فشل المشروع النابليوني في فتح المشرق، وانسحب من محيط عكا عائداً إلى مصر، ومنها انسحب من سائر الأراضي المصرية بعد الاضطرابات التي حدثت في فرنسا، واغتيال نائبه في مصر، الجنرال جان كليبر، على يد طالب العلم السوري سليمان الحلبي.
وبذا يكون نابليون بونابرت قد أقر بعجزه عن تحقيق مشروعه في فتح طريق بري يربط مصر بالهند، لكن نداءه ليهود العالم، ووعده بوطن يهودي في فلسطين، ونشر تلك الدعوات والوعود في الصحف الفرنسية، حفز لدى اليهود النزعة الانعزالية.. تلك النزعة المزروعة أصلاً في نفوسهم الانطوائية المتعالية، لاعتقادهم أنهم “شعب الله المختار”، وجعلهم يستميتون لإقامة دولة لهم في فلسطين، أو أي مكان على الأرض.
وهكذا يكون نابليون أول من أعطى وعداً لليهود بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، في 4 نيسان 1799، ليجعل من يهود العالم، بعد تجميعهم في فلسطين، دولة وظيفية حليفة لفرنسا، قبل أن تسبقه إنكلترا في خلق هذا الكيان اليهودي، وتوظفه لخدمة مصالحها”.
لم يكن اليهود يصرون على إقامة دولة لهم في فلسطين – قبل وعد نابليون– لأن اليهود المنبوذين من شعوب وحكومات الدول الأوروبية لم تكن طموحاتهم تزيد عن امتلاك بقعة من الأرض في أي مكان من العالم يجمع شملهم، ويرفع عنهم الضيم الذي يتعرضون له في سائر الدول الأوروبية. وأول من نبه اليهود لإقامة وطن قومي في فلسطين هم قادة أوروبا، خدمة لمصالح استعمارية صرفة. وجاء التحريض الفرنسي قبل أن تطرح الحركة الصهيونية فكرة الوطن القومي في فلسطين بسنوات طويلة، لأن كلاً من فرنسا وانكلترا كانتا تتسابقان لإقامة كيان يهودي موالٍ لهما في فلسطين، ففيه حل للمسألة اليهودية من جهة، وفيه كسبُ كيانٍ موالٍ يتحكم بالطريق البري بين آسيا وأفريقيا، وحرمان الطرف الآخر من المزايا التي يمكن أن تجنيها الدولة التي تملك حليفاً وظيفياً يستوطن فلسطين، من جهة ثانية.
وفي دلالة على أن الأوروبيين هم المصرون على فكرة استيطان اليهود لفلسطين، انتقد أحد أبرز زعماء المسيحية الصهيونية، القس ويليام بلاكستون، الحركة الصهيونية بزعامة هرتزل، عقب مؤتمر بال الأول عام 1897، بسبب ما أسماه تساهل هرتزل في اختيار فلسطين لتكون وطناً قومياً لليهود. وهذا يكشف أن الحماس اليهودي لإقامة الوطن القومي في فلسطين كان رخواً، وأن الذين زادوا فيه الصلابة هم قادة أوروبا والمسيحانية الصهيونية، المعروفون حالياً بالمحافظين الجدد. لذا فليس غريباً أن نشهد السواد الأعظم من اليهود، قبل وبعد تأسيس الحركة الصهيونية، وقد سعوا للاستيطان في عدد من الدول الأمريكية والأفريقية قبل التمسك بخيار فلسطين لأسباب نبينها فيما بعد.
مشاريع الاستيطان اليهودي خارج فلسطين
لم يكن خيار فلسطين إلا خياراً ثانوياً أمام الخيارات الأخرى، لأن المتنورين من اليهود كانوا يدركون أن فلسطين صعبة المنال على اليهود، وإذا قُدر للوطن القومي اليهودي أن يقوم فيها، فإنه لن يستمر طويلاً، لوجوده ضمن محيط عربي معادٍ لا يوافق على تجريد فلسطين من عروبتها، وسلخها عن محيطها، لتكون وطناً قومياً لليهود يخدم مصالح الغرب الاستعماري. لذا باشرت هيئات وجمعيات وجهات يهودية عديدة باختيار أماكن أخرى من العالم لتكون وطناً قومياً لهم، وقامت ببناء المستوطنات فيها. وإسكانها بالمهاجرين من يهود أوروبا.. وهذه أهم مشاريعهم الاستيطانية خارج فلسطين المحتلة:
قامت الجمعية اليهودية للاستيطان التي أسسها البارون موريس دو هرش، في لندن، عام 1891، بإقامة مستوطنة مويزفيل في إقليم سانتافي الزراعي الخصب في الأرجنتين، خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر. لكن هذا المشروع لم ينجح النجاح المتوقع لأن الجمعية اليهودية للاستيطان لم تتمكن من الحصول إلا على خُمس المساحة المطلوبة من الأرض، كما التفتت الجمعية اليهودية للاستيطان إلى كندا، ومن أجل نفس الغاية حصلت الجمعية على بعض الأراضي في الولايات المتحدة،
أما ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية، فقد تركزت مساعيه حول تحقيق ما عُرف بمشروع العريش، وهو يعني استيطان شبه جزيرة سيناء. وكان هذا المشروع محبباً لهرتزل. وكانت شبه جزيرة سيناء بالنسبة للحركة الصهيونية هي المنطلق لتحقيق “فلسطين اليهودية الكبرى” التي تشمل فلسطين وسيناء وقبرص. وقد أدرك هرتزل أن نجاح مشروع ضخم كهذا لا يتم إلا بمؤازرة ودعم دولة عظمى كبريطانيا؛ لذا وضع هذا المشروع في عهدة البريطانيين ورعايتهم، مستغلاً وجود اللورد كرومر حاكماً فعلياً لمصر آنذاك.
إلا أن المفاجأة التي غيرت مجرى المشروع هي رفض الحكومة المصرية فكرة جر مياه النيل إلى سيناء، لأن كرومر رأى أن مثل هذا العمل سيخلق متاعب سياسية لبريطانيا في مصر، وفي نفس الوقت سوف يثير حفيظة العثمانيين في فلسطين، لذا تم صرف النظر عن هذا المشروع.
على إثر فشل مشروع استيطان العريش عقد جوزيف تشمبرلن، وزير المستعمرات البريطاني، محادثات مع هرتزل حول إمكانية استيطان اليهود لبعض المناطق الخاضعة للإمبراطورية البريطانية في أفريقيا، وعلى وجه الخصوص كينيا أو أوغندا. كانت وجهة نظر هرتزل الحصول على أرض محددة، وبترخيص رسمي من الدولة المستعمرة (ويقصد بها بريطانيا)، يرافق ذلك منح اليهود استقلالاً ذاتياً لإدارة شؤونهم الداخلية. وقد تقبل البريطانيون هذه المطالب لأنهم وجدوا فيها استجراراً لرؤوس الأموال اليهودية إلى إحدى الدول الأفريقية التابعة للإمبراطورية البريطانية وإنعاشها اقتصادياً. وكاد هرتزل أن يحصل على التصاريح اللازمة لبدء الاستيطان، إلا أن خلافات دبت بين أعضاء الحركة الصهيونية خلال المؤتمر الصهيوني السادس (1903)، حين تمسك هرتزل ومؤيدوه بمشروع أوغندا، بينما رفض التيار الذي عرف بـ “صهيونيي صهيون” المشروع الأوغندي جملة وتفصلاً، وأصروا على استيطان فلسطين تحديداً، وانسحبوا من المؤتمر موجهين إنذاراً إلى هرتزل لإلغاء فكرة أوغندا. وبعد عام من الأخذ والرد، مات هرتزل، وألغت بريطانيا عرضها.. وفشل المشروع.
تابعت المنظمة اليهودية المفاوضات التي كان هرتزل قد بدأها مع وزير المستعمرات البريطانية حول مشروع أوغندا، لكن الجهود لم تفلح، فحاول زعماء هذه المنظمة الحصول على براءة استيطان في بقاع كثيرة كأنغولا واستراليا والمكسيك. وفي الشرق الأوسط بذلوا جهوداً مضنية مع السلطنة العثمانية للحصول على موافقة للاستيطان في ليبيا، عام 1908.
