قراءة مختلفة للظروف المحيطة بما سمي بوعد بلفور…ينشر المركز هذه المقالة لأهمية الجهد البحثي والتحليلي فيها، دون تبني خلاصاتها.
المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي
بؤس أداء النخب السياسية المرتهنة للقوى الكبرى: إعلان بلفور مثالاً.
قبل تسعة وتسعين عاماً، وجه وزير خارجية بريطانيا العظمى، السير آرثر بلفور، رسالة مفتوحة إلى البارون روتشيلد، أحد رعايا ملكة بريطانيا، يعلمه بشكل رسمي، بموقف الحكومة البريطانية من الحركة الصهيونية اليهودية، وهذه نقطة جوهرية يجب عدم تجاهلها ، فالحركة الصهيونية لم تنشأ على يد أشخاص من اليهود، بل كانت نتاج للتنافس الاقتصادي بين القوى التجارية الكبرى في القرنين السادس عشر والسابع عشر وتم ترسيخها في الذاكرة الجمعية للشعوب الأوروبية بشكل جعلها جزء من تراث ثقافي أوجد أرضية خصبة لتقبل كل ما تم اقترافه من جرائم بحق شعوب لم يتم التعامل معها إلا بوصفها وقود لسلسلة من الحروب التي لم يكن لها فيها أية مصلحة.
كان المسار الذي قاد إلى إصدار ذلك التصريح، كثير التشعب، ومر بالعديد من المنعطفات، لكن الهدف الحقيقي الكامن وراء ذلك التصريح كان نتاج عقلية استعمارية ضاربة الجذور في ثقافة النخبة السياسية والثقافية البريطانية.
النخبة السياسية والثقافية
من الضروري تحديد المعنى المقصود بالنخبة والتي هي تعريفاً، مجموعة صغيرة من المواطنين و / أو المنظمات التي تتحكم بقدر كبير من السلطة، وعادة ترغب هذه المجموعة بالتمايز عن باقي مكونات المجتمع والانعزال عنها [1]. وجرت العادة على استخدام تعبير النخبة عند الحديث عن المجموعات التي تحتل قمة الهرم الاجتماعي.
وتشير الدراسات المرتبطة بالعلوم الاجتماعية إلى أن النخب السياسية تسعى على الدوام لنشر أفكارها، بوصفها الوحيدة الصالحة لضمان خير المجتمع، وتعتمد في ذلك على نقطتين أساسيتين، التعليم العام والإعلام، بهدف جعل سلطتها مستمرة، على مدار السنين، دون مراعاة لدور المؤسسات الحكومية، ويمكن القول أن الميل إلى توريث السلطة يمثل سمة ثابتة لدى مختلف النخب، بغض النظر عن شكل الحكم. قد يكون نظام الحكم الملكي المثال الأبرز لهذا الميل، لكن عند التدقيق نجد أن هذا الميل وارد حتى في البلدان التي تتغنى بتداول السلطة عن طريق الانتخابات، وقد تكون عائلة بوش المثال الأبرز في تاريخنا المعاصر حيث تمكن مرشحان من هذه العائلة من الوصول إلى رئاسة الولايات المتحدة، ولم تكتف العائلة بهذا بل حاولت تحقيق إنجاز تاريخي من خلال ترشيح فرد ثالث من العائلة، جيب بوش، لمنصب الرئاسة، وتشهد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة تنافس حاد بين ملياردير، من خارج مؤسسات السلطة، وبين هيلاري كلينتون، زوجة الرئيس السابق بيل كلينتون التي حظيت بدعم الدولة العميقة، المختفية وراء ديكور من الديمقراطية .
وتعتبر السلالات الحاكمة من أبرز تجليات رغبة النخبة الحاكمة في تأبيد سلطتها ، وعادة ما يتم اللجوء إلى مختلف الوسائل لربط سلطة النخبة بإرادة عليا، قد تكون غيبية كما هو الحال في أنظمة الحكم الثيوقراطية، أو تكتسي أشكال متنوعة، مثل التفويض الإلهي، وصولاُ إلى مبدأ الحتمية التاريخية وفق المنظور الماركسي الذي تم تشويهه في تجارب اشتراكية لم تتمكن من التملص من إغراء ادعاء امتلاك تفويض شعبي يبرر كل ممارسات السلطة.
وتعتمد النخب السياسية، بشكل رئيس، على نظام التعليم العام بهدف تعميم رؤيتها للعالم من خلال وضع برامج تعليم تعمل على تحويل المتلقي إلى فرد من المجتمع، وتلقينه قواعد المواطنة، واحترام القانون القائم، والذي تتمثل مهمته الجوهرية في حماية مصالح النخبة الحاكمة،.كما يعمل نظام التعليم على تعزيز الموروث الثقافي في مختلف المجالات الفنية، والفلسفية، والأدبية، والدينية.
وفيما يتعلق بإعلان بلفور، نجد أنه كان نتيجة مسار طويل، عكس توجهات النخبة السياسية البريطانية، التي عملت على فرض مشروعها الخاص، معتمدة في ذلك على عملية انتقائية سعت لبناء نخبتين زائفتين، عربية ويهودية صهيونية، كما يمكن أن نتبين من المراجعة التاريخية التالية.
النخبة السياسية البريطانية
اتصف التاريخ البريطاني بغلبة مراحل طويلة من الاستقرار السياسي، فهذه الدولة لم تشهد هزات سياسية ضخمة مثل الثورة الفرنسية، وحافظت على استقلالها ما يزيد عن ألف عام، إذا اعتبرنا أن الغزو النورماندي بقيادة وليم الفاتح عام 1066 بداية لمرحلة تالية من الاستقرار، حيث لم تتعرض البلاد إلى أي حملة غزو أخرى، بل على العكس من ذلك تم بناء وتعزيز الهوية الوطنية من خلال حملات استعمارية استهدفت أقرب الجيران، في اسكتلنده وويلز وايرلندا، وصولاً إلى أقصى الأراضي في الشرق والغرب.
وبالإضافة إلى سمة الاستقرار يتصف النظام السياسي البريطاني ببعض المزايا الفريدة مثل عدم وجود دستور مكتوب، وهو أمر يقتصر على عدد محدود من البلدان مثل إسرائيل، و نيوزيلندة، والعربية السعودية.
كما لم تعرف بريطانيا هزات سياسية ضخمة منذ عام 1341، تاريخ إقرار النظام البرلماني المكون من هيئتين، مجلس اللوردات الذي يمثل الهيئة العليا، ومجلس العموم الذي يمثل الهيئة الدنيا.
إن النص الخاص بحقوق المواطنين،[2] الصادر عام 1689، ما يزال ساري المفعول حتى أيامنا هذه، و تضمن تحديد سلطات العرش، بالإضافة إلى تحديد صلاحيات البرلمان، وصيانة حرية التعبير عن الرأي في البرلمان، وقواعد انتخاب الهيئات التشريعية ، والحق في تقديم عريضة إلى الملك دون الخوف من أية عواقب.
ومن السمات الأخرى التي تميز النظام السياسي البريطاني واقع عدم وجود فصل بين السلطات الثلاث، التشريعية، والتنفيذية والقضائية كما هو الحال في الولايات المتحدة حيث لا يحق لرئيس البلاد أن يكون عضواُ في الكونجرس، في حين أن كل وزراء الحكومة البريطانية أعضاء في البرلمان.
وفيما يتعلق بالهيئة التشريعية البريطانية فإن وجود غرفتين عليا ودنيا، مع الإشارة إلى مفارقة تتمثل بأن السلطة الفعلية هي في يد مجلس العموم وهو الهيئة الدنيا، يعتبر نتيجة التطور البطيء والسلمي الذي وسم مسار النظام السياسي الذي لم يعرف هزات عنيفة أدت إلى القضاء على سلطة ممثلي طبقة النبلاء.
أدى هذا الوضع المستقر المستمر على مدى قرون عديدة إلى ترسيخ بعض الأفكار بحيث صارت جزء من الذاكرة الجمعية للشعب البريطاني، وهذا ما ينطبق على قضية الفكر الصهيوني، المرتبط بوجود قناعة بحتمية عودة أبناء الطوائف اليهودية، إلى فلسطين التاريخية، وهذه الفكرة مترسخة في العقل السياسي البريطاني، وعالجته بكثير من الجدية الباحثة ريجينا الشريف.[3]
كما قامت الباحثة بربارة تاتشمان بتحليل العلاقة الوثيقة التي ربطت بين النخبة السياسية الحاكمة في بريطانيا، وبين الفكر الصهيوني في كتاب حمل عنوان العهد القديم والسيف [4] خلصت فيه إلى أن اهتمام إنجلترا المبكر بفكرة بعث إسرائيل التوراتية مرتبط بسيطرة العهد القديم على عقل ومعتقدات الممسكين بزمام السلطة في بريطانيا في أواسط القرن السابع عشر، وكانت هناك قناعة بإمكانية الاستفادة من قدرات اليهود في ميدان التجارة العالمية، إلى جانب إمكانية الاستفادة من وجود حليف عسكري في منطقة إستراتيجية مثل فلسطين.
وتعززت فكرة بعث إسرائيل التاريخية عبر الترانيم الدينية كما نستنتج من ترنيمة نظمها وليم بليك في نهاية القرن الثامن عشر :
استيقظي يا إنكلترا، استيقظي استيقظي، فأختك القدس تناديك.[5]
ولم تغب هذه الفكرة عن تفكير فلاسفة بريطانيا من أمثال جون لوك و إسحق نيوتن، وتم نشر رواية أن فلسطين، التي كانت مزدهرة زمن دولة إسرائيل التوراتية، تحولت إلى أرض خراب بسبب غزو القبائل البدوية ، هي نظرة عبر عنها بوضوح ريتشارد بوكوك في الجزء الثاني من كتاب وصف الشرق.[6]
ومن ثم دبت الحيوية مجدداً في الفكر الصهيوني البريطاني مع بداية القرن التاسع عشر وحظيت فكرة بعث، إسرائيل التوراتية، بدعم مجموعة من كبار الشخصيات السياسية مثل أنتوني أشلي كوبر،الذي حمل لقب لورد شافستبري، و نشر في عام 1839 مقالاً مطولاً عن دولة اليهود الموعودة. [7] وكان هذا الشخص هو من ابتدع شعار وطن بلا شعب لشعب بلا وطن، نتيجة قناعته بأن فلسطين بلد هجره سكانه.
ولم تغب قضية الصهيونية عن الأدب الإنكليزي حيث تردد صداها في قصائد اللورد بايرون، الذي قام بزيارة فلسطين عام 1811 وصدم لمظاهر البؤس الناتج عن تخلف الإدارة العثمانية، وفاته ملاحظة أن وضع اليهود من سكان فلسطين في تلك الفترة لم يكن مختلفاً عن وضع باقي السكان. ففي عام 1806 بلغ عدد سكان مدينة القدس إثنا عشر ألف، ربعهم من اليهود.
وجاءت مغامرة والي مصر، محمد علي باشا، بمثابة جرس إنذار نبه القوى الكبرى المتصارعة على مناطق النفوذ الاقتصادي في العالم، إلى مخاطر قيام دولة قوية في منطقة شرق البحر المتوسط على حساب الدولة العثمانية، وكانت كل من فرنسا وروسيا قد وجدتا موطئ قدم في الدولة العثمانية من خلال طرح فرنسا نفسها بوصفة حامية الكاثوليك، وبشكل خاص الموارنة، في حين انتزعت روسيا امتياز حماية اليونانيين والأرثوذكس.
وضمن هذا السياق مال اللورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، لتأييد أفكار اللورد شافستبري، المتعلقة بالمكاسب السياسية التي يمكن أن تحققها بريطانيا من توطين اليهود في فلسطين.
