مقدمة:
“يسعى المهندسون لتشكيل عالم تقني-اجتماعي كامل. من هذا المنطلق، تنفي الهندسة التاريخ. وليس لديها أي تعاطف مع الصراع والتسوية والمصادفة التي جعلت العالم على حالته الحالية. وهو ينهار… (كين ألدر)”[1]
الهدف من هذه الورقة هو استكشاف الأبحاث حول ما إذا كانت هناك صلة بين نوع (بدلاً من الكم) التعليم الذي يتلقاه الشبان والشابات، وبين قابليتهم للتطرف. وهي تبدأ بارتباط واضح، وهو ما تم ملاحظته بشكل جيد، بين الشهادات التقنية – وخاصة الهندسة، وإلى حد أقل، الطب – والتطرف الإسلامي، ولكنها تمضي لتلاحظ النتيجة الطبيعية، وهي التأثير المعاكس الواضح للتعليم في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية في نفس العملية. لقد أثرت مسألة ما إذا كان اعتماد نهج هادف ومركز لإصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وذلك باستخدام هذه الأفكار، قد يسفر عن نتائج ضخمة. سيشمل ذلك كلاً من “أنسنة” تدريس المواد العلمية والتقنية، وتعزيز حالة البحث والتدريس في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، المهملة غالباً، للأسف، في جميع أنحاء المنطقة. كما أني أتساءل أيضاً ما إذا كان التدريس الحالي للمواد العلمية والتقنية والهندسية والرياضية في المنطقة، وطبعاً في أوروبا والولايات المتحدة أيضاً، يوفر ما يلزم من التعليم واسع النطاق الذي من شأنه أن يُعطي الطلاب غير المحصنين الأدوات الفكرية التي يحتاجونها للحفاظ على وتطوير نظرة استفهامية منفتحة. وأخذت بعين الاعتبار خبرات بريطانية محددة في توفير مثل هذا النوع تماماً من التدريس الواسع للعلوم. وأرى أن ذلك سيكون مجالاً خصيباً للتفكير والفعل، سواء من حيث أنه يُؤثر في إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن حيث أنه يتطرق إلى التعليم الذي يتلقاه أعداد كبيرة من طلاب هذه المنطقة الذين يأتون إلى المملكة المتحدة لغرض التعليم. وأخيراً أرى أن لديه أيضاً تأثيرات محتملة في التفكير التربوي في المملكة المتحدة.
وأود أن أنوه، للضرورة، إلى ندرة الإحصاءات وإلى أي مدىً هي قصصية هذه المناقشة، وأنا على علم بنزعة الكُتَّاب، في منطقة حيث الإحصاءات “ضعيفة” جداً ويصعب الحصول عليها، إلى حذف العينات الغربية وعينات الشرق الأوسط في بعض الأحيان. لكني أعتقد أن الاستنتاجات التي تم التوصل إليها، إذا ما تم تداولها مع الشك السليم، تكفي لتسويغ إجراء مزيد من التحقيق والتفكير – بالنسبة للمجلس الثقافي البريطاني على وجه الخصوص – في التركيز على العمل التعليمي في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع.
تجذير التطرف – تحفظ
إن عملية “تجذير التطرف” معقدة جداً، ويتم التحدث عنها بصلاحيات كبيرة، لكنها في الواقع ليست مفهومة إلا بشكل جزئي جداً. وقد تم القيام بملاحظات وتحاليل مفيدة كثيرة، ولكن ليس هنالك توليف واسع مقنع جداً لها. في تقديم لأسباب منفردة، أو لمسارات تقدم يمكن وصفها بسهولة، ربما نحن نخدع أنفسنا، فهذه العملية متغيرة بشكل غير محدود وفريدة من نوعها بالنسبة لكل فرد تورط فيها. وأحد الطرق للتفكير في تجذير التطرف هي اعتباره بمثابة منظار النماذج المتغيرة، الذي تملؤه العديد من قطع الزجاج الصغيرة التي ترتب نفسها بشكل مختلف مع كل دورة للأنبوب. إذا كنا نبحث عن حل لغز الألغاز بالتركيز على معلومة واحدة، أو على بضعة تفاصيل من أجل إهمال التفاصيل الأخرى فإن هذا دائماً أسلوب خاطئ. ورغم ذلك، يجب دراسة كل قطعة على حدة لمعرفة مدى تناسبها مع الأنماط الساحرة التي يقدمها هذا المنظار.
تتخذ هذه الورقة القصيرة نظرة سطحية، تستند برمتها تقريباً على الأبحاث القائمة في الخلفية التعليمية باعتبارها أحد المكونات، أحد قطع الزجاج الملون، دون الادعاء بأنها الجواب الوحيد. ومن الواضح أن الاستنتاجات الأولية بالذات التي وصلت إلى هنا – والاستنتاجات الأكثر أهمية بكثير التي ستنتج عن مضي المجلس الثقافي البريطاني في هذه المسألة – هي ببساطة جزء من إجابة ليست متعددة فقط، وإنما متقلبة تتغير فيما نحن نراقب. وفهم كيف أن التعليم، والعقليات التي وُلِدَتْ من أنواع مختلفة من التعليم، يدفع الأفراد نحو، ويمنعهم من، التحول إلى متطرفين هو مساهمة هامة لإدراك وابتداع العلاج الشافي. وهذا الأمر ينطبق على بريطانيا أو هولندا كما هو الحال في مصر أو تونس، وسيكون له، إذا تم شرحه بصورة مرضية، آثار سياسية بالغة وحقيقية في أوروبا والشرق الأوسط. ولكنه ليس سوى جزء – ولو أني أعتقد أنه جزء هام – من صورة أكبر.
الخلفية التعليمية وتجذّر التطرف
إن أي اقتراح مفاده أن التطرف يرتبط بانخفاض مستويات التعليم يمكن دحضه بسهولة من خلال الاستشهاد بالأعداد الكبيرة من الجهاديين – و”المتشددين غير العنيفين” بالفعل – الحاصلين على تعليم ثانوي وجامعي. فخريجو الجامعات من الزعماء الجهاديين، مثل أيمن الظواهري (حاصل على شهادة في الطب)؛ وأسامة بن لادن (حاصل على شهادة في الهندسة)؛ إضافة إلى الجنود مثل محمد عطا (حاصل على شهادة في الهندسة)؛ والقاتل سيف الدين رزقي (حاصل على شهادة في الهندسة الكهربائية) الذي قام بعملية إرهابية على ساحل سوسة في حزيران 2015، يمكن الاستشهاد بهم بنسب معقولة للإشارة إلى أنه يمكن تجنيد الجهاديين من بين المتعلمين بشكلٍ فعال. وثمة دلائل تشير إلى أن هذا قد يتغير إلى حد ما، وأن الجيل الحالي من مجندي داعش، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد يكون بداية لاستمداد الأشخاص الأقل تعليماً الذين لديهم حوافز دنيوية أكبر، وحتى حوافز تدفعهم ليكونوا مرتزقة.[2] وخلص التحليل الذي قام به دييغو غامبيتا في عام 2007 إلى أن نصف الجهاديين تقريباً (48.5٪) الذين تم تجنييدهم داخل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حاصلون على تعليمٍ عالٍ من نوع ما، وأن “التمثيل المفرط للأشخاص الذين تلقوا التعليم الجامعي من عينتنا مقارنة بعموم سكان بلدانهم هو أمر مهم”.[3]
بيد أن هدفي هنا هو التركيز ليس على كمِّ التعليم – مع أنها قضية مثيرة للاهتمام – وإنما على المواد التي درسها مختلف المجندين في الجامعات، ومن خلال التركيز على تلك المواد أركز على مكانة التعليم في العملية الأوسع والأكثر تعقيداً المتمثلة بتجذير التطرف. وبصرف النظر عن الاقتراح الذي مفاده أن الجهاديين غير متعلمين، نُقل عن الدكتور صبحي اليازجي من الجامعة الإسلامية في غزة قوله: “على عكس الطريقة التي صورها الغرب وبعض وسائل الإعلام المغرضة، والتي تدّعي أنهم شباب تتراوح أعمارهم بين 18-20 سنة تم غسل أدمغتهم، فإن معظم الأشخاص الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الله كانوا مهندسين يعملون في وظائف مكتبية. وكانوا جميعاً ناضجين ومتزنين عقلياً…”[4]. إن ما أشار إليه اليازجي هنا، ولو أن ذلك ليس مقصده الأساسي، هو حقيقةُ أن الكثير منهم من المهندسين.
وكان هناك قدرٌ معين من التعقيبات على تصدُّر المهندسين في أوساط الجهاديين، وسأعود إلى هذه المسألة أدناه، لكن ذلك جزء من جدال أكبر. إن الإحصاءات حول الخلفية التعليمية ضئيلة للغاية، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالمادة المدروسة، لذا يجب على المرء أن يُعمّم بحذر، ولكن الدراسات التي قام بها دييغو غامبيتا وستيفن هيرتوغ حول الهندسة،[5] والدراسات السطحية إلى حد ما التي قام بها ستيفن شفارتز حول الطب،[6] توحي أنه قد يوجد هناك خلل فيما يتعلق بهذه المواد التقنية والعلمية (وربما غيرها) حين يتعلق الأمر بالميول الجهادية. فقد وجد غامبيتا، في عينته، أن 44٪ من الجهاديين الذين تم تجنيدهم داخل المنطقة كانوا قد حصلوا على شهادات في الهندسة،[7] والأمر ينطبق على 59٪ من نسبة أصغر بكثير من الخريجين من بين الجهاديين الذين تم تجنيدهم في الغرب.[8] إن هذا، على الأقل، إيحائي بدرجة كبيرة. ووجد محللون آخرون نتائج مماثلة. فقد وجد رباسا وبينارد، اللذان تفحصا المسلمين البريطانيين فقط المتورطين في الهجمات الإرهابية، أن 18 من أصل الـ 31 شخصاً، الذين يمكنهما الإشارة إلى خلفيتهم التعليمية بشيء من الثقة، حاصلون أو كانوا يدرسون للحصول على شهادة في المرحلة ما بعد الثانوية، ومن بينهم ثمانية دارسين في مجال الهندسة أو تكنولوجيا المعلومات أو تصميم النُظم ودارس واحد من هؤلاء الثمانية في مجال آخر ذي صلة بالعمارة، وثلاثة في مجال الأعمال التجارية، واثنان في العلوم (علوم الأرض والعلوم الطبية الحيوية)؛ وواحد في كل من علم الإحصاء والرياضة والصيدلة والرياضيات، وواحد فقط – حاصل على شهادة عربية غير مكتملة من جامعة دمشق – كان يدرس في مجال العلوم الإنسانية أو العلوم الاجتماعية.[9]
وألمح كلٌّ من شفارتز وغامبيتا إلى أسباب ذلك. فقد كتب شفارتز: إن “تجذير التطرف في الأطباء المسلمين هو… عملية منهجية. فهم يَشغلون شريحة مرموقة في مجتمعاتهم، لذا يتم استهدافهم من قبل المُنَظِّرين المتطرفين”. ويضيف موضحاً: إن “الأسلوب المتبع في الجامعات الأمريكية والأوروبية التي تدرِّس الطب”، والذي يركز “على العلوم الثابتة بشكل رئيسي”، يدمر قدرة طلبة الطب اليافعين على التفكير النقدي بأكملها.[10] إن انجذاب طلاب الطب المسلمين البريطانيين إلى نظرية الخلق، ومقاطعتهم للمحاضرات التي تدور حول نظرية التطور في المدرسة الطبية في كلية لندن الجامعية عام 2011 تحت تأثير من الإسلامي والمؤمن بنظرية الخلق هارون يحيى ربما هي من تبعات هذا الأسلوب.[11] وبوجود أدلة نابعة من تجنيد داعش، أو “الدولة الإسلامية”، واسع النطاق للأطباء (أحد الأمثلة هو رحيل طلاب الطب السودانيين الذين درسوا في بريطانيا من الخرطوم بأعداد كبيرة، وعدة مجموعات، متجهين إلى الرقة[12])، فإنه يجدر النظر في ما إذا كانت الطريقة التي يتم بها تدريس الطب، أو حتى آليات الإشراف العاطفية، التي قد تبلغ في بعض الأحيان الحد الأقصى، والتي يحتاج الأطباء إلى تعلمها من أجل التعامل مع التشريح والألم والموت، هي بحد ذاتها نقاط ضعف عندما يتعلق الأمر بالتجنيد.
