أقام مركز الشؤون العالمية، وهو أحد الأذرع البحثية لجامعة نيويورك، ورشة عمل في شباط 2013 بعنوان “سورية 2018” والتي استشرف الباحثون المشاركون فيها آفاق النزاع على سورية وفق ثلاثة سيناريوهات مختلفة قد يتحقق أحدها بحلول عام 2018 . تقوم استراتيجية الورشة على “تخيل” كل سيناريو على حدى وفقاً لقراءة مستفيضة للمعطيات المتوفرة للمشاركين كل وفق رؤيته. تراوحت السيناريوهات السورية الثلاثة بـ : “إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع”، “احتواء الحرب الأهلية” و”التسوية عن طريق المفاوضات”. وتم وضع سردية شاملة لكل سيناريو مفترض.
يدير هذه الورش ويصممها عادة مايكل اوبنهايمر، الباحث في المركز والمدرس في الجامعة، وذلك بناء على خبرته المستفيضة بالعمل الاستشاري مع وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في مجالي العلاقات الدولية وحل النزاعات. تقدم في نهاية السيناريوهات خيارات للإدارة الأمريكية في إدارة الملف بما يخدم مصالحها.
درج المركز خلال العقد المنصرم على إقامة ورش عمل شبيهة حول الصين 2020 وروسيا 2020 وتركيا 2020 وإيران ما بعد 2010 وإيران 2015 وأوكرانيا 2020 والباكستان 2020. يتم اختيار المشاركين المساهمين بحيث تضمن الورشة تزاوجاً واضحا بين آراء العاملين في الحقل الأكاديمي البحثي على مختلف مشاربهم وآراء تكنوقراط من الجهات الحكومية أو الأذرع البحثية الممولة مباشرة من جهات مثل وكالة الأمن القومي NSA ووزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون. هذا التزاوج لا شك انه يقدم لصاحب القرار مروحة اوسع من الأفكار التي تخدم سياساته، وذلك بحكم تنوع الآراء التي تتم صياغتها على شكل خلاصات مفيدة من وجهة النظر الأمريكية. فنلاحظ أن تقرير سورية 2018 ينتهي بالمقترح التالي:
يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بالتصعيد بسرعة أكبر وبشكل حاسم، حتى استباقي، من أجل تغيير جذري في حسابات داعمي النظام. سيكون عليها أن تعمل على تحقيق أسوأ السيناريوهات التي تفترضها الجهات الفاعلة الأخرى في المشهد إن كانت تريد أن تثبت قدمها في سورية.
سواء عملت الإدارة الأمريكية الحالية، أو ستعمل الإدارة القادمة، بجملة المقترحات المقدمة من هذه الورشة أم لا، فإن الأهم أن الخيارات التي قدمتها لها مجموعة المشاركين هي بين يديها كمجموعة أوراق هامة في لعبة السياسة الدولية. ولاشك أن هناك جملة من التوصيات التي لم يتم نشرها، كما هو الحال في الكثير من هذه الورشات، مما يجعل القسم المنشور للعموم شكلاً من أشكال تمهيد الأرضية لتحقيق هذه السيناريوهات مستقبلاً، وهو ما يحقق فائدة إضافية من تزواج العمل الأكاديمي البحثي أو التحليل السياسي الاستشرافي مع تطلعات أصحاب القرار. مثال آخر على هذا التزاوج مقالة الكاتب روبرت كابلن التي نشرت على موقع “ناشونال انترست” مؤخراً بعنوان ” الأسد معضلة أمريكية” والتي يشير فيها الكاتب إلى مقالة كان قد كتبها في مجلة “الاتلانتك” عام 1993 بعنوان “سورية: أزمة هوية” يقول إنه “توقع” فيها حالة “الفوضى” التي تمر بها سورية اليوم. وكابلن كاتب وباحث بالشؤون السياسية ذو توجهات يمينية، كان قد خدم في الجيش الإسرائيلي، وله صلات وثيقة جداً بالمؤسسات الحكومية والاستخباراتيه الأمريكية. (سيقوم المركز بنشر المقالتين في المستقبل القريب).
اتخذنا القرار بترجمة ملخص محاضر هذه الورشة ونشره رغم نزوعه في بعض الاحيان إلى قراءات مسطحة لنسيج المجتمع السوري واستخدامه للغة مسيئة ومستفزة، ورغم بروز فهم مقولب ضمن أطر السياسة الأمريكية فيما يتعلق بعلاقة سورية مع محيطها. نترك للقارئ النبيه أن يستنبط ملاحظاته وتحليله لما ورد في هذا الملخص، ونتمنى أن يراسلنا بآرائه ومقترحاته فيما يتعلق بهذا النص الهام.
مدير المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي
د. وضاح يوسف الخطيب
نظرة عامة على المشروع
تعتمد السيناريوهات المقدمة في هذه الورقة على خلاصة ورشة عمل حول السيناريوهات المحتملة في سورية، والتي عقدت في 7 – 8 شباط 2013، في مركز الشؤون العالمية في جامعة نيويورك (CGA). وكانت تلك الورشة هي الثامنة ضمن سلسلة من ورشات العمل التي تنظمها “مبادرة سيناريوهات مركز الشؤون العالمية”، بهدف الحد من المفاجآت، وإلقاء الضوء على خيارات السياسة الخارجية للولايات المتحدة من خلال تمارين بناء السيناريو. وقد ركزت الأحداث السابقة على العراق وإيران والصين وروسيا وتركيا وأوكرانيا وباكستان. وتم تمويل ورش العمل حول الصين وروسيا وتركيا وأوكرانيا وباكستان وسورية من قبل مؤسسة كارنيغي (Carnegie Corporation) في نيويورك.
في المناقشات السياسية الرسمية والأكاديمية على حد سواء، غالباً ما يتوقع أن يوازي المستقبل الماضي القريب، وتُرفض الثغرات المحتملة على أنها غير قابلة للتصديق؛ وتغيب المعلومات التي تتعارض مع العقليات السائدة أو أفضليات السياسة أو ينظر إليها على أنها شاذة، كما أن الضغط من أجل التوافق يدفع الأفكار المميزة بعيداً، والخوف من أن تكون “خاطئة” يحبط التحليل المبتكر والمجازف. ويمكن لهذا التحفظ أن يُعتم، وبالتالي يحد، من خيار السياسة الخارجية. ومن خلال العديد من ورش العمل، بينت تجربتنا أن الخبراء يميلون إلى التقليل من درجة التغيرات المستقبلية في السياسة الداخلية للدول التي تبدو مستقرة. كان هذا هو الحال مع الاتحاد السوفياتي، كما هو عليه الآن في الشرق الأوسط، وهو ما حدث بشكل مفاجئ في تركيا والبرازيل. وهنا، تشكل العولمة والتقلبات المالية وانعدام الأمن الطبيعي والضغوط الاقتصادية والنزاعات العرقية والدينية تحدياً للحكومات غير مسبوق، وتتطلب أن يفكر الأمريكيون بجدية في كل من المخاطر والفرص في مثل هذه الظروف الملتبسة.
وتهدف “مبادرة سيناريوهات مركز الشؤون العالمية” إلى تطبيق التصورات للنقاشات حول الدول المحورية التي تؤثر على مصالح الولايات المتحدة. ويجمع المشروع مزيجاً من المعرفة والموضوعية والمنظور المستقبلي الضروري للقرارات المعلنة التي اتخذت في ظل وجود حالة من عدم اليقين. ويشمل المشروع بحثاً على المدى الطويل عن قوى للتغيير في النظام الدولي وورشات العمل التي يحضرها خبراء وواضعو السياسات من وجهات نظر ومجالات مختلفة. وتقوم ورش العمل بدراسة نتائج البحوث الحالية، وخلق السيناريوهات البديلة، وتحديد المفاجآت المحتملة، واختبار سياسات الولايات المتحدة الحالية والبديلة ضد هذه العقود الآجلة.
مــقــدمــة
أخيراً، وفي آذار 2011، وصلت إلى سورية الاحتجاجات الجماهيرية التي أسقطت بالفعل الحاكمين المستبدين القويين في مصر وتونس، وأثارت التظاهرات في ليبيا واليمن والبحرين. ومع ذلك، فقد أثبت مسار الاحتجاجات في سورية وقوع عمليات تدمير وزعزعة الاستقرار أكثر بكثير مما في مثيلاتها في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. وخلال العام الثالث، أرخى النزاع في سورية بثقله الرهيب على الشعب والاقتصاد. ومع حلول منتصف عام 2013، أصبح أكثر من ربع السكان (6.8 مليون شخص) بحاجة للمساعدة الإنسانية. وغادر حوالي مليونين إلى البلدان المجاورة. وتمت ضعضعة النسيج الإجتماعي إلى حد الإنهيار من خلال تعميق الاستقطاب الطائفي. وصعدت الجهات الخارجية تدخلها على كلا الجانبين. وتزايد امتداد العنف من سورية إلى كل دولة مجاورة أيضاً، ورزح استقرار لبنان تحت ضغط خاص. وفي 21 حزيران 2013، وصف باولو بينيرو، رئيس لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سورية، البلاد بكونها في حالة “سقوط حر”، وأنها المكان حيث “أصبحت الجرائم التي تهز الضمير واقعاً يومياً”.
ماذا ينذر نزاع على هذا المستوى بالنسبة لمستقبل سورية وبلاد الشام؟
السيناريوهات الثلاثة المقدمة هنا تعرض إجابات مقنعة بنفس القدر على هذه الأسئلة. وهي سيناريوهات لم تتراجع أهميتها نظراً لأنها وضعت لأول مرة، في مركز جامعة نيويورك للشؤون العالمية، في هزيع عاصفة ثلجية في شباط. والواقع، فإن الأحداث التي وقعت في أشهر التدخلات لا تؤكد استمرار معقولية السيناريوهات فقط، ولكن أيضاً أهمية الجهد الدقيق الذي دخل حيز تطوير كل سيناريو، بإظهار العمليات المسببة التي يمكن من خلالها أن يتكشف كل واحد منها على مدى السنوات الخمس المقبلة، وتسليط الضوء على العوامل المحركة الخاصة التي يمكن أن تحرك سورية على طول كل من هذه المسارات الثلاثة. وتم تنقيح التفاصيل لإبعاد الدخيلة منها من أجل دفع المصالح الأساسية والمحفزات والنوايا وقدرات الجهات الفاعلة إلى المقدمة. والنتيجة هي مجموعة مقنعة وضرورية من المسارات المستقبلية المعقولة بالنسبة لسورية خلال الفترة من اليوم إلى 2018. ولن نذهب بعيداً عن الحقائق الثابتة حول ما مرت خلاله سورية وما من المرجح أن تواجهه في السنوات القادمة.
فشلت عدة محاولات للتنبؤ. ولا يمكن الاعتماد على التوقعات طويلة المدى على نحو خاص. وهنا أفضل تقدير هو أنه لم يكن أياً من المشاركين في اجتماع شباط قد توقع الإحتجاجات في سورية قبل ستة أشهر من وقوعها. لماذا يجب أن تُأخذ هذه التوقعات على محمل الجد أكثر؟ لأنها ليست نتاج التقييمات الفردية لخبراء مخطئين أو معرضين للتحيز، ولكن نتيجة عملية منظمة وجماعية وفرت فرصة كبيرة لإختبار الإفتراضات الضمنية، وتحدي الحجج، والاعتماد عن احتمال أن نتائج معينة يمكن أن تحدث نظراً لما نعرفه اليوم.
ظهرت السيناريوهات كنتيجة ليومين من المناقشات المكثفة بين عدد صغير من الباحثين والمحللين والممارسين ممن كانت وجهات نظرهم بشأن سورية متنوعة للغاية؛ لم يكن هناك أي تفكير جماعي بين أعضاء هذه المجموعة بالذات. وهكذا تجمع المشاركون بدعوة من مايكل أوبنهايمر، مدير مبادرة السيناريوهات في جامعة نيويورك. بعد تجميع السيناريوهات الثلاثة التي كانت ينظر إليها على أنها تستدعي مزيداً من التحليل – عملية صعبة أكدت في حد ذاتها عمق الخلافات بين المشاركين في المجموعة – شاركت المجموعة في تجربة فكرية رائعة في التفكير التنبؤي. وبتوجيه من أوبنهايمر، ومع مشاركين إضافيين حول الطاولة، تم تمحيص وتدقيق ومراجعة كل واحد من السيناريوهات بعناية ودقة، وشحذ إلى النقطة التي حققوا فيها العتبة العالية جداً من المعقولية بين مجموعة حازمة جداً.
كما عدت إلى السيناريوهات عدة أشهر في أعقاب اجتماع شباط، تأثرت مرة أخرى بنتائج عملية مبادرة السيناريوهات. السيناريوهات الثلاثة المقدمة هنا تستحق دراسة متأنية من قبل المسؤولين المكلفين بالإستجابة للأزمة المتفاقمة في سورية، ومن قبل جمهور أوسع من المعنيين حول أين يمكن أن يتوجه النزاع في سورية. إذن أعذر من أنذر، تتركنا هذه السيناريوهات جميعاً في وضع أفضل للمشاركة اليوم في الطرق التي قد تساعد سورية على الأقل في أن تجنب بعضاً من أحلك المستقبلات التي توصفها هذه السيناريوهات.
الدكتور ستيفن هايدمان
سيناريوهات مركز الشؤون العالمية
السيناريو الأول: “إضفاء طابع إقليمي على النزاع”
مـقـدمـة
يوجز هذا السيناريو كيف تتفاقم الانقسامات الطائفية والعرقية والجيوسياسية، التي أدخلت سياسات الشرق الأوسط ضمن اضطرابات امتدت لعقود، نتيجة الجمود المتصاعد داخل سورية. كما هو الحال مع سيناريو “احتواء الحرب الأهلية” أدناه، تقدم الجهات الخارجية الفاعلة الأسلحة والأموال لوكلائها بمستوى يكفي لحماية مصالحها، بينما تحاول تجنب المشاركة المباشرة في الأعمال العدائية. ومع ذلك، في هذا السيناريو “إضفاء طابع إقليمي على النزاع”، تفوق الأحداث الجارية على هذه الحسابات، مما يجعل من إستراتيجية معايرة العنف غير مجدية. فقد شجع تصاعد القتال الكراهية الطائفية وحملات القتل ضد السكان المدنيين. ومع تشظي البلاد على أسس طائفية وعرقية، تتصلب المواقف وتتلاشى الآمال في التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. ومع قيام اللاعبين الإقليميين بالرد بالمثل على الديناميات المتحولة في القتال عبر زيادة الدعم للفصائل التي يختارونها، انقلبت المزايا الآنية التي يتمتع بها جانب واحد في نهاية المطاف من قبل الآخرين، منتجةً جموداً لا يمكن احتواؤه.
في الواقع، يتم إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع بالفعل على قدم وساق مع تنافس القوى الإقليمية على النفوذ من خلال وكلاء (تسيطر عليهم بشكل غير تام)، فيما يهدد العنف الطائفي وتدفقات اللاجئين النسيج الطائفي والعرقي الهش للدول المجاورة، وزيادة الإشتباكات المسلحة عبر الحدود. في حين أن سيناريو “احتواء الحرب الأهلية” يصور كيف يمكن أن تدار هذه القوات، يوحي هذا السيناريو كيف سيكون هذا الجمود “المدبر” هشاً بطبيعته.
الطريق إلى 2018
2013-2014: تصاعد الفوضى
مع دخول النزاع السوري عامه الثالث، يعزز نقل الأسلحة الثابت من الجهات الإقليمية الفاعلة القتال الوحشي المتزايد على الأرض. كما نشرت حملات القتل ضد السكان المدنيين الأحقاد الطائفية، استمر تفتيت البلاد على أسس طائفية وعرقية، وخمدت الآمال في التوصل إلى تسوية تفاوضية. في العديد من الحالات، يخل التوازن الطائفي والعرقي الهش للدول المجاورة من خلال اتساع دائرة العنف وتدفقات اللاجئين. وكلما كانت الحكومة في دمشق وخصومها المتنوعين في حاجة لميزات متنوعة في القتال والبقاء على قيد الحياة، يقومون على نحو متزايد بدعوة رعاتهم للحصول على مساعدة أكبر. وفي ظل وجود مصالح إستراتيجية حيوية متعلقة بالنتيجة النهائية للحرب في سورية، لا يمكن لأي جهة فاعلة إقليمية أن تقاوم الإنخراط بشكل أعمق.
ساهمت أجندات القوى العظمى شديدة التباين في سورية بشكل هام في المأزق الإقليمي والتوترات العالمية المتزايدة على حد سواء. بينما ظلت إدارة أوباما حذرة من التورط في أزمة أخرى في الشرق الأوسط في ضوء الأولويات المحلية الأكثر إلحاحاً والتزام إستراتيجي متجدد نحو آسيا، يعكس تقديمها المهم للدعم والسلاح لقوى المعارضة في حزيران 2013 الإجماع الرفيع المستوى بأن هزيمة النظام البعثي لبشار الأسد يشكل ضربة منهكة لعدو أمريكا الإقليمي الأكبر، إيران. علاوة على ذلك، أصبح البقاء بمعزل تام عن القتال خياراً لا يمكن مقاومته على نحو متزايد، مع نمو النفوذ السني داخل المعارضة السورية بثبات، يتحرك الحلفاء الأوروبيون والجهات الفاعلة في “الكابيتل هيل” لتوريد الأسلحة إلى العناصر العلمانية من معارضي الأسد.
أثار قيام واشنطن بزيادة المساعدات الفتاكة للمعارضة خلال عام 2013، فضلاً عن دورها الأقل وضوحاً في تسهيل شحنات الأسلحة من الحكومات العربية وتركيا، المخاوف المألوفة في موسكو حول نوايا الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وعدم وجود قيود على قوتها. وكانت روسيا، بحلول منتصف عام 2013، قد اعترضت بالفعل ثلاث مرات على قرارات الأمم المتحدة التي تدعو الولايات المتحدة فيها الرئيس الأسد للتنحي عن السلطة. وفي حين أن عائلة الأسد كانت الحليف منذ فترة طويلة للسيد في الكرملين، تمتد أسباب العرقلة الروسية والدعم القوي للحكومة في دمشق أبعد من الإعتبارات القائمة. حيث تنظر النخب الروسية للأحداث الإقليمية الأخيرة بأنها مزعزعة للاستقرار على نحو كبير، وكانت تخشى أن يقوم الربيع العربي باستبدال الحكام المستبدين العلمانيين بأنظمة إسلامية سنية يمكن أن تلهم تطورات مماثلة على طول حدودها الجنوبية، أو ما هو أسوأ، تشجيع المسلمين الروس المتضررين في شمال القوقاز. إلى جانب خوفه من عدم الاستقرار على طول حدودها، يعتقد سيد الكرملين أن دعوة واشنطن لإزالة الأسد، تأتي في أعقاب دورها في إسقاط معمر القذافي في ليبيا، كانت أحدث مثال على الهيمنة الجامحة التي ترمي بثقلها في جميع أنحاء العالم دون النظر لكيفية أثر أفعالها على الآخرين واستخدام تعزيز الديمقراطية باعتبارها ورقة التين لاستبدال الحكومات التي لا تحبذها. قرار روسيا في أيار 2013 لتسليم صواريخ (S-300) مضادة للطائرات إلى الأسد، مبرر في الوقت الذي يهدف إلى ردع “المتهورين” الأجانب من التدخل في النزاع، وتدل على تصميمها لإحباط الخطط الغربية في سورية وتزيد من توتر العلاقة المتوترة بالفعل مع الولايات المتحدة. بحلول نهاية عام 2014، خفضت المصالح المتصادمة في سورية العلاقات الروسية الأمريكية إلى أدنى مستوى لها منذ بدء النزاع الجورجي في آب 2008.
تابعت إيران باهتمام التطورات في سورية، وقدمت دوراً لا غنى عنه كحليف رئيسي للأسد عبر دعم عسكري واقتصادي ودبلوماسي واسع. حيث واصلت أجهزة الأمن والاستخبارات الإيرانية التدريب وتقديم الإستشارات لمنظمات دولة الأسد العسكرية والأمنية، وتوفير الإمدادات العسكرية الأساسية لدمشق، ودعم مباشر لمليشيات الشبيحة الموالية للحكومة السورية مثل حزب الله والحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج الإيرانية التي شاركت بنشاط في العمليات القتالية ضد الجيش السوري الحر والهجمات على المدنيين. كانت الرهانات عالية جداً بالنسبة لطهران؛ فقد خدمت الحكومة البعثية بمثابة حليف إيران الرئيسي العربي الوحيد على مدى السنوات الثلاثين الماضية، فضلاً عن كونها الممر الحيوي للأسلحة الإيرانية إلى حزب الله، وكيلها اللبناني. تم استحسان القتال العنيف في سورية، المحرض عن طريق تغذية الآلة العسكرية للأسد، أيضاً من قبل النخب الإيرانية كوسيلة لتشتيت انتباه الغرب عن برنامجهم لتخصيب اليورانيوم. وإلى الآن، وحتى في الوقت الذي تعمل بشكل وثيق مع حزب الله لدعم الأسد، تسعى إيران أيضاً إلى تحقيق أقصى قدر من الخيارات الإستراتيجية من خلال تنمية الميليشيات الشيعية داخل سورية التي يمكن أن تكون عناصر موثوقة في حالة هزيمة الأسد.
بينما أعطى انتصار حسن روحاني في الإنتخابات الرئاسية في حزيران 2013 التفاؤل الحذر في بعض الأوساط بأن إيران ستواصل سياسة خارجية أكثر قبولاً للمصالح الغربية، تبددت هذه الآمال في نهاية المطاف. وكان عضو المؤسسة الإيرانية المحافظة روحاني أكثر إنشغالاً في عامي 2013-2014 بتوطيد سلطته المحلية وجذب مراكز السلطة في طهران أكثر من وضع ختمه على سياسة الأمن القومي. ولا تزال السياسة الخارجية بشكل عام والإستراتيجية تجاه سورية على وجه الخصوص، قائمة، كما كانت دائماً، وخاضعة للأولويات والتصورات المسبقة للمرشد الأعلى علي خامينائي. وتم الحفاظ على الدعم الثابت للأسد سليماً، وحتى أكثر من ذلك بعدما صعدت واشنطن ما كانت عليه سابقاً من تقديم المساعدات الفتاكة لقوى المعارضة السورية.
بالنسبة لحزب الله، كانت الضرورة الإستراتيجية للحفاظ على صمود الأسد أكبر من ذلك، حيث يرتبط بقاؤه ارتباطاً وثيقاً بالحفاظ على أولويته السياسية العسكرية في لبنان والحفاظ على خط نقل الأسلحة من إيران. كما نوه أحد القادة في حزب الله في ذلك الوقت، وقال: “إذا انهار بشار الأسد، فسننهار بعده.” ومما زاد حسابات حزب الله تجاه التهديد كان دور منافسيه الرئيسيين، المليشيات السنية اللبنانيية، التي كانت تشكل دعماً لقوات المعارضة السورية المتشكلة أساساً من المسلمين السنة. أصبحت سورية على نحو متزايد نقطة إنطلاق للتعبير القوي عن التوترات الطائفية المكبوتة في لبنان، حيث تبادل الشيعة والسنة في لبنان الصفعات. ومع ذلك، كان خطر ارتداد هذا القتال إلى لبنان والإخلال بالاستقرار السياسي الهش في البلاد مستمراً. وجاءت نقطة التحول في هذا الصدد في ربيع عام 2013، عندما أعلن حسن نصر الله، زعيم حزب الله، علناً عن دعمه للحكومة السورية وإخراج مقاتليه لقيادة هجوم على منطقة القصير الإسترتيجية التي يسيطر عليها المتمردون. وأدى قيامه بتلك الخطوة إلى تحويل حركة المقاومة الشعبية الفعالة ضد إسرائيل إلى ميليشيا طائفية بشكل صارخ، أثارت شكوك ومخاوف الطائفة السنية الراديكالية على نحو متزايد في لبنان. وفي أعقاب قيام حزب الله باستعراض للقوة، أطلقت مجموعات المعارضة السورية، بتشجيع من حلفائها اللبنانيين السنة، صواريخ على معاقل حزب الله في شرق لبنان، مطلقين بالفعل دورة خطيرة من أعمال إنتقامية عبر الحدود خلال عامي 2013-2014.
حاولت إسرائيل البقاء بمعزل عن القتال الدائر بالقرب من حدودها الشرقية، لكن قادتها الأحداث في اتجاه آخر. بالنسبة لإسرائيل، أثبت حكم عائلة الأسد إلى حد كبير أنه مستقر ويمكن التنبؤ بما سيفعل. وقدمت حالة الحرب الضروس في سورية الآن مجموعة من النتائج الممكنة المثيرة للقلق العميق بالنسبة لتل أبيب: استبدال نظام الأسد العلماني بكيان سني أكثر عدائية يضم عناصر تابعة لتنظيم القاعدة؛ وبحث الأسد اليائس على نحو متزايد لدعم سلطتة المتداعية بإنتقاد إسرائيل؛ أو محاولة إيران للإستفادة من الأزمة السورية من خلال نقل أسلحة الدمار الشامل لحزب الله. ولتجنب الوضع الأخير قام سلاح الجو الإسرائيلي بتوجيه ضربات جوية في أيار 2013 ضد صواريخ إيرانية كانت في طريقها إلى حزب الله، فضلاً عن ضرب قاعدة عسكرية في دمشق. ومن الواضح أن هذا العمل جاء نتيجة الشعور بأن الأسد المحاصر لن يقوم بالرد أو أن إيران تتجنب المخاطر، فلا يمكن لإسرائيل أن تفترض أن خصومها الإقليميين سيبقون إلى الأبد حذرين إستراتيجياً. خلال الفترة المتبقية من 2013-2014، راقبت إسرائيل بحذر الأحداث المتكشفة في سورية، وأدركت أن أمنها تأثر، ولكنها مستعدة لإستخدام القوة فقط كملاذ أخير نظراً لإحتمال اتخاذ إجراءات إنتقامية وامتدادها إلى حدودها. كان إخماد الحريق الإقليمي ضرورياً عندما قامت الإضطرابات الفلسطينية في قطاع غزة وتطوير إيران المحتمل للأسلحة النووية بصرف انتباهها على نحو كافٍ.
مثل الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، كانت الحكومة العراقية قلقة بعمق من إمكانية أن يكون للأحداث في سورية تداعيات تؤدي لزعزعة الاستقرار وعودة التوترات الطائفية في الداخل العراقي، مع تصاعد احتجاجات السنة ضد حكم الأغلبية الشيعية التي هددت بإنزلاق البلاد نحو التمرد على نطاق واسع. وفي ظل وجود عناصر إسلامية سنية متطرفة في سورية المجاورة تقاتل بمحاذاة محافظة الأنبار، معقل السنة المستائين في العراق، يخشى رئيس الوزراء نوري المالكي من أن يؤدي سقوط الأسد إلى تحرر هذه القوى لنقل الدعم لإخوانهم السنة في العراق. وقد تشتت تركيز المالكي في اتجاهات مختلفة. بينما يعلم بأن الدعم الكامل للأسد، الذي تحظى الإطاحة به بتأييد كبير من قبل السنة العراقيين، يمكن أن يزيد من توسيع الإنقسام الطائفي في العراق، وكان متخوفاً بشكل متزايد من أن الحكومة التي يهيمن عليها السنة في دمشق قد تشجع المعارضة له في المحافظات الغربية. ومع تلقي جبهة النصرة في سورية إمدادات ثابتة من المال والخبرة ومقاتلين من تنظيم القاعدة في العراق، وهي المجموعة السنية المتمردة نفسها التي قتلت العديد من الجنود الأمريكيين في العراق وعززت الفتنة الطائفية بالتفجيرات الإنتحارية ضد الشيعة، رأى المالكي على نحو متزايد الحاجة لتقديم المزيد من المساعدة للأسد. وتصاعدت حدة التوترات في نيسان عام 2013، عندما قُتل العشرات إثر غارة عسكرية شنتها الحكومة ضد المتظاهرين السنة في مخيم قرب كركوك، مما أثار الجماعات السنية العراقية لإنشاء مليشيات عسكرية لمواجهة الحملة الواضحة للجيش العراقي. وبمحاصرته ضمن منزله، أدرك المالكي أن بقاءه في السلطة مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمحافظة على الحكم البعثي في دمشق. لذا صعد تدريجياً الدعم الدبلوماسي والعتاد للأسد خلال عام 2014، مع الاستمرار في السماح باستخدام الأجواء العراقية لشحن الأسلحة الإيرانية إلى سورية.
كانت آثار انتشار الحرب الأهلية في سورية مزعزعة للاستقرار في الأردن على نحو خاص، حيث أغضب تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين بلداً يعاني بالفعل من تحديات سياسية واقتصادية هائلة. بينما تمكن الملك عبد الله الثاني من اجتياز اضطرابات الربيع العربي بأقل ضرر لحكمه، واجه استياءً عاماً بشأن التقشف الاقتصادي المستمر والبطء الشديد في الإصلاح السياسي، مع تزايد الأمل لدى الإخوان المسلمين والحركات السلفية في الإستفادة من هذه المشاعر. وبحلول نهاية عام 2013، تم تسجيل ما يقرب من مليون سوري كلاجئين في الأردن، ما يزيد على 10 في المئة من مجموع السكان؛ وبتكلفة تقدر بمليار دولار، ودفعت التكلفة الهائلة لإدارة هذا التدفق الاقتصاد الأردني نحو حافة الإنهيار رغم المساعدة الغربية الإضافية. وبكفاحه للحفاظ على غطاءٍ لتزايد الاضطرابات في الداخل، سعى عبد الله لعزل بلاده عن القتال في سورية عن طريق إنشاء منطقة عازلة على طول الحدود. وعندما اندلعت احتجاجات واسعة في خريف عام 2014 بعد الكشف عن أن المخالفات التي ارتكبتها دائرة الملك الداخلية قد تذهب دون عقاب، واجه عبد الله معضلة كيفية احتواء هذا التهديد لحكمه دون حث عناصر راديكالية من مقاتلي المعارضة السورية لدعم الحركة الإسلامية في الأردن.