لم يتأخر اللورد بالمرستون في الانتقال إلى خطوات عملية حيث بادر، عام 1838، إلى افتتاح قنصلية بريطانية في مدينة القدس، وكلف نائب القنصل المعين في المدينة برعاية مصالح اليهود وحمايتهم وضمن هذا السياق رفع نائب القنصل، في شهر حزيران من عام 1839، تقريراً إلى وزارة الخارجية قال فيه أن عدد اليهود في فلسطين يقارب تسعة آلاف وستمائة وتسعين شخصاً، يعيشون أوضاع بائسة .
لم يكن بالمرستون مغرداً منفرداً، حيث حظيت أفكاره الصهيونية بدعم من مسؤولين آخرين مثل إدوارد متفورد، الذي طرح عام 1845 خطة لإقامة دولة يهودية في فلسطين تحت حماية بريطانية[8]، ودعا بصراحة إلى إفراغ البلاد من قاطنيها كي تتمكن من استيعاب القادمين من المستوطنين اليهود.[9]
لم يبد يهود أوروبا، وبشكل خاص يهود بريطانيا حماساً للتجاوب مع فكرة ترك أوطانهم والرحيل إلى فلسطين التي لم تكن بالنسبة لمعظمهم أكثر من ذكرى يلفها الغموض الأمر الذي أثار انتباه السياسي البريطاني تشارلز هنري تشرشل الذي بادر إلى حث رئيس مجلس الوكلاء اليهود في لندن على تشجيع أبناء ديانته على تبني المشروع الصهيوني.[10]
وبرز بين أفراد النخبة البريطانية مجموعة من الشخصيات الصهيونية التي سبقت هرتزل بسنوات لجهة طرح مشروع بناء وطن قومي لليهود في فلسطين، وقامت بتمهيد الطريق أمام نشوء الحركة الصهيونية اليهودية، وتمكنوا من توجيهها وتسخيرها لخدمة مشاريع الفكر الصهيوني البريطاني.
لم يقتصر تبني الفكر الصهيوني على العاملين في الميدان السياسي، بل امتد إلى البحاثة والرحالة الذين انطلقوا لزيارة فلسطين، سعياً وراء اكتشافات علمية يمكن توظيفها لخدمة المشروع الصهيوني، وضمن هذا السياق كتب المختص في علوم الجيولوجيا، جون وليم داوسن عام 1888، تقريراً عما شاهده خلال زيارته لفلسطين أشار فيه إلى عدم وجود سمات لأمة مستقلة في فلسطين، ورأى أن سكان فلسطين كانوا بمثابة قبائل بدوية غزت البلاد ولم تتمكن من إنشاء هوية وطنية، وخلص إلى أن اليهود هم وحدهم القادرين على إنجاز هذه المهمة.[11]
كان اللورد بلفور معادياً للسامية، كما يمكن أن تتبين من مواقفه خلال مناقشة قانون الأجانب عام 1905، وبذل الكثير من الجهود لدفع مجلس العموم لتبني هذا القانون وقال خلال دفاعه عن وجهة نظره، مقارباً وضع اليهود في بريطانيا:
ليس من مصلحة الوطن أن يكونوا فيه مهما بلغت درجة وطنيتهم، وقدرتهم، وجدهم، وانغماسهم في الحياة القومية، وكان من تداعيات هذا التصريح قيام المؤتمر الصهيوني السابع باتهام بلفور، بمعاداة السامية.[12]
وفيما يخص لويد جورج، تجد أن ميوله الصهيونية كانت صريحة وعلنية وكان يقول أن هذه الميول تحولت إلى موقف سياسي ناضج نتيجة علاقته مع حاييم وايزمان.
وعلى عكس ما يشاع في وسائل الإعلام حول حيادية نص إعلان بلفور، وتضمينه مواقف ضامنة لحقوق سكان فلسطين، كان تطور الأمور واضح في ذهن بلفور الذي كتب في مذكراته الخاصة بسورية، وفلسطين وما بين النهرين:
ليس في نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين ……وسواء أكانت الصهيونية على حق أو على باطل، جيدة أم سيئة، فهي متأصلة الجذور في التقاليد قديمة العهد وفي آمال المستقبل، وهي تفوق في أهميتها بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة.[13]
وكان بلفور يمتلك رؤية إستراتيجية استعمارية بعيدة المدى ، حيث أشار في مذكراته إلى أهمية السيطرة على منابع المياه في سورية، على الرغم من معرفته بأن اتفاقية سايكس بيكو أدرجت منابع المياه الجوفية في الجولان ضمن الأراضي السورية.
تتبين مما سبق أن إعلان بلفور كان نتيجة قناعة راسخة لدى النخبة السياسية البريطانية، التي لم تكتف بتطبيق سياساتها، استعمارية المحتوى، بل عملت أيضاً على استباق الأمور، وتكوين نخب سياسية، عربية ويهودية، تدين بالولاء لدعم لندن.
النخبة السياسية العربية
لم تسمح السلطات العثمانية بتشكيل نخب سياسية يمكن أن ينطبق عليها التعريف الذي ورد في بداية هذه الدراسة، حيث كان مصير كبار الموظفين من أبناء الولايات العربية مرتبط برضا الوالي العثماني، ولم يكن هناك نظام تعليم عام يساهم في تشكيل قيم اجتماعية تتجاوز حدود الطوائف، والعصبيات العشائرية.
لكن هذا الوضع البائس لم يكن قادراً على إيقاف عجلة التطور التي ارتبطت بالعلاقات مع الغرب الأوروبي، من خلال العلاقات التجارية في ظل نظام الامتيازات، ومن خلال البعثات الدراسية.
عاشت البلدان العربية، على مدى قرون، في ظل سلطة سلاطين بني عثمان التي لم تتعد في معظم الأحيان، مراكز المدن الكبرى، في حين ظلت الأرياف، وبشكل خاص البوادي، تحت سلطة زعماء محليين ووجهاء، ربطتهم بالسلطة الحكومية شبكة معقدة من العلاقات.
وكان من ثوابت سياسة الباب العالي منع أي حاكم محلي من الاستمرار في منصبه فترة طويلة تتيح له تثبيت جذوره فيها. لكن هذا لم يمنع بروز حركات مقاومة قام بها بعض الزعماء الطموحين، بهدف الحصول على المزيد من المكاسب.
وكانت العشائر البدوية تمثل مشكلة مزمنة بالنسبة للباب العالي ومن هذا المنطلق قام السلطان عبد الحميد الثاني بتأسيس مدرسة خاصة لأبناء زعماء العشائر البدوية، في محاولة لحل المعضلة العشائرية الحكومية، التي تمثلت في تلقين قيم الدولة عبر التعليم الرسمي، إذ تمت مواءمة التعليم ودمجه بالوظيفة بهدف خلق الرابط الوظيفي بين السلطان العثماني وزعماء العشائر، وتنمية ولاء للحكومة على حساب الولاء للعشيرة. وغدت مثل تلك الإنجازات مهمة في سبيل توطيد الحكم العثماني في أكثر الولايات العربية والكردية تهميشاً. وحتى انهيار الإمبراطورية قدمت تجربة مدرسة العشائر مثالاً مبكراً لأسلوب تعامل الدولة الحديثة مع “معضلة” عشائرها من خلال زج العنصر البدوي في الجيش والحكومة.[14]
وبالمقابل انتبه الكثير من الرحالة الذين جابوا البلدان العربية، تحت ذريعة الدراسات العلمية إلى خصوصية وضع العشائر البدوية، ونزعتها للاستقلال عن أي سلطة مركزية، ووجدوا في ذلك نقطة ضعف يمكن استغلالها ضد الباب العالي الذي قرر، عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، الاصطفاف إلى جانب ألمانيا في مواجهة الحلفاء.
وكان للبعثات الدراسية إلى بلدان أوروبا دور هام في تكوين جيل جديد من الشباب المتعلم، الذي انبهر بمستوى تقدم تلك البلدان، لكن فات عن أذهان أولئك الشباب أن النهج السياسي لحكومات دول أوروبا الغربية كان محكوماً بمجموعة من الاتفاقيات السرية، الهادفة إلى تقاسم تركة الدولة العثمانية، دون أي مراعاة لمصالح سكان البلاد أو لطموحاتهم.
كان الاتفاق الودي بين فرنسا وبريطانيا[15]، الذي تم توقيعه في الثامن من نيسان 2004[1]، الخطوة الأولى على طريق قيام تفاهم بين عدوي الأمس، بهدف تحاشي تصادم المصالح، ولكن، كان حال هذا الاتفاق مثل حال أي اتفاق سياسي، بمعنى أنه كان يتم إخضاعه لإعادة قراءة في ظل موازين القوى الحقيقية القائمة على الأرض، وهذه حقيقة ستلعب دوراً حاسماً في تبدل موقف فرنسا من الحركة الصهيونية اليهودية.
أدركت الحكومات الغربية أهمية استيعاب مجموعات الطلبة العرب الذين انتشروا في مختلف البلدان الغربية، وبشكل خاص في فرنسا وبريطانيا، وكانت مدينة باريس مقراً لحزب العربية الفتاة، الذي نسج علاقات طيبة مع أبناء الجالية الناطقة باللغة العربية في فرنسا[16]، وهذا يفسر اختيار مدينة باريس لاستضافة المؤتمر العربي الأول عام 1913، قبل عام واحد من اندلاع ما يعرف بالحرب العالمية الأولى، حيث أقيم المؤتمر في الفترة من 18 إلى 23 حزيران في قاعة الجمعية الجغرافية في باريس.
اجتمع بعض الناشطين في حركة اليقظة السياسية في باريس للمطالبة بعدة إصلاحات وكان أغلب المجتمعين من سورية، وتم الاتفاق علي تقديم عدة مطالب تدور كلها حول ضرورة تطبيق فكرة اللامركزية في الولايات العربية، وتعميم تعليم اللغة العربية، ومنح الناطقين باللغة العربية فرص للارتقاء المهني مساوية للفرص التي كانت من نصيب الناطقين باللغة التركية.
واللافت للنظر غياب موضوع الاستيطان اليهودي في فلسطين عن جدول أعمال المؤتمر، مع أن المؤتمر الصهيوني السادس، الذي عقد عام 1913، تبنى بشكل علني مبدأ استيطان فلسطين.
وكان تدفق بعض يهود أوروبا الشرقية إلى فلسطين بدأ يتخذ شكل موجات إثر اغتيال قيصر روسيا، الكسندر الثاني، عام 1881، وكان معظم القادمين من أنصار حركة أحباب صهيون .
تركز اليهود، المقيمين في فلسطين قبل موجات الهجرة، في مناطق محددة، وبشكل خاص في مدينة القدس، في حين حمل القادمون الجدد معهم أفكار اشتراكية، وسعوا إلى إقامة مستعمرات زراعية قائمة على نظام تعاوني، ولم يكن نشاطهم سرياً، بل حظي، في مراحله الأولى، برعاية من الباب العالي.[17]
جاء تعيين جمال باشا، قائداً للجيش الرابع العثماني وحاكماً عسكرياُ، مطلق الصلاحيات، في سورية ليدشن مرحلة جديدة في التعامل مع النخب المحلية، وكان لدى الباشا طموح في تسويق نفسه، لدى الدول الغربية، بوصفه أفضل بديل للسلطان العثماني، فهو لم يتورط في المجازر ضد الأرمن، و ادعى قدرته على ضبط الأوضاع في منطقة شرق البحر المتوسط، بما يتناسب ومصالح الدول الأوروبية المتصارعة على وراثة الدولة العثمانية، وضمن هذا السياق طرح على الروس، عن طريق حزب الطاشناق الأرمني، فكرة القيام بانقلاب ضد السلطان، والتخلي عن القسطنطينية والمضائق لروسيا، [18]وطالب بدعم مالي ليتمكن من إعادة إعمار دولته المقترحة.
حظي المشروع بدعم روسي، لكنه جوبه بمعارضة فرنسية شرسة، حيث أصرت فرنسا على الحصول على كامل الساحل السوري من رأس الناقورة حتى كيليكيا . استشاط جمال باشا غضباً ضد فرنسا، ووجدت باريس في ذلك فرصة للتخلص من شخصيات سياسية، رأت أنها قادرة على استخدام مفردات الخطاب السياسي الفرنسي الرسمي في مواجهة الخطط المبيتة للهيمنة على المنطقة، فتم تنظيم مسرحية كشف أسماء الشخصيات السياسية التي كانت على تواصل مع فرنسا، وكانت النتيجة إعدام مجموعة من المتعلمين، من أمثال عبد الغني العريسي، وسيف الدين الخطيب، وعلي بن عمر النشاشيبي، وجرجي حداد، بالإضافة إلى ضابطين من كبار الضباط في الجيش العثماني هما سليم الجزائري وأمين لطفي الحافظ.
اختيار قادة الحراك السياسي
مر التعامل البريطاني مع معضلة رجل أوروبا المريض، بالعديد من المراحل حيث كانت لندن من أشد أنصار الدفاع عن كيان الدولة العثمانية خوفاً من وقوع ممتلكات الدولة تحت سيطرة كل من روسيا وفرنسا، وهذا ما يفسر الدور البريطاني الناشط في مواجهة التحدي الذي مثله والي مصر المتمرد، محمد علي باشا، وكذلك مساهمة بريطانيا في تأليب سكان سورية ولبنان ضد الحكم المصري.
لكن الموقف البريطاني تغير لاحقاً، وكانت اتفاقية سايكس- بيكو- زازانوف التعبير الأكثر جلاء عن تبدل موقف لندن من دعم الدولة العثمانية، إلى بذل الجهود للسيطرة على أكبر قدر ممكن من ممتلكاتها المفيدة، وكان المنطق الاستعماري البريطاني الذي يفضل عدم الغوص في تفاصيل إدارة الحياة في المستعمرات، يقتضي إيجاد زعامات محلية، دون أن يعني ذلك وضع كل الرهانات على شخص أو مجموعة محددة.
ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فرض الأسطول البحري البريطاني حصاراً شديداً على سواحل شبه جزيرة العرب، بالاعتماد على سلسلة القواعد البحرية البريطانية التي انتشرت على طول سواحل شبه الجزيرة العربية.
كانت تلك المنطقة تقع ضمن إطار عمل حكومة الهند الغربية، التي قدمت دعماً كبيراً لمشروع ابن سعود الساعي لإقامة الدولة السعودية الثالثة، وبالمقابل تحمس المكتب العربي الذي تم افتتاحه في القاهرة، لمشروع إقامة مملكة عربية، مرتبطة بالتاج البريطاني، تحت قيادة حاكم الحجاز العثماني الشريف بن الحسين بن علي.
بدأ اهتمام بريطانيا بسواحل شبه جزيرة العرب مبكراُ، بهدف حماية الطرق البحرية المؤدية إلى الهند من نشاط القراصنة، وبهدف منع وقوع تلك المناطق في أيدي قوى أوروبية منافسة.[19]
وفي عام 1819 قامت البحرية البريطانية، التابعة لحكومة الهند، بمهاجمة سواحل شبه الجزيرة العربية، وتمكنت في عام 1820 من إقامة قاعدة في رأس الخيمة، كما قامت باحتلال البحرين، وتم تنظيم العلاقة بين حكومة الهند البريطانية وزعماء العشائر المحليين[20]على أساس معاهدة السلام التي تم توقيعها في الثامن من شهر كانون الثاني 1820، أقر بموجبها شيوخ العشائر بسلطة بريطانيا التي تعهدت بحمايتهم ضد أي تهديد، وتطورت العلاقة بين حكومة الهند البريطانية والمحميات ، خلال الفترة الممتدة من 1861-1892، على أساس اتفاقيات ثنائية تعهد خلالها الحكام المحليين بعدم التعامل مع أي قوة خارجية إلا بموافقة بريطانية.
وهناك العديد من الدلالات التي تشير إلى أن خيار الصدام مع الأتراك لم يحتل موقع الأولوية لدى الحسين أو لدى أولاده، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لأشخاص ترعرعوا في البلاط العثماني، لكن الإنكليز مارسوا بمهارة لعبة الإغراء، وبذل الأموال خصوصاً وأن اندلاع الحرب أدى إلى خفض عدد الحجاج وحرم البلاد من موارد هامة عززت من الاعتماد على الأموال التي تأتي من الخارج. ومن بين المؤشرات المتعلقة بعدم الرغبة في قطع كل الخيوط مع السلطة العثمانية واقعة قيام فيصل ببذل الجهود لإنقاذ حياة جمال باشا وأنور باشا، قائد الجيوش العثمانية .ففي عام 1916 وقبل اندلاع تمرد الحسين بفترة قصيرة، قام كل من أنور باشا وجمال باشا بمرافقة الأمير فيصل إلى الحجاز، بهدف تفتيش القوات التي يفترض أن تشارك في الحرب ضد أعداء الدولة، وأراد بعض زعماء العشائر انتهاز تلك الفرصة والتخلص من أنور وجمال [21]، لكن فيصل تذرع بحرمة الضيف، وأصر على مرافقة ضيفيه في طريق عودتهما إلى دمشق، وترافق ذلك باتخاذ إجراءات أمنية مشددة الأمر الذي عزز شكوك الرجلين بوجود مؤامرة ودفعهما إلى تشديد الرقابة على الخط الحديدي الحجازي .
الحسين بن علي وأبنائه
تضافرت مجموعة من العوامل لتعزيز مبررات اختيار السليل المزعوم للنبي ليكون خليفة المسلمين.