كما طرح الاستيطان في العراق عام 1909، لكن الحركة الصهيونية والمنظمة اليهودية للأراضي رفضتا الفكرة، لأن العراق، لاسيما مدينة بابل، يمثل في الذاكرة اليهودية أرض الإذلال والعبودية خلال السبي الأول بقيادة الملك الأشوري سرجون الثاني، والسبي الثاني بقيادة الملك البابلي نبوخذ نصر”.
تطورات غيرت الموقف البريطاني
نتيجة لفشل كل مشاريع الاستيطان اليهودي خارج فلسطين، انتصر التيار المتطرف الذي لم يقبل الاستيطان إلا في فلسطين. وعلى المقلب الآخر، قد تبلور موقف بريطاني جديد يؤيد بشدة استيطان اليهود في فلسطين، لأن ثمة عوائد تصب في إناء المصلحة الاستعمارية البريطانية في حال قيام وطن قومي يهودي في فلسطين، ويدين بالولاء المطلق لصانع هذا الوطن، وجامع فلول سكانه من أرجاء الأرض، وحاميه وراعيه لحين امتلاكه القدرة على حماية نفسه بنفسه.
لقد اتكأ الموقف البريطاني الجديد إلى عدة رؤى ومسوغات حددته بوضوح، فقد راجع البريطانيون الأحداث التي جرت عام 1831، حين قاد إبراهيم باشا حملة عسكرية ضد العثمانيين، في سورية، رمت لتوحيد سورية مع مصر والسودان، وتشكيل قوة إقليمية بقيادة محمد علي باشا تكون قادرة على الوقوف في وجه العثمانيين إذا حاولوا الإطاحة بمحمد علي. وقد أفشل البريطانيون والعثمانيون هذه الحملة لتجنب أخطارها؛ وقد أفضت المراجعة البريطانية لاستنتاجٍ مفاده أنه، لمنع محمد علي باشا من تكرار محاولته لتوحيد سورية مع مصر، لابد من الفصل بينهما بإقامة حاجز جغرافي يمنع الاتصال بينهما، وليس هناك أفضل من إقامة كيان معادٍ لهما وموالٍ لبريطانيا في فلسطين، وهذا الكيان هو الوطن القومي اليهودي.
وحول نفس الموضوع، أرسل البارون اليهودي روتشيلد، في آذار 1840، خطاباً إلى بالمرستون، رئيس وزراء بريطانيا، جاء فيه: “إن هزيمة محمد علي وحصر نفوذه في مصر ليسا كافيين، لأن هناك قوة جذب بين العرب، وهم يدركون أن عودة مجدهم القديم مرهون بإمكانيات اتصالهم واتحادهم. إننا لو نظرنا إلى خريطة هذه البقعة من الأرض، فسوف نجد أن فلسطين هي الجسر الذي يوصل بين مصر والعرب في آسيا.. والحل الوحيد هو زرع قوة مختلفة على هذا الجسر لتكون بمثابة حاجز يمنع الخطر العربي ويحول دونه. إن الهجرة اليهودية إلى فلسطين تستطيع أن تقوم بهذا الدور، فليس مما يخدم الإمبراطورية البريطانية أن تتكرر تجربة محمد علي، سواء بقيام دولة قوية بمصر أو بقيام الاتصال بين مصر والعرب الآخرين”.
وتتعاقب الأحداث الكبرى، وفي مجملها جاءت لتخدم فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين. فقد بوشر بحفر قناة السويس، عام 1859، وانتهى المشروع بعد عشر سنوات، وأقام الخديوي سعيد باشا حفلاً مهيباً لافتتاح القناة، حضره معظم ملوك ورؤساء العالم، أسفر عن استنزاف خطير للخزانة المصرية، وتراكُم الديون على مصر. وعندما عجزت الخزينة عن سدادها، اضطر الخديوي إسماعيل، عام 1875، لبيع أسهم مصر في قناة السويس لبريطانيا. وهذا الحدث كان من المحفزات الهامة التي دعمت فكرة إقامة كيان مرتبط بإنكلترا، قريب من قناة السويس، لاتخاذه قاعدة انطلاق للتدخل في مصر إذا أخل المصريون تطبيق شروط الاتفاق بشأن حقوق بريطانيا في إدارة قناة السويس.
