اجتمع رؤساء دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 25 أيار، لافتتاح المقر الجديد للحلف في بروكسل، وكان الموضوعان الرئيسان للنقاش هما الإنفاق على الدفاع، ودور الحلف في مكافحة الإرهاب. وتشير هاتان القضيتان إلى أن الناتو يتزايد دوره السياسي بينما تتراجع وظيفته العسكرية .
إن ارتباط الحلف بالمصالح الوطنية لدول أعضائه آخذ في الانهيار، مما يعني أن المناقشات حول الاستراتيجية نادراً ما تحدث داخل التحالف. وأن وظيفته العسكرية آخذة في التراجع، لأن أعضاء الحلف لم يعودوا يتقاسمون مصلحة مشتركة كما كانوا من قبل. ويتضح ذلك من الطريقة التي تقرر بها الدول الأعضاء شراء معدات جديدة، وتحديد أولويات الإنفاق الدفاعي.في عالم مثالي، تود الولايات المتحدة أن تعادل القدرة العسكرية الجماعية الأوروبية ما لا يقل عن 50 في المائة من القدرة العسكرية الأمريكية. تقول واشنطن إنه من غير العدل أن تتحمل الولايات المتحدة أكثر من 70 فى المائة من الإنفاق الدفاعي للناتو بينما لا يمثل إجمالي الناتج المحلى لديها سوى 48 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لدوله مجتمعة.
تحدث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن رغبته في رؤية أوروبا تزيد من مساهماتها وقدراتها. من ناحية أخرى أشار الأوروبيون إلى أن إنفاقهم البسيط على الدفاع لا ينبغي أن يفسر على أنه أقل مساهمة في الحلف. وقد قدم كل جانب القضية بطريقته الخاصة، مع التركيز على كيفية انعكاس هذه التصريحات داخلياً. وقد نقل الناتو مقراته إلى مبنى جديد في بروكسل، ويشير ذلك بوجود هذه الخلافات إلى أنه يتحول من كونه تحالفاً عسكرياً في المقام الأول إلى تحالف سياسي.
الإجماع ليس ممكناً
لن يتوصل الناتو بسهولة إلى اتفاق حول الإنفاق الدفاعي لأن كل بلد يواجه واقعاً جيوسياسياً مختلفاً، وبالتالي لديه احتياجات مختلفة عندما يتعلق الأمر بالدفاع. وقد يكون الأعضاء قادرين على التوافق على بيانات سياسية فضفاضة ولكن ليس على خطط محددة. البرتغال لديها مصالح وطنية مختلفة عن رومانيا، وهم لن يختلفوا على مبلغ المال الذي ينبغي أن ينفقوه على الدفاع فحسب، ولكن سيكون لديهما آراء و أولويات عسكرية متباينة حول كيفية إنفاقه أيضاً.
تم إنشاء التحالف خلال الحرب الباردة، عندما تقاسم الأعضاء مصلحة مشتركة، هي حماية أوروبا الغربية من التهديد السوفييتي.الآن، لم يعد لدى التحالف عدو مشترك، وبالتالي فإن التوصل إلى اتفاق على أمور مثل ما هي المعدات والأسلحة العسكرية اللازمة، أمرٌ مستحيل. وتواجه هذه البلدان جميعها مستويات مختلفة من التهديدات، الأمر الذي يفسر سبب اختلاف الإنفاق الدفاعي من دولة إلى أخرى، حيث لا يرى بعض الأعضاء الدفاع كأولوية.
ويظهر عدم الإجماع أيضاً عندما يتعلق الأمر بجهود الحلف لمكافحة الإرهاب، فقد تعهد قادة الناتو خلال اجتماعهم في بروكسل بـ “بذل المزيد من الجهود لمحاربة الإرهاب” الأمر الذي قد يبدو بمثابة إشارة واعدة. ولكن الأعضاء قاموا بهذا الالتزام وفشلوا في الوفاء به مرات عديدة، فبعد هجمات الـ 11 أيلول، أصرت الإدارة الأمريكية على أن يسهم حلفاء الناتو في الجهود الأمريكية لمكافحة الإرهاب. لكن فرنسا وألمانيا عارضت ،مع روسيا، حرب العراق. وطلبت إدارة أوباما الأولى من الناتو زيادة التزاماته بالقوات في أفغانستان للمساعدة في محاربة طالبان. ولكن الحلفاء الأوروبيون، باستثناء المملكة المتحدة وبعض دول أوروبا الشرقية مثل بولندا ورومانيا وجمهورية التشيك وألبانيا، رفضوا طلب أوباما.
منذ الحادي عشر من أيلول، اعتبرت الولايات المتحدة عملياتها لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك الحروب في العراق وأفغانستان، جزءاً من مبدأ الدفاع الجماعي لمنظمة حلف شمال الأطلسي، الذي يقوم على فكرة أن الهجوم على أحد الأعضاء هو هجوم على الجميع. وعلى الرغم من أن هناك العديد من الأسباب التي جعلت من الحروب في العراق وأفغانستان اشكالية ، إلا أن إصرار ترامب على أن يساعد أعضاء الناتو في مكافحة الإرهاب لا ينبغي أن يشكل مفاجأة، ولكن الولايات المتحدة تنظر إلى عمليات مكافحة الإرهاب بشكل مختلف عن الأوروبيين. بالنسبة للأوروبيين، فإن أولويتهم هي منع الإرهاب في أوروبا، ولا يمكن للناتو أن يفعل شيئاً يذكر لمنع الهجمات الإرهابية في القارة.
الأمن في بروكسل ،عرض لحالة أوروبا
ما من مدينة أوروبية تشعر بتهديد الإرهاب كما هي الحال عليه في بروكسل، ليس لأن بروكسل شهدت الكثير من الهجمات الإرهابية، ولكن بسبب الوجود الكبير للقوات العسكرية. وتظهر قوات العمليات الخاصة و أفراد القوات العسكرية الشخصيات العسكرية بشكل واضح في عواصم غربية أخرى مثل باريس وبرلين أيضاً.وقد تم نشرهم بعد وقوع هجمات إرهابية في هذه المدن، وحتى بعد رفع حالة الطوارئ، بقيت القوات العسكرية منتشرة في معظم العواصم.
ولكن في كثير من البلدان، تكون القوات العسكرية مصحوبة عادة بقوات الأمن الداخلي. في بروكسل، يفتقر إلى هذه التعزيزات، والقوات العسكرية هي القوة الوحيدة التي تكفل السلامة المدنية. وذلك لأن الأمن الداخلي ضعيف في بلجيكا. وقد يتساءل البعض عن فعالية مكافحة الإرهاب بهذه الطريقة، باستخدام القوات العسكرية للقيام بدوريات في المناطق المدنية، ولكن الوجود العسكري يستخدم كرادع ويهدف إلى منع وقوع هجوم آخر. إلا أنه أيضاً تذكير دائم بالتهديد الإرهابي. هذا هو أحد أهداف الإرهاب ، خلق الخوف من أن الهجوم يمكن أن يحدث في أي وقت وفي أي مكان، ومن غير الواضح ما إذا كان وجود أفراد عسكريين يحد فعلا ً من هذا الخوف أو يساهم فيه.
كما أن فعالية القوات العسكرية في مكافحة التهديدات الإرهابية المحتملة في بروكسل مشكوك فيها أيضاً لأن الجنود يحملون أسلحة محدودة ولا يسمح لهم بالذهاب إلى ما هو أبعد مما هو محدد لهم، وإذا رأوا تهديداً خارج منطقتهم، فعليهم استدعاء قوات الأمن المحلية. وما يجعل الأمور أسوأ، أن هناك أيضاً تعاوناً محدوداً وتبادلاً استخباراتياً بين القوات العسكرية وقوى الأمن الداخلي. في بلجيكا، هناك قلة ثقة في قوات الأمن المحلية، ويأمل كثيرون أن يتجاوز الجيش هذه القواعد وأن يتحول إلى الإنقاذ خلال حالة الطوارئ.
هذا التوتر بين القوات العسكرية وقوات الأمن الداخلي هو أمر شائع بين جميع الدول الأعضاء في الناتو. يتشارك أعضاء التحالف بعض المعلومات الاستخباراتية بين إداراتهم الدفاعية، لكنهم لا يتشاركون أي معلومات على مستوى الأمن الداخلي. ومن المرجح أن تبقى هذه الطريقة، ويرجع ذلك جزئياً إلى مقاومة الدول الأعضاء لتبادل المعلومات الاستخباراتية على مستوى أكثر تقدماً مما تفعله الآن وذلك لأن إضافة طبقة أخرى من صنع القرار قد يؤدي إلى إبطاء وتيرة الأمور. وقد أصبحت محاربة الإرهاب في الداخل أولوية أمنية قصوى بالنسبة لمعظم أعضاء الناتو، كما أنه يتم على نحو أكثر فعالية على الصعيد الوطني.
لا يمكن لحلف الناتو القيام بشيء يذكر للمساعدة في تحسين الأمن في بروكسل أو في أي مكان آخر في أوروبا. إلا أنه يمكن أن يصدر بياناً صحفياً يقول فيه أنه يريد بذل المزيد من الجهود لمحاربة الإرهاب. وقد تمت هذه الدعوات من قبل. يضع الناتو الإرهاب في نفس فئة التهديدات مثل الدعاية والحرب السيبرانية، وأنشأ مراكز بحثية لدراسة ما يسمى بالتهديدات الهجينة. كما ناقش أيضاً الانضمام إلى قوات الاتحاد الأوروبي في مكافحة هذه التحديات الجديدة. ولكن ذلك لن يزيد إلا قليلاً عن اجتماعات البيروقراطيين، في حين إن القليل يتم القيام به لمنع المزيد من الهجمات في الواقع.
يدرك البيروقراطيون في الناتو وكذلك الاتحاد الأوروبي هذه الحقيقة. وهم يشكون من القيود التي يواجهونها وعدم اتخاذ إجراءات من جانب السياسيين. ولكن للسياسيين قيود خاصة بهم، وأهمها ناخبوهم. وقبل كل شيء، لا يريد قادة حلف الناتو الاعتراف بأن الحلف غير فعال، ويفضلون أن يظل الناتو في حالته الحالية الميؤوس منها. وكذلك سيكون البيروقراطيين الذين يعملون هناك، لأن وظائفهم تعتمد عليه. قد يبدو هذا الوضع سخيفاً، ولكن في السياسة، العبث هو بديل عن التعامل مع واقع يمكن أن يسبب ضرراً كبيراً إذا تم الاعتراف به.
أنتونيا كوليباسانو، خبيرة في الجغرافيا السياسية وتحليل المعلومات الاستخباراتية الاستراتيجية، ومحاضِرة مشاركة في أكاديمية الاستخبارات الوطنية وجامعة بوخارست في رومانيا.
https://geopoliticalfutures.com/natos-diminishing-military-function/