ولد الحسين بن علي، في اسطنبول عام 1854، حيث كان يعيش والده منفياً بأمر السلطات العثمانية، وعاد إلى مكة وهو في الثالثة من عمره. ونتيجة للصراعات التي نشأت ضمن عائلة حكام مكة تم نفي الحسين بن علي إلى اسطنبول عام 1893 وعاش في تلك المدينة طوال خمسة وعشرين عاماً، ضمن البلاط السلطاني إلى أن قرر ضباط الاتحاد والترقي، إثر انقلاب عام 1908، تعيينه زعيماُ دينياُ في مكة.
جرت عادة الباب العالي على عدم ترك ممثلي السلطة العثمانية لفترة طويلة في مناصبهم في الولايات البعيدة خشية من تمكينهم من بناء سلطة فعلية، وكان موقع مكة وسط الحجاز يجعلها في منأى عن سلطة العاصمة، لكن افتتاح الخط الحديدي الحجازي، عام 1908، الذي ربط بين دمشق والمدينة المنورة كان بمثابة تغيير جذري لأوضاع الأماكن المقدسة، حيث صار بالإمكان نقل الحجاج بالقطارات، وأدى بالتالي حرمان زعيم مكة من الواردات السنوية المرتبطة بحماية الحجاج. كما أن افتتاح الخط الحجازي وضع حداُ لعزلة الحجاز التي كانت ورقة بيد الحسين بن علي لتعزيز سلطته، وتركزت جهوده على كسب رضا ضباط الاتحاد والترقي بالاعتماد على العلاقة الوطيدة التي ربطت بين ابنيه، عبدالله وفيصل، بقادة الجمعية، وسعى لجعل مقاليد الأمور في الحجاز وراثية في عائلته.
كان علي، الابن الأكبر، المرشح الأول لخلافة أبيه في حال نجاحه في ترسيخ سلطة العائلة في الحجاز. وكان عبدالله الابن المفضل، ممثلاُ لمكة في مجلس المبعوثان العثماني، كما شغل منصب نائب رئيس المجلس الأمر الذي جعله على اطلاع مباشر بحقيقة تركيبة السلطة في الآستانة، ودفعه لتشجيع أباه على التمرد على محاولات الباب العالي الهادفة لعزله من منصبه، وضمن هذا الإطار سافر إلى مصر والتقى بحاكمها العسكري اللورد كتشنر عراب فكرة إثارة العرب ضد الأتراك. بالمقابل كان فيصل، بدوره، نائباُ عن جدة في مجلس المبعوثان، ولم يكن يحبذ فكرة الانقلاب على الدولة العثمانية، ويبدو أن موقفه كان انعكاساُ لموقف سكان جدة الذين اتخذوا موقفاُ متحفظاً من ثورة الحسين حتى بعد اندلاعها حيث أشار فائز الغصين، إلى أنه ومجموعة الضباط الراغبين في الانضمام لقوات الشريف لم يتمكنوا من النزول في ميناء جدة بتاريخ 25 أيلول 1916 بسبب عدم رضا أهل جدة عن تحركات الحسين بن علي [22]، أما زيد،الابن الرابع للحسين،فلم يكن راض عن التمرد لأن والدته كانت تركية.
كان تنصيب الأمير فيصل زعيماً خياراً بريطانياً صرفاً يتعارض مع رغبات الحسين بن علي، الذي كان يرى أن وريثه المنطقي يجب أن يكون ابنه الأكبر زيد، وكان يضع عبد الله بوصفه الخيار الثاني، لكن العميل البريطاني لورنس تمكن من تسويق الأمير فيصل بوصفه الأفضل لتنفيذ المشروع البريطاني.
تميز أداء لورانس بكثير من العناد، ولم يكف أبداً عن ترويج فكرة صلاحية الأمير فيصل لقيادة الكيان العربي الموعود، وهو لم يتردد في التعامل بمنتهى الحزم مع محاولة استغلال بعض الزعامات المحلية استغلال فرصة انسحاب الجيش العثماني من دمشق، لفرض حكومة تقوم بتسيير الأمور العامة، لكن تدخل لورانس، مدعوماً بعشيرة الرولة، وزعيمها نوري ابن الشعلان، غير الأوضاع لصالح الأمير فيصل.[23]
وكانت كل محاولات فيصل لإبداء أدنى اعتراض تجابه بشكل حاسم من القائد العام البريطاني، الذي قام بإبلاغ فيصل قرار بوضع سورية تحت الحماية الفرنسية، وبأنه سيحظى بإدارة سورية باستثناء فلسطين ولبنان .
واصطدم احتجاج فيصل، بموقف الجنرال اللنبي الذي ذكره أنه ضابط في الجيش الذي يقوده الجنرال، وان واجبه هو تنفيذ الأوامر. [24]
وضمن هذا السياق تم عقد المؤتمر السوري العام بمشاركة ممثلين عن كافة مناطق سورية العثمانية، في الفترة الممتدة بين الربع الأخير من شهر حزيران 1919، ونهاية شهر تموز من ذلك العام . جرت انتخابات لرئاسة المؤتمر ونيابة الرئاسة والسكرتارية فاز فيها على التوالي محمد فوزي باشا العظم، وعبد الرحمن اليوسف، ومحمد عزت دروزة، ولكن إثر وفاة العظم قام المؤتمر بانتخاب هاشم الأتاسي رئيساً له.
وفي الثامن من شهر آذار من عام 1920، عقد المجلس جلسة تم خلالها إعلان استقلال المملكة السورية ضمن حدودها الطبيعية، وبويع الأمير فيصل ابن الحسين ملكاً عليها على أساس نظام ملكي دستوري.