ومن خلال انتباهه، بمزيد من التزمت، إلى المهندسين من ضمن الـ 196 جهادياً الحاصلين على تعليم جامعي من عينة إجمالية قدرها 404 جهادياً (ما تبقى إما لم يحصل على تعليم عال، أو أن المعلومات حول مستواهم التعليمي غير متوفرة)، عثر غامبيتا على التمثيل الغزير المشار إليه أعلاه، وبعض من التمثيل المفرط، على الرغم من أنه أضعف بكثير، في “المتشددين غير العنيفين”.[13] وعبر مجموعة من الأبحاث الدولية، تم أكثرها في بلدان غير إسلامية، وجد غامبيتا ميلاً عند المهندسين (سواء كانوا مسلمين أم مسيحيين) لأن يكونوا محافظين (أي ميلاً نحو “حق” الطيف السياسي)، ومتدينيين، ولكن قبل كل شيء وجد لديهم ميلاً لأن يكونوا مفرطين في التمثيل بشكل ملحوظ ضمن الفئة المتداخلة “متدين – و – محافظ”.[14] كما صاغ مفهوماً محدداً ومميزاً سماه “العقلية الهندسية”، ويجادل بشكل مقنع أن ظاهرة المهندسين الجهاديين في الشرق الأوسط هي نتاج التفاعل بين الوضع العام (انقطاع قدرة الارتقاء الاجتماعي لدى طلاب الشرق الأوسط الأكثر فقراً في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي[15]) وبين هذه العقلية التي تقود نحو، والتي يُعززها، تعليم الهندسة.[16] ويحتاج كل من هذين العاملين إلى أن يتم تفكيكه.
لماذا يتم الإفراط في تمثيل المهندسين والأطباء في أوساط المتطرفين والجهاديين؟
إن المنظمات الجهادية بحاجة إلى أطباء يعملون في مشافيها وإلى مهندسين لصنع قنابل وعبوات ناسفة، ولتشغيل مصافي النفط وبناء الطرق، وادعاء داعش بأنها دولة ضخَّمَ هذه الحاجة. ففي أيلول عام 2014، وجه أبو بكر البغدادي نداءً للمجندين حدد فيه بصفة خاصة حاجته لـ “القضاة والأطباء والمهندسين وذوي الخبرة العسكرية والإدارية”.[17] وأدت هذه الحاجة للمهندسين، إلى حد ما، في أواخر عام 2014 إلى هرب مهندسي النفط على مدى الأشهر القليلة الماضية والذي كان له تأثير خطير على عائدات الخلافة من النفط،[18] ولكن من الواضح أن هناك حاجة عسكرية أيضاً.[19] وعبر المرور على كافة أطياف الحركات الإسلامية العنيفة نجد هناك أمثلة عن المهندسين الإرهابيين ذوي المهارات العالية بتخصصات محددة، من ضمنهم: يحيى عياش،[20] خريج الهندسة الكهربائية الملقب بـ “المهندس”، والذي كان كبير صناع المتفجرات في حماس؛ وضرار أبو سيسي،[21] الحاصل على درجة الدكتوراه في الهندسة العسكرية من أكاديمية خاركوف العسكرية والذي كان يدير محطة الكهرباء الوحيدة في غزة وهو من بنى صواريخ حماس؛ وأكرم جودة،[22] الذي كان يدير الجانب التقني في الأنفاق عبر الحدود المصرية (ويُزْعَمُ أنه كان يصنع الصواريخ)؛ وإبراهيم العسيري،[23] كبير صانعي المتفجرات في تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ويُعتقد بأنه خبير كيميائي أو مهندس كيميائي؛ وأزهري حسين،[24] مهندس آخر وهو من صنع القنابل لهجمات بالي عام 2004 وعام 2005.[25] ولكن العديد من صانعي القنابل الآخرين، الأقل خطراً، هم جنود سابقون وكهربائيون وميكانيكيون لديهم خبرة وكفاءة عملية، ولكنهم لم يحصلوا على تعليم عال على الإطلاق.
لذلك قد تكون داعش تَنشُد المهندسين مثلها مثل أي تنظيم آخر يُجنِّد خريجي الجامعات. إذاً لم، رغم أنهم يستجيبون لذلك على نحو غير متكافئ، “يتم تمثيل المهندسين بإفراط وسط المتشددين الإسلاميين بضعفين إلى أربعة أضعاف حجم ما كنا نتوقع”؟[26] إن حاجة الخلافة للمهندسين، وحتى استهدافها لهم في عملية التجنيد (من بين غيرهم من المتخصصين) تجعل ببساطة من المُلحِّ إثارة، دون وجود إجابة، سؤال لماذا يجد هذا العدد الكبير من المهندسين الجهاد العنيف فاتناً ومناسباً لطبيعتهم واهتماماتهم، مع أن العكس يبدو صحيحاً بالنسبة للاقتصاديين والأنثروبولوجيين. ويخلص غامبيتا، بعد فحص إمكانية أن بروز المهندسين مستند إلى مهاراتهم، إلى أن المهندسين يتم تجنيدهم على نحو واسع في أدوار إدارية غير تقنية في معظم التنظيمات الجهادية، وأن صُنع المتفجرات يتم عموماً بواسطة فرقة صغيرة من المتخصصين الذين غالباً ما يكونون ذوي مستوى خبرة نظرية أدنى من خريجي كليات الهندسة. وأنه، في استنتاج ربما يُضائل قليلاً من دور المهندسين الجهاديين، “من المشكوك فيه أن الحركات العنيفة التي تملك حصة أكبر من المهندسين قد حشدت قوة تدميرية أكبر من المجموعات التي لا تملك هذا التعداد”.[27]
وبالمضي قدماً، من المهم قبل كل شيء أن نحاول التمييز مؤقتاً بين الفئتين، الجهاديين العنيفين والمتطرفين غير العنيفين. لقد لاحظت أن غامبيتا قد وجد أن الإفراط في تمثيل المهندسين في الفئة الأخيرة أخف منه في الفئة الأولى، وإن كان لا يزال كبيراً.[28] فقد أشار إلى أنه “على الرغم من الإفراط في تمثيل المهندسين في كل من [الجماعات الإسلامية العنيفة والمسالمة]، إلا أن حَمَلَةَ “الشهادات النخبوية الأخرى” (أي الطب والعلوم الطبيعية) يتم تمثيلهم بشكل أقوى بكثير في الفئة الأخيرة. ويبدو أن الإسلام جذّاب لكليهما، ولكن المهندسين يبدون عرضة بشكل أكبر بكثير لأن يصبحوا عنيفين”.[29] ويشير تقرير ديموس لعام 2010 بشأن التطرف، بشكل مثير للاهتمام، إلى أن “عدداً كبيراً من الإرهابيين كانوا من حملة الشهادات التقنية أو الشهادات التطبيقية – الطب، والعلوم التطبيقية، وخصوصاً الهندسة. مقابل ذلك، كان معظم المتطرفين [غير العنيفين] من دارسي الفنون والعلوم الإنسانية والاجتماعية”.[30] إن هذا قد يوحي، إذا ما تم تأكيده، بأن الانتقال من فئة إلى أخرى ليس، على الإطلاق، بالسهولة والسلاسة التي يتخيلها الباحثون النظريون في مجال مكافحة الإرهاب والذي يشكل أساس الكثير من الخطاب الأمني.
إن هذا التمييز الذي قدَّمه ديموس فيه إشارة محددة إلى المتطرفين والجهاديين البريطانيين. أما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لاحظ غامبيتا أن هناك اختلافاً بين المهندسين وحملة “الشهادات النخبوية الأخرى”، لكن يبدو أن كلية الآداب أقل تمثيلاً، بصرف النظر عن الدراسات الإسلامية. ويقول الكاتب حازم قنديل حول جماعة الإخوان المسلمين غير الجهادية والتي تُعتبر إلى حد ما أقل عنفاً من الناحية التاريخية: إن “نظرة واحدة على خلفيات أعضاء الجماعة التعليمية تكشف أن الإخوان الذين تلقوا تعليماً عالياً (من ضمنهم 20 ألفاً حاصلون على درجة الدكتوراه وثلاثةُ آلافِ أستاذ جامعي) هم بشكل رئيسي مختصون في مجال العلوم الطبيعية”. ويُشير إلى أن هناك رجال دين ومحامين ورجال أعمال، وحتى حفنة من طلاب الأدب. “لكن مع ذلك، يغيب عنهم طلاب السياسة وعلم الاجتماع والتاريخ والفلسفة”. وقام قنديل بتحليل القيادات العليا لجماعة الإخوان المسلمين، ووجد فيهم الأطباء البيطريين والمهندسين الزراعيين والمهندسين والجيولوجيين والأطباء، ولكن واقعياً ليس فيهم علماء اجتماع. واستشهد بأحد أعضاء الجماعة السابقين في قوله: “في العلوم الاجتماعية يتعلم المرء أن شخصاً ما قدّم حجة، انتقدها آخر؛ والتاريخ يثبت صحة هذه الحجة من عدمها. والتشكيك في المعرفة المتلقاة هو موضع ترحيب. مقابل ذلك، في العلوم الطبيعية لا يوجد هناك آراء وإنما حقائق فقط. هذا النوع من العقليات الواقعية (غير العاطفية) أكثر عرضة لتقبل صيغ جماعة الإخوان المسلمين التي تمثل كل شيء على أنه إما أسود أو أبيض”.[31]
وقد لوحظ وجود أرجحية مماثلة من المهندسين والعلماء في أماكن أخرى، على سبيل المثال ضمن قياديّ الجبهة الإسلامية للإنقاذ التي ظهرت خلال الحرب الأهلية في الجزائر، الذين كان يشار إليهم في عام 1999 باسم “تكنوقراطيي وحداثيي الجبهة الإسلامية للانقاذ”.[32] وفي الآونة الأخيرة، أجرى الاتحاد العام لطلبة تونس دراسة تم نشرها في حزيران عام 2015، حيث قام باستطلاعٍ بين الطلاب في جامعات البلاد بحثاً عن تفسيرٍ لسبب استيلاد البلاد لعدد ضخم من الجهاديين، وكان تعليقه (مع توقعات قاتمة نظراً للمجزرة التي ارتكبها مهندس كهربائي في سوسة قبل أسابيع قليلة فقط) “أن طلاب العلوم، على عكس طلاب الفنون الليبراليين، هم الأكثر انجذاباً للجماعات الجهادية”.[33] وجاء في مقال حول هذه الدراسة “وفقاً للدراسة، تستأثر شعب الرياضيات والتقنية على أعلى نسبة من الطلبة المجندين بواقع 19 في المئة، تليها شعب العلوم الطبيعية، والكيمياء، والفيزياء 21 في المئة، ثم الهندسة بواقع 14 في المئة، بينما تقبع الشعب الأدبية والقانونية في ذيل القائمة بنسبة 3.3 في المئة”.[34]
وكما أشرت أعلاه، عرض غامبيتا عاملين أساسيين في شرح أرجحية المهندسين، وهما بحاجة إلى أن يتم استكشافهما بشكل منفصل. فمن ناحية، افترض وجود أزمة توقعات غير ملباة في أوساط المهندسين من الأسر المنخفضة والمتوسطة الدخل، مما أدى بهم إلى السخط والتطرف. ومن ناحية أخرى، يصف “عقلية هندسية” مميزة، والتي يعتبرها أكثر تأثراً بالمذاهب الجهادية من غيرها من العقليات المحددة تعليمياً.