في عام 1907، وبمبادرة من رئيس وزراء بريطانيا هنري كامبل، اجتمع في لندن عدد من كبار المفكرين والمتخصصين في شتى المجالات، من بريطانيا وهولندا وبلجيكا وإسبانيا وإيطاليا؛ وقد نجم عن هذا الاجتماع العديد من التوصيات التي كان أهمها تحذير من عودة الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها الخطر الأكبر على القيم والمصالح الغربية. وحددت الوثيقة، التي عُرفت بـ “وثيقة كامبل”، ثلاثة تدابير إستراتيجية ينبغي اتخاذها من جانب الغرب للحيلولة دون إحياء الحضارة العربية من جديد: أولها حرمان العرب من المعرفة والتوصل للتكنولوجيا المتطورة، وثانيها تصعيد الخلافات العربية – العربية على الحدود، وثالثها تفتيت النسيج الاجتماعي للدول العربية بتغذية النعرات العرقية والطائفية والمذهبية.
ولدى تفحص كامبل للخارطة الجيوسياسية للعالم العربي، وجد أن العرب يملكون كل مقومات الوحدة الجغرافية والدينية والسياسية واللغوية والتاريخية؛ ومن هنا كان الإصرار البريطاني على إنشاء “إسرائيل” كجسم غريب، وقاعدة عسكرية واستخباراتية متقدمة للغرب الاستعماري مهمتها الأساسية فصل مشرق العرب عن مغربهم، ومنع أية محاولة للوحدة العربية التي ترنو إليها شعوب العرب، وتغذية كل محاولات الانفصال والانشقاق والتشرذم، كما حصل ويحصل حالياً لتجزئة الوطن العربي وتقسيمه، ومطاردة علمائه الكبار ومفكريه، كما حصل لمفكرين فلسطينيين في لبنان وفلسطين ودول أوروبية عدة، وكما حصل في العراق لعلمائه بعد الاحتلال الأمريكي0
وثمة تطور مهم حصل قبيل الحرب العالمية الأولى، حين اكتشف الكيميائي اليهودي حاييم وايزمان طريقة صناعية للحصول على مادة الأسيتون. وهذه المادة تدخل في تركيب الكوردايت، وهي المادة المتفجرة الدافعة التي تلزم لحشو الطلقات وقذائف المدفعية. وقد أهدى وايزمان طريقة التصنيع للحكومة البريطانية، ما وفر لها كميات من المادة الأساس لصنع الحشوات الدافعة تغطي حاجتها طيلة الحرب العالمية الأولى، بعد أن كانت بريطانيا تعاني نقصاً حاداً في ذخائر البنادق والمدافع. وعندما طلبت الحكومة البريطانية من وايزمان أن يحدد المكافأة التي يريدها ثمناً لاكتشافه، أجاب: “لا أريد شيئاً لشخصي، إنما أريد وعداً من بريطانيا العظمى بإقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين”. وقبل أن تنتهي الحرب العالمية الأولى، صدر الوعد المطلوب بالموافقة على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، مع التعهد ببذل المستطاع لتحقيق هذا الوعد.
مع وصول ديفيد لويد جورج إلى منصب رئيس الوزراء البريطاني، عام 1916، تعززت الآمال بانتصار فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، والسبب يعود إلى كون لويد جورج من البروتستانت المتعصبين، فهو ينظر إلى فلسطين على أنها مهد المسيحية واليهودية، حتى أنه كثيراً ما كان يستخدم عبارات من الكتاب المقدس في لقاءاته وتصريحاته؛ ويعتبر لويد جورج صاحب التأثير الأكبر على أرثر بلفور لإصداره وعد بلفور المشؤوم.
لقد غلف بلفور وعده لليهود بمنحهم وطناً قومياً في فلسطين بغلاف مخادع من مشاعر الشفقة الكاذبة والإنسانية الزائفة، فقد ذكر في كلمته التي ألقاها في مجلس اللوردات البريطاني، في 21 حزيران 1922، “إن اليهود قد تعرضوا للطغيان والتعذيب في أوروبا، لذلك كان الوعد تكفيراً عن الجرائم التي ارتكبتها أوروبا بحقهم”. وهذا التبرير هو الذي يوصف بأنه أقبح من ذنب، فإذا كانت أوروبا ترغب في التكفير عن جرائمها بحق اليهود فلتعطهم قطعة من أرضها يقيمون عليها كيانهم السياسي الذي يتباكى عليه الأوروبيون، أما أن تَرتكب أوروبا الجرائم بحق اليهود ويكون التعويض عليهم بارتكاب جريمة أكبر بحق شعب آمن في وطنه، فإن مثل هذه الجرائم لا يرتكبها إلا مجرمون محترفون، لا تعرف نفوسهم أي شكل من أشكال العدالة والإنصاف والإنسانية.