كان تصرف أعضاء المجلس بمثابة ردة فعل متأخرة على تغير الأوضاع على المستوى الميداني . فبعد دخول القوات الاسترالية دمشق، وتحرك القوات البريطانية باتجاه الشمال، تعامل الجنرال إدموند اللنبي مع ممثلي السلطات الفرنسية بكثير من الاستخفاف، وكان مقتنعاً بأن الزمن تجاوز اتفاقية سايكس – بيكو، وصار يخطط لإلحاق سورية بمملكة عربية تدار من مصر، في ظل الحماية البريطانية، وقام بإبلاغ لندن بأنه ربما سيسمح للمستشارين الفرنسيين بالتعامل مع الإدارة المدنية في المناطق التي تحظى باهتمام خاص من فرنسا، لكن تحت ظل قيادته العليا، [25] لكن اضطرار بريطانيا لإرسال قسم كبير من قواتها العاملة في سورية، إلى مصر لمواجهة موجة الاضطرابات المفاجئة التي تحولت إلى ثورة عارمة عام 1919، وكذلك اندلاع ثورة تحررية مطالبة بالاستقلال في أيرلندة الأمر الذي ترك فيصل،دون حماية، في مواجهة فرنسا التي طردته بشكل مذل.
النخبة السياسية اليهودية في الفترة التي سبقت إعلان بلفور
لم يكن تاريخ المنتمين إلى الديانة اليهودية ليسمح بنشوء نخبة سياسية، يمكن مقارنتها بالنخبة السياسية البريطانية، حيث عاش اليهود في بلدان متنوعة، وسعى معظمهم لنيل حق المواطنة الكاملة من خلال الاندماج في المجتمعات التي عاشوا فيها.
ففي الفترة التي سبقت إعلان بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، كانت الحركة الصهيونية شديدة الضعف، ولم تكن تحظى بتأييد يذكر بين صفوف الجاليات اليهودية في مختلف أنحاء العالم، ويمكن إثبات هذا من خلال استعراض أوضاع اليهود في الفترة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى.
لقد عاش معظم أتباع الديانة اليهودية في الفترة الممتدة من العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى في مرحلة رخاء نسبية، و كانت روسيا القيصرية تمثل الاستثناء الوحيد في مسألة تبني قوانين تميز بين اليهود وباقي مواطني الإمبراطورية، الأمر الذي يقدم تفسير لوجود عدد كبير من الناشطين اليهود في الأحزاب الثورية.
و توزع اليهود القاطنين في مختلف البلدان بين تيارين رئيسيين، تيار طالب باندماج اليهود الكامل في مجتمعات البلدان التي عاشوا فيها، وهذا ينطبق على يهود الدولة العثمانية، وفرنسا، وبريطانيا وألمانيا، وتيار تبنى الأفكار الثورية الاشتراكية كما كان الحال في روسيا القيصرية، في حين لم تستثر الحركة الصهيونية اهتمام سوى قلة من اليهود ففي عام 1913، و هو العام الأخير الذي توفرت إحصائيات حول هذا الموضوع، لم تحظ الحركة الصهيونية بتأييد سوى 1% من يهود العالم.[26]
تمكن المهاجرون اليهود في بريطانيا من تحقيق إنجازات مميزة على مستوى الاندماج في المجتمع البريطاني، بعد مسار طويل، ففي عام 1753 صدر في بريطانيا مرسوم منح اليهود المقيمين في الجزيرة البريطانية حقوق المواطنة، وتلا ذلك العديد من القرارات التي ساهمت في الحد من التمييز ضد اليهود واستغرق الأمر قرابة قرن من الزمن لوضع حد لكل أشكال التمييز ضد اليهود.
وفي عام 1837 منحت الملكة فيكتوريا موسى حاييم مونتفيور لقب فارس، وبعد أربعة سنوات تم منح إسحاق ليون غولدسميد لقب بارون، ليكون أول يهودي يحوز على لقب يمكن توريثه . وفي السادس والعشرين من تموز 1858 انتخب ليونيل روتشيلد عضواً في مجلس العموم البريطاني بعد أن تم تعديل قسم الولاء القديم المستمد من الديانة المسيحية.
وكان رجل السياسة البارز بنيامين دزرائيلي، الذي ولد لعائلة يهودية واعتنق المسيحية لاحقاً، أول شخص يهودي يبرز في ميدان السياسة العامة وشغل عام 1868 منصب رئيس الوزراء وتم تتويج هذا المسار، عام 1884، بدخول البارون ناتان مائير روتشيلد مجلس اللوردات البريطاني.
وهكذا تمكن اليهود البريطانيون من ترسيخ أقدامهم في المجتمع، الأمر الذي ساهم في تشجيع قرابة مائة وأربعين ألف يهودي روسي على اختيار بريطانيا موطناُ جديداً لهم خلال الفترة ما بين 1880- 1910 .
ومع مطلع الحرب العالمية الأولى وصل عدد اليهود في بريطانيا إلى 250 ألف، عاش معظمهم في المدن الكبرى ولم يكن لديهم مبررات للسخط على أوضاعهم، وبالتالي لم تتمكن الحركة الصهيونية من الانتشار بين صفوفهم، وهذا ما يفسر معارضة كبار الشخصيات اليهودية في بريطانيا، باستثناء اللورد روتشيلد، للحركة الصهيونية التي لم يروا فيها سوى تعبير سمج عن نزعة معادية لليهود، راسخة الجذور في المجتمع البريطاني.
إعلان بلفور
لم يحظ إعلان بلفور بأي اهتمام يذكر في الفترة التي تلت نشره، وكان على شكل خطاب مفتوح موجه إلى البارون ليونيل وولت ردي روتشيلد، تضمن وعداً غامضاً بتأييد إنشاء ملاذ قومي لليهود في فلسطين، في وقت لم يكن هناك أي كيان سياسي يحمل اسم فلسطين، يتطابق مع فلسطين التاريخية، التي توزعت أراضيها بين عدة ولايات عثمانية. كما لم تتم الإشارة إلى أي معطيات جغرافية أو بشرية تتعلق بمفهوم الملاذ القومي، كما لم يتم الإشارة إلى اليهود الذين كانوا مقيمين في القدس والجليل في تلك الفترة التاريخية.
