مما لا شك فيه أن المستفيد الأكبر من الأزمة السورية، التي دخلت عامها السادس، هي الولايات المتحدة الأمريكية وطفلتها المدللة إسرائيل، التي تعد من أكثر الأطراف رصداً لما يجري على جبهات القتال في سورية، والسعودية وكل من شكل جوقة التآمر عليها، ومن مصلحتها جميعها تقسيمها إلى دويلات وأقاليم متعددة لتحقيق أهداف استراتيجية تتمثل في الحد من نفوذ حزب الله وإيران على الحدود الشمالية وتفكيك محور المقاومة. دعم إسرائيل للمجموعات المتطرفة في القنيطرة لم يعد خافيا على أحد وكل يوم تتكشف إثباتات على ذلك، فمنذ أكثر من خمسة أعوام شكل نتنياهو قاعدة لوجستية لتدفق الإرهابيين إلى سورية ودعمهم بالمال والسلاح وتقديم كل أشكال الدعم اللوجستي لهم، كما ساعد على إدخال جواسيس من كل الجنسيات إلى سورية. إضافة إلى أن إسرائيل تنقل جرحى جبهة النصرة إلى مشافيها لتلقي العلاج. ولم يتوقف الدعم هنا بل بدأت تشن غارات على مواقع للجيش السوري في القنيطرة وقد تكرر هذا العدوان أكثر من مرة في محاولة لمساعدة الإرهابيين على التقدم والسيطرة على نقاط جديدة وتحقيق مكسب ما في حين أنها لم تهاجم لا داعش أو جبهة النصرة. الصحافة الإسرائيلية اعترفت بهذا الدور، وعناصر من جبهة النصرة ظهروا في القنوات الإسرائيلية وصحفها وتفاخروا بالدعم اللامتناهي المقدم لهم من قبل إسرائيل. حقدها على زعامة الدولة السورية لم يكن خافياً، فسورية تشكل تحالفاً متيناً مع المقاومة اللبنانية المتمثلة بحزب الله وإيران وتدعم حركة حماس وتتبنى القضية الفلسطينية. في هذا السياق صرح المدير السابق لاستخبارات الجيش الإسرائيلي: “لا يمكن أن تكون مصالحنا مضمونة مالم يتم كسر محور سورية-إيران-حزب الله، ونحن ننظر بعين القلق إلى ترسخ وجود إيران وحزب الله في سورية. “هذا التصريح يتطابق مع التعاون بين إسرائيل والسعودية التي تشاطرها نفس الأهداف والقلق، وبات مفضوحاً بعدما قام مسؤول سعودي رفيع بزيارة إسرائيل مؤخراً بصحبة وفد يضم رجال أعمال وأكاديميين وهو اللواء المتقاعد أنور عشقي الذي أعرب عن استعداده لزيارتها مرة أخرى. أما عن الدعم السعودي خصوصاً والخليجي عموماً للإرهابيين في سورية فحدث ولا حرج: دعم بالمال والسلاح وإرسال مئات الجهاديين إلى ميادين المعارك لمؤازرة “إخوتهم في الدين” في قتل الشعب السوري وتدمير البنى التحتية تدميراً ممنهجاً طال البشر والحجر ولم تسلم منه حتى الآثار التي يتجاوز عمرها آلاف السنين. ولم تخف مملكة آل سعود هذا الدعم بل تجاهر وتتفاخر به كلما سنحت الفرصة لها ذلك، وهذا ما اعترف به محلل سياسي سعودي على محطة “بي بي سي” العربية حيث قال في سياق أحد البرامج الحوارية أن بلاده لم تتوقف يوماً عن دعم من سماهم “الثوار” في سورية بالسلاح والمال، حتى أثناء تطبيق الهدنة في فترة عيد الأضحى، وأنهم يرسلون الأسلحة عن طريق تركيا والأردن ولا ينقصهم شيء سوى مضادات الطيران. وهنا تمنى على واشنطن حسب قوله “تزويد هؤلاء “الثوار” بمضادات الطيران على غرار تلك التي قدمتها لعناصر طالبان في أفغانستان لطرد الوجود السوفييتي منها (الحرب