ردود فعل بعض القادة العرب على وعد بلفور
في 2 شباط 1919، وخلال مؤتمر الصلح الذي عقده الحلفاء المنتصرون في باريس، نهاية الحرب العالمية الأولى، لتقاسم غنائم المهزومين، وافق الشريف حسين، شريف مكة ومؤسس المملكة الحجازية الهاشمية، على إعطاء فلسطين وضعاً خاصاً مختلفاً عن أوضاع باقي الدول العربية، واعتبارها خاضعة لوضع عالمي، وليست تابعة للدولة العربية الجديدة؛ وكان ثمن هذا التنازل وعداً بإعطائه دولة على الأرض العربية، ويُعتبر هذا التنازل العربي الأول عن فلسطين.
والخطوة التي تلت موقف الشريف كانت موقف نجله، فيصل بن الحسين، حين أرسل خطاباً إلى الزعيم الصهيوني الأمريكي فرانك فورتر، يقول فيها: “نحن العرب، وخاصة المثقفون منا، ننظر برغبة شديدة إلى النهضة الصهيونية، وسوف نعمل كل ما بوسعنا لمساعدة اليهود، ونتمنى لهم وطناً ينزلون فيه على الرحب والسعة!!”.
في عام 1932، تأسست المملكة السعودية، ونُصِّب عبد العزيز آل سعود ملكاً عليها، بعد أن استولى، بمعونة بريطانيا، على أربعة أخماس شبه الجزيرة العربية، وشرع بتنفيذ دوره الوظيفي بكل أمانة، فقد أجهز على قوات الشريف حسين في إمارة الحجاز على ساحل البحر الأحمر، واحتل مكة المكرمة والمدينة المنورة، وقضى على سلطة آل رشيد في إقليم نجد وسط الجزيرة العربية، واستولى على الإحساء شرقاً وعسير جنوباً، وجعل من نفسه ومن مكة المكرمة مرجعية دينية مركزية للمسلمين (تشبه الفاتيكان الإسلامي)، وكرس منبر بيت الله الحرام بوقاً يصدح بالدعاء للعرش البريطاني “حامي الإسلام والمسلمين”، وتنازل خطياً عن أرض فلسطين “للمساكين اليهود” – حسب وصفه – وتعهد أن يكون خادماً وفياً لبريطانيا، لا يخرج عن رأيها حتى قيام الساعة، حسب نص الوثيقة المكتوبة بخط يده، والممهورة بخاتمه.
قد يستغرب من يسمع أن فلسطين لم تكن الخيار الأول المطروح للاستيطان الصهيوني، رغم مزاعم الارتباط التاريخي اليهودي بفلسطين، فقد طرح رئيس الوزراء البريطاني، آرثر تشامبرلين، العريش المصرية لتكون وطناً قومياً لليهود، واستبعد الخيار لشح المياه في سيناء، بينما اقترح بلفور أوغندا التي رفضها المؤتمر الصهيوني السادس، بدعوى أن أوغندا لا تشكل إغراءً لليهود الأوروبيين كي يهاجروا إليها، بينما عمل البارون موريس دو هرش على بناء المستوطنات في الأرجنتين التي أحجم رئيسها عن بيع المزيد من الأراضي الخصبة لليهود بعد ازدياد أعدادهم وتوسعهم في امتلاك الأراضي وبناء المستوطنات عليها، وتوجسه من هذه الظاهرة المريبة. تلا ذلك مجموعة من الخيارات شملت كندا وجنوب أفريقيا وكينيا والمكسيك وغيرها، وكان لفشل كل خيار أسبابه التي حالت دون تبنيه واعتماده.