كان ليونيل روتشيلد سليل أسرة تجارية حققت مكانة مالية، وما تزال تحتل قمة ترتيب أثرى العائلات على مستوى العالم، لكنه كان في نهاية الأمر واحد من رعايا العرش البريطاني، وخاضع لسلطة القوانين البريطانية، ولم يكن يمتلك أية صفة تمثيلية تخوله الحديث باسم يهود بريطانيا، فما بالك بمسألة وضعه في موضع الوصاية على يهود العالم الذين توزع معظمهم في تلك الفترة بين روسيا التي ضمت قرابة الخمسة ملايين يهودي، والولايات المتحدة التي سكنها قرابة الثلاثة ملايين يهودي، لم تنجح الحركة الصهيونية في تجنيد أكثر من 12 ألف منهم.[27]
انخرط يهود البلدان المتصارعة في الحرب العالمية الأولى في جيوش حكوماتهم، وسقط منهم العديد من القتلى في مختلف الجبهات، لكن الحكومة البريطانية تجاهلت واقع مشاركة أن الحرب كانت فرصة للكثير من يهود البلدان المتحاربة للبرهنة على إخلاصهم لأوطانهم من خلال المشاركة في القتال تحت الراية الوطنية، حيث أشارت بعض الدراسات[28]،إلى مشاركة قرابة مليون وخمسمائة ألف جندي يهودي في معارك
الحرب العالمية الأولى التي استمرت أربعة سنوات، وقررت منح القوات اليهودية التي شاركت مع القوات الإنكليزية في معارك فلسطين، مقعداً في مؤتمر السلام الذي عقد في باريس ووضع أسس النظام العالمي الجديد، وحدد مبادئ عمل عصبة الأمم.
لم يكن حال حاييم وايزمان، أفضل من حال فيصل ابن الحسين، فهو من أصل روسي، هاجر إلى بريطانيا عام 1904، وتزعم الحركة الصهيونية، برعاية بريطانية، بين 1920-1946 وكان منطق الأمور يقتضي قيام تعاون بين وايزمان وفيصل، حيث التقيا في سورية في الرابع من حزيران 1918 بقصد مناقشة المصالح المشتركة.
الخلاصة
يتطلب التحرر من ضغوطات التطورات التاريخية الكثير من الجهد، حيث أصبح اليهود يسيطرون على معظم أراضي فلسطين، وتمكنت الحركة الصهيونية من كسب تأييد معظم يهود العالم، الذين لم يتمعنوا في التحولات العميقة التي أصابت الحركة الصهيونية اليهودية، بعد هيمنة الفكر المتطرف عليها، لكن بالعودة إلى الوقائع التاريخية يمكن القول بأن دور الصهاينة من اليهود كان محدود ومهمل في موضوع إعلان بلفور، باستثناء دور المنظمة الصهيونية اليهودية في الولايات المتحدة، التي تمكنت، على الرغم من قدراتها المحدودة، من اختراق شبكة السلطة في واشنطن.
[1] وتم تجديده وسط احتفالات ضخمة عام 2004.
[1]Daloz, 2010.
[2]The Bill of Rights of 1689.
[3]ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية ، جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبدالله عبد العزيز، سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت، العدد 96، كانون الأول 1985،
[4]Barbara Tuchman, Bible and Sword, London 1956.
[5] ريجيينا الشريف ، مصدر سابق، ص.77.
[6] Richard Pococke, Description of the East, Volume II , London 1743.
[7] Earl of Shaftesbury, State and Prospects of the Jews, Quarterly Review, London, January/ March 1839.
[8] Franz Kobler, The Vision was there. London, 1956 p.76.
[9]المصدر السابق .77
[10] Israel Cohen, The Zionist Movement, New York, 1946, p.51.
[11] J.W.Dawson, Modern science in the Bible , cited by Kobler
[12] ريغينا الشريف ، مصدر سابق ، ص 156.
[13] المصدر السابق ص 159
[14] انظر ، فائز الغصين ، مذكراتي عن الثورة العربية
[15] Entente Cordiale.
[16] http://arabnc.org/al_moutamar_al_fikra.htm.
[17] دافيد فرومكين ، نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط ، ترجمة وسيم حسن عبدو، 2015.
[18] المصدر السابق ص.188-192
[19] .G. Lorimer, Gazetteer of the Persian Gulf, Oman and Central Arabia, vol. 1, Historical, Part 1, Calcutta, Superintendent Government Printing, India, 1915, 1624 pp. IOR/L/PS/20/C91/1.
[20] Yves Brillet, LA GRANDE-BRETAGNE, LE KOWEÏT ET LES AFFAIRES DE L’ARABIE DE LA FIN DU XIX SIÈCLE À 1914. PREMIÈRE PARTIE, Cles du Moyen-Orient, ARTICLE PUBLIÉ LE 26/05/2016.
[21] الكولونيل لورنس ،أعمدة الحكمة ، ، ص 23.
[22]فائز الغصين ، مصدر سابق، ص 181-182.
[23] انظر فرومكين ، نهاية الدولة العثمانية ، والكولونيل لورنس، أعمدة الحكمة السبعة حيث نجد تفاصيل الإطاحة بحكومة الأمير حفيد عبد القادر الجزائري.
[24] فرومكين ، مصدر سابق ، ص.301
[25] فرومكين ، مصدر سابق ، ص.293.
[26] ديفيد فرومكين، نهاية الدولة العثمانية وتشكيل الشرق الأوسط، ترجمة وسيم عبدو ، 1915، ص 246
[27] Behind the Balfour Declaration. Britain‘s Great War Pledge To Lord Rothschild. By Robert John.
[28] Les Juifs dans la Grande Guerre, 1914-1918 (5675-5679)
True Jews and Patriots: Australian Jews and World War One (Vrais Juifs et patriots : Les Juifs australiens et la Première Guerre mondiale)
مراجعة: هيفاء علي
الآراء المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي المركز وسياسته