وكان احتمال امتداد العنف مرتفعاً أيضاً في تركيا. بعد أن رفض الأسد اقتراحاً بتهدئة المعارضة السورية بالإصلاح الداخلي، أصبح رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان واحداً من أشرس خصوم النظام البعثي في عام 2013. وفي مقدمة تلك الجهات الإقليمية الفاعلة الداعية لإزالة الأسد من السلطة، استضافت تركيا جماعات المعارضة السورية الرائدة وكانت مورد الأسلحة الرئيسي والميسر لفصائل السنة الذين يقاتلون في سورية. وبالنتيجة أثار الوجود العسكري القوي على طول الحدود السورية بشكل متقطع مناوشات طفيفة مع قوات الأسد. وهنا أتى الفشل الأولي للتوصل إلى تسوية سلمية في سورية ليضرب الداخل بقسوة، مع عبور عشرات الآلاف من السوريين الحدود إلى تركيا هرباً من القتال. وعلى الأرجح إن الأمر الأكثر مدعاة للقلق بالنسبة لقادة تركيا هو التنافس مع نضال 30 عاماً من أجل الحكم الذاتي من قبل السكان الأكراد، حيث كانت تلك علامات تنذر بالسوء لمنطقة نفوذ ناشئة في شمال شرق سورية يسيطر عليها “حزب الإتحاد الديمقراطي (PYD) لأكراد سورية وحزب العمال الكردستاني (PKK) في تركيا. خوفاً من أن يدعم توطيد هذه المنطقة قضية الأكراد في تركيا، هددت أنقرة أولاً بعمل عسكري ضد هذه المنطقة ودعم الإسلاميين السنة في معارك ضد قوات حزب الإتحاد الديمقراطي. ومع ذلك، أسفر التركيز المتتابع على المحادثات المتجددة مع حزب العمال الكردستاني عن سياسة جديدة تجاه الأكراد في سورية. خلال عامي 2013 و2014، حاول أردوغان استمالتهم، على أمل أن تكون المنطقة الكردية في سورية تحت إشراف الأتراك يمكن أن تكون بمثابة منطقة عازلة ضد تصاعد العنف في الجنوب.
2015-2016: انتشار الحرب الطائفية وتعميق إنخراط القوة العظمى
عزز استمرار الحرب السورية الوحشية إلى أجل غير مسمى، تورط القوى العظمى أكثر، وغالباً لأسباب داخلية أو إستراتيجية لا علاقة لها بالحرب. ومع تقديم المساعدات العسكرية لقوات المعارضة في حزيران عام 2013، استثمرت إدارة أوباما خطوتها في هزيمة الأسد، مما أدى إلى الأمل بمزيد من الإجراءات الأكثر تصعيداً، بما في ذلك فرض منطقة حظر جوي فوق المناطق التي تسيطر عليها المعارضة ومنع وصول الإمدادات للنظام. وفي الوقت نفسه، جاء النزاع السوري المتصاعد لينظر إليه من قبل الفصائل القوية داخل المؤسسة العسكرية في الصين، مضطربة ومنزعجة من “محور” إدارة أوباما في آسيا، كوسيلة لتحويل الموارد الأمريكية من باحتهم الخلفية. وبمعاناته من تزايد الاضطرابات العامة رداً على الفساد الرسمي دون رادع واتساع التفاوت في الدخل، كان الرئيس شي جين بينغ ميالاً لدعم مصداقيته مع المؤسسة العسكرية القوية بدعم توصياته لشحنات الأسلحة إلى قوات الأسد. عندما أُعلن هذا القرار في نهاية عام 2015، توسع التنافس الصيني الأمريكي، مدفوعاً بالتنافس الإستراتيجي المتصاعد في آسيا، بشكل فعّال في الشرق الأوسط.
وهنا يفترض ضمان تلقي الوكلاء في سورية الدعم الكافي أهمية رمزية لكل القوى؛ فبالنسبة لواشنطن، إنها مسألة إظهار قوتها الباقية في منطقة معرضة لنفوذها طويلاً، بينما كان دعم بكين القوي المتواصل للأسد وسيلة لإعلان وصولها في الشرق الأوسط. وأسفر إيقاع سورية في شرك تنافس قوى عظمى أكبر عن تصاعد شحنات الأسلحة إلى جميع أطراف النزاع، والمساهمة في تزايد العنف وتناقص الآمال في التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض. زاد التعاون بين الصين وروسيا، المسهل بالأصل بشكل واضح نتيجة المعارضة المشتركة لهيمنة الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة، بشكل ملحوظ، حيث شهدت كل من بكين وموسكو المزايا الإستراتيجية الناجمة عن ضرب مكانة أمريكا في سورية. وكان لنقل الأسلحة المنسق والدعم الدبلوماسي القوي للأسد تأثير تخفيف التوترات الناجمة عن توسيع نفوذ الصين بين الدول السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى وفي الشرق الأقصى الروسي ذي الكثافة السكانية المنخفضة. بينما ظل الحديث عن تحالف موحد مناهض للولايات المتحدة بين الصين وروسيا سابقاً لأوانه، زاد زخم التعاون الذي قدمته سورية تعقيد إستراتيجية الولايات المتحدة العالمية، وعلى الأقل مؤقتاً، بدد أي ميل إلى التودد للكرملين كشريك إستراتيجي محتمل في التحقق من الطموحات الصينية.
ساهم تقديم المساعدات العسكرية الأمريكية لمقاتلي المعارضة، بالإضافة إلى زيادة شحنات الأسلحة من حكومات الخليج وتركيا، ترجيح كفة التوازن تدريجياً ضد الأسد المرن في عام 2015 وسهلت التقدم المطرد للمعارضة على الأرض. وجاءت نقطة تحول من نوع ما في الصيف، عندما توغلت قوات المعارضة تجاه معقل العلويين في غرب سورية مما أدى إلى نزوح جماعي لعشرات الآلاف إلى لبنان المجاورة. وقد انقلب التوازن الطائفي الهش بالفعل في البلاد بشكل كبير. وكانت الغالبية العظمى من اللاجئين السوريين في لبنان عند تلك النقطة من السنة المناهضين للأسد الذين كانوا يخضعون للمراقبة بحذر من قبل حزب الله كحلفاء محتملين لخصومهم المحليين. كما تسبب تدفق أعداد كبيرة من العلويين القادمين الجدد في صيف عام 2015 لتبادل لإطلاق النار عبر الحدود نتيجة ملاحقتهم من مقاتلي المعارضة السورية، تحرك حزب الله لحمايتهم من خلال تكثيف الهجمات ضد القوى السنية السورية واللبنانية على حد سواء. امتد القتال الذي كان مقتصراً على سورية إلى حدودها الغربية، مهدداً بإشعال حرب أهلية في لبنان. كما كانت موارد حزب الله تستهلك على نحو متزايد نتيجة الإشتباكات المحلية، تأخذ إيران حصة أكبر من العبء في دعم الأسد. وحتى مع ذلك، دفع مصير الأسد غير المؤكد، الذي تفاقم بسبب إنتقال العديد من جنرالاته من دمشق خلال فصل الصيف لحماية ما تبقى من العلويين في جيب البلاد الغربي، إيران لتحول تركيزها أكثر نحو بناء الميليشيات الشيعية السورية التي يمكن أن تكون بمثابة وكلاء لطهران في حال انهار البعثيون. وفقاً لذلك، تم إرسال أعداد متزايدة من الحرس الثوري إلى سورية للتدريب وأغراض عسكرية أخرى.
تم إدراك خوف الجهات الإقليمية الفاعلة المستدام من أن يتردد صدى قلب الموازيين في سورية عبر حدودها بالكامل في عامي 2015-2016، مع تصاعد التوترات الطائفية نتيجة تقدم السنة في الدول المجاورة. وهنا صعدت الميليشيات السنية العراقية الجريئة، بمساعدة من القوات المناهضة للأسد مباشرة في سورية، هجماته ضد الحكم المتزايد فظاظة في بغداد ولجأت مرة أخرى إلى التفجيرات الإنتحارية واسعة النطاق في المناطق الشيعية. وهكذا شعر المالكي المحاصر بأنه مضطر بحلول نهاية عام 2015 لإطلاق حملة واسعة النطاق للحفاظ على الهيمنة الشيعية، مغرقاً العراق في ظروف حرب أهلية مشابهة لأعوام 2006-2007.
في الأردن، انتقلت العناصر الإسلامية للإستفادة من النجاحات السنية في سورية المجاورة من خلال الاضطلاع بدور أكثر بروزاً في الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في خريف عام 2014، وخاصة في المدن ذات الأعداد الكبيرة من الفلسطينيين المؤيدين الموثوقيين لدى إسلاميي الأردن. كما أدى إصرار الملك عبد الله على قمع الاضطرابات بقوة إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى على مدار عام 2015، وتم سحب المقاتلين الأجانب من سورية ومصر والعراق إلى الأردن لإسقاط الحليف الغربي الثابت ومساعدة إخوانهم السنة. بعد أن خرجت سالمة نسبياً من المراحل الأولى من الربيع العربي، واجهت المملكة الأردنية الهاشمية الآن أكبر تحد لقبضتها القوية على السلطة.
في تركيا، انهارت عملية السلام الموعودة مع حزب العمال الكردستاني تدريجياً خلال 2015 نتيجة الاتهامات المتبادلة. فلم يكن أياً من الجانبين في نهاية المطاف على استعداد لإعطاء الآخر ما يريده؛ ولا يمكن أن توافق أنقرة على العفو الكامل عن قوات حزب العمال الكردستاني، التي كانت بدورها مترددة في نزع السلاح تماماً.
مع استئناف القتال بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، فتحت التطورات في سورية الفرص والمخاطر لكل جانب. فيما دفع تضاؤل سيطرة الأسد على الأراضي السورية حزب العمال الكردستاني وحليفه حزب الاتحاد الديمقراطي نحو تعزيز سيطرتهم على طول المنطقة الحدودية التركية في أوائل عام 2016. رد أردوغان، محضراً نفسه في هذا الوقت لرئاسة معززة دستورياً، على هذا الإستفزاز من خلال زيادة العمل السري داخل سورية المتفككة لإثارة الفوضى في هذه المنطقة من النفوذ وإطلاق تدابير قمعية ضد الأكراد في تركيا. في مثال آخر حول كيف كدر النزاع السوري المناخ الدولي، استخدم الاتحاد الأوروبي، المتردد مسبقاً حول احتمال انضمام تركيا، الإجراءات التركية كمبرر لإنهاء مفاوضات العضوية المتقطعة في أواخر عام 2016. وكانت النتيجة الصافية لهذا الاحتكاك تحولاً تركياً أكثر وضوحاً بعيداً عن الغرب.
2017-2018: تجدد الحروب الأهلية والمواجهة الإقليمية
بحلول عام 2017، تمزقت خطوط الصدع الجيوسياسية والعرقية والطائفية في الشرق الأوسط بعنف جراء الحرب الأهلية في سورية، مخلفة عقبها نزاعاً إقليمياً لا يمكن السيطرة عليه، قلب على نحو فعال النظام الإقليمي الذي قام بعد الحرب العالمية الأولى. وتتفكك الدول الشرق أوسطية الحالية إلى جيوب قبلية ودينية وسياسية. فيما تفجرت الإنقسامات الطائفية المتأصلة في لبنان والعراق، التي تم إصلاحها بقدر ضئيل للغاية من قبل الحكومات، وتحول مرة أخرى إلى حرب أهلية شاملة. في كلا البلدين، قامت الفصائل المتنافسة على السلطة بدعم وكلاء عنها في الحرب في سورية لتعزيز سلطتهم المحلية، فقط لتجد أن القتال لا يمكن أن يقتصر فقط خارج حدودها. بحلول نهاية عام 2018، يتراجع كل من حزب الله والحكومة العراقية، في حين لا يزالون يتظاهرون بامتلاك اليد العليا، ويتعرضون لهجوم من خصومهم الطائفيين الكثر من أجل معالجة المظالم التي طال أمدها ومقاومة نير سلطة الشيعة. لم يكن هناك أي مؤشر على متى وكيف ستهدأ النزاعات في لبنان أو العراق أو تنتج نصراً واضحاً.
إن مثالاً مثيراً على قدم المساواة لكيف يمكن أن تقلب الأحداث في سورية الأمور في أماكن أخرى يتمثل بالأردن التي تبدو مستقرة منذ فترة طويلة تحت قبضة العائلة الهاشمية. مع تعرض الملك عبد الله خلال عامي 2017-2018 لتهديد تخريبي بتحريض من المقاتلين الإسلاميين من سورية ومصر والعراق، واصل سياسة المسار المزدوج بالاعتماد على قواته الأمنية للقضاء على أعدائه وإبراز مؤهلاته الإسلامية الخاصة للتملق بين العناصر الأكثر مرونة من السكان. ويترتب عن هذا التكتيك الأخير تداعيات هامة لتوجيه السياسة الخارجية الموالية للغرب حتى الآن في الأردن.
سيستمر القتال في سورية نفسها مستعراً بحلول نهاية عام 2018، مع عدم وجود نهاية في الأفق. وستكون البلاد بحلول ذلك الوقت مجزأة إلى حد كبير على أسس طائفية داخل حدود الدولة القائمة؛ يستمر البعثيون في السيطرة على الوضع على طول الممرات الرئيسية من دمشق إلى حمص، في حين تسيطر المعارضة على المحافظات الشمالية والشرقية والجنوبية. وتنشر الفظائع الجماعية التي ترتكبها جميع الأطراف الكراهية الشديدة التي تعمل ضد حدوث تسوية تفاوضية. حتى لو فقد الأسد السيطرة على مساحات واسعة من سورية، يمكن أن يستمر في الاعتماد على مساعدة قيمة من إيران وروسيا والصين، في حين يتمتع بالتفاني من العلويين والدعم المتذمر من السوريين الآخرين الذين رأوا في النظام البديل تهديداً وجودياً.
تخدم التوترات النابعة من سورية كخلفية لتصعيد مقلق في التوترات بين إيران وإسرائيل، وهما أكثر قوتين لا يمكن التوفيق بينها في المنطقة. مع بحث إيران عن وسيلة لحفظ مخزون سورية الكبير من أسلحة الدمار الشامل بعيداً عن أيدي النظام البديل المحتمل أن يكون عدائياً وتشتيت انتباه الغرب مع اقتراب توسيع قدرتها النووية في صيف عام 2017، شجعت الأسد على نقل بعض من الأسلحة الكيميائية إلى حزب الله المحاصر في لبنان. وبتلمسه يائساً لحبل السلامة، وافق الأسد على هذا الطلب الاستفزازي. بشكل متقطع طوال فترة الحرب، تحركت إسرائيل لمنع نقل الأسلحة التي يمكن أن تغير ميزان القوى العسكرية بينها وبين حزب الله. باكتشاف النقل المخطط من خلال استخباراتها الخاصة، شنت إسرائيل فوراً غارات جوية ضد مواقع حزب الله في لبنان، فضلاً عن قوافل الأسلحة داخل سورية. وبالإستجابة خلافاً للتوقعات الإسرائيلية، يبحث حزب الله اليائس على نحو متزايد لحشد الرأي العام المحلي حيث يقاتل الميليشيات السنية بضراوة، ويثأر بوابل من الهجمات الصاروخية على شمال إسرائيل.