بالمجمل، فإن اليهود أنفسهم لم يكونوا راغبين ولا معنيين بما تضخه الدوائر الاستعمارية الغربية في رؤوسهم، من كون فلسطين هي الأرض الموعودة. فقد بلغت حركة الاندماج اليهودية (هسكلا) أوج نشاطها قبل وعد بلفور، وباتت ثقافة تخلي اليهود عن انعزاليتهم واندماجهم في المجتمعات الأوروبية هي الثقافة السائدة في السواد الأعظم من اليهود خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
وهنا يتحتم التساؤل: إذا كانت فلسطين هي أرض الميعاد حقاً، فلماذا تتعدد الخيارات بين الساسة اليهود لاختيار وطن قومي من بين عدة خيارات في عدة دول؟ إن هذا يدفعنا للإيمان بأن اختيار فلسطين كان لغرض سياسي محض، وأن الطرف اليهودي لا علاقة له بفلسطين، إنما زج في هذه اللعبة السياسية ليكون طرفاً يؤدي دوراً وظيفياً يخدم المصالح الغربية.
لقد أتى القرار الدولي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، في 18 تشرين الأول 2016، ليؤكد هذه الحقيقة؛ فقد نفى نص القرار، بشكل قاطع، وجود أية علاقة تاريخية، أو روابط دينية، لليهود في القدس، وأن المسجد الأقصى وحائط البراق، اللذين يُطلق عليهما الصهاينة اسم “الهيكل” و”حائط المبكى”، هما تراث إسلامي خالص، ما يدحض مزاعم الغرب الاستعماري والصهاينة وادعاءاتهم في كون القدس هي عاصمة الأرض الموعود.
واليوم، وبعد مائة عام انقضت على وعد بلفور، بما يعنيه ذلك من ظلم جائر وقع على الفلسطينيين، الذين أمضوا هذه الفترة بين قهر الاحتلال وظلم الاستيطان القسري في أرض الآباء والأجداد ومرارة التشرد ومعاناة اللجوء وعذابات الفقر في بلاد الغربة، لا زالت تلك المظالم تتوارثها الأجيال دون بارقة أمل بصحوة ضمير ممن ساهموا في حل المسألة اليهودية بخلق مأساة فلسطينية.
إن المأساة الفلسطينية، رغم مسؤولية عصبة الأمم التي انتدبت بريطانيا على فلسطين لتنفيذ وعد بلفور، ومسؤولية هيئة الأمم المتحدة التي قبلت عضوية الكيان الصهيوني فيها شريطة تعهدها بتنفيذ القرار 194، القاضي بإعادة الفلسطينيين لوطنهم، دون أن يعود فلسطيني واحد، رغم مرور ثمانية وستين عاماً على هذا التعهد؛ ورغم ذلك، فإن عضوية الكيان الصهيوني في هيئة الأمم المتحدة كـ “عضو كامل العضوية“ لا زالت قائمة، بينما عضوية فلسطين فيها عضواً مستمعاً.
ورغم مسؤولية عصبة الأمم وهيئة الأمم عن المأساة الفلسطينية، فإن بريطانيا تتحمل الوزر الأكبر في حدوث هذه المأساة، فهي التي أصدرت وعدها لليهود، وهي التي احتلت فلسطين لأجلهم، وهي التي أخلَّت بالتزامات الدولة المنتدبة على فلسطين، بانحيازها السافر لصالح اليهود على حساب أصحاب الأرض، لترسِّخ وعدها المشؤوم، كما أرادته، وكما كانت تطمح له الحركة الصهيونية العالمية.
لقد أنصفت أوروبا اليهود – حسب المزاعم – بمساعدتهم على احتلال فلسطين، وإقامة كيان سياسي استعماري استيطاني عدواني توسعي فيها. لكن هل سيأتي يوم ينصف الغرب الفلسطينيين الذين شردتهم العدالة الأوروبية المزعومة، والإنسانية الشوهاء، والحضارة القائمة على قهر الشعوب وسلب خيراتهم؟
لقد كان اليهود مهيئين لقبول أي أرض تكون لهم وطناً، سواء كان هذا الوطن في كندا أو الأرجنتين أو أوغندا أو المكسيك، أما الفلسطينيون فلن يقبلوا بكل أوطان الدنيا بديلاً عن وطنهم فلسطين، وهم مهما طال الزمن سيظلون على العهد، متمسكين بحق العودة، ولا سبيل لانتزاع هذا الحق من مغتصبيه إلا بالمقاومة والكفاح المسلح ضد المحتل الغاشم، فهما الطريق الأقصر نحو الحرية والانعتاق.