سوسيولوجيا مهنة الهندسة
إن مسار مهنة الهندسة في الشرق الأوسط دقيق ومهم. وقبل نهاية الفترة الاستعمارية، لم تكن الهندسة، كمهنة متماسكة، موجودة في أي مكان من العالم العربي باستثناء مصر. وتطورت هناك، وفي أماكن أخرى، بسرعة بعد تصفية الاستعمار، واضطلعت بدور رائد في التنمية الوطنية التي تقودها الدولة، ثم نمت بسرعة، وارتبطت بشكل وثيق مع كل من الحكومة نفسها ومع مشروع تحديث الدولة. وفي ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، استقطبت مهنة الهندسة، التي أخذت تتوسع بسرعة، العديد من الشباب من خلفيات فقيرة ومتوسطة، وقدمت لهم التدريب المُمَوَّل، ومدخلاً إلى النخبة التي ترعاها الدولة، والأمن، وتحسين المُرتَّبَات والوضع الاجتماعي. وكان المهندسون آنذاك، على حد تعبير علي الكِنز، الأطفال المدللين لدى الدول الجديدة.
بعد ربع قرن من الأمان والمكانة والازدهار الوظيفي التي تم التسليم بها بشكل متزايد، بدأت آفاق المهندسين بالانهيار في الثمانينيات بسبب الأزمة الاقتصادية وبسبب عملية “تحرير” وخصخصة الدولة التي بدأها السادات في مصر، والتي انتشرت في جميع أنحاء المنطقة فيما بعد. وبالطبع، أثّر هذا بشكل خاص في الشباب، الذين خرجوا من تعليمهم إلى سوقِ عملٍ لم يكن قادراً على استيعاب الأعداد الكبيرة للمهندسين الذين نَبَتَ ريشهم حديثاً، والذين تحطّمت آمالهم وتطلعاتهم. وكانت ردود أفعالهم متفاوتة في مختلف البلدان، وعكست التاريخ المختلف لكل بلد، ولكن في مصر والجزائر، وإلى حد أقل في المغرب وتونس وسورية، اتجه المهندسون الساخطون إلى المنظمات، وإلى السياسة، وبشكل كبير جداً إلى الإسلام.[35] ولاحظتْ الدراسة التونسية المذكورة أعلاه، والتي أكدت وجود طلاب العلوم والتقانة بين الجهاديين، “أن معظم الطلاب المجندين يأتون من الجامعات الموجودة في المحافظات الأكثر فقراً، وخاصة جامعات القيروان، وبنزرت، وقابس، وسيدي بوزيد، التي تعتبر مهد الثورة التونسية. وربما استطاع المتطرفون تجنيد هؤلاء الطلاب بسهولة، حسبما ذكر التقرير، نظراً لـ “تدهور الظروف الاجتماعية …”[36]
ويمكن رؤية هذا التطور المتغاير في عمليتين انتخابيتين أشار إليهما غامبيتا. في منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، كانت الجمعيات المهنية المصرية الخاصة بالمهندسين والأطباء والصيادلة أول من انهار أمام الإسلاميين، في حين بقيت جمعية المحامين اليساريين، القائمة لحد الآن، صامدة حت تسعينيات القرن المنصرم. وفي انتخابات لجنة أعضاء هيئة التدريس في جامعة القاهرة لعام 1990-1991، سجل غامبيتا فوزاً كاسحاً للإسلاميين في كلية الهندسة (فاز الإسلاميون بـ 60 من أصل 60 مقعداً فيما كان قبلاً معقلاً لليساريين) وفي كلية الطب (72 من 72)، وكلية العلوم (47 من 48)، في حين يتناقض ذلك في كليتي الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث نجح الإسلاميون في الفوز فقط بـ 13 من أصل 49 مقعداً.[37] ويبدو أن هذا يعكس التسييس سريع النمو للمهن الحرة، وربما المهندسون بشكل خاص، في بيئة اجتماعية عدائية، وتوجهها إلى الإسلام – ولكنه يعكس أيضاً مقاومة، والتي سنعود لها فيما بعد، لهذا التسييس في كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
العقلية الهندسية
العقلية، وهي العنصر الثاني في فرضية غامبيتا، هي أكثر أهمية في حجتي (رغم استحالة تحديد الأهمية النسبية لعنصريها الرئيسيين). وقد قام باستكشافها بطريقة مشوقة بشكل خاص. واستشهد بملفٍ للمخابرات البريطانية، واصفاً تجنيد الجهاديين في المملكة المتحدة بأنه يبحث عن الأفراد “الفضوليين جداً والذين يشكلون تحدياً أقل”، وأشار إلى محاولات منسقة لتجنيد “ذوي ’التأهيل الفني والمهني‘”، لا سيما حملة شهادات الهندسة وتكنولوجيا المعلومات”.[38] وفي تنويهه إلى إسناد راينهارد شولتزه التطرف الإسلامي إلى “وجهة نظر المجتمع السيبرانية”،[39] يقرأ غامبيتا في تحليل للتطرفية اليمينية (حيث يُمَثَّلُ المهندسون فيها أيضاً بإفراط ملحوظ، في حين أن العكس هو الصحيح في التطرفية اليسارية) ويختار منه ثلاثة صفات تميز “العقلية الهندسية”: الأحادية، والمبالغة في التبسيط، والاتقائية. و”سواء كان أمريكياً أم كندياً أم إسلامياً، وسواء كان سبب ذلك التنشئة الاجتماعية الاصطفائية أو الميدانية، يبدو أن حصة غير متناسبة من المهندسين لديهم عقلية تجعلهم يميلون إلى الاستمتاع بالميزات اليمينية المثالية لـ “الأحادية” – ’لم الجدال إذا كان هناك حل أفضل‘ – ولـ “المبالغة في التبسيط”- ’فقط لو كان المواطنون عقلانيين، سيكون العلاج بسيطاً‘. أما بالنسبة لـ “الاتقائية”، لا يمكن إنكار ’توقها [العقلية] الضمني للحصول على نظامٍ مفقود، وتلاؤمها مع الأيديولوجية الإسلامية المتطرفة: موضوع العودة لنظام المجتمع في عهد النبي منتشر في جزء كبير من الأيديولوجيا السلفية والجهادية‘.[40]
يُلخص مارك سيغمان، وهو عميل سابق في وكالة المخابرات المركزية وخبير في شؤون الشبكات الإرهابية، الأمر على النحو التالي: “جذبت أناقة وبساطة التفسيرات [السلفية] العديد مِمَّن يبحثون عن حل وحيد وخال من الغموض. في أغلب الأحيان، اختار هؤلاء الأشخاص قبلاً مثل هذه المجالات التقنية غير الغامضة كالهندسة، أو الهندسة المعمارية، أو علوم الحاسب الآلي، أو الطب. أما طلاب العلوم الإنسانية والاجتماعية كانوا قلائل ومتباعدين في عينتي”.[41] والدراسة التونسية المذكورة أعلاه تستنتج الفكرة ذاتها، وهي أن “المنهج التعليمي التونسي في مجالات العلوم والرياضيات والتقنية لا تعطي عادة الطلاب المهارات التحليلية أو البحثية أو القدرة على القيام بالتفكير النقدي، وفقاً لـ [أحمد] الذوادي [رئيس الاتحاد العام لطلبة تونس]. ويُهيمن على التدريس ما يسمى الحقائق المثبتة التي لا مجال لمناقشتها. وهذا ما يجعل هؤلاء الطلاب فريسة سهلة للتجنيد، في حين أن طلاب الأدب، الأكثر ميلاً للمناظرات، والمناقشات، والبحث في أُطروحاتهم، هم أقلُّ عرضةً للتأثر”.[42]
يبدو أن المهندسين تركوا بصماتهم في كل زاوية من “مشروع التطرفية العنيفة” الإسلاموي. وحقيقة أن الطب والعلوم الطبيعية سيكونان التاليين (بعد الدراسات الإسلامية)، ولو كان ذلك على بعد مسافة قصيرة، تُشير إلى أن هناك ظاهرة تعليمية أوسع هنا – وأن، حسبما صاغه غامبيتا بصورة عابرة، “قد يكون ’المهندس‘ ممثلاً عن نوع من الأشخاص الموجودين في، والذين تجذبهم، الشهادات التقنية والعلمية الأخرى أيضاً، ولكن ليس كثيراً كما بين المهندسين”[43] (وتقترح حاشيةٌ تشير إلى مقال كتبه سيمون بارون كوهين مبدئياً أن هذا يمكن أن يكون متصلاً جزئياً بالإفراط في تمثيل المهندسين المصابين بمرض التوحد ذو الأداء الوظيفي العالي[44]، وهذا ما تشير إليه أيضاً دراسة سبرها ستيف سيلبرمان في مقالته بعنوان “متلازمة المهوس”[45]). وبعبارة أخرى، يَخلص غامبيتا إلى أن هناك شيء ما في هذا النوع من العقول المنجذبة للهندسة، والذي تعززه طبيعة المنهج وطريقة تدريسه، يدفع المهندسين نحو الجهاد بشكل غير متناسب.