في أوائل عام 2018، تصل المناوشات المسلحة المتكررة بين حزب الله وإسرائيل إلى مستوى من العنف لم تشهدها منذ حرب عام 2006. بتشجيع من رد حزب الله القوي على الإجراءات الإسرائيلية، أظهر الأسد أزمته الخاصة مع إسرائيل بمثابة منشط كامن لمشاكله. بحلول الصيف، تشارك إسرائيل كذلك في حرب إفتراضية ضد كل من حزب الله وقوات الأسد، وهما حليفا إيران الرئيسان. وبتقديم المزيد من الدعم لهما لإثبات مصداقيتها الإقليمية، ترسل طهران أسلحة إضافية وعناصر من الحرس الثوري إلى سورية. فعندما شنت إسرائيل غارة جوية على فصيل من القوات الإيرانية في أيلول، بحثت النخب الإيرانية على محمل الجد مزايا العمل العسكري المباشر ضد إسرائيل. فمثل هذا الخيار يصدم العديد من وسطاء السلطة في طهران على أنه ممكن عسكرياً، في ظل الحماية المرتقبة التي توفرها القدرات النووية المكتسبة حديثاً، وحتمي سياسياً، مع موجات من الإيرانيين المحتجين ضد الأوضاع الاقتصادية القاتمة بشكل متزايد.
السيناريو الثاني: “احتواء الحرب الأهلية”
مـقـدمـة
يوجز هذا السيناريو كيف تبقى حرب أهلية طويلة الأمد وعنيفة على نحو متزايد محتواة نسبياً داخل سورية. حيث تعزز الجهات الخارجية الفاعلة تقديم الأسلحة والأموال في محاولة لتعزيز مصالحها في المنطقة وتوازن تحركات الخصوم. ويتم توفير هذا الدعم لفصائل مختلفة داخل المعارضة ونظام الأسد. ويكون لذلك تأثير تأجيج العنف داخل سورية، مع الانتشار المتكرر عبر الحدود. ورغم ذلك، على عكس سيناريو “إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع”، لا يتصاعد ذلك العنف إلى نزاع مباشر ومستمر بين الجهات الإقليمية الفاعلة. وبدلاً من ذلك تستقر الحرب الأهلية السورية في نزاع طائفي طويل الأمد ومتعدد الجوانب مع احتمالات حرب بالوكالة بين المتنافسين في المنطقة. هذا “الاحتواء” هو نتيجة حساب المصالح بين القوى العظمى بأن الدعم غير المقيد للفصائل المفضلة سوف ينتج عوائد منخفضة، وبين الجهات الفاعلة الإقليمية التي يتعرض استقرارها السياسي الداخلي للخطر من خلال الدعم المستمر للفصائل السورية. تحد تلك القيود غير الرسمية من مخاطر إندلاع حريق إقليمي، والسماح للحرب بالوكالة بالاستمرار بلا هوادة إلى حد كبير. ومع ذلك، لا تقود النزاع نحو الحل في شكل إما النصر العسكري لجانب واحد أو تسوية تفاوضية للوصول لحل وسط. مع انقسام المعارضة، وزيادة التطرف والعنف الطائفي المتصاعد، يستمر القتال عبر الحدود وتدفق اللاجئين بشكل لا يحتمل، وتكون المعقولية الطويلة الأمد لـِ “الحرب الأهلية المحتواة”، دون وجود بعض التفاهم الرسمي بين الجهات الفاعلة الخارجية أو التوصل إلى تسوية سياسية بين المتنافسين في الداخل، عرضة بشكل كبير جداً للشك.
الطريق إلى 2018
2013-2014: تصعيد بطيء
خلال عام 2013، بقيت الحرب الأهلية في سورية لحد كبير كما كانت لسنتين سابقتين: تصاعد ثابت، وجمود دموي راسخ بعمق. حيث واصلت الجهات الخارجية الفاعلة توفير الدعم لجميع الأطراف، في حين أثقلت كاهلها بالتكاليف المتزايدة لتورطها أكثر مقابل ضمان عدم المخاطرة بالتأثير المحتمل داخل بلدانهم. خلق هذا النوع من الدعم التنافسي مزايا آنية للنظام السوري، نظراً لموارده الداخلية غير المستغلة والدعم من روسيا وايران وحزب الله، ولكن تصرفت دول الخليج والديمقراطيات المتحركة ببطأ للحفاظ على توازن عسكري صعب. وبدوره منع ذلك النزاع من الامتداد خارج حدود سورية بشكل كارثي، ولكن أدى إلى حرب أهلية وبالوكالة أكثر عنفاً من أي وقت مضى.
واصل النظام ومعارضيه ببطء تصعيد مستويات العنف، مع مجموعات مختلفة من القيود الداخلية والخارجية على كلا الجانبين تقيد سرعة تصعيدهم. واصلت الجهات الإقليمية الفاعلة واللاعبين الخارجيين الآخرين متابعة مصالحهم الخاصة داخل البلد، مع قيام بعض الدول مباشرة بمعاكسة أهداف الآخرين. أبطأت المخاوف المستمرة إزاء عدم التنسيق بين قوى المعارضة الوتيرة التي كانت الجهات الخارجية على استعداد فيها لتوزع الأسلحة والأموال. الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، قلقة من تزايد نفوذ العناصر المتطرفة والجهادية داخل المعارضة، وبصورة رئيسية جبهة النصرة، مع صلاتها العلنية بتنظيم القاعدة. فقد ساهم التخوف من أن تقع الأسلحة في نهاية المطاف بأيدي معادية، فضلاً عن الدروس المستقاة من الجمود غير المجزي في العراق وأفغانستان، في استمرار سياسة ضبط النفس الأمريكية.
حصلت قوات المعارضة على مكاسب دورية، بالاستيلاء على الأراضي والمدن في بعض الأحيان، ولكن في كثير من الأحيان تحتفظ بسيطرتها لفترة وجيزة فقط حتى يتم استرجاعها بقوة النيران المتفوقة للقوات المسلحة السورية (SAF). وكان لدى القوات المسلحة السورية مزايا كبيرة تحت تصرفها، وبصورة رئيسية القدرات الجوية ومخابئ كبيرة للأسلحة الكيميائية. أثبت الأسد استعداده لإستخدام قواته الجوية لقصف الأراضي والقواعد التي يسيطر عليها المتمردون. بينما حذر الرئيس أوباما وآخرون من أن استخدام الأسلحة الكيميائية يشكل “خطاً أحمراً”، واستمرت التقارير في الظهور خلال عام 2013 بأن الأسد قد نشر هذه الترسانة ضد قوات المعارضة.
استمرت المخاوف بشأن عدد الجنود لدى الأسد، ولكن ساهم التدفق المستمر من الإيرانيين من القوات البرية في الحرس الثوري الإسلامي، وقوة القدس ومنظمة الاستخبارات إلى سورية في تعزيز جيشه. وأرسل حزب الله أيضاً مقاتلين من لبنان. في منتصف عام 2013، حث حسن نصر الله حزب الله وأتباعه على القتال من أجل سورية، ودفع فعلاً بمزيد من القوات، وقام بتوفير الجنود المشاة لمعارك بالقرب من القصير وحمص ودمشق، مما يساعد الأسد لتحصين موقعه في غرب سورية. على الرغم من هذه التعزيزات، أدى القتال المستمر تقريباً في كل ركن من أركان البلاد إلى إضعاف قدرة القوات المسلحة السورية. وفقط بمساعدة روسية كان الأسد قادراً على معالجة هذا القلق جزئياً. عن طريق إحضار مرتزقة من منطقة القوقاز ومواصلة تلقي شحنات الأسلحة الروسية، وهي تحركات مدانة على نطاق واسع من قبل الغرب، احتفظ الأسد بسلطة طفيفة.
أصبح فشل المعارضة بالاتحاد واضحاً بشكل متزايد، سواء في الساحة الدولية وعلى أرض الواقع. احتفظ “المجلس الوطني السوري” (SNC) بمقعد سورية في الجامعة العربية واستمر في عقد اجتماعات منتظمة مع ما يسمى “أصدقاء سورية”. لكن استمرت مسائل القيادة في تقويض قدرة “المجلس الوطني السوري”، مع استقالة الشيخ معاذ الخطيب مرة أخرى من الرئاسة في نيسان 2013 بعد ادعائه أن المجتمع الدولي لم يكن على استعداد لمساعدة الشعب السوري. عندها جهد الإئتلاف للعثور حتى على رئيس مؤقتٍ كُفء، وساهمت مسألة عدم وجود قيادة بإعاقة أي قرار غربي للتدخل بالقوة في سورية.
تم تكرار مسألة نقص التوافق داخل “المجلس الوطني السوري” بين المتمردين على أرض الواقع. فقد أثبتت الأحداث في مدينة الرقة شمال سورية أنها مفيدة عملياً. عندما استولت عليها قوى المعارضة في آذار 2013، اعتبرت الرقة انتصاراً كبيراً: أول مدينة رئيسية تأخذها قوات المتمردين وتحتفظ بها. ولكن مع محاولة المعارضة إنشاء هيئة حكم، اندلعت اشتباكات عنيفة بين فصائل المعارضة في جميع أنحاء المدينة. كان كل من مقاتلي الجيش السوري الحر والجماعات الجهادية المرتبطة بالنصرة والمسؤولة إلى حد كبير عن سقوط المدينة، المقاتلين الرئيسيين في النزاع على السلطة. رغم التنديد بالقتال من قبل قادة الفصائل على حد سواء، أُجبر الجيش الحر على تقديم التنازلات التي سمحت لجبهة النصرة بفرض الحكم الإسلامي عبر المجالس الشرعية. وكان ينظر لجبهة النصرة بأنه لا غنى عنها إذا أملت المعارضة الاحتفاظ بالمدينة لأنها الأفضل من حيث التمويل والتدريب والأسلحة وعدد المقاتلين. حدثت صراعات مماثلة في المدن الشمالية مثل رأس العين والحسكة، حيث كانت المسائل أكثر تعقيداً مع وجود الميليشيات الكردية المعروفة باسم قوات حماية الشعب (YPG).
بالنظر إلى التشرذم المتزايد ضمن المعارضة، بدأ أنصار التدخل مرة أخرى الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها لدعم قوات الجيش الحر بقوة من أجل تعزيز فرصها في هزيمة كل من الأسد والقوى الإسلامية للسيطرة على البلاد. وتزايدت الضغوط الدولية أكثر في أوائل صيف عام 2013، عندما أكدت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن الأسلحة الكيميائية قد استُخدمت عدة مرات من قبل النظام ضد جماعات المعارضة المختلفة داخل سورية. مع تجاوز “الخط الأحمر”، تم الضغط على إدارة أوباما لفرض منطقة “حظر الطيران”، بالإضافة إلى تدابير عسكرية أخرى أكثر حسماً. مع النفي القوي من قبل النظام وحلفائه –أبرزها روسيا- وعدم قدرة الأمم المتحدة على إثبات النتائج التي توصلت إليها الإدارة بشكل مستقل، واجهت الولايات المتحدة عدداً من الخيارات غير الجذابة.
لا يزال صناع السياسة الأمريكية والأوروبية يشعرون أن خطر وقوع الأسلحة والدعم المالي بيد جبهة النصرة كان واقعياً جداً. وهكذا برزت سياسة مزدوجة، مع ما تبقى من التركيز الرئيسي للولايات المتحدة في التوصل إلى حل سياسي بالتنسيق مع روسيا، وفي نفس الوقت توفير مساعدة مالية كبيرة للمجلس الوطني السوري والأسلحة الصغيرة لقوى المعارضة عبر المجلس العسكري الأعلى (SMC). ومع ذلك، كان لهذه الجهود أثر غير مقصود لتعميق الإنقسامات داخل المعارضة، وأيضاً تعرض حدود الدعم الروسي للعملية الدبلوماسية (بالمقارنة مع الدعم العسكري الموسع للأسد).
نظراً لإحباطها بسبب الدعم الروسي الموسع للنظام، في أوائل 2014، أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم 200 مليون دولار إضافية من المساعدات إلى الجيش السوري الحر، مع أسلحة إضافية توزع عبر المجلس العسكري الأعلى. ثم حذت حذوها كل من بريطانيا وفرنسا. في الوقت نفسه، زادت المملكة العربية السعودية وقطر شحنات الأسلحة للمعارضة، مع العلم أن هذه الأسلحة غالباً ما تجد طريقها إلى أيدي جبهة النصرة. وهنا خفض هذا التدفق من الإقتتال الداخلي بين المتمردين مؤقتاً، مع اتفاق ضمني بين المقاتلين المحليين والنصرة أفضى إلى الدفع لهجوم جديد ضد قوات الأسد في صيف عام 2014. أدت شدة القتال لإغراق العراق ولبنان المجاورتين باللاجئين، حيث وصل العدد بالفعل 250 و450 ألفاً، على التوالي. كما زادت أعداد اللاجئين في الأردن وتركيا التي كانت بالفعل عند مستويات الأزمة. تعهدت الولايات المتحدة وأوروبا بتقديم 100 مليون دولار لكل من هؤلاء الحلفاء للمساعدة في تخفيف أزمة اللاجئين وردع التدخل من جانب واحد.
بحلول نهاية عام 2014، أنهكت أربع سنوات من القتال المتواصل البنية التحتية لسورية خارج دمشق. ودمر الانخفاض الكبير لقيمة العملة والعقوبات المتزايدة على نحو فعال الاقتصاد التقليدي في سورية. فيما ترك التضخم الليرة السورية بدون قيمة، حيث تم تداول الدولار الأمريكي بحرية في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك دمشق. وازدهرت السوق السوداء وحل اقتصاد الحرب محل جميع البنى الاقتصادية السابقة. وأنشأ أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الموارد عبر الحدود التي يسهل اختراقها الشركات المزدهرة التي توفر كل شيء من الضروريات الأساسية إلى الأسلحة الصغيرة والدروع الواقية للبدن، ليصبحوا أثرياء نتيجة هذه العملية وقاموا باستئجار الميليشيات لحماية أنفسهم وممتلكاتهم.
2015-2016: اللاعبون الخارجيون يخطون للوراء
في أوائل عام 2015، ساءت الأزمة الإنسانية الصارخة في سورية إلى حد كبير. حيث أعلنت الأمم المتحدة أن عدد القتلى في سورية قد تجاوز 200 ألف وتقدر مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن العدد الإجمالي للاجئين النازحين قد ارتفع لأبعد من 2.5 مليون. فلم يتبقى سوى عدد قليل من المدنيين في المناطق الشمالية من البلاد، وأولئك الذين لم يفروا بعد حملوا السلاح وانضموا إلى القتال.
ينذر ربيع عام 2016 بواحدة من أكثر الفترات عنفاً ودموية للقتال في النزاع بأكمله. قوات الأسد، تنسحب إلى حد كبير من الشمال، تؤمن أخيراً مدينة حمص وتحصن دفاعاتها حول دمشق. بدلاً من التراجع إلى الشمال كما هو متوقع، رغم ذلك، حولت قوى المعارضة انتباهها غرباً، نحو جبال العلويين. سواء من إستراتيجية مخططة مسبقاً أو بدافع اليأس، شنت المعارضة هجوماً واسع النطاق على مدينة طرطوس. حيث أدت الهجمات الإنتحارية داخل المدينة إلى مقتل العشرات يومياً، في حين تم ذبح عشرات المدنيين العلويين في اعتداءات في جميع أنحاء المناطق المحيطة. بشكل ملحوظ، قتل ثلاثة أشخاص بهجوم انتحاري على منشأة بحرية روسية في طرطوس، بينهم مواطن روسي. رد الأسد بإطلاق هجوم جوي شامل على حلب وإدلب، ما أدى لتدمير البنية التحتية الهزيلة المتبقية في هذه المدن. ظهرت تقارير مرة أخرى عن استخدام أسلحة كيميائية على السنة من قبل قوات الأسد. بحلول نهاية شهر أب، أصبح من الصعب تقدير عدد القتلى، حيث ساهمت المجاعة ونقص المياه النظيفة في عدد القتلى المدنيين بمقدار العنف المستمر. اختلفت التقديرات على نطاق واسع، والتي تتراوح بين 250 و325 ألف.
في المجتمع الدولي، نظر القادة لهذا التدهور السريع بمثابة نقطة تحول. فقد اضطرت موسكو للاعتراف بأن الدعم العسكري الموسع للنظام قد أنتج مزيداً من إراقة الدماء دون ضمان قبضة النظام على غرب سورية أو أمن قاعدتها البحرية في طرطوس. واعترفت الولايات المتحدة أيضاً أن مخاوفها المتعددة بشأن زيادة المساعدات القاتلة أصبحت حقيقة. بالإضافة إلى ذلك، كانت روسيا والولايات المتحدة تشعران بالقلق إزاء النكسة المتزايدة لعلاقتهما نتيجة التدخلات التنافسية في سورية. وافقت روسيا بهدوء مرة أخرى على اللقاء مع زعماء الولايات المتحدة وأوروبا، واقتراح تفاهم غير رسمي. ستحدد روسيا سقف الدعم المالي والعسكري للأسد، في مقابل الالتزامات الأمريكية والأوروبية للإمتناع عن تقديم مزيد من المساعدة الفتاكة إلى المعارضة. وافقت روسيا على ممارسة تأثير تقييدي على إيران، كما فعل الغرب على دول الخليج وإسرائيل. اتفق الفريق أيضاً على العمل من أجل وقف إطلاق النار. أصر الروس أيضاً على أن أي عمل عسكري من جانب واحد ضد سورية سيكون إنتهاكاً غير مقبول لسيادتها وينفي الإتفاق.
عزز التفاهم المحفزات والضغوط نحو ضبط النفس داخل المنطقة. لا تزال العراق والأردن وتركيا غير قادرة وحتى الآن أقل استعداداً للتحرك بشكل حاسم داخل سورية. العراق، الذي يعاني من الصراعات الداخلية بين الفصائل السنية والشيعية، لم يفعل سوى القليل ولكنه استوعب اللاجئين واستجاب للتحديات السياسية والعسكرية في الداخل. كما منعت المشاكل الاقتصادية المتزايدة الأردن من القيام بدور أكبر في النزاع السوري. وواصلت تركيا اختبار النزاع الداخلي؛ حيث تطورت الإحتجاجات السياسية الصغيرة المناهضة للحكومة التي بدأت في عام 2013 إلى حركة واسعة النطاق، مما تسبب في اضطراب كبير، وتباطؤ مساعي تركيا للحصول على صفة عضو في الإتحاد الأوروبي، وتعطيل المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني والمساس بالمستقبل السياسي لرجب طيب أردوغان. وقد دفعت هذه العوامل القيادة التركية إلى الاعتماد أكثر وأكثر على الشركاء في حلف شمال الأطلسي، كما أبعدتها عن التورط المتزايد في سورية.
واصلت دول الخليج دعم قوى المعارضة، ولكن تسبب مستوى العنف، بالإضافة لجهود روسيا في كبح جماح ضغوط إيران والولايات المتحدة الأمريكية، في أن يكونوا أقل وضوحاً في دعمهم للمتمردين، في حين تبذل جهود جديدة لتعزيز المجلس الوطني السوري. أما لبنان فقد تحمل وطأة اللاجئين وواجه اضطرابات سياسية داخلية، مع تصاعد التوترات الطائفية داخل حدوده. فالإشتباكات بين قوات حزب الله الموالية للأسد والإسلاميين السنة المعادين للأسد في شوارع طرابلس تعني أن السلع والمقاتلين المرسلين عبر الحدود تضاءلت على نحو ثابت.
وفي الوقت نفسه، صعدت إسرائيل هجماتها على قوافل داخل سورية. وبتركيزها على الحد من عمليات نقل الأسلحة إلى حزب الله وتقليل الإمدادات الإيرانية المتوجهة إلى الفصائل الإسلامية، من ضمنها تلك الموجودة في العراق، أوضحت إسرائيل أن أي هجوم عليها من قبل قوات الأسد أو وكلائها من شأنه أن يؤدي إلى توجيه ضربات عسكرية ضد النظام. بالمقابل، أثار هذا الكلام القاسي تهديدات من موسكو بأنه من شأن أي عمل أحادي الجانب من قبل إسرائيل أو أي حليف غربي أن يلغي الصفقة الأمريكية الروسية. وردت إسرائيل عن طريق معاودة تهديداتها ضد الأسد، وتحول اهتمامها بدلاً من ذلك إلى حزب الله والبرنامج النووي الإيراني المعاد تشغيله حديثاً.
واصلت قوات الحرس الجمهوري الإيراني القتال في سورية، داعمين قوات الأسد. مع إنتخاب حسن روحاني لمنصب رئيس الجمهورية في عام 2013 وإدخال أجندة سياسة خارجية أقل مواجهة، ومع ذلك، فإن القيادة الإيرانية تتواصل سراً مع الأسد، بينما ظلت حليفًا قوياً وستستمر بتوفير الأسلحة والإمدادات، فإنها لن تقدم أي جندي أخر وفقاً للمحادثات المتجددة مع الولايات المتحدة بشأن برنامجها النووي.
مع دخول شتاء عام 2016، تكون جميع الأطراف داخل سورية قد استنزفت، مع خفض الدعم الخارجي، وحدوث وقف إطلاق نار غير رسمي. تستمر أعمال العنف المنتشرة في جميع أنحاء البلاد، ولكن من دون المعارك الضارية التي احتدمت طوال فترة الصيف. في دمشق، ظهر الأسد علناً لأول مرة له على مدى عامين، ملقياً خطاباً يتعهد خلاله مرة أخرى بسحق المتمردين. ويعقب الخطاب موكباً عبر شوارع المدينة يحضره الرئيس روحاني، الأمر الذي يوحي للكثيرين أن الهدوء المؤقت في العنف كان يعتبر نصراً وسيكون الأسد راضياً مع وقف إطلاق النار، على الأقل في الوقت الراهن. في الشمال، كان هناك هدوء نسبي أيضاً. يختلف قادة كل من الجيش الحر وجبهة النصرة حول كيفية حكم الأراضي الواقعة تحت سيطرتهم، ولكن نادراً ما تنفجر هذه الاختلافات إلى عنف. في الواقع، تضررت المدن في الشمال بشدة نتيجة سنوات من القتال وبقي عدد قليل من السكان، مما يجعل مسألة الحكم عبثية الطابع إلى حد كبير.
2017-2018: الإنهيار
كان عام 2017 مليئاً بالتفاؤل النسبي إلى حد كبير بسبب وقف إطلاق النار غير الرسمي الجديد. بدأت الجهات الخارجية الفاعلة ببطء إرسال الأموال والمساعدات الإنسانية إلى شمال سورية. على الرغم من الظروف الصعبة المستمرة، غادر السوريون المشحونين بالضجر مخيمات اللاجئين المكتظة والخطيرة عائدين إلى ما تبقى من منازلهم. وسُمح للمنظمات غير الحكومية الدولية التحرك بحرية في جميع أنحاء الشمال، لتوفير الغذاء والماء إلى الناس اليائسين. تعمل المنظمات غير الحكومية في المقام الأول في وحول المراكز الحضرية حيث يتواجد الجيش الحر بكثرة ويمكن أن يوفر الحماية اللازمة. وشهدت المدن حيث تسيطر جبهة النصرة عودة أبطأ للنازحين، ولكن المليشيات الجهادية الممولة جيداً كانت قادرة على توفير الاحتياجات الأساسية لأولئك الذين لم يعودوا، مجندين بعضهم للقتال إلى جانبهم. في أكثر المناطق الريفية، ادعت الميليشيات المستقلة ملكيتها للمجتمعات باعتبارها ملكاً لها وأنشأ أمراء الحرب إقطاعيات مصغرة. ولم تنحاز هذه الجيوب المعزولة للجيش الحر أو لجبهة النصرة.
في دمشق، واصل الأسد التحدث علناً ضد الأفعال “غير القانونية” للمتمردين وأشار إلى الحركة الحرة للمنظمات غير الحكومية الغربية داخل البلد كدليل على أن التمرد كان مؤامرة تحاك من قبل القوات الغربية الإمبريالية لسرقة بلده. لا يزال يحتفظ بوقف إطلاق النار، ويقضى وقته بإعادة تعزيز قوته وإعادة بناء دمشق. مع امتداد الهدوء النسبي واستمرار عودة اللاجئين، بدأت بوادر النمو الاقتصادي المتواضع بالظهور. بشكل ملحوظ، بدأ كثير من الشباب الذين انضموا إلى القتال بإلقاء أسلحتهم والعودة إلى منازلهم. فيما يميل المقاتلون الذين بقوا، مع جبهة النصرة والجيش الحر على حد سواء، إلى أن يكونوا أكثر راديكالية.
وفي محاولة للإستفادة بسرعة من وقف إطلاق النار غير المستقر، جدد المجتمع الدولي الجهود الرامية إلى التوسط في محادثات للتوصل إلى تسوية تفاوضية. قام ممثلين من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية بالترتيب لعقد قمة رئيسية تجمع بين قادة المجلس الوطني السوري وممثلين عن نظام الأسد في القاهرة في كانون الثاني عام 2018. لم يدعى أي ممثل من جبهة النصرة أو أي فصيل إسلامي للمشاركة في المحادثات.
قبيل هذه القمة، قام رئيس المجلس الوطني السوري الشيخ معاذ الخطيب بأول رحلة له إلى سورية منذ فراره في تموز 2012. وكان الهدف من الرحلة تأمين الدعم للقوات على أرض الواقع. بينما كان يقوم بجولة ضمن المدن الشمالية، التقى الخطيب مع قادة الجيش الحر وجبهة النصرة. وقال أنه سعى لطمأنة الإسلاميين بأن سيتم طرح همومهم في المفاوضات المقبلة بين المعارضة والأسد، ووعد جميع الأطراف أن الأسد سيحاسب على جرائمه. بعد فترة ليست طويلة من وصوله إلى سورية، انفجرت عبوة ناسفة مزروعة على الطريق قتلت العديد من أعضاء وفد المجلس الوطني السوري، من ضمنهم الخطيب. في حين لم يأخذوا أي مصداقية للإغتيال، رفض قادة جبهة النصرة استصواب أي مفاوضات مع الأسد، بإدانة الخطيب والمجلس الوطني السوري بأنهم خونة للقضية.
بالتزامن مع ذلك تقريباً، اندلع الاقتتال الطائفي الشامل في الشمال السوري. وذهب ذلك التفاؤل الذي كان سائداً بداية العام، واختتم عام 2017 بفوضى مطلقة. ومع كونها غير سعيدة في استبعادها من المفاوضات المخطط لها أيضاً، استغلت وحدات الحماية الشعبية والجماعات الكردية الأخرى الفرصة لتأكيد وجودهم، محاولين الحصول على إقليم كردي مستقل. كان رد فعل تركيا بإطلاق صواريخ على شمال سورية، وهي الخطوة التي تلقى إدانة قوية من الولايات المتحدة. هذا، بدوره، أجج التوترات بين تركيا وإسرائيل والولايات المتحدة. وأصرت أنقرة على أن واشنطن قد وضعت معايير مزدوجة بالإنصياع للأعمال العسكرية الإسرائيلية، في حين تنتقد الجهود التركية لحماية مصالحها الخاصة. أعلنت روسيا أن استجابة تركيا تشكل إنتهاكاً لإتفاق 2016 وأعادت النظر في إمكانية تجديد شحنات الأسلحة، بما في ذلك صواريخ مضادة للطائرات إلى الأسد.
تم إلغاء محادثات القاهرة نظراً لحالة الفوضى في الشمال وعدم وجود زعيم شرعي يمثل المعارضة. مع هروب اللاجئين مرة أخرى من القتال، تعيد الجهات الفاعلة الإقليمية تقييم مواقفها. تحمل الأردن والعراق وطأة هذه الموجة الجديدة من اللاجئين. وأشارت القيادة في كلا البلدين أنها لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من اللاجئين وستضطر للتدخل إذا استمرت هذه الظروف. وعبر العراق بشكل خاص عن القلق المتزايد بالتهديد للقيام بشكل من أشكال العمل، مع خشية العديد من المسؤولين في بغداد من أن السنة العراقيين سيجدون قضية مشتركة مع السنة الذين يفرون من سورية، وربما يضعون حجر الأساس لإنتفاضة داخلية. لتهدئة هذه المخاوف، اجتمع وزير الخارجية الأمريكية مع رئيس الوزراء العراقي والملك عبد الله الثاني ملك الأردن. أسفرت نتائج هذه المحادثات عن تلقي كلا البلدين حزم مساعدات ضخمة من الولايات المتحدة.
بدأ الأسد، الذي كان يعتقد منذ البداية أن زيادة الإقتتال الداخلي وتشكيل إمارات حرب في الشمال يساعدان فقط على ضمان شرعيته، مشاهدة هذه الفوضى على أنها إشكالية على نحو متزايد. حيث تعاني قوات الأمن بشكل أسبوعي تقريبياً من التفجيرات والعبوات الناسفة في دمشق. نفذت هذه الهجمات على مدار الصيف والخريف من عام 2018. احتشد العلويون وراء الأسد خوفاً من العقاب والتطهير العرقي إذا سقط. ولضمان سلامته، قدمت إيران مساعدات أمنية أكبر وغيرها من المساعدات، في حين زاد حزب الله من عدد مقاتليه مرة أخرى على الأرض.
مع عدم وجود أياً من مظاهر التماسك بين المعارضة وتلقي الأسد مرة أخرى الدعم من إيران وروسيا وحزب الله، انتهى عام 2018 بمجموعة متضائلة من الخيارات غير الجذابة بالنسبة للولايات المتحدة: تسليح البقايا المتناثرة من الجيش الحر ( مع العلم أنه من المرجح أن تقع هذه الأسلحة في أيدي جبهة النصرة والفصائل المتطرفة الأخرى)؛ القيام بعمل عسكري في شكل غارات جوية أو إدخال قوات برية؛ أو السماح للأسد وحلفائه باكتساب القوة.
السيناريو الثالث: “تسوية تفاوضية”
مـقـدمـة
يبدأ هذا السيناريو كغيره بالجمود الحالي، والمنافسة بين اللاعبين الخارجيين على النفوذ داخل سورية، مع خيارات للتصعيد من قبل جميع الأطراف، وتزايد التجزئة الإقليمية والتطرف السياسي. ويمثل الحصول هنا على تسوية تفاوضية تحديات واضحة. إن أسهل الطرق لمفاوضات جادة سيكون نصراً عسكرياً حاسماً لجانب واحد وفرض التسوية بشكل أساسي، أو التقسيم الإقليمي الفعلي الذي يصدق ويثبت باتفاق دولي. ومع ذلك، فإن الإنتصار العسكري الحاسم غير محتمل (على الرغم من المكاسب الأخيرة للنظام)، حيث تقابل كل ميزة واضحة في نهاية المطاف بالتصعيد من الجانب الآخر. وهنا تعمل تعقيدات التسوية الطائفية ومرونة النظام والانقسامات بين المعارضة وبين قوى خارجية ضد تقسيم مفروض. وعليه، يعتمد هذا السيناريو على تحول خفي محتمل ودقيق في ميزان القوى يخلق حافزاً كافياً للتفاوض لدى معظم الأطراف، وذلك ما سيمكن الضغط الخارجي نحو هذا الهدف، وفي الوقت المناسب، من أن يكون فعالاً.
الصراع السني الداخلي، بين الجيش الحر المدعوم من الغرب والميليشيات الإسلامية، يمنع المعارضة من ترجمة ضعف النظام في عديد الجنود إلى ميزة عسكرية أو سياسية مستدامة. وبالنظر إلى أن أياً من الطرفين غير قادر على تحقيق انتصار عسكري حاسم، فإن لدى المجتمع الدولي فرصة خاطفة لدفع المفاوضات بين اللاعبين السوريين بمشاركة دولية. ويتطلب ذلك على الأرجح إجماع مجلس الأمن على وقف إطلاق النار، وترتيبات إقليمية مؤقتة، وحضور دولي، وعملية المحادثات بين معارضة موحدة (ولكن ربما غير ممثلة) والنظام ما بعد نظام الأسد البعثي. يتواصل العنف الداخلي على نطاق أضيق، ولكن يحصل وقف إطلاق نارٍ هش، وتبدأ بالظهور الخطوط العريضة لتسوية سياسية وإقليمية.
يكثر المفسدون في هذا السيناريو. ويستبعد الدور الرئيسي للولايات المتحدة وأوروبا، في التوسط في مثل هذه الصفقة، حضور جبهة النصرة على طاولة المفاوضات، الأمر الذي سيحفز على مواصلة القتال. وسيتعين إضعاف حبهة النصرة على الأرض من خلال العمليات الجارية لمكافحة الإرهاب من قبل قوى خارجية، وهي المهمة التي لا يرغبون حالياً بتحملها. وهنا يعتبر دور الميليشيات السنية المتطرفة الأخرى إشكالياً، ويجب أن يرى الداعمون الخارجيون لتلك الجماعات فائدة في كبح جماحها لمصلحة الاستقرار الإقليمي وأمنهم الخاص. ويشكل حزب الله تحدياً كبيراً، ولكنه يسعى في هذا السيناريو لخفض خسائره، ويركز على المصالح الأساسية في تفتيت لبنان. وعلى إيران أن تقتنع بأن إعادة تشكيل النظام السوري والتوصل لتسوية إقليمية يتصدران الأهمية بالنسبة لاحتياجاتها الأمنية أفضل من الدعم المفتوح للأسد. ويجب أن تعترف روسيا أيضاً بهذه الحقائق، مع تأكيدات بأن مصالحها ستعتبر في سورية تحكمها المعارضة.
الطريق إلى 2018
2013-2014: مأزق متصاعد
في أوائل عام 2013، تجاوزت الحرب الأهلية المستعرة في سورية مدة العامين. وأدى التدخل التنافسي للجهات الخارجية الفاعلة، عبر وكلائها المحليين، وإدخال قوات في بعض الحالات، إلى تصعيد النزاع المجمد إلى نقطة إندلاع حرب طائفية شاملة في سورية، ما نتج عنه كارثة إنسانية ضخمة. ويهدد المساس بأمن واستقرار منطقة هشة بالفعل بانهيار عنيف للتسوية الإقليمية التي انبثقت عن الحرب العالمية الأولى. ونضيف إلى واقع الانتشار الإقليمي تزايد المخاوف بشأن تداعيات سلبية على العلاقات بين القوى العظمى التي كانت قد بدأت بالتشكيك في عائدات دعمها للمقاتلين المحليين غير الموثوق بهم، مع استمرار معاناتها من قدرتها على العمل على المصالح المشتركة الهامة في منطقة الشرق الأوسط وأماكن آخرى.
مع بداية العام الثالث للنزاع، أصبحت المواجهة العسكرية ثابتة بين قوات الرئيس بشار الأسد والمعارضة المسلحة. ويتم مراهنة المزايا اللحظية التي يتمتع بها أحد الطرفين بتصعيد من الجانب الآخر، وبتوسيع التزامات الداعمين الخارجيين. وقد حفز توقع استمرار الدعم الخارجي اللاعبين المحليين على مواصلة القتال، في حين حالت طبيعة زيادة المساعدات، هذه، دون وصول أي من الطرفين إلى حافة الحسم في ميدان المعركة. ونتيجة لتزايد أهمية الجماعات الإسلامية الراديكالية داخل المعارضة، استمر ضبط النفس لدى الغرب بوظيفته وسمح بمزايا عابرة للنظام. ولكن الغرب يذعن في نهاية المطاف إزاء الخوف من أن الانتصار الحاسم للنظام يمكن أن يفيد إيران وحزب الله كثيراً. وتواجه الجهات الخارجية الأخرى الفاعلة ضغط القوى العظمى، أو الخوف من انتقام منافسيها الإقليميين، ولكن حصلت على مكاسب أكبر في الإستجابة للمطالب من الحلفاء المحليين لرفع درجة الاستعداد. وبالتالي، يستمر الجمود، ولكن على مستويات عنف أعلى من أي وقت مضى، ودون أي مجموعة رسمية من القيود.
استمرت المعاناة داخل المدن والبلدات الرئيسية، بما في ذلك دمشق، بسبب الموت والدمار نتيجة الحرب المكثفة والمستمرة داخل المدن. وتزايدت أعداد القتلى إلى أكثر من 90 ألف، مع وجود ما يزيد على مليون ونصف لاجئ فروا إلى البلدان المجاورة. وأعاقت الأزمة الإنسانية قدرة المجتمع الدولي على الاستجابة الفعالة، وقدمت تحديات عميقة للبنية التحتية الإقليمية والصحة. وتصاعد العنف بين قوات النظام ومجموعات المعارضة المسلحة على حد سواء، مع الهجمات التي تستهدف المسؤولين الحكوميين رفيعي المستوى، والتي قامت بها جبهة النصرة، الجماعة السنية المتطرفة التابعة لتنظيم القاعدة. وتزايدت التقارير عن استخدام حكومة الأسد للأسلحة الكيماوية. هذه التجاوزات الواضحة لـِ “الخط الأحمر” ومسائل “سلسلة الوصاية” تتحدى التزام الغرب بسياسة ضبط النفس.
واصل الداعمون الإقليميون للأسد والقوى المناهضة له توجيه الأسلحة والمساعدات والمقاتلين إلى سورية، على أمل قلب التوازن العسكري. وعلى الرغم من التوقعات الغربية بحدوث تحول في السياسة الإيرانية بعد إنتخاب حسن روحاني رئيساً، واصلت طهران استخدام المجال الجوي العراقي، ودون قيود، لنقل الأسلحة إلى القوات العسكرية الموالية للأسد، مثل الجيش الشعبي، وهو تحالف مليشيات شيعية وعلوية تدربت على يد حزب الله وفيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. وإلى حد كبير، عرقلت الشحنات الروسية المتواصلة لقوات النظام، من صواريخ كروز المضادة للطائرات، أي تدخل عسكري غربي محتمل، وأكدت مجدداً التزام موسكو بالحفاظ على حكم الأسد من أجل حماية نفوذها الجيوسياسي في المنطقة. وأضرت شحنات الأسلحة هذه بالعلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. من ناحية أخرى، واصلت المملكة العربية السعودية توجيه الأسلحة، والأسلحة الخفيفة الأخرى التي تم شراؤها من كرواتيا، إلى قوى المعارضة. وخلال العام 2013، أصبحت الولايات المتحدة وأوروبا المصدرين الرئيسيين للأسلحة الخفيفة إلى المعارضة. واستمر تقديم التمويلات الإضافية، ومعدات الاتصالات، والمساعدات غير الفتاكة الأخرى، للمعارضة من قبل مجموعة من الدول الغربية والعربية.
رغم القيود المفروضة على الجنود، ظلت قوات نظام الأسد ممولة ومسلحة جيداً، بينما فشلت المعارضة بتوحيد فعال لهجمات قواتها المفككة والمتنوعة تحت إستراتيجية عسكرية واحدة متماسكة. خدمت الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت كل من قوات الأسد وقوافل نقل الأسلحة إلى حزب الله في لبنان بمثابة تذكير قوي للاحتمال المتزايد للأقلمة الرئيسية للنزاع.
في أوائل صيف عام 2013، تركز القتال في غرب سورية. كانت معركة السيطرة على مدينة القصير جزءاً من القتال للسيطرة على حمص المدينة الحيوية والهامة إستراتيجياً. كانت المدينة مهمة للمتمردين من الناحية التكتيكية، كونها تشكل نقطة عبور رئيسية للإمدادات والتعزيزات من لبنان؛ ومن شأن انتصار المتمردين هناك أن يحد من اتصال دمشق بحلب والساحل الذي يسيطر عليه العلويون، فضلاً عن قدرتها على الوصول إلى خطوط إمداد ميناء المدينة. أما بالنسبة للنظام، فإن النصر يعطي دفعة معنوية كبيرة، ويعزز مصداقيته مع الداعمين الخارجيين ويدعم سيطرته في غرب سورية. بسبب الدعم المتواصل والمكثف من إيران وروسيا وحزب الله سيطر جيش الأسد بسرعة وحفاظ بشكل فعال على السيطرة على المدينة. وعلى وجه الخصوص، استثمرت روسيا سيطرة النظام على غرب سورية بشكل كبير، نظراً لوجود قاعدتها البحرية في طرطوس. ومع ذلك، بعد اكتشاف استخدام غاز الأعصاب السارين “بشكل قاطع” من قبل قوات الأسد في شهر حزيران، قامت الولايات المتحدة بتحول ملحوظ في سياسة تقديم المساعدات الفتاكة إلى المعارضة. وحذت حذوها الدول الأوروبية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا. رغم ذلك، مع استمرار تشتت المعارضة ونمو قوة الفصائل الإسلامية الراديكالية، ظلت المخاوف في الغرب بشأن من يدعمون وكيف سيحتفظون بالسيطرة على المساعدة القاتلة المقدمة.
بعد تحقيق عدة انتصارات، تشجعت قوات النظام للمضي قدماً في محاولات السيطرة على حمص، المدينة الهامة إستراتيجياً. ومع تكثيف المعركة في الغرب، سقطت الخطط الموضوعة لإجراء حوار دبلوماسي بين قوات النظام والمعارضة على حد سواء. وبدافع من خسارة المعارضة في مدينة القصير، قدمت المملكة العربية السعودية وقطر، الآن بالتنسيق مع الولايات المتحدة وأوروبا، مساعدة واسعة للمعارضة بالسلاح والمقاتلين، مما سمح لها بالحفاظ على قدرة عسكرية قابلة للنمو. في الواقع تجد كميات كبيرة من الأسلحة وشحنات المساعدات طريقها إلى أيدي الجماعات المتطرفة، مما سمح لهذه الجماعات بالحفاظ على التفوق العسكري داخل حركة المعارضة.
اندلعت معركة حمص خلال عام 2014. تم تأجيل الإنتخابات الرئاسية إلى أجل غير مسمى، حيث شلت المعركة من أجل حمص فعالية كل نشاط سياسي داخل سورية. وكان القتال الأكثر دموية خلال الحرب على مدى ثلاث سنوات، حيث قتل فيها حتى الآن حوالي 200 ألف شخص. مع تفاقم القتال وتعزيز النظام على ما يبدو لمواقعه بالقرب من الحدود، بدأت إسرائيل في توجيه ضرباتها الجوية على القواعد العسكرية للأسد قرب حمص، مستهدفة طرق الإمداد التي تستخدمها قوات حزب الله المستقرة في لبنان. مع إنجرار لبنان إلى مركز الإنتباه، شهدت البلدان المثقلة بالفعل باللاجئين كالأردن والعراق تدفقاً هائلاً من اللاجئين السوريين.
أدى القتال المتصاعد أيضاً إلى تدهور الأوضاع داخل العراق المجاور. فقد أجبر خطر التفكك الداخلي رئيس الوزراء نوري المالكي على إعادة تقييم دعمه لنظام الأسد. واكتسبت الحركات المناهضة للحكومة زخماً قوياً في بغداد وحولها. من أجل تفادي صراع سني شيعي رئيسي في العراق، حول المالكي تركيزه نحو أزمة اللاجئين وفرض سياسة أكثر تقييداً على استخدام المجال الجوي العراقي للشحنات الإيرانية إلى النظام البعثي في دمشق. شجعت الأمم المتحدة، جنباً إلى جنب مع جامعة الدول العربية والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، هذه الجهود من خلال التعهد بتوجيه المساعدة الإنسانية إلى العراق.
أصبحت حمص بؤرة الجمود السورية، جغرافياً ورمزياً على حد سواء. ظهرت تقارير أخرى عن هجوم بالأسلحة الكيماوية من قبل قوات الأسد ضد المجتمعات السنية القريبة. قدمت إسرائيل دليلاً على أن الهجوم ارتكب فعلاً من قبل حزب الله، وقامت بتوسيع ضرباتها الجوية ضد الأسد ومقاتلي حزب الله وشحنات الأسلحة الإيرانية. مع اقتراب معركة حمص من شهرها السادس، أصبح من الواضح استنزاف الجانبين على نحو متزايد. وقد دُمرت المدينة. ودمر القتال المستمر أيضاً الريف السوري خارج دمشق، ما من شأنه أن يشل تقريباً كل النشاط الاقتصادي خلف تجارة السوق السوداء. كانت سورية على شفا الإنهيار التام.
مع تأمل اللاعبين في الخارج، ولاسيما الولايات المتحدة وروسيا، في العواقب الوشيكة الآن لسيناريوهات أسوأ الحالات بالنسبة لسورية والمنطقة، وبحكم الأمر الواقع عرض الخط الفاصل عبر حمص احتمال التقسيم الرسمي أو على الأقل الأساس الإقليمي لوقف إطلاق النار. كما أصبح مفهوم معقل جنوبي غربي بعثي واقعياً على نحو متزايد، جاءت روسيا لتعرض الأسد نفسه بوصفه ممانعاً رئيسياً للترتيب الإقليمي على المدى الطويل، ما من شأنه أن يجلب بعض الاستقرار إلى سورية بينما تسمح لموسكو الاحتفاظ بوجودها في المنطقة. من خلال إظهار استعدادها لدعم النظام الخلف، كانت روسيا قادرةً على ضمان العلاقات مع كادر موثوق صغير من مسؤولي حزب البعث الذين تقاسموا وجهة نظر مماثلة. بالنسبة لهؤلاء المسؤولين، اعتبر التخلص من الأسد وسيلة ناجعة لتأمين نفوذهم في مرحلة ما بعد الأسد، سورية مقسمة بين نظام واهن في الأجزاء الجنوبية والغربية من البلاد ومعارضة مجزأة في شمال شرق البلاد.
2015-2016: تقسيم إقليمي عبر المفاوضات
خلافاً لما حدث في سيناريو “احتواء الحرب الأهلية”، افتتح عام 2015 مع حرص معظم الجهات الخارجية الفاعلة على الاستفادة الكاملة من هذه الفرصة لتعزيز عملية وقف إطلاق النار غير الرسمية التي ظهرت. قام مجلس الأمن، يعمل الآن مع الدعم الروسي والامتثال الصيني، بنشر قوة لحفظ السلام في سورية لتحفيز أو على الأقل ردع الأطراف المتنازعة عن تقويض وقف إطلاق النار. في أعقاب التحول في السياسة الروسية وانشغالها بالاضطرابات الإجتماعية الداخلية، تركز إيران جهودها على حماية معقل البعثيين الجنوبي من أجل الحفاظ على قناتها لنقل السلاح إلى حزب الله. وكانت محاولات تقويض وقف إطلاق النار، وبالتالي صرف إنتباه الغرب عن مطاردة النووي الإيراني مغرية، ولكن ينظر إليها على أنها قد تكون أكثر إفساداً للتنمية السورية الواعدة فقط في السنوات الخمس الماضية. ومع ذلك، كما هو الحال في سيناريو “إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع”، عارض حزب الله بشدة أي وقف لإطلاق النار. ويخشى من خلال رؤيته للتقسيم كخطوة أولى في زوال النظام من أن يكون دوره التالي. ورغم رعاية كل من روسيا وإيران الآن، فشلت مقاومة حزب الله المستمرة لزعزعة الإتفاق على نحو فعال.
تطرح عملية التوصل إلى تفاهم مع التقسيم الرسمي للدولة السورية تهديدات جديدة للاستقرار، مع ذوبان الحدود السياسية القديمة منذ قرن وظهور جيوب طائفية. بينما تم إسعاف السوريين للعثور على فترة راحة من العنف الوحشي، كانوا ممزقين بين تاريخين؛ معظمهم تبنى سورية ضمن الحدود التي رسمتها فرنسا كدولة خاصة بهم، مع الحفاظ على الولاءات الطائفية المعقدة جغرافياً التي تحدت وحدة الدولة. في حين واصل المواطنون السوريون النزاع مع هذه الأسئلة، وخلق اليأس في جميع أنحاء البلاد تأييداً شعبياً للتقسيم. دفع الزخم المستمد من الإجماع الدولي المكتشف حديثاً أعضاءً من نظام ما بعد الأسد وقوات المعارضة على حد سواء إلى الطاولة لإضفاء الطابع الرسمي على تقسيم سورية. وركزت المحادثات على رسم خط الهدنة الرسمية التي أخذت بعين الاعتبار المنفذ الساحلي، فضلاً عن جيوب قبلية وطائفية جغرافياً. استمرت حوادث إطلاق النار عبر الحدود، ولكن ساهم وجود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة لأجل غير مسمى من ردع معظمم من التصعيد أكثر، وحصر أي تجدد للعنف على نحو فعال.
وفي هذه الفترة قام النظام بتعزيز المناطق المتبقية تحت سيطرته في الجنوب. بعد أربع سنوات من القتال، عانى البعثيون من تقلص القدرات البشرية إلى حد كبير. أجبر ذلك القيادات الجديدة للحزب المتجدد على الاعتماد على قوات حزب الله من لبنان المجاورة. استمرت تلك الولاءات بتأجيج التوترات الطائفية في لبنان، التهديد المستمر المرصود بعناية من قبل إسرائيل. كما واصلت إيران حماية معقل النظام المتبقي، على الرغم من انشغالها المتزايد بالقضايا الداخلية. عانت القوات المسلحة السورية من زيادة إنشقاقات أولئك الذين لديهم علاقات شخصية وعائلية في الشمال، حيث شكل ذلك مزيداً من تفتيت الجيش الضعيف أساساً. وبالتالي، وبمساندة المساعدات المستمرة من الدول الحليفة، ركزت القوات المسلحة السورية على إعادة تأمين قواتها والموارد والقواعد في الجنوب لحماية حدودها الإقليمية الجديدة.
مع هدوء النزاع، بدأ أكثر من مليوني لاجئ العودة من تركيا والعراق ومصر والأردن ولبنان المجاورة. ومع ذلك، فإن العديد من هؤلاء اللاجئين كانوا يواجهون احتمال تشريد دائم. لم يكن لدى المجتمعات السنية في الجنوب أي خيار سوى التخلي عن العديد من مساقط رؤوسهم والعثور على منازل جديدة في الشمال الذي يقوده السنة. على نحو فعال، هجرة جماعية لسوريين سنة نقلتهم من دمشق والمناطق الساحلية إلى الشمال، مما يزيد من تعقيد الديناميات المعقدة في المشهد داخل أراضي جديدة. لوجستياً، قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، من خلال الجهود الرامية إلى الحفاظ على المناطق الآمنة للعبور، سهلت نقل العديد من هذه الجماعات العرقية النازحة. ومع ذلك، أصبح الترحيل الطائفي على نطاق ضيق في الجنوب خطراً متكرراً على مناطق الأقليات. وقد انعكس هذا التكتيك للترحيل المستهدف على أساس طائفي أيضاً في الشمال، مع توجيه العنف ضد مجتمعات العلويين والمسيحيين المحاولين الإنتقال إلى مكان في الجنوب.
يواجه الشمال المنشأ حديثاً، والذي لم يعد مشغولاً بمحاربة النظام، مشاكل شاقة. أغرق حلفاء المعارضة الغربيون والعرب المنطقة بالمساعدات الإنسانية غير المنسقة، والتي خففت المعاناة ولكن أيضاً أشعلت المنافسة بين الفصائل المعتدلة المدعومة من الغرب والفصائل الإسلامية الأكثر راديكالية التي تدعم في الغالب من قبل دول الخليج. مع الاعتراف الدبلوماسي الحالي، تولى الإئتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية السلطة عبر الحكومة الإنتقالية. وتتضمن الخطط لإنشاء حكومة تمثيلية أكثر ديمومة، صياغة دستور وإنتخابات والتقدم نحو تطبيق نظام العدالة التصالحية، حددها المجلس الإنتقالي، ولكن وقعوا ضحية شقاق المعارضة والعنف والقبض المستمر على السلطة.
لا تزال الجماعات المتطرفة تتمتع بقبول شعبي كبير وسط إئتلاف المعارضة المنقسمة. بالنسبة لكثير من السوريين، وفرت الميليشيات الإسلامية المسلحة جيداً المأمن الوحيد ضد الهجمات من الجنوب. ومع ذلك، رغم قوة هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة، يعتقد العديد من المتمردين السابقين أن ارتباطهم مع مختلف الجماعات الإسلامية المتطرفة يعيد تقييم المصالح الذاتية الخاصة بهم وسط بيئة متغيرة إلى حد كبير. وهنا حول العديد من المقاتلين إنتمائهم إلى قوات أكثر اعتدالاً، كما أنهم كانوا أقل حماساً فكرياً وأكثر قلقاً مع الحفاظ على الذات. مع الترتيبات الإقليمية الجديدة ودعم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي للجماعات المعتدلة، تحول تركيز مقاتلي المعارضة – الذين قاتلوا جنباً إلى جنب مع الجماعات المتطرفة ضد الأسد – إلى تعزيز المستقبل السياسي للشمال.
2017-2018: تسوية هشة
قدم فجر عام 2017 – رغم التفاؤل – تحديات جديدة للشعب السوري، الذي واجه بلداً مقسماً حديثاً مبنياً على ترتيبات سلام واهية ومعقدة. وهنا غذت الطائفية المشتعلة، المتفاقمة باستمرار بسبب التصرفات العنيفة للمتطرفين الإسلاميين، الاحتجاجات المنددة بالتقسيم على أنه إعادة صياغة أخرى مفروضة خارجياً لسورية. وكان العنف ضد الأقليات العلوية والمسيحية من قبل الجماعات المتطرفة مثل جبهة النصرة متكرر الحدوث. كان الفصيل الإسلامي المرتبط بتنظيم القاعدة، جنباً إلى جنب مع غيره من المسلحين السنة، غير راضٍ عن “التسوية” التي نشأت. حيث سعوا باستمرار لتقويض عملية السلام التي تسير بخطى بطيئة، وكذلك خرق وقف إطلاق النار بين الشمال والجنوب. استمرت شحنات الأسلحة لتجد طريقها إلى جماعات متطرفة مختلفة، مما يشير إلى أن الضغط من الغرب فشل في إخماد ميل دول الخليج لإثارة الطائفية بشكل تام. ويسمح ذلك على نحو متزايد للجماعات مثل جبهة النصرة بتجديد مواردها وإعادة تعبئة صفوفها.
ساهمت التهديدات المستمرة تجاه السلم والأمن من قبل المتطرفين المفسدين بتفاقم الوضع الهش في الشمال. استمر الاقتتال الداخلي والشقاق بين المجموعات المختلفة داخل المجلس الوطني السوري من أجل العمل ضد العمليات السياسية الناشئة لوضع دستور جديد والتخطيط للإنتخابات. وما زاد من تعقيد الأمور، بروز حركة انفصالية كردية في شمال غرب البلاد، مع سعي أعضاء من مختلف الجماعات المسلحة الكردية لإنتهاز البيئة المتغيرة كفرصة لمحاولة إنتقاء قطعة من الأرض خاصة بهم بالقرب من الحدود الجنوبية لتركيا. وكما بدا أن الأحداث في العراق ستعقب تلك الموجودة في سورية، ثارت المنطقة الكردية في العراق، وكشفت عن احتمال ديمومة النزاع في الجيوب الجديدة في سورية مما يؤثر على الأحداث خارج حدودها. وهنا دفع النشاط الجريء للجماعات الإسلامية، والعنف القائم على الأقليات وانعدام الأمن الداخلي، قادة النظام البعثي الجديد في الجنوب نحو زيادة الاعتماد على حزب الله، وبالتالي تضخمت المخاوف الأمنية الإسرائيلية.
بحلول عام 2018، لم تعد سورية دولة موحدة كما كانت. تم تخفيف خطر نشوب حرب أهلية طويلة الأمد أو إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع، ورغم التوترات في كافة الأراضي، تضائل العنف بين الشمال والجنوب باستمرار. وكانت قوات حفظ السلام الدولية قادرة بمرور الوقت على قمع العنف عبر الحدود الجديدة، وتحول إلى الداخل ضمن الأراضي المجاورة. وبدا أن أكبر تهديد للسلام كان في الواقع الاقتتال والتفكك السياسي في الشمال. شكل ذلك تحدياً للغرب، وقدرته على تعزيز الجماعات المعتدلة، وقد ضعف الزعماء في غياب عدو محدد. ومع ذلك، واصلت الولايات المتحدة توجيه المساعدات الإنسانية والمعونات إلى الجماعات المنتقاة في الشمال، على أمل أنها سوف تستمر في كسب التأييد الشعبي والشرعية.
مع تسارع وتيرة النشاط الاقتصادي في الجنوب، ازدادت الإنشقاقات في الشمال من الجماعات الراديكالية لصالح المنظمات المعتدلة الممولة من الغرب. بدأ المدنيين في كل الأراضي بحذر الارتياح في شعورهم الممنوح حديثاً للأمن الهش على ما يمكن أن يكون. بينما يستمر المفسدون في الشمال والجنوب، انتهى عام 2018 بالحفاظ على وقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سليمة سياسية محتملة في الأفق.
السياسة الأمريكية
الخيارات الأمريكية عبر سيناريوهات بديلة
لا يمكن تقييم النهج الأمريكي الحالي للتصعيد العكسي المتزايد – والذي تجلى مؤخراً في الالتزام بتوفير الأسلحة الصغيرة والذخيرة إلى قوات المعارضة المنتقاة، إضافةً للجهود الدبلوماسية لتنظيم عملية السلام – على أساس سيناريوهات سورية والشرق الأوسط وحده. وقد تتطلب الأولويات الآسيوية والمحلية ضبط النفس في سياسة الشرق الأوسط بغض النظر عن عدد القتلى أو المشردين داخل سورية، وكيف ينتشر النزاع بسرعة وعلى نطاق واسع، أو كم عدد الخطوط الحمراء التي تم تجاوزها في هذه العملية. إن قيمة السيناريوهات مجتمعة لا تعني أنها تملي استجابات السياسة، ولكنها تشير إلى أن تغير ميزان التكاليف والفوائد المرتبطة بمسارات بديلة للعمل، مع استمرار الأزمة بتحويل المنطقة. الغرض منها هو أخذ كل من التفكير الهادف واليأس خارج النقاش السياسي.
سيناريو “إضفاء الطابع الإقليمي على النزاع” يصور المستقبل السلبي الذي يرتسم تزامناً مع ورشة العمل في شباط 2013، والذي اكتسب المعقولية والأهمية منذ ذلك الحين. ويجب الاعتقاد به على أنه المستقبل الأكثر احتمالاً للمنطقة، نظراً للدور الآخذ بالتوسع لحزب الله وما يولده ذلك من المخاوف في إسرائيل، وأزمتا اللاجئين المتفاقمتان في لبنان والأردن، وتصاعد النزاع الطائفي في العراق وتوسع إنخراط القوى الخارجية – إيران وروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة – في دعم حلفائهم المحليين مادياً. ويصور هذا السيناريو الآثار الإنسانية الجسيمة (حتى كتابة هذه السطور، تقدر الوفيات بما يزيد قليلاً عن 100 ألف)، وتجدد الحربين الأهليتين في لبنان والعراق، وتزعزع الاستقرار في الأردن، وإنشغال تركيا بالأمن الداخلي واستخدامها القوة على نحو متزايد لحماية حدودها، وتصاعد الصدامات المباشرة بين إسرائيل من جهة وحزب الله وسورية وإيران من جهة أخرى. إن زيادة حدة التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا، وهو الأمر الواضح فعلاً رغم رد فعل الولايات المتحدة المدروس، هي أيضاً سمة من سمات هذا السيناريو، ويزيد تعمق/توسع نطاق النزاع من تفاقم هذه التوترات. ويثير السيناريو أيضاً أسئلة حول مدى إمكانية بقاء الصين بمعزل عن النزاع في منطقة متزايدة الأهمية بالنسبة لأولوياتها الاقتصادية والإستراتيجية، ويشير ذلك إلى أن إستراتيجية إدارة أوباما الآسيوية في خطر ما لم يتم احتواء النزاع السوري أو حله.
هل يمكن لمصالح الولايات المتحدة أن تتسامح مع هذه الدرجة من الاضطراب الإقليمي؟ وعند أي نقطة سيفوق الإضرار المحتمل بالاستقرار الإقليمي وبعلاقات القوى العظمى مخاطر المزيد من الإنخراط المباشر داخل سورية؟ وهل الولايات المتحدة قادرة على حماية مصالحها في الشرق الأوسط – الدفاع عن حلفائها، ومنع الملاذات الآمنة للإرهاب، وحظر انتشار أسلحة الدمار الشامل، واحتواء إيران، وأمن تدفق النفط – مع إعادة رسم الخارطة الإقليمية بعنف؟ وهل يمكنها أن تفعل ذلك إن ساد إئتلاف روسيا / إيران / حزب الله / الأسد؟ وإذا كان العكس، فإن نتائج أقل ضرراً هي المعقولة، كما يفترض سيناريوي الـ “تسوية تفاوضية” و”احتواء الحرب الأهلية”، وكيف يمكن للولايات المتحدة تشتيت المسار الحالي للأحداث، التي تتجه بشكل واضح نحو أسوأ الحالات، تجاه هذين السيناريوين الأكثر ملاءمة؟ وهل يمكن مضاعفة الثمن بما فيه الكفاية لتوليد ضغط أكبر، على الحلفاء والخصوم على حد سواء، دون أن تساهم في نتائج زعزعة الاستقرار التي تخافها أكثر؟ من الواضح أن الحرب الأهلية السورية المنتشرة هي تغيير لقواعد اللعبة في المنطقة، وربما بالنسبة للنظام العالمي. ومن الصعب أن نتخيل إدارة هذه الصدمات دون وجود القوة الأمريكية.
وفيما إذا كانت الولايات المتحدة ستعمل بقوة أو لا لمنع أسوأ الحالات، يتطلب السيناريو أن نتصور مصالح الولايات المتحدة وسياساتها في الشرق الأوسط تنهار بعنف. قد يترتب على تجزئة الدولة وإضفاء الطابع الإقليمي على النزاع الطائفي بعض الإيجابيات بالنسبة للولايات المتحدة، وقد تبلغ الآثار المباشرة للاضطرابات الإقليمية على الأمن والازدهار الأمريكي الحد الأدنى. قد يستنزف النزاع الإقليمي الممتد بين المتطرفين السنة والشيعة قوة وشرعية الطرفين على حد سواء؛ قد تجد إيران مهمة إدارة مصالحها في سورية المنهارة لتكون استنزافاً للموارد واستفزازاً خطيراً لإسرائيل؛ توسيع دعم الولايات المتحدة للفاعلين المحليين الذين تكمن مصالحهم إن كثرت أو قلت في المواءمة مع المصالح الأمريكية يمكن أن يُنتج توازن إقليمي فعّال للقوة دون المشاركة الأمريكية المباشرة في النزاع. قد يسمح الارتفاع الكبير في إنتاج الطاقة والصادرات الأمريكية بوضعية متحيزة أكثر إلى حد ما نحو عدم الاستقرار في الشرق الأوسط. وقد يتم احتواء الأضرار الجانبية لعلاقات القوى العظمى المتصورة في السيناريو عن طريق تفاهمات رسمية لتجنب نتائج أسوأ الحالات. بينما لا يقدم السيناريو أي ضمان بأن الأحداث لن تتطلب التدخل، كان استخدام الأسلحة الكيميائية على نطاق واسع الأكثر وضوحاً، قد تعتبر الشروط الموضحة أعلاه “جيدة بما فيه الكفاية” للسماح بمواصلة إعادة التوازن الآسيوي والإصلاح الداخلي دون عوائق.
ولكن تعتبر تلك أحلام يقظة على الأغلب. بدون فعالية الولايات المتحدة لتشكيل الأحداث، سيصبح الخصوم أكثر جرأة. سيحمي الحلفاء مصالحهم من خلال عقد الصفقات، وتوسيع الدعم للفصائل السورية المنتقاة، أو إذا كان لديهم القدرة، من خلال التدخل مباشرة، مما قد يؤدي إلى نزاع بين دولة وأخرى في المنطقة والدعوة لتدخل القوى العظمى. وهنا ستتعمق الأزمة الإنسانية. وسيعاني الاقتصاد العالمي الهش بالفعل طالما أن أمن تجارة الطاقة في خطر. وسيحدث ذلك ضرراً دائماً لكل من المنطقة وبنية الاستقرار والمساءلة الدولية.
إذا كانت أسوأ الحالات لا تطاق والتسوية التفاوضية (السيناريو الثالث) غير قابلة للتصديق، ينظر سيناريو “احتواء الحرب الأهلية” فيما إذا كان بإمكان الديناميات الإقليمية وسياسات القوى الخارجية أن تعمل معاً لاحتواء الضرر. كلما أصبح وضع سورية أسوأ، يوضح السيناريو الأول كم مقدار السوء الذي يمكن أن يحدث. مع مواجهة الجهات الفاعلة الإقليمية والعالمية الواقع الوشيك بإنهيار الشرق الأوسط، هل بالإمكان، مع بعض التشجيع، أن يصبحوا أكثر قابلية لتطبيق الإستراتيجيات التي تتطلب وضع قيود على سلوكهم؟ هل ستكون هذه القيود ذاتية الفرض أو أنها تتطلب بعضاً من إضفاء الطابع الرسمي؟ هل يمكن أن تسهم الولايات المتحدة في تحقيق هذه النتيجة، وليس هناك أمل أن يقلد الآخرون “البصمة الخفيفة” الخاصة بها، ولكن من خلال فرض تكاليف أعلى على تلك التي تغذي النزاع ، إلى درجة أن تغيير حساباتهم ويتم خلق فرص للحد من الضرر؟
ولا يتطلب “احتواء الحرب الأهلية” تسوية (انظر السيناريو الثالث)، ولكن مزيجاً من الجمود على الأرض، وتستنفد المستويات الأعلى من العنف المقاتلين وضبط النفس بين القوى الخارجية على أساس إدراكهم أن مخاطر سوء الحالة تتزايد، في حين أن عوائد دعمهم للجماعات المفضلة آخذة في التناقص. ومن شأن الالتزام بهذه النتيجة أن يعكس شعور اليأس لدى القوى الخارجية من أن المعارضة مجزأة والنظام المتعنت يمكن أن يقدموا إلى طاولة المفاوضات وأن الاحتواء هو النتيجة المعقولة الأقل سوءاً، مع بعض الأمل في تجنب صراع طائفي إقليمي.
وبالتالي، يستمر العنف، ويتحسن عن طريق زيادة المساعدة الإنسانية الدولية، ويناقص على مر الزمن من خلال التفاهمات غير الرسمية للحد من إمدادات الأسلحة الخارجية. الأضرار التي لحقت بالفعل بلبنان والأردن والعراق، وأثرت على العلاقات بين الدول في المنطقة، ستستمر عبئاً على الشرق الأوسط لسنوات قادمة، ولكنها منعت الانحلال العنيف للنظام الذي قام على أنقاض العثمانيين، وحدت التداعيات السلبية على علاقات القوى العظمى. الاحتواء ليس كاملاً، متأخراً جداً لذلك، ولكن يتم السيطرة على نزيف سورية وجيرانها المباشرين.
هذا الخيار، والسياسات اللازمة لتحقيق ذلك، غالباً ما تضيع في مناقشة السيناريوهين بين دعاة التدخل بالقوة ودعاة تسوية تفاوضية بوساطة الولايات المتحدة وبتعاون القوى العظمى. النهج السابق يخاطر بمزيد من التصعيد، بينما يشجع الأخير الولايات المتحدة على ضبط النفس مع خلق الآخرين حقائق جديدة على الأرض.
إذا كانت الولايات المتحدة ستتبنى الاحتواء كخيار أمثل، ما الذي سيترتب على ذلك بالتحديد؟ كما تقول سردية السيناريو، ستتعب روسيا من التزامها المستمر تجاه الأسد المتعنت في حرب أهلية جامدة بدون نهاية. فإنه سيتعين عليها أن ترى فرصاً لتأمين مصالحها البحرية في سورية ما بعد الأسد، تخشى امتداد النزاع إلى مناطقها المضطربة واختبار التكاليف الحقيقية المرتبطة بالتوترات المتزايدة مع الولايات المتحدة. ومن ثم يجب أن تكون مستعدة للإنضمام إلى الولايات المتحدة والآخرين في تقييد دعمهم للمقاتلين. ليس هناك ما يدل في الوقت الحاضر على قرب روسيا من رسم هذه الاستنتاجات. مع تعزيز الأسد قبضته على غرب سورية والتزام الولايات المتحدة بالتصعيد التدريجي والمشروط، لا توجد قوات في العمل لتغيير وجهات نظرها. مرة أخرى، نفوذ الولايات المتحدة أمر ضروري إذا أردنا تجنب أسوأ السيناريوهات، فيما إذا طبق هذا النفوذ للتوسط بتسوية (السيناريو الثالث) أو هندسة الجمود الذي يفهمه كل من روسيا وغيرها لن يخضع لتصعيدهم المقبل.
في حال قبول منطق هذا السيناريو، قد ينظر للإغواء على أنه جمود تم احتوائه بشكل ناقص، تم تحقيقه من خلال اتفاق القوى العظمى على وقف النزاع، تمهيداً لتسوية تفاوضية. ومع ذلك، توحي نهاية سردية السيناريو بأن محاولة دفع المتحاربين في الداخل نحو تسوية سياسية من شأنه أن يزيد من زعزعة استقرار سورية وربما المنطقة. فالنظام قوي ولا يذعن، ولديه مصادر دعم داخلية وخارجية ليبقى كذلك. أما المعارضة فمجزأة، وأي دفع جاد نحو مفاوضات يثير المفسدين. الجميع ينظر للنزاع على أنه وجودي. فلدى جميع الأطراف حلفاء إقليميين يخشون التهميش في تسوية تفاوضية. من الأفضل أن نستثمر في نتيجة أكثر تواضعاً، ولكن تكون مفيدة وبالإمكان بلوغها. ومن شأن ذلك أن يعكس الاستنتاج المحزن باستمرار الكابوس السوري، حتى أن أيام سورية كدولة ذات سيادة باتت معدودة، ولكن احتواء الحرب الأهلية هو أفضل ما يمكن القيام به، نظراً لعدم وجود توافق في الآراء الداخلية والإقليمية.
يمثل سيناريو “تسوية تفاوضية” النسخة الأكثر قبولاً من ما تفضله الإدارة الأمريكية بقوة. وهنا الصعوبات واضحة ليراها الجميع: نظام لا يزال قوياً يقاتل من أجل بقائه، مع دعم داخلي وخارجي على حد سواء؛ ومعارضة سياسية وعسكرية منقسمة، وهناك بعض الفصائل تميل للحلول السياسية، ولكن البعض الآخر يعارض بعنف؛ والجهات الفاعلة الإقليمية المتورطة بعمق في حرب بالوكالة في سورية والدول الغربية حريصة على التوسط في تسوية، ولكن غير مستعدة للاستثمار في النفوذ الإضافي اللازم لتحقيق ذلك. هذه الظروف، إذا سمح لها بالاستمرار، هي أقل ما يمكن تصوره لتفضي إلى حل عن طريق التفاوض. في الواقع، هم أكثر ملاءمة للسيناريو الأول أو، إذا اختارت القوى العظمى منع أسوأ الحالات، الثاني. ما الذي تستعد الولايات المتحدة وشركائها للقيام به لتهيئة شروط مسبقة لمفاوضات جادة؟ كيف يمكننا العمل بفعالية وبشكل مباشر على الخصوم المحليين، وعلى مساعديهم الخارجيين، للإنتقال في الغالب، من القتال للحوار؟
كما ورد في السيناريو، يتم تسهيل المفاوضات بالجمود العسكري على طول الحدود الإقليمية الواضحة المعالم إلى حد ما. استمر هذا الجمود لكن ليس بأطماع الفاعلين المحليين، جميعهم يواصل السعي للهيمنة داخل سورية، ولكن عن طريق التوازن بين اللاعبين الإقليميين والدوليين المتنافسين، الذي يمنع تأييدهم لجميع الأطراف من أن يهيمن أي طرف. في هذا المعنى، فإن الجمود غير منسق، دينامي وهش، خاضع لإنعكاس مفاجئ مع سعي الجهات الفاعلة الداخلية أو الخارجية نحو نهاية حاسمة على الأرض. وتنتج ميلاً بين الجهات الخارجية الفاعلة تجاه المفاوضات فقط عندما تصل إلى نتيجتين متناقضتين على ما يبدو: لن يسمح لأي من الجانبين عن طريق موردين آخرين الحصول على تلك النهاية الحاسمة، ولن يهدد مزيداً من التصعيد بحدوث تداعيات إضافية على استقرارهم وشرعيتهم السياسية الخاصة. مع عدم وجود نهاية في الأفق وتصاعد التكاليف السياسية والاقتصادية والبشرية، من الممكن أن تتوصل القوى العظمى لوقف إطلاق نار وبدء عملية تفاوضية تؤدي إلى نوع من التقسيم الإقليمي. هذه ليست هي التسوية السياسية التي تسعى إليها الولايات المتحدة. في الواقع، قد تكون توقعات تقاسم السلطة الحقيقية العدو لهذا الترتيب “الجيد بما فيه الكفاية” والذي من شأنه أن يوقف النزيف، وإذا تم الحفاظ عليه بوجود قوات متعددة، يمكن أن تتطور نحو تسوية سياسية حقيقية وسورية بسيادة مستعادة.
مرة أخرى، هذه الشروط ليست حاضرة الآن. لم تخلص الجهات الخارجية بشكل واضح إلى أن هناك حالة من الجمود في سورية أو، إذا تم إعادة إرساء واحدة، أنه لا يمكن قلبها لصالحها. وهنا تشجع الولايات المتحدة، بالإستجابة تدريجياً لساحة معركة دينامية ومشكوك فيها، وهي تحاول معايرة استجاباتها لتعزيز المعارضة “الجيدة” دون المخاطرة بتمدد أكثر ومستنقع آخر في الشرق الأوسط، خصومها لتآمل أن التصعيد المقبل سيوقف ما يكتسبونه من مزايا على أرض الواقع. وفي حين تهدف لجمود مستقر واتفاق نهاية الحرب، يجب على الولايات المتحدة أن تقوم بالتصعيد بسرعة أكبر وبشكل حاسم، حتى استباقي، من أجل تغيير جذري في حسابات أنصار النظام. سيكون عليها وضع سيناريوهات أسوأ الحالات للجهات الفاعلة الأخرى في المشهد إذا كانت لتكسب مساراً في سورية.
مايكل أوبنهايمر (Michael F. Oppenheimer): مؤسس المشروع، نظم أكثر من ثلاثين من مثل هذه المشاريع لصالح أقسام وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكية ومجلس الاستخبارات القومي ووكالة الاستخبارات المركزية ومعهد الولايات المتحدة للسلام ومؤسسة بروكينغز ومجلس العلاقات الخارجية. وهو المستشار العلمي للرئيس، وبروفيسور مدرب في مركز الشؤون العالمية في جامعة نيويورك.
الدكتور ستيفن هايدمان:
مستشار بارز في مبادرات الشرق الأوسط في معهد الولايات المتحدة للسلام
المشاركون:
سمير العيطة رئيس منتدى الاقتصاديين العرب. رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك/ النسخة العربية.
عمرو العظم أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة ولاية شوني.
إف.غريغوري غوز أستاذ العلوم السياسية في جامعة فيرمونت.
بسام حداد مدير برنامج دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج ماسون.
ستيفن هيدمان مبادرات الشرق الأوسط في معهد الولايات المتحدة للسلام.
جوش لانديس مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة أوكلاهوما.
روبرت مالي مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية.
جورج صغير خبير اقتصادي في شركة صغير للخدمات الاستشارية.
ديفيد شينكر مدير برنامج السياسات العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى.
ستيفن سيمون المدير التنفيذي للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في الولايات المتحدة.
جوشوا وولكر زميل الشؤون الدولية في مجلس العلاقات الخارجية.
1 comment