السوفيتية في أفغانستان 1979-1989).” وبالعودة إلى سياق العلاقات السعودية الإسرائيلية، فقد تكون الحاجة لتطوير التحالف بين النظام السعودي وإسرائيل أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، وبنظرة خاطفة إلى مسار التطورات الإقليمية وفي ظل الأوضاع المتوترة التي تشهدها المنطقة العربية، نرى أن الدور الإسرائيلي يتناغم ويتكامل مع الدور السعودي الإقليمي في أغلب مراحل هذه التطورات. بل باتت كل من تل أبيب والرياض تتبنيان الخطاب السياسي ذاته وباتت تتقاطع أولوياتهما الإقليمية إلى حد التطابق والتماهي في تحديد الأعداء وكيفية مواجهتهم، حتى أن مفردات الخطاب الدعائي تكاد تكون نفسها فيما يخص المفردات الطائفية وتصنيف القوى الإقليمية، والموقف من حزب الله وإيران وسورية. في غضون هذا التوجه، ما نشهده من مواقف وخطاب إسرائيلي رسمي وغير رسمي، وتقارب سعودي باتجاه إسرائيل ظهر منه حتى الآن، عدد من اللقاءات العلنية، وصولاً إلى زيارة الوفد السعودي إلى إسرائيل، وهذا ليس سوى حد أدنى ومقدمة لما يتوقع أن نشهده في المرحلة القادمة. ولعل العامل الأساسي في اندفاع السعودية نحو الارتقاء بالعلاقات مع تل أبيب، يعود بالدرجة الأولى إلى فشل رهاناتها المتوالية في مواجهة أطراف محور المقاومة. بدأ هذا المسار من الدعم اللامحدود الذي قدمته السعودية في حينه لنظام صدام حسين في حربه ضد إيران، خلال الثمانينيات… تلاه في مرحلة لاحقة، وبفعل تطورات دولية وإقليمية، الرهان على عملية التسوية في تشكيل نظام إقليمي يجهض المقاومة ويقطع الطريق على تبلورها كخيار استراتيجي بديل في حركة الصراع مع إسرائيل. لكن هذا المسار لم تكتمل حلقاته في ظل صمود سورية في حينه، وانتصار المقاومة في لبنان، ثم انفجار انتفاضة الأقصى عام 2000
أيضاً راهنت السعودية لاحقاً على الاحتلال الأمريكي للعراق، لجهة إنتاج نظام سياسي عراقي يؤدي دور الشرطي الأمريكي في المنطقة لاحتواء إيران وسورية والضغط عليهما بل وإسقاطهما لاحقاً، مدعوماً بوجود عشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين. حالياً ومع الانتصارات المتتالية التي يحققها كلا من الجيش السوري في العديد من المناطق وإلحاقه الهزيمة بالتنظيمات الإرهابية بمختلف مسمياتها وتكبيدها خسائر فادحة بالأرواح والعتاد وكذلك محاربته لتنظيم داعش، والقوات العراقية التي تحارب داعش وتطرده من المناطق التي سيطر عليها تباعاً وتلحق به هزائم بالجملة وتكبده خسائر فادحة أيضاً، فان ما كانت تطمح إليه السعودية لم يتحقق ولن يتحقق لا في الساحة السورية ولا على الساحة العراقية، بل إنه أبعد ما يكون عن التحقيق من أي وقت مضى.
إلى ذلك فشلت المساعي السعودية والأمريكية في الرهان على مسار القرار /1559/ الصادر عن مجلس الأمن عام 2004 والذي يدعو إلى نزع سلاح حزب الله، وما نتج عنه وتلاه من تطورات توجت بحرب عام 2006، التي رمت إلى إسقاط المقاومة في لبنان وإخضاع الدولة السورية أو إسقاطها. وفشلت أيضاً محاولة احتواء الدولة السورية، بعدما أظهرت صموداً استثنائياَ في أعقاب احتلال العراