انطلاقاً من أن القطاع العام ليس ظاهرة اجتماعية اقتصادية مستقلة، بل هو محكوم بالسلطة التنفيذية بصورة مباشرة من خلال الأشخاص الطبيعيين الذين تختارهم له، ومن خلال القوانين والأنظمة والقرارات والتوجيهات التي تصدر لهم…. فإن الحكم على هذه الظاهرة- إن كان إيجاباً أو سلباً- يستند إلى مخرجاتها ونتائجها، التي وكلما كانت في خدمة الصالح العام وتحصين المجتمع وتحقيق رفاهه ونموه، وبالتالي تمكين الدولة من متطلبات سيادتها واستقلالها، كلما عكست صحة وسلامة وقدرة إدارتها على ترجمة الأهداف التي من أجلها وجد القطاع العام، والعكس صحيح، وهنا تكون السلطة التنفيذية أو ما يمكن تسميته” القطاع الحكومي” أداة سلطوية لتوظيف ” القطاع العام” لصالح جميع أبناء الوطن أو لصالح الخواص المتنفذ، بحكم تحكمها كسلطة تنفيذية، لذلك كان من الضرورة بمكان أن يأخذ هذا القطاع مكاناً ضمن ندواتنا الإسبوعية لإلقاء بعض الضوء على الدور المناط به، ومدى الإستفادة من هذا الدور.
بالتركيز على أهمية هذا القطاع وفي هذا السياق تحدث “قسيم دحدل ” المحرر في قسم الاقتصاد في صحيفة البعث من خلال ورقة عمل قدمها مستهلاً حديثه بتصريح رئيس مجلس الوزراء السابق الدكتور وائل الحلقي في الشهر الخامس من العام 2014، حيث كشف أن عدد العاملين في القطاع العام يصل إلى 2.5 مليون عامل في الدولة وأن الحكومة في اليوم العشرين من كل شهر يجب عليها تأمين 60 مليار ليرة كتلة رواتب وأجور ( علماً أن اعتمادات الرواتب والأجور في موازنة العام 2014 كانت تبلغ 310 مليارات ليرة)، وأن نسبة الذين يداومون منهم في مؤسسات وشركات القطاع العام لا تتجاوز 25- 30%، والباقي في بيوتهم ويتقاضون رواتبهم وتعويضاتهم بداية كل شهر، وأن وسطي ما يقوم به الموظف من عمل خلال دوامه لا يتجاوز 22 دقيقة في اليوم، وكشف أن 63 شركة من شركات القطاع العام الصناعية متوقفة عن الإنتاج، وبسبب ذلك فإن الحكومة دفعت 23 مليار ليرة للعاملين فيها رغم عدم القيام بأي عمل.
أهمية مفهوم القطاع العام
وكي نقف على الأهمية الكبرى للقطاع العام النابعة من “الاحتكارية الطبيعية للدولة” للموارد والإمكانات المادية وغير المادية ودوره الرئيس في إدارتها وتوظيفاتها الاستثمارية..، وما يمثله من صمام أمان اقتصادي واجتماعي وتنموي لبقاء الدولة وبالتالي قدرتها على رعاية وخدمة رعاياها وخاصة من الطبقات المتوسطة والكادحة والفقيرة وحتى الغنية، من الضرورة التطرق لمفهوم القطاع العام.
إن القطاع العام ليس مبتكراً في العصر الحديث، فقد ظهر مع ظهور الدولة، وتعبير القطاع العام يستخدم للدلالة على النشاطات الاقتصادية القائمة على أساس ملكية الدولة لرأس المال والمنتجات، وعليه فوضع القطاع العام في البلدان النامية متشابه إلى حد كبير، من حيث أن معظم النشاطات الاقتصادية للدولة تميل نحو التركيز على تشييد البنية التحتية، وتقديم الخدمات الاجتماعية، وتنظيم حركة التجارة الخارجية، وإنتاج السلع والخدمات التي تقع في نطاق دائرة الاحتكارات الطبيعية، أي أن ملكيتها تقع ضمن إطار السلطة السيادية للدولة، وبناء عليه فمفهوم القطاع العام يحدد بمدى ارتباطه بخدمة المواطنين، وبمدى استجابته لاحتياجاتهم وتطلعاتهم.
كما وهو محور تنموي رئيسي لتعجيل عملية التنمية الاقتصادية، وتنويع مصادر الدخـل القومي، وإنشاء المشروعات الاقتصادية الكبيرة الحجم والمتقدمة تقنيا وإدارياً، وكذلك تغيير نمط الدخل عن طريق الخدمات الاجتماعية والإعانات والدعم وغيرها من أشكال الإنفاق العام.
[quote font_size=”20″ bgcolor=”#f4f4f4″ arrow=”yes”]”لماذا واجه قطاعنا العام ما واجهه قبل سنوات الأزمة وخلالها“[/quote]
وأضاف ” دحدل” أن هذه الأرقام والنسب والمؤشرات لها من الدلالات بقدر ما عليها، هنا الخلل في الأرقام بين الموازنة والـ60 مليار، بين 2.5 مليون عامل في القطاع الحكومي، وبحسب المكتب المركزي للإحصاء ووزارة الداخلية لعام 2011 فإن عدد سكان سورية، كان 21 مليون مرة و 24 مليون مرة أخرى في السنة نفسها، أي يوجد تفاوت بالرقم يزيد عن 2 مليون نسمة، لذلك لا يمكن بناء أي خطة خمسيه بسبب هذا التفاوت بالرقم، لذلك قطاعنا العام رغم هذه الإمكانيات التي أثبت قدرة فيها على استيعاب هذا العدد الكبير من العمالة ، سواء كان 2 مليون أو 2 مليون ونصف، وقدرة على الصرف وتأمين الكتل المادية والمالية، إضافة إلى تأمين الطبابة وتأمين الخدمات الأخرى، إلا أن هذا القطاع أثار الكثير من التساؤلات قبل سنوات الأزمة وخلالها، أولاً لماذا واجه قطاعنا العام ما واجهه قبل سنوات الأزمة وخلالها، إذا لاحظنا في الخطاب الحكومي، أي السلطة التنفيذية، لم يختلف شيء في خطابها الاقتصادي والاجتماعي، حتى في الرقمي، انجازات كلها بأرقام تضخمية، هذا الواقع يدعونا إلى التمعن قليلاً، بأننا المعنيين بالمحافظة عليه أولاً وأخيراً كشعب وكعاملين في القطاع العام، وهنا يجب التمييز بين القطاع الحكومي والقطاع العام، القطاع الحكومي يمثل شكل الملكية، دون أن يفيدنا ذلك في فهم مضمون الملكية، فالملكية هي المصلحة، مصلحة السلطة أم مصلحة الحكومة أم مصلحة المجتمع ككل، والقطاع العام هو الوظائف الحكومية التي تقدمها الدولة، وهنا تظهر العلاقة جدلية إشكالية، فإن القائمون على إدارة قطاعنا العام كانوا فاشلين، كان هناك استهداف ممنهج لقطاعنا العام وأن هناك الكثير من الأمثلة على ما ذكرنا، نكاد نجزم أن استهداف القطاع العام أمراً مؤكداً ومستمراً، إما بتدميره وإما بتسخيره لمصالح البعض، سواء ممن هم في داخله أو خارجه أو معاً على حد سواء، ألم يتم تحويل مؤسسات القطاع العام التي كانت تحتكر أسواق المواد الغذائية الأساسية المستوردة، إلى مؤسسات عاطلة من العمل..، بينما فتح المجال لتحول تلك الأسواق والمواد إلى أسواق احتكارية خاصة ذات أرباح عالية جدا.
وعندما كان قطاع الصناعة النسيجية حكراً على الدولة، أحجم المسؤولون عنه عن إنشاء صناعة للخيوط التركيبية التي تستخدم في العديد من المنسوجات ذات الاستهلاك الواسع، بل فتحوا الباب لاحقاً للقطاع الخاص لاستيراد هذه الخيوط والمنسوجات، التي استخدمت في إشباع الطلب الداخلي، الأمر الذي أدى إلى تراكم مخزون القطاع العام من الخيوط والمنسوجات القطنية، غير القابلة للتصريف، هكذا وبسياسة وقرارات حكومية جرى إحلال احتكار خاص محل احتكار عام في سوق هامة كسوق الغزل والنسيج والألبسة، مما أدى إلى تخسير وتعطيل أكبر قوة إنتاجية في الاقتصاد السوري. وفي صناعة الأدوية، وصناعة الألبان.. مثلا، جرى توقيف -أو بالأصح منع- المعامل الحكومية عن تطوير وتحديث خطوط إنتاجها التي تنتج منتجات ذات نوعية مفضلة وبأسعار أقل، وذلك لتمكن الاحتكارات الخاصة من أن تحتل أسواقها لوحدها، وكذالك في الصناعات الهندسية والتحويلية وهذا ما تم فعلا.
ليست المشكلة في شكل الملكية، بل بالنتائج، فإذا كانت الملكية عامة والنتائج خاصة فهذه مصيبة، وهناك أمثلة كثيرة عن التدمير الممنهج للقطاع العام، مثلا فقد تم تدمير معمل بردى، وذلك كي يظهر الحافظ و بنكوان…الخ، كذلك تم منع تجديد الأجهزة والمعدات لخطوط الإنتاج في معامل الألبان والأجبان والأدوية، الإشكالية هل هي الخصخصة، الخصخصة في حد ذاتها ليست غاية إنما هي وسيلة من الوسائل، وإذا كان مطلوب الخصخصة، وهذا ما نلاحظه بشكل ملتو أو ملتف، مرة بالتشاركية، ومرة بالتشغيل لصالح الغير، وأكبر مثال في تسخير وتوظيف أملاك الدولة، أملاك القطاع العام من 20 مليون ليرة إلى مليار وعشرين مليون ليرة، نحتاج إلى التوازن، فهناك مناهضين للقطاع العام كانوا سابقاً وتمثل ذلك بالدردرية اللبيرالية وما قبل ذلك.
بعد الثمانينات، العصر المزدهر للقطاع العام نتيجة الحصار وما عانيناه، دعمنا القطاع العام ولكن هناك من كان يسعى لتدمير القطاع العام أو تسخيره، وهذا ما تم، عقود بمئات الملايين وإلى اليوم نظام العقود لا بُعدل ولا يُصلح، جرائم تُرتكب بحق القطاع العام وهنا يغيب دور النقابات ، بل هوسلبي. مثلاً قانون العمال رقم 17الذي كان تحت عنوان الليبرالية وجلب الاستثمارات، فُصل 90% من العمال في ريف دمشق العام الماضي لصالح أرباب العمل بالتآمر ما بين ممثلي العمال والقضاة، رغم أن القانون يسمح فقط بالتوقيف إذا كانت الورشات معطلة أو مدمرة، حتى أنهم استعانوا بالقانون قبل أن يصدر لفصل العامل.
[quote font_size=”20″ bgcolor=”#f4f4f4″ arrow=”yes”]”خصخصة الإدارة لا الملكية المادية للعام، مدخلاً للتطوير المنشود، أي فصل الإدارة عن الملكية“[/quote]
بالنتيجة إذا كانت الإدارات العامة لا تستطيع أن تحمي هذا القطاع وتديره بالشكل الذي يمكّن الدولة من أسباب منعتها ويمكن المجتمع من أسباب انهياره وتفككه، فإننا نرى أن “خصخصة ” الإدارة لا الملكية المادية للعام، مدخلاً للتطوير المنشود، وخاصة في المرحلة المقبلة التي تحتاج لإمكانات تمويلية وبشرية ذات كفاءة عالية، شريطة عدم التخلي ولو جزئيا عن السلطة السيادة للقطاع العام وبالتالي للدولة على مقدراتها، فقط وليس الملكية المادية، أي فصل الإدارة عن الملكية، وهذه عملية استثمارية، ومن نتائج ارتباط الإدارة الحكومية بالسياسة العامة للدولة، نجد أن هناك اعتبارات هامة يتعين على العاملين بالإدارة الحكومية مراعاتها والحرص عليها منها الحاسة السياسية بمعنى أن يمتد تصور العاملين وفكرهم واهتماماتهم إلى استكشاف الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية المصيرية للموضوعات والقرارات والمشكلات التي تعرض عليهم، بحيث لا تحيد جميع القرارات التي يتخذها العاملون في هذا المجال عن الصالح والنفع العام. لكن الملاحظ أن هذه المهمة لا تزال غائبة عن اهتماماتهم نتيجة لأسباب عديدة.
المشكلة أننا نمتلك بالقطاع العام طبيعة احتكارية للموارد، للخدمات وحتى للأمن، ومع ذلك لم يستطع القطاع العام ولا السلطة التنفيذية المعنية أو المكلفة بإدارة هذا القطاع أن تستفيد من هذه الميزة المطلقة، وعلى مدار عقود لم تستطع الحكومات التنفيذية، القطاع الحكومي أن يدير القطاع العام. وبالنتيجة فإن القطاع العام هو شكلاً قطاع عام ومضموناً هو قطاع خاص أو أنه ميسر ومسير للقطاع الخاص.
وفي مداخلته أشار الدكتور “عبد اللطيف عمران” رئيس هيئة التحرير في صحيفة البعث إلى أن ثنائية القطاع العام والخاص في سورية تم العمل فيها كثيراً وأن الدول التي تتحدث عن التحول الاشتراكي لها تجربتها الخاصة فيه، وفي قانون العقود رقم 51 عام 2004 كان للمشرع السوري ارتجالات معقولة جداً خاصة في هذه الأزمة
وبدوره نوّه الدكتور “وضاح الخطيب” مدير المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي إلى أنّ كل الأنماط القائمة حالياً في العالم للقطاع العام الإنتاجي المعني بإنتاج مواد التجزئة قد اختفت سواء من النمط الصيني أو الأمريكي. الدولة لها الملكية وتقوم بإدارة القطاع العام أي القطاعات الإستراتيجية كالمياه والكهرباء. أما فيما يتعلق بتصنيع الأدوية والأطعمة وغيرها,حتى في الصين التي انتقلت من الشيوعية إلى نمط اقتصاد أكثر انفتاحا كان الدور الأساسي للدولة دوراً تشريعياً يخلق مجال للتنافس ولتطبيق القانون بشكل سليم، وتساءل ” الخطيب” هل مازلنا نحتاج إلى شركات تنتج أدوات كهربائية وغذائية أم نحن بحاجة إلى إطار تشريعي (القطاع العام الإنتاجي ). وفي معرض رده على السؤال الذي طرحه الخطيب قال: “دحدل” القطاع الإنتاجي تحديداً وهنا والصين وفيتنام كأمثلة تنبهوا إلى هذه القضية وكان الحل الإشراك في ملكية الإنتاج أي إشراكهم في هذه المعامل وبشكل متدرج كمساهمين حتى وصلوا إلى أن يكونوا هم مجموعة عمومية في المعمل الحكومي أي أن يسمح لإدارته من ضمن العاملين فيه، وأثبتت هذه الطريقة نجاحها.
ورأى “ناظم عيد” مدير تحرير الشؤون الاقتصادية والمحلية في صحيفة البعث أنه يجب أن نكون براغماتيين بتعاطينا مع أخطر مسألة في حياة الإنسان وهي المسألة المعيشية، مضيفاً أننا إذا بقينا نركز على موضوع ربط الاقتصاد بالنهج السياسي أو المجاملات في هذا المجال فسنخسر بالتأكيد، إذاً الحل من وجهة نظر عيد أن تستقل الدولة بتطوير القطاعات الحيوية الأساسية والتي قامت دول أوروبية بخصخصتها ومن ثم رجعت عن هذه السياسة مشيراً إلى أن آخر الإحصائيات في عام 2010 بينت أن تكاليف الفساد في سورية 30% من حجم الإنتاج إذا يجب إعادة هيكلة القطاع العام من جديد، ورأى “حسن النابلسي” رئيس قسم الاقتصاد في صحيفة البعث أنه يجب أن تكون هناك تسهيلات كبيرة لقطاع الأعمال حتى ينهض بالمشاريع التي قُدمت في الملتقى الاستثماري الأخير لأن الدولة اليوم هي أحوج ما تكون للاستثمارات.
وخلصت الندوة إلى أنه لابد من الأخذ في الحسبان أن هناك دول وحكومات تستغرب كيف أن سورية وبالرغم من شدة الحرب عليها بقيت صامدة حتى أن وضع الخدمات ومناحي كثيرة فيها أفضل بكثير من دول الجوار التي هي أقل اضطرابا لذلك لا نستطيع أبداً أن نغفل أو نبخس حق القطاع العام الذي كان له دور كبير جداً في صمودنا في هذه الحرب.