صمت علماء الاجتماع
إن الجانب الآخر من العملة له نفس القدر من الأهمية، وهو واضح بما فيه الكفاية في ضوء هذه الحجج: التغيب شبه الكامل لعلماء الاجتماع المعروفين عن الجهاد. وهذا يوحي بأن العلوم الإنسانية و- بالتحديد – العلوم الاجتماعية قد تُضفي على طلابها القدرة على التفكير النقدي والدقيق الذي يعطيهم بدوره القدرة على مقاومة الثرثرة العقائدية للإسلاميين المتطرفين. (وبشكلٍ مثيرٍ للاهتمام، يبدو أن هذا، مثل تصدُّر المهندسين، هو سمة خاصة للحركات الإسلامية. وتنعكس هذه السمة بضعفٍ في الحركات اليمينية الأخرى، في حين أن الحركات اليسارية قد تُبدّل القطبية، مع إفراط في تمثيل علماء الاجتماع وخريجي الفنون في، على سبيل المثال، فصيل الجيش الأحمر، المعروف باسم بادير ماينهوف، والجيش الأحمر الياباني، والجماعات اليسارية في أمريكا اللاتينية والولايات المتحدة التي كانت موجودة في فترة الستينيات.[46])
إن الانضمام إلى التنظيمات السلفية والتنظيمات الجهادية السلفية يتطلب قبول، دون تمحيصٍ أو نقد، تصريحات السلطة الدينية العليا وتفسيراتها، وإخماد أي قدرة على الاستقراء النقدي. تحدث ’أيمن دين‘، وهو اسم مستعار لإرهابي من تنظيم القاعدة السعودي الذي “خرج” منه كعميل للمخابرات البريطانية، مؤخراً حول الطريقة التي زرعت الشك في عقله، وبالتالي كيفية شن هجوم على التماسك الأيديولوجي للجهاديين: “تقدم داعش أجوبة بسيطة على جميع الأسئلة – لذا عليك أن تشجع على التعقيد: إن نسبة 100٪ من الاقتناع تعني مقاتلاً ملتزماً؛ ونسبة 95٪ من الاقتناع تعني مقاتلاً مرتبكاً، والمقاتل المرتبك هو مقاتل منزوع السلاح. وهذا هو المطلوب، أي إرباكهم، لا إقناعهم”. وإن ما يسميه دين، وهو لاهوتي أكثر من أن يكون عالماً اجتماعياً، الارتباك يمكن وصفه بشكل أفضل على أنه ذو معنى غامض وملون ومتعدد.[47]
يُمكن للمرء أن يبحث في التوازن بين نفور الجماعات المتطرفة من التفكير النقدي، من جهة (وهذا يعني أنهم، مثل الإخوان المسلمين، يقاومون بنشاط المُجَنِّدين الذين سيحدثون الشقاق من خلال التشكيك في السلطة)، والتأثير الوقائي لقابلية الشباب والشابات الأذكياء على تعلم كيفية التفكير من جهة أخرى. وهناك أيضاً تمايز اجتماعي وفكري في عملية التجنيد في فرعي التعلم هذين في جامعات الشرق الأوسط (والذي سأعود إليه أدناه)، ولكن يبدو على الأقل أنه من المرجح جداً أن، بطريقة أو بأخرى، المواقف الفكرية والحاجة الملحة للتفكير النقدي غير المقيد الذي يأتي من التدريس الجيد، وحتى التدريس الحيادي، في العلوم الاجتماعية لا تختلط جيداً مع عملية تجذير التطرف، وهذه نقطة قدمها مارك سيغمان وحازم قنديل بشكل جيد، اللذان تم الاقتباس منهما أعلاه. وملف المخابرات البريطانية الذي ذكره غامبيتا واضح جداً في دلالته: يتم التجنيد للجهاد لأولئك الأشخاص الأذكياء والفضوليين، والذين لا يُشككون في السلطة. وهذه ليست من ملامح عالم الاجتماع الجيد.
العلوم الاجتماعية في العالم العربي
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لديها بالتأكيد علماء اجتماع متميزين على المستوى الدولي، رغم أن العديد منهم يضع قدماً في بلاده والأخرى في الخارج (80٪ من العمل البحثي لـ 30 من أغزر الكتاب الجزائريين إنتاجاً تم نشره في الخارج؛ وتبلغ النسبة 66٪ إذا تم احتساب الكُتَّاب الـ 50 الأغزر إنتاجاً، و45٪ إذا ما تم احتساب الكُتَّاب الـ 200 الأفضل – ولو أن “هجرة العقول في المغرب وتونس لها نصف القدر من الأهمية”[48]). بالنسبة لأولئك الذين لبثوا في وطنهم، فقد تبددت طاقاتهم بسبب عملهم في الصحافة والترويج والأعمال الأخرى الخارجة عن اختصاصاتهم، حتى أن “علماء الاجتماع يبدون بوضوح كمستشارين ومناضلين سياسيين أكثر مما يبدون كمجرد علماء فقط”.[49]
وتشكل العلوم الاجتماعية، في مجملها، مهنة وتخصصاً مختلفاً جداً عن تلك الموجودة في الغرب الناطق بالإنكليزية والفرنسية. وحسب ما جاء في تقريرٍ للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة في عام 2014، فإن “الدول العربية التي تهيئ بيئة مؤاتية لأبحاث [العلوم الاجتماعية] نادرة. فالقمع السياسي والرقابة والافتقار إلى سياسة قائمة على الأبحاث تعيق تطوير مثل هذه البيئات”.[50] وبعبارة أخرى، لم يكن لطبيعة ودور العلوم الاجتماعية، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا الشمالية، دور حاسم مبني على حكومة تعمل على أساس سياسة تستند إلى الأدلة بشكل عام. وحسبما يقول التقرير نفسه، “القضية الأساسية بالنسبة للعلوم الاجتماعية بعد الاستقلال، وهذا ينطبق على كل مجتمعات ما بعد الاستعمار، هي كيف يمكن خدمة الدولة أو الأمة أو المشروع المعاصر الذي تسعى الدولة إلى تحقيقه. ويتعلق هذا المشروع، سواء كان شيوعياً أم اشتراكياً أم قومياً أم حتى موالياً لأمريكا، بحاجة البلاد لإدارةٍ حديثة وقطاعٍ اقتصاديّ حديث. وهذا ما جعل العلوم الاجتماعية مُستغرقةً في حل المشاكل التقنية بدلاً من انتقادها”.[51] كما أنها، في ظل غياب سياسة تستند إلى الأدلة، نزعتْ إلى إخضاع هذه المشاكل لسياسة مؤدلجة. وكان هناك في هذ العملية توتر ملحوظ مع الإرث الاستعماري في علم الاجتماع، وعلم الأجناس، والتاريخ، وعلم الإنسان إلخ، والذي كان يُنظر إليه بعين الريبة، وتم نزع الشرعية عنه حتى، وكان رد فعل العديد من الباحثين، لكن ليس جميعهم، تجاهه عنيفاً. ويمكن القول، رغم ذلك، أن رد الفعل هذا بالذات – هذا التفاعل المكثف والعدائي غالباً، والذي قَلَّمَا كان مبدعاً، مع التراث الفكري الاستعماري – هو الذي أمَّنَ التحصين.
وبالتأكيد لم تكن جودة التعليم، أو البحث، في العلوم الاجتماعية هي من أمنت هذا التحصين. وباستثناء لبنان وسورية، لأسباب مختلفة جداً، تركزت مثل هذه الأبحاث في العلوم الاجتماعية خارج الجامعات في المنظمات غير الحكومية، وكانت تنظر الحكومات إليها بعين الريبة، وغالباً ما اقتصرت أنشطتها، حسب ما جاء في التقرير نفسه، على “البحث الروتيني الذي غالباً ما تتكون مخرجاته من تقارير غير منشورة”.[52] وكثيراً ما يُنظر إلى بحوث العلوم الاجتماعية الفعلية والنقدية والمعترف بها دولياً على أنها معارضة بطبيعتها، ويتعرض ممارسوها العنيدون إلى مضايقات وإلى معاملة سيئة في بعض الأحيان. وهذا لا يعني أنه لا يوجد هناك علماء اجتماع عرب بارزون، فهناك أسماء كبيرة مثل محمد الطوزي، وحسن رشيق، وعلي الكِنز، وفاطمة المرنيسي، وعلي الدسوقي، وساري نسيبة، وأحمد إدريس، وسعد الدين إبراهيم – ولكنهم قلائل نسبياً، لذا فهم، تبعاً لذلك، مهمّون.
أما بالنسبة للكليات الجامعية، فلم يَغِبْ عن ذهن حكومات الشرق الأوسط أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تقدم أرخص وسيلة، بالنسبة لكل فرد، لتعليم الطلاب. وعندما تواجه الحكومات ضغوطاً مكثفة، معظمها يواجه هذه الضغوط حالياً، لاستيعاب التضخم السكاني الذي لا يزال يشق طريقه عبر نظمها التعليمية، فهذا أمرٌ جلل. وحسب تعليقِ أكاديميّ مصري كئيبٍ سمعته بشأن مؤتمر عُقد مؤخراً، فإن التوسع في التعليم العالي يعني ببساطة المزيد من الطلاب، والنساء على نحو جائر، الذين سيدرسون العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية في الجامعات المحلية التي تعاني أصلاً نقصاً في التمويل. وفي جميع أنحاء المنطقة، “تُشكل العلوم الإنسانية والاجتماعية من ثلثي إلى ثلاثة أرباع مجموع المسجلين في [الجامعات]”، ولو أن “أعضاء هيئة التدريس يمثلون من ثلث إلى نصف مجموع الموظفين”.[53]
وبالكاد يصلح قول إنه إذا حصل وواجه المهندسون مشاكل البطالة، فإن هذه المشكلة أكثر حدة بالنسبة لخريجي كلية الآداب. وبأخذ الجزائر كمثال، أحد البلدين اللذين لوحظ فيهما تطوّر الهندسة إلى التطرف بوضوح شديد، تصل نسبة البطالة بين الخريجين إلى 28.7٪ للعلوم الاجتماعية، و27.3٪ للعلوم الإنسانية، و18.1٪ للعلوم، و14.8٪ للمهندسين (تبلغ نسبة البطالة بين مجموع الخريجين على مستوى البلاد إلى 21.4%).[54] وفي جميع أنحاء المنطقة، تَشَكَّلَ الوضع برمته بسبب تقلص فرص العمل في القطاع العام الذي وفر للعلوم الإنسانية والاجتماعية في الماضي تذاكر دخول غير مشروطة. وكان هناك حتى مقترحات أكاديمية في الآونة الأخيرة تشير إلى أن الجهاد هو مهنة يختارها الخريجون لأنها تبدو بالنسبة لهم كخيار معقول ومنطقي من الناحية الاقتصادية.[55]
وصف الأستاذ محمد الطوزي، وهو ربما أبرز علماء الاجتماع في المغرب، في عام 2014 “شعوراً بأن [مهنته] تذبل بسبب نقص التمويل والتنظيم، ولأن التخطيط لمستقبلها غير كاف تماماً. وبيَّن أن المهنة تمر بأزمة، مع لمحة وراثية تبعث على القلق الشديد، وعدم وجود رقابة على الجودة، ونقصٍ حادٍ في البحث الفعلي”.[56] إن التقرير الأكثر أهمية في العلوم الاجتماعية في المغرب، والمعروف باسم تقرير الشرقاوي، نسبة لمؤلفه، يرسم صورة قاتمة للغاية. فقد تتباهى المغرب – وهي بالفعل تفعل ذلك – بأن لديها أهم علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في المنطقة بأسرها، ولكن حسبما يشير الشرقاوي، فإن 45٪ فقط من المدرسين في كليات العلوم الاجتماعية قاموا بنشر دراساتهم، وما تم نشره هو مقدار مثير للقلق من “الدراسات الإسلامية”، والكثير منها لا يرقى إلا لمستوى أعلى بقليل من المناظرات دينية.[57] (ويلزم التذكير هنا أن الدراسات الإسلامية، التي تُصنّف، بصورة غريبة بعض الشيء، في معظم بلدان المنطقة على أنها من العلوم الاجتماعية، توفر للجهاد أعداداً معتبرة من الخريجين، ولو كانت نسبتهم لا تضاهي نسبة المهندسين). وبعبارة أخرى، إن العلوم الاجتماعية التي تُدرس حسب التقاليد الغربية هي جزيرة صغيرة مهددة من جميع الجوانب. ويختلف الوضع طبعاً في البلدان الأخرى في المنطقة، ولكن على الرغم من أنه أقل سوءاً في بعض البلدان، إلا أنه في كثير من الأحيان لا يختلف في غيرها اختلافاً جذرياً.
ورغم أنها خارجة عن النطاق المباشر لهذه الورقة، إلا أنه تجدر ملاحظة أنه كانت هناك محاولات نظرية منهجية لحل هذه المعضلة في سياق إسلامي. مثل هذه المبادرات، والتي يعتبر مشروع “أسلمة المعرفة” أحدها، تُسلط الضوء على الآثار المترتبة للفشل في تطوير الفكر النقدي لدى الطبيعة الإسلامية تحديداً والذي يمكنه التعامل مع هيمنة الأبستمولوجيا والعلوم ‘الغربية’. وتم اقترح هذا المشروع نفسه لـ “إعادة صياغة العلوم الاجتماعية الحديثة في إطار الإسلام”، ولكن يبدو أنه قد تعثر واعتبره بعض النقاد المعاصرين بأنه محدود للغاية. وحسب تعبير أحد الكتاب في هذا التقليد النقدي، “من المهم أن يُدرك المسلمون أن المعرفة هي دائماً بناء إنساني يتولد من مساعي البشر لفهم العالم. فالمعرفة الكلاسيكية التي تُرتكز على الأبستمولوجيا الإسلامية… ليست مطلقة وغير قابلة للتغيير”. قد يتفق الكثيرون مع سهيلة حسين في أن “رفع الشريعة إلى المستوى الإلهي قد ألغى دور المسلمين كواضعي-معنى نشطين”، مما حول الإسلام إلى “أيديولوجية توتاليتارية”. وأصبح المسلمون “مجرد مستقبلين سلبيين بدلاً من أن يكونوا باحثين نشيطين عن الحقيقة، وأصبح الإسلام مجرد أيديولوجية بدلاً من أن يكون ديناً غير مقيد”.[58] وحسب قول ضياء الدين سردار، فإن “الأيديولوجية هي نقيض للإسلام. وهي ليست قوة تحرير وإنما مشروع قمع. فالإسلام هو دعوة للتفكير والتحليل، وليس للتقليد والاتباع العاطفي”.[59] وهذا يبدو صحيحاً بوضوح شديد، ويقدم خيطاً آخر في النُهج المتعلقة بإصلاح التعليم، ولكن حقيقة الحاجة لقول ذلك تشير إلى أن هذا الأخير – “التقليد والاتباع العاطفي” – لا يزال هو القاعدة العامة، وتم تحديد نتائج من هذا القبيل في هذه الورقة. يلخص عبد الوهاب الأفندي هذا الأمر على نحو أنيق بقوله: “نحن بحاجة حقاً إلى تطوير نموذج تَعَلُّمٍ جديد يشجع الطلاب على إنماء أجنحة، لا أن يجعلهم يعلِّقون حمولة ثقيلة بأقدامهم”.[60]
ما يلفت النظر حقاً هو أن هناك شيئاً ما يُؤثر في هؤلاء الطلاب. وإذا أضْفَتْ، حتى في حالة التعليم السائد اليوم التي غالباً ما تكون بائسة، العلوم الاجتماعية حصانة نسبية ضد التطرف الإسلامي، سواء كان عنيفاً وربما غير العنيف أيضاً، فكم بالحري يمكنهم أن يصمدوا، ذوو التعليم الجيد وحتى اللذين أُعيدَ تأهيلهم فكرياً؟ وما هي الآثار المترتبة على استمرار الانهيار في سوق توظيف الخريجين، وخاصة في القطاع العام، من حيث احتمالية تجذير تطرف أكبر لهؤلاء الطلاب الصامدين حتى الآن؟ كلا السؤالين يحتاج أجوبة عاجلة، وعواقب عدم فهم أهميتهما قد تكون خطيرة.
الخلل في تعليم العلوم وتعليم العلوم الاجتماعية
تُشدد ملاحظة ستيفن شفارتز، التي اقتبست منها جزئياً أعلاه، على التجنيد الموجه من قبل الجهاديين الذين يستهدفون فيه المتخصصين وخاصة الأطباء. وما يمضي في قوله (وأقتبسه هنا بالكامل) هو هذا: “تتفاقم المشكلة عند المهاجرين الذين يدرسون في الغرب وعند ذريتهم، من خلال أسلوب تدريس الطب في جامعات الولايات المتحدة وأوروبا. ولأنها تُركز على العلوم الثابتة في المقام الأول، يمكن للمسلمين أن يستمروا في دراسة المقررات مع التعرض بشكل قليل جداً للفنون والعلوم الإنسانية، وبالتالي ليس هنالك ما يتحدى وجهات نظرهم الدينية الساذجة أحياناً. وإن فرصة أن يتلقى الأطباء المسلمون في بريطانيا، حيث الطب هو حقل جامعي، أي تدريب جامعي في مجال العلوم الإنسانية ضئيلة”.[61]
وهذا ينطبق على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – ولكن كما يشير شفارتز وتؤكده مصادر أخرى، فهو ينطبق على أوروبا والمملكة المتحدة أيضاً. والمشكلة ليست فقط في عدم الاحترام والإيصال الرديء للعلوم الاجتماعية، وإنما في الطريقة التي يتم فيها تدريس العلوم الثابتة – المواد العلمية والتقنية والهندسية والرياضية. وأكد لي زميل مسلم، واصفاً مساره الفكري، مؤخراً أن الوضع أفضل قليلاً في أوروبا، وأن ثقافة تدريس العلوم تعتمد بشكل كبير على ثنائية الحق والباطل، والصواب والخطأ – ولم يجد نفسه تتحرر وتُعبّر عن تفكيره الخاص في جميع المجالات إلا عندما أصبح طالب دراسات عليا وانغمس في علم اجتماع وفلسفة العلوم. وبعبارة أخرى، من المحتمل أن يكون التعليم الرديء للعلوم ’الثابتة‘، والذي يشترط أن يكون العقل في إطار ثنائية الصواب والخطأ، ضاراً بقدر الضرر الذي يسببه عدم احترام (والتعليم البائس لـ) العلوم الاجتماعية، والذي، في أفضل حالاته، يضعضع أركان هذا الإطار.
في جميع أنحاء العالم الإسلامي – بل في معظم أنحاء العالم – كل من مجالي هذه الكارثة الصامتة تلوح نذره. ففي المملكة المتحدة هناك ميلٌ ملحوظ جداً، عندما تم خفض ميزانية التعليم العالي، لحماية البحث والتدريس العلمي والتقني والهندسي والرياضي فيما يتم توجيه التخفيضات إلى مكان آخر. وتحديد الأولويات هذا، المدفوع اقتصادياً والذي يركز على الابتكار، شبه عالمي في أوساط الإسلاميين والحكومات في العالم العربي، وكذلك في الغرب، وينطوي على الافتراض المثير للجدل في أن النمو الاقتصادي هو الهدف الأسمى للتعليم – وأن المواد العلمية والتقنية والهندسية والرياضية وحدها من يقود النمو حقيقة. وسيتم التشجيع على التعليم الهادف إلى المنفعة، الذي يدعم “الابتكار التكنولوجي”، و”التقدم”، و”النمو الاقتصادي”، فالتخصصات العملية، الأقل وضوحاً والغامضة كثيراً، التي تشجع الطلاب على التشكيك في السلطة والعقيدة تعاني من تخفيضات في التمويل. “في ورقة صدرت عن ديوان التربية والتعليم في الدولة الإسلامية في 18 تشرين الأول، ألغت فيها الدولة الإسلامية كليات الآثار، والفنون الجميلة، والقانون، والفلسفة، والعلوم السياسية، والرياضة، والسياحة، وإدارة الفنادق… وألغى الديوان أيضاً المواد المتعلقة بالديمقراطية والثقافة غير الإسلامية وحقوق الإنسان في جميع الكليات. كما حرّم دراسة الدراما والروايات، والإقراض، والانقسامات العرقية والجغرافية، وألغيت الأحداث التاريخية التي تُخالف معتقدات الدولة الإسلامية والتربية الوطنية العراقية”.[62]
إن تحديد الأولويات هذا، إن لم يكن التنفيذ الهمجي له، يجد أصداء في سياسات التعليم عند معظم حكومات الشرق الأوسط. وموضوعات الدراسة ذات الامتياز الخاص والتي يتم تشجيعها هي تلك التي يُتخيل أنها تدعم التنمية الاقتصادية، وينظر إلى البقية بارتياب عميق ليس فقط من قبل الحكومة، بل من قبل المؤسسة الدينية، التي لا يمكنها التعامل بسهولة – على الأقل في يومنا هذا – مع المدلول الغامض والمتعدد. وهذا بالطبع هو الحال حيث تأثرت تلك المؤسسة، مهما كان هذا التأثير غير مباشر، بالتفردات العقائدية للإسلام الوهابي ومشتقاته. “إن العلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية، والفنون الحرة لا يمكن أن يُتوقع منها أن تتطور في محيط سلطوي ومحافظ للغاية – وهو ما يفسر التركيز المتوقع على المناهج الجديدة التي تدور حول ‘العلوم الدقيقة”، و”التدجين” المتوقع للعلوم الاجتماعية في إطار الهندسة الاجتماعية”.[63]
تجنيد الجامعيين في الدول العربية
تجدر الإشارة إلى أن القبول الجامعي في العالم العربي الإسلامي يميل إلى أن يتم تنظيمه وفقاً لتسلسل هرمي محدد من الكليات، والتي من خلال درجة الامتحان النهائي يتأهل خريج أو خريجة المدارس الثانوية إلى كلية من كلياتها مع متطلبات قبول في ذلك المستوى أو أقل. وكليتا الطب والهندسة تتطلبان أعلى مستوى من الدرجات، تليهما العلوم الطبيعية، ثم تأتي كلية الآداب في مستوى ما في الخلف. وتدير كليات النخبة هذه – ولكن ليس كلية الآداب – حصة نسبية ثابتة، أي عدداً محدداً من الطلاب. لذا يميل الطلاب ذوو المعدل العالي إلى الدخول إلى الطب والهندسة والعلوم، في حين يدخل ذوو المعدل المنخفض إلى كليات الآداب لدراسة العلوم الإنسانية والاجتماعية ذات الحجم الأكبر. ومن غير المألوف نسبياً للطالب أو الطالبة أن يختار كلية أدنى من استحقاقه أو استحقاقها. هذا التسلسل الهرمي يعني أن المهندسين بالتعريف يعتبرون من بين الأكثر ذكاء من الشباب والشابات الذين يدخلون التعليم العالي (تماماً مثلما يعتبر أولئك الذين يدخلون كلية الآداب بشكل عام أنهم أقل ذكاء) – وهذا يجب أخذه في عين الاعتبار، بحذر، في فهم “العقلية الهندسية”. وقدم غامبيتا، أثناء عزله المهندسين الذين يشكلون 44٪ من الجهاديين الجامعيين، أيضاً نسباً إجمالية لما وصفه بـ “الشهادات النخبوية” (أي الهندسة والطب والعلوم) التي درسها 56.7٪ من جميع الجهاديين الجامعيين، وترتفع هذه النسبة إلى 63.4٪ إذا تم تضمين الاقتصاد والأعمال أيضاً استناداً إلى أن لديهم في بعض البلدان، مثل مصر، قبول انتقائي أيضاً.[64] هذا قد يوحي أن الطبيعة التمييزية والانتقائية للشهادة كَمَثَلِ المضمون المحدد هي التي تستهوي الشباب والشابات الأذكياء. وربما تشير أيضاً إلى أن الجهاديين يقومون بتجنيد حملة هذه الشهادات لأنهم غير ممثلين بصورة مناسبة في النخب الوطنية – لكن هذه الفرضيات المناقضة لا تعتبر مرضية بالنسبة للتمثيل المفرط للمهندسين الجهاديين في أوساط حملة الشهادات النخبوية.
ومن المحتمل أن تؤكد حجة بديلة أن النجاح في امتحانات المدرسة الثانوية النهائية ودخول كليات النخبة يتطلب على وجه التحديد التسليم السلبي بمبدأ الحق والباطل، والنسخ الحريص للمعرفة المكتسبة عن ظهر قلب التي يبدو أنها من متطلبات الهندسة والجهادية أيضاً. في هذه الحالة فإن نظام التعليم بأكمله في معظم بلدان الشرق الأوسط هو عبارة عن آلية انتقاء للعقلية الهندسية. واقتراح ذلك، مهما كان هذا الاقتراح خجولاً، يعني رسم علاقة سببية بين التقدم في إصلاح التعليم والقدرة على التكيف الاجتماعي في وجه التطرف والجهاد.
التعليم من أسفله إلى أعلاه – التحدي الأكبر
إن التحدي بالطبع يمتد وصولاً إلى البداية الفعلية للتعليم. ففي منطقةٍ حيث الأمية الوظيفية والإجمالية منتشرة أكثر بكثير مما تودّ أي حكومة الاعتراف به، وحيث لا تزال أساليب التعليم تقوم، إلى حد كبير، على أساسٍ يتمحور حول المعلم ويحكمه الامتحان ويعتمد على الحفظ عن ظهر قلب (ناهيك عن أنه مبني في كثير من الأحيان وحتى يومنا هذا على الأساس الهش للكتاتيب، أو الكُتَّاب، وهي صالة تدريب لتحفيظ القرآن قبل مرحلة المدرسة)، تحتاج طريقة التَّعَلُّم إلى إصلاح جذري. كتب الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري عن المدارس: “إن طبيعة التعليم المهيمن اليوم في الوطن العربي هو إما تعليم تقني مقطوع كلية عن أي تفكير في المعنى لهذه التكنولوجيا، لأنه يصنع أناساً بشكل آلي ودوغمائي، أو هو تعليم يركز على الأساطير ويلبد الأذهان. إن هذين النوعين من التعليم يشتركان في جذعٍ واحد وهو غياب التساؤل النقدي: إن سؤالاً ماذا أو كيف لم يُطرحا أبداً”.[65] ووصف التونسي رياض الصيداوي نفس الظاهرة، لكنه طبَّقها على الأنظمة التعليمية ككل: “إن العقل الذي اعتاد على تعلم الصيغ الصحيحة وغير القابلة للنقاش هو على استعداد لتلقي العقائد بنفس السهولة والتلقائية التي يتلقى بها القوانين العلمية”.[66]
تلك العقائد وتلقينها منذ الطفولة جرى توضيحها بشكل جيد مؤخراً في الصحافة المغربية، بسبب خلاف بشأن الأسئلة الامتحانية (وطريقة التدريس) المعادية بشكل واضح لحقوق الإنسان والمناهضة للتطور لامتحانات “التربية الإسلامية” داخل المدارس. وتم الاستشهاد بأوراق امتحانية وضعت مؤخراً جاء فيها أن المدافعين عن حقوق الإنسان “يحرضون على العنف، وإدمان التبغ، والتحرش الجنسي، والألفاظ النابية، وتدمير الممتلكات العامة”، وطلبت من المُمْتَحَنين دحض “نظرية التطور” لأنها تناقض النصوص الدينية. وكما لاحظ الكاتب، فإن “هذا الانقسام الثنائي في التعليم المغربي يُساهم في خلق فردٍ معطوب، ممزقٍ بين خوف باطني من الحكم [الإلهي] والفضول الطبيعي للإنسان. ومن الواضح أن “التربية الإسلامية” في نظام التعليم الوطني تستأثر بحصة الأسد من تدريس القيم. والاستنتاج واضح: عندما تطرح ‘التربية الإسلامية” تفسيراً يتعارض مع العلم، فالتفسير العلمي هو الذي يجب وضعه على الرف”.[67]
وفي عملية إصلاح التعليم في منطقة الشرق الأوسط اليوم هناك الكثير من الحديث عن مهارات التواصل، وعن الحاجة إلى تطوير المؤهلات والعادات الخاصة بمهارات القرن الواحد والعشرين المتمثلة بالعمل الجماعي، والتوليف، والتقديم، والتحليل والنقاش النقدي التي تعتبر من مقتضيات الاقتصاد المُعَولم – ولكن أقل فهمنا أن هذه المهارات لا يمكن اكتسابها بمعزل عن غيرها، ولو بمقدار ضئيل. ولكي يكون لها أي تأثير على مجتمعات المنطقة التي لا تزال تعاني من بطء في التفكير، يجب أن تُشكل جزءاً من التجربة الدراسية المتنوعة والتطوير المنظم والدقيق للاستقلال الأخلاقي والفكري والذكاء النقدي.
إن التغيير في هذا المجال ليس سهلاً على الإطلاق. “والعدد القليل من البلدان التي حاولت إدخال المهارات المعرفية العليا بوصفها هدفاً تربوياً لم تنجح في تغيير ممارسات المعلمين”، حسبما أفاد البنك الدولي في عام 2008. ونظم التعليم “تكافئ في الدرجة الأولى أولئك البارعين في كونهم مُتَلَقّين سلبيين للمعرفة”، و”يندر العمل الجماعي، والتفكير الإبداعي، والتعلم الاستباقي. والتدريس التلقيني… لا يزال السمة الغالبة حتى في البلدان التي أدخلت منهج التدريس المرتكز على الطفل”.[68] وقبل خمس سنوات، لاحظ تقرير التنمية البشرية العربية لعام 2003 بشكل واقعي أن “المناهج التي تدرَّس في الدول العربية يبدو أنها تحث على الطاعة والتبعية والامتثال والإذعان عوضاً عن التفكير النقدي الحر”.[69]
إذا كان الهدف هو المساعدة في بناء (وعدد قليل من المخططين التربويين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يصوغونه بهذا الشكل بالضبط) ليس العقلية “الفضولية جداً والأقل اعتراضاً” التي أشارت إليها الاستخبارات البريطانية بأنها هدف للمُجَنِّدين الجهاديين، وإنما العقلية “الفضولية جداً والأكثر اعتراضاً” التي يمكن أن تساعد في توليد الحصانة، فإن الطريق لا يزال طويلاً.
التوسع في تعليم العلوم
إن فكرة تعليم موسّع في العلوم والهندسة يحتوي على العلوم الاجتماعية والإنسانية ليست جديدة، وترتبط بشكل خاص، وبالطبع هذا ليس على وجه الحصر، مع نظام الولايات المتحدة للتعليم العالي، حيث يُطلب عموماً من طلاب الهندسة والعلوم دراسة مقررات خارج مجالهم في سنتهم الدراسية الأولى. وهناك العديد من الأمثلة في بريطانيا أيضاً، والتي سأعود إلى أحدها، في كلية إمبريَل، أدناه. وهناك أمثلة أخرى تتضمن العمل الذي تم إنجازه في جامعة وارويك في التسعينيات مع شركتي رولز رويس وروفر لتوسيع التفكير الإبداعي ومهارات التواصل والتقصي والتفكير المُبتكِر، وغيرها، لدى المهندسين. وقد تم القيام بعمل مماثل في الجامعات الأخرى، بما في ذلك جامعات نابيير، وبرمنغهام سيتي، ولوبورو، وكرانفيلد، لكن ذلك لا يزال استثناءً وليس قاعدة.
يُقدم جون هورغان مبرراً جيداً لهذا، وهو يُدرّس مقرراً في العلوم الإنسانية لطلاب السنة الأولى في كلية ستيفنز في الولايات المتحدة، في تدوينة له بعنوان “لماذا نَدْرُسُ العلوم الإنسانية؟ هذا ما أقوله لطلاب الهندسة المستجدين”. ويبدأ فيها بنزعة إلى الشك في جميع طلاب الهندسة عملياً وبأنهم بحاجة إلى دراسة الفلسفة والأدب، موضحاً أن:
…السبب بالضبط لأن العلم له من القوة ما يجعلنا بحاجة إلى العلوم الإنسانية الآن أكثر من أي وقت مضى. ففي حصص العلوم والرياضيات والهندسة، تُقدَّمُ لك الحقائق، والإجابات، والمعرفة، والواقع. ويقول لك أساتذتك، “هكذا تسير الأمور”. ويقدمون لك اليقين. أما العلوم الإنسانية، على الأقل بالطريقة التي أُدرسهم فيها، فهي تقدم لك الإبهام والريبة والشك.
العلوم الإنسانية هدامة. فهي تُضعف مزاعم جميع السلطات، سواء كانت سياسية أم دينية أم علمية. هذه النزعة إلى الشك مهمة وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمزاعم حول الإنسانية، وحول ما نحن عليه، ومن أين أتينا، وحتى حول ما يمكن أن نصبح وما ينبغي أن نكونه. لقد حل العلم محل الدين في كونه مصدرنا الرئيسي في الإجابة على هذه الأسئلة. وأخبرنا العلم الكثير عن أنفسنا، ونحن نتعلم المزيد يوماً بعد يوم.
ولكن العلوم الإنسانية تذكرنا بأن لدينا قدرة هائلة على تضليل أنفسنا. كما أنها تخبرنا أن كل إنسان فريد من نوعه، ويختلف عن أي إنسانٍ آخر، وكل واحد منا يتغير باستمرار بطرق غير متوقعة. كما أن المجتمعات التي نعيش فيها تستمر في التغير– ويرجع ذلك جزئياً للعلوم والتكنولوجيا!. لذلك يقاوم البشر بطرق مهمة ومحددة هذا النوع من التفسيرات التي يمنحنا إيَّاها العلم.
والعلوم الإنسانية تدور حول التساؤلات أكثر من الإجابات، ونحن في طريقنا لنتصارع مع بعض الأسئلة الكبيرة التي تبعث على السخرية في هذه الحصة. على سبيل المثال، ما هي الحقيقة بأية حال؟ كيف لنا أن نعرف أن شيئاً ما صحيح؟ أو بالأحرى، لماذا نؤمن بأن بعض الأمور صحيحة وأخرى غير صحيحة؟ وأيضاً، كيف لنا أن نجزم ما إذا كان القيام بأمر ما، سواء كان لنا شخصياً أو للمجتمع ككل، هو فعل خاطئ أم صحيح؟[70]
ربما نحن في بريطانيا أقل تقدماً في هذا المجال، ويعود ذلك إلى حد كبير لأننا لا نعترف بالحاجة للتعليم “المختلط” في المستوى الجامعي. على الرغم من أنه منذ صدور تقرير بودمير، تحت عنوان “فهم العامة للعلوم”، في عام 1985، ازداد إدراكنا لانعدام التواصل بين العلوم والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وتمت صياغة ذلك ليس لـ “إدخال العلوم الإنسانية والاجتماعية في العلوم”، بقدر ما هو “استخراجٌ لرسالة العلم”. لكن ذلك أثار قدرة فائقة على التلاقح، وأحد أبرز الثمار الناتجة عن هذا التلاقح قرار كلية إمبريَل في أواخر الثمانينيات في إنشاء درجة الماجستير في التواصل العلمي تحت إشراف أستاذ مادة فهم العامة للعلوم آنذاك (ومدير الاتصالات في متحف العلوم) جون ديورانت، وإنشاء قسم للعلوم الإنسانية، حيث تم إدراج مقررين له ضمن هذه الدرجة. واليوم تم وضع مقرري الماجستير هذين (التواصل العلمي والإنتاج الإعلامي العلمي) في صميم بنية المقررات الجامعية الطوعية التي تم اعتبارها من “آفاق كلية إمبريَل”، والتي تُغطي الأعمال، والتنمية، واللغات، و”العلوم والثقافة والمجتمع”، التي يختار دراستها كثير من الطلاب، ولكن ليس جميعهم. وعندما سُئل طالب يدرس الهندسة تطوع لإجراء مقابلة مصورة على موقع كلية إمبريَل عن الشيء المفضل بالنسبة له في مقرر العلوم الإنسانية، قال “هناك الكثير من الفرص للمناقشة والتباحث”، مما يشير إلى أن العكس هو في الغالب ما يحصل في المختبر.
وكتب الدكتور ستيفن ويبستر، الذي يدير قسماً في كلية إمبريَل، ويكتب على موقع الكلية حول مقررات الماجستير:
إن عملية تعليم العلوم الاعتيادية، حتى في المستوى الجامعي – ربما في المستوى الجامعي بشكل خاص – لا تشجع النقاش بشأن العلم. ومع ذلك، هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه. من الذي يجب عليه أن يدفع تكاليف العلم؟ ومن عليه أن يُقرر ما إذا كان العلم جديراً بالمتابعة؟ وهل يمكن أن يكون العالِم أبداً على يقين من أنه قد وجد الحقيقة؟ وما هي العلاقة بين العلم والفن؟ وما هو الدور الذي يلعبه العلماء في التواصل العلمي؟ وعندما يكون هناك حوار وطني حول مسألة علمية ما، مثلاً مسألة تغير المناخ، أو الطاقة النووية، ماذا يمكن أن نتوقع من وسائل الإعلام لدينا؟. إن هدفنا هو جعلك تُفكر بسلاسة وذكاء حول مسائل كتلك. وسنساعدك على نقل الحقائق العلمية بوضوح. كما سنساعدك على تفسير طبيعة العلم المعقدة داخل المجتمع.
…فلن تجد أن التواصل العلمي هو واحد من مجموعة من الحقائق التي يمكن استخلاصها. وبالانتقال من العلم إلى التواصل العلمي، فإن طريقة تفكيرك تتغير. وهذا التغيير هو الذي سيجعلك محاوراً جيداً (وإن عدت إلى العلم نفسه، فستعود كعالِم أفضل).[71]
قد تكون كلية إمبريَل قد وصلت إلى منتصف هذا المشروع، ولكنه انتشر، فهناك الآن أربعة عشر جامعة تم إدراجها على موقع postgrad.com لوجود مقررات ماجستير في التواصل العلمي فيها، وربما هذا ليس كامل القصة. فبعبارة أخرى، لدى بريطانيا الخبرة في معالجة الفجوة التي تُسلط هذه الورقة عليها الضوء – ويصف الدكتور ويبستر في الفقرة الأخيرة بدقة هذا التحول الذي، في السياق الذي تتم مناقشته في هذا المقال، له آثارٌ عميقةٌ في عملية تحصين العقل.
الإجراءات المستقبلية – الحاجة الماسّة لأبحاث متناسقة وأكثر عمقاً
إن التعليم بالطبع سياسي للغاية، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر من أي مكان آخر. وله تأثيرات، في حال كانت الأبحاث المشار إليها في هذه الورقة صحيحة، خطيرة ليس فقط بالنسبة للمحافظة على الصحة الفكرية للمجتمع وتطوره، ولكن أيضاً بالنسبة للأمن داخل المنطقة وخارجها. وعلاوة على ذلك، له آثارُ على تعليم المهندسين والأطباء والعلماء في الغرب، بما أن الأبحاث هنا أيضاً تبدو أنها تشير إلى ارتباط (وإن كان أقل كثافة) مماثل بين التطرف الجهادي وتعليم العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات، وخاصة الهندسة، في المرحلة الجامعية.
وفيما يخص منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن بريطانيا لديها الفرصة لجعل لعبة التفكير العام تدور حول هذه السلسلة من الروابط بين القضايا. وعلى مفترق طرق السياسة العامة، والتعليم، والأمن، يُعتبر هذا مجالاً بحثياً مهماً وضرورياً بالنسبة لدولة ذات نظامِ تعليمٍ مُدوَّل بشكل هائل، ومشكلةً خطيرةً متمثلة بعملية تجذير التطرف في أوساط المواطنين والزوار اليافعين. هذه الأجندة، الاستكشاف الدقيق لـ “التعليم وتجذير التطرف”، وتطوير استجابات بناءة بالفعل وتستند إلى المزيد من جمع الأدلة، لها أهمية كبيرة وفاعلية عظيمة. فهي توجه الخارج إلى البيئة التعليمية المعتمدة في المنطقة بوصفها بلداً نعرفه جيداً، من خلال مؤسسات التعليم العالي خاصتنا، ومن خلال المجلس الثقافي البريطاني، وتوجه الداخل إلى الاحتياجات الأمنية في المملكة المتحدة.
إن الرؤى المركزية التي سيحتاج مثل هذا العمل إلى أن يستند عليها، والاستقصاءات التي ستشكل جزءاً هاماً منه، هي ما يلي:
- التدريس المتدني للعلوم الاجتماعية هو استخدام غير وافٍ للدفاع الفكري، الذي من المفترض أن يكون قوياً، ضد الأفكار المتطرفة.
- الطريقة التي تُدرَّس فيها المواد العلمية والتقنية والهندسية والرياضية تُعزز، بدلاً من أن تتحدى، تطوير عقلية مُتقبِّلةٍ للأفكار المتطرفة.
- إن كامل الهيكل التعليمي، من المرحلة الابتدائية وما بعدها، في معظم أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يدعم التقبلية والسلبية الفكرية اللتان توفران البنية التحتية لحالات الإخفاق.
وخلال المضي قدماً في أجندة الأبحاث المحايدة والقائمة على الأدلة التي تدور حول عملية تجذير التطرف، هناك عدد من الفرص الواضحة والملحّة. وجميعها تعتمد على الحاجة الملحّة لفهم، بكل ما يتطلبه الأمر من دقة، العملية التي يصبح فيها الشباب مقتنعين بأن يَهبوا أرواحهم لقضية تبدو لغيرهم مدمّرة وعدَمِيّة حتى، ولكنها تكتسب أهمية توجيهية مختلفة جداً بالنسبة لهم. وتم القيام بعمل أكثر روعة من قبل المتخصصين الأكاديميين والسياسيين، ولكن هناك دلالة ضعيفة عن كونه عملاً “مشتركاً”، أو راضخاً لتقديرٍ شاملٍ لعملية تجذير التطرف الذي نفتقر له في الوقت الحاضر من غير ريب.
التعليم هو مفترق طرق بالغ الأهمية بالنسبة للسياسة والإدراك. وأوصي بأن تأخذ مؤسسة ملائمة (ربما المجلس الثقافي البريطاني) زمام المبادرة في بدء البحث والمناقشة، بهدف نشر النتائج الموضوعية لكامل مسألة “التعليم والتطرف” مع أكبر قدرٍ متاح لنا من الدقة واليقين. يجب أن تُعْمِلَ عملية البحث هذه الفكر أولاً في ما إذا كان يمكن تقديم المزيد من البيانات لجعل الاستنتاجات التي بلغناها هنا أكثر جوهرية وأكثر دقة؛ وثانياً في عملية تنقية التفسيرات؛ ثم في عملية اقتراح السبل الممكنة للمضي قدماً في العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات والعلوم الإنسانية والاجتماعية والتعليم في المدارس، سواء في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (والعالم الإسلامي الأوسع) أو في المملكة المتحدة.
كما أنصح أيضاً أن تتعهد مؤسسة مناسبة (ربما المجلس الثقافي البريطاني، مرة أخرى) مشروعاً أكبر وأكثر طموحاً بكثير. قد يتم ذلك لتجميع مجموعة أساسية من المؤسسات الراعية لجدولٍ أكاديميّ يُسمى، من باب الجدل، ثقافات تجذير التطرف. وسوف تستعرض (المؤسسة) الأبحاث القائمة والناشئة بشأن عملية تجذير التطرف برمتها، التي قال عنها المُفوَّض المساعد السابق لشرطة العاصمة، روبرت كويك، بشكل جذاب مؤخراً: “إن فهمنا لعملية تجذير التطرف، أي ما هو لبُّ مشكلة عدم رضانا عن المجتمع البريطاني، هو فهمٌ قليل جداً”.[72] وقد تُعامِل تجذير التطرف كمشكلة ثقافية متعددة التخصصات، بالاعتماد على السيكولوجيا والأنثروبولوجيا إلى جانب العلوم السياسية، والتعليم، والاتصالات، والتاريخ؛ وسيكون لديها، إذا تم تَصوُّر ذلك وتشكيله بشكل ملائم، القدرة على أن تصبح كـ “اللجنة الدولية للتغيرات المناخية” بالنسبة للتطرف، حيث تستخلص وتجمع الأفكار والمفاهيم الجديدة في إطار ثقافي وأكاديمي من التوافق عالي التوتر، وبآثار سياسية شديدة.
وما وراء ذلك – وبناء عليه- هناك آثار واضحة بالنسبة للتعليم تعمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خلال مجموعة واسعة من المنظمات التي قد يُرشدها هذا البحث. وهناك إشارة واضحة إلى أنه ينبغي إيلاء المزيد من الاهتمام للتدريس والأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية – كل منهما يُعتبر آلية تحصين ضد تجذير التطرف ومحركاً للتغيير التدريجي في المجتمعات الساكنة. وهناك أيضاً مؤشر قويّ في النظر إلى تعليم العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات وفي البحث عن سبل مجدية سياسياً يتم فيها توسيع الآفاق الفكرية لطلاب العلوم والتقانة والهندسة والرياضيات في جميع أنحاء المنطقة. هذا الأخير، على وجه الخصوص، قد يوفر بعض المؤشرات بالنسبة لطلاب المنطقة الذين قَدِموا للدراسة في المملكة المتحدة – وهم عبارة عن غنيمة كبيرة من النخب وقادة المستقبل الذين تُشكّل عقليتهم، وستُشكّل، أهمية كبيرة بالنسبة للمملكة المتحدة.
وأخيراً، فإن الاهتمام بالتعليم في المدارس يجب أن يمتدّ تركيزه إلى بيداغوجيا العقول المغلقة – أو بالأحرى إلى البيداغوجيا المضادة التي تُعنى بفتح تلك العقول. وهناك قضية كبيرة ومهمة جداً على المحك هنا، وتتطلب أن يُفكر أولئك الذين لديهم القدرة على الحثّ على والاستفادة من الإصلاح ملياً في كيفية بناء ثقافة قوية من التفكير النقدي والتساؤل الحر بين أطفال المدارس في جميع أنحاء المنطقة. وهذا يشمل اعترافاً صريحاً بأنه في العديد من البلدان لا يزال محو الأمية (بصرف النظر عن البيانات المعلنة والأهداف الإنمائية للألفية وتأكيدات وزارات التعليم) مشكلة كبيرة، لم تُحَل بعد، والتي ستقف مباشرة في طريق تطوير العقلية المطلوبة لمقاومة إغراءات ناشري التطرف، ولتطوير مجتمع صحي قادر على إدارة نموه الخاص. التركيز الذي تضعه العديد من المنظمات، الوطنية والدولية، على التعليم العالي، بدلاً من التعليم الابتدائي والثانوي، منافٍ للمنطق بصورة غريبة، ويعكس ربما الحجم الكامل والمخيف للمشكلة الأكبر المتمثلة بإصلاح المدارس. فمثلاً، نظام التعليم في مصر يملك عدداً من الطلاب أكبر من عدد سكان دولة تونس. من أين نبدأ؟. لكن إن لم يُستخدم الاهتمام الحقيقي والموارد في بناء نظام مدارس يُركّز على الطفل بصدق في كل بلد من بلدان المنطقة، فإن إصلاح التعليم العالي سيكون هو العلاج دوماً – تم القيام بمحاولة نبيلة، ولكن متعثرة، في كثير من الأحيان لتقويم العقلية التي خلقها الاستظهار، والامتحانات المعتمدة على الترديد، والتساوق، ومحو الأمية الجزئي، قبل أن يبلغ الطلاب المرحلة الجامعية بوقت طويل.
كما سبق وقلت هنا، هذه مسألة تتعلق بالأمن بقدر تعلقها بالتنمية. وسيف الدين رزقي الذي أتى من هذا العالم، تلقى تعليمه في مدارس بالكاد تصلح للغرض والتي غرست فيه “الخضوع والطاعة والتبعية والامتثال، بدلاً من الفكر النقدي الحر”، وأرسلتْ خريجيها إلى جامعات تُدرّس الهندسة بأسلوب صرفٍ بعيدٍ عن علم الاجتماع أو التاريخ، وكلها مفتوحة جداً أمام أيديولوجيات الأبيض والأسود، وأيديولوجيات الجهاد الثنائية.
*مارتن روز: يعمل حالياً في المجلس الثقافي البريطاني كمستشار لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان يعمل في المجلس الثقافي البريطاني منذ عام 1988، حيث اشتغل في بغداد وروما وبروكسل وأوتاوا والرباط ولندن.
[1] Ken Alder, Engineering the Revolution, Princeton 1997, p15. He continues “to shape a world more consonant with human desires,” but he is writing of Paris in the 1780s, not Cairo or Damascus in the 1980s, where presumed divine rather than human desires fuel the motor.
[2] For example an interesting story in TelQuel, 13-19 March 2015, Daech: Sur la route di jihad, by Reda Mouhsine
[3] Diego Gambetta and Steffen Hertog, Engineers of Jihad, Sociology Working Papers 2007-10, Department of Sociology, Oxford University., p10.
[4] http://www.memri.org/clip_transcript/en/4318.htm – visited 9.6.2015
[5] Gambetta and Hertog, op. cit, passim. Dr Gambetta is reportedly preparing a book of the same title for Yale University Press.
[6] Stephen Schwartz, Scientific Training and Radical Islam, Middle Eastern Quarterly Spring 2008, pp3-11, access at http://www.meforum.org/1861/scientific-training-and-radical-islam, unpaginated – accessed 10.7.2015
[7] Gambetta and Hertog, op. cit., p11
[8] Gambetta and Hertog, op. cit., pp19-21
[9] Angel Rabasa and Cheryl Benard, Eurojihad: Patterns of Islamic Radicalization and Terrorism in Europe, Cambridge: CUP, 2015, pp 60-65, 81-2, 93-5
[10] Schwartz, op. cit., unpaginated
[11] For instance Steve Jones, Islam, Charles Darwin and the Denial of Science, Daily Telegraph, 3rd December 2011
[12] Mark Townsend, What happened to the British medical students who went to work for ISIS, The Observer, 12th July 2015, http://www.theguardian.com/world/2015/jul/12/british-medics-isis-turkey-islamic-state
[13] Gambetta and Hertog, op. cit., p27
[14] Gambetta and Hertog, op. cit., pp51-3
[15] Gambetta and Hertog, op. cit., pp59-69
[16] Gambetta and Hertog, op. cit., pp77-9
[17] BBC, ISIS leader calls on Muslims to ‘build Islamic State,’ BBC News website, 1st July 2014, www.bbc.co.uk/news/world-middle-east-28116846
[18] Hugh Tomlinson, Tom Coughlin, ISIS oil bonanza cut by half as engineers flee Caliphate, The Times, 20th September 2014, http://www.thetimes.co.uk/tto/news/world/middleeast/article4205141.ece
[19] Shrin Jaafari, ‘The Islamic State needs doctors and engineers too, PRI,’ 21st May 2015, http://www.pri.org/stories/2015-05-21/islamic-state-needs-doctors-and-engineers-too
[20] https://www.jewishvirtuallibrary.org/jsource/biography/ayyash.html
[21] http://mfa.gov.il/MFA/AboutIsrael/State/Law/Pages/Indictment_Gazan_engineer_Dirar_Abu_Sisi_4-Apr-2011.aspx
[22] http://www.jpost.com/Arab-Israeli-Conflict/Israel-indicts-Hamas-tunnel-engineer-381466
[23] http://www.theguardian.com/world/2014/jul/03/al-qaida-bombmaker
[24] Gambetta and Hertog, op. cit., p40
[25] Gambetta and Hertog, op. cit., give a useful summary of examples at p3ff
[26] Gambetta and Hertog, op. cit., p34
[27] Gambetta and Hertog, op. cit., p40-41
[28] Gambetta and Hertog, op. cit, p27
[29] Gambetta and Hertog, op. cit., p35
[30] Jamie Bartlett, Jonathan Birdwell and Michael King, The Edge of Violence: A Radical Approach to Extremism, London: Demos, 2010, p24
[31] Hazem Kandil, Inside the Brotherhood, Cambridge 2015, pp34-5
[32] Le porte-drapeau des ‘technocrates.’ Itinéraire d’un ingénieur fondateur du FIS, Service Etranger, Libération, 23 November 1999
[33] Wagdy Sawahel, Some 1,300 Tunisian students are jihadist fighters, University World News, no. 370, 5th June 2015
[34] Msaddak Abdel Nabi, Why Tunisia is the Top Supplier of Students to the Islamic State, Al-Fanar, 8th July 2015. As the observant reader will have noticed, the figures don’t quite make sense, and it seems likely that there is a typographical error in the second percentage cited. http://www.al-fanarmedia.org/2015/07/why-tunisia-is-the-top-supplier-of-students-to-the-islamic-state/?utm_source=Al+Fanar+list&utm_campaign=af56834603-New+Beirut+Leader%3B+Egyptian+Renaissance+Woman+15%2F7&utm_medium=email&utm_term=0_8b6ddcac65-af56834603-%5BLIST_EMAIL_ID%5D&ct=t%28Terrorism%E2%80%99s+Cost+Hits+the+Classroom+1%2F7%29
[35] Ali El-Kenz, Les Ingénieurs et le pouvoir, Tiers-Monde, 1995, vol 36, no 143 pp 565-579
[36] Msaddak Abdel Nabi, loc. cit.
[37] Gambetta and Hertog, op. cit., p 26
[38] Gambetta and Hertog, op. cit. p42
[39] Gambetta and Hertog, op. cit. p48
[40] Gambetta and Hertog, op. cit., pp48-9
[41] Marc Sageman, Understanding Terror Networks, Philadelphia 2004, p116
[42] Msaddak Abdel Nabi, loc. cit.
[43] Gambetta and Hertog, op. cit., p57
[44] Gambetta and Hertog, n63, p58, refers to research done by Simon Baron-Cohen, which finds a slight but perceptible increase in the number of near relatives of engineers (as against other graduates) suffering from high-functioning autism.
[45] Steve Silberman, The Geek Syndrome, Wired 9.12, http://archive.wired.com/wired/archive/9.12/aspergers_pr.html also explored in his 2015 book Neurotribes: The Legacy of Autism and the Future of Neurodiversity.
[46] Gambetta and Hertog, op. cit., p31, where sometimes impressionistic results for different movements are gathered in a table.
[47] Ian Black, Confusing the message is the key to disarming Isis, says ex-terrorist, The Guardian, 6th June 2015
[48] Rigas Arvanitis, Roland Waast and Abdel Hakim Al-Husban, 2010 World Social Science Report
Knowledge Divides, Background paper: Social sciences in the Arab world, UNESCO/ISCC 2010, p17 http://unesdoc.unesco.org/images/0019/001906/190653E.pdf
[49] Rigas Arvanitis, Roland Waast and Abdel Hakim Al-Husban, op. cit, p16
[50] The Broken Cycle: Universities, Research and Society in the Arab World, Proposals for Change, Beirut: ESCWA, January 2014, p42
[51] Ibid. p44
[52] ESCWA, op. cit. p42
[53] Rigas Arvanitis, Roland Waast and Abdel Hakim Al-Husban, op. cit., p16
[54] David Furceri, IMF Working Paper WP/12/99, Unemployment and Labour market Issues in Algeria
[55] For example J-P Azam, How to Curb ‘High Quality’ terrorism, http://www.idei.fr/doc/wp/2006/terrorism.pdf – visited 9.6.2015
[56] Speaking to a conference in Agadir in 2014. Quoted in the introduction to Academic Publishing in Morocco, by Peter Davison, British Council Morocco, 2015
[57] Cherkaoui, M., 2006. Rapport de la première phase de l’enquête sur [ l’évaluation du système national de la recherche dans le domaine des Sciences Humaines et Sociales (Rabat: Ministère de l’Enseignement Supérieur, de la Formation des Cadres et de la Recherche Scientifique) and Cherkaoui, M., 2009. Rapport de synthèse (Rabat: Ministère de l’Enseignement Supérieur, de la Formation des Cadres et de la Recherche Scientifique)
[58] Suhailah Hussien, Critical Pedagogy, Islamisation of Knowledge and Muslim Education, in Intellectual Discourse, Vol 15, no. 1, pp85-104, 2007
[59] Ziauddin Sardar, Islam, Postmodernism and Other Futures: A Ziauddin Sardar Reader, London 2003, p171
[60] Abdelwahab El-Affendi, Thinking of Reconfiguration, in Critical Muslim 15, Educational Reform, London 2015, pp 49-58
[61] Stephen Schwartz, op. cit.
[62] Quoted in http://www.al-fanarmedia.org/2014/11/islamic-states-plan-universities/ – visited 10.6.2015
[63] Romani, V., The Politics of Higher Education in the Middle East: Problems and Prospects, in Middle East Briefs. 2009, Brandeis University, Crown Center for Middle Eastern Studies: Waltham, Mass., quoted in Rigas Arvanitis, Roland Waast and Abdel Hakim Al-Husban, op. cit., p6
[64] Gambetta and Hertog, op. cit., p11
[65] Quoted in Riadh Sidaoui, Les islamistes et les sciences exactes, Le Temps, 16 October 2001 (my translation)
[66] Riadh Sidaoui, Les islamistes et les sciences exactes, Le Temps, 16 October 2001 (my translation)
[67] Amine Belghazi, Comme l’Education nationale contribue à la radicalisation des jeunes, Medias24, 8th June 2015: http://www.medias24.com/SOCIETE/156310-Comment-l-Education-nationale-contribue-a-la-radicalisation-des-jeunes.html#sthash.xfhu8oF5.uxfs&st_refDomain=t.co&st_refQuery=/2emdS9ockw (my translations)
[68] World Bank, The Road Not Travelled: Education Reform in the Middle East and North Africa, 2008, pp88-9
[69] UNDP, Arab Human Development Report 2003, Building a Knowledge Society, New York: UNDP 2003, p53
[70] John Horgan, Why Study Humanities? What I tell engineering freshmen, Scientific American blog, 20th June 2013, http://blogs.scientificamerican.com/cross-check/why-study-humanities-what-i-tell-engineering-freshmen/
[71] Dr Stephen Webster, Imperial College, London, Centre for Co-curricular Studies http://www3.imperial.ac.uk/co-curricular-studies/sciencecommunicationgroup/messagefromstephenwebstergroupdirector
[72] Vikram Dodd and Ewan MacAskill, UK ‘should let extremists join Isis in Syria,’ The Guardian, 7th July 2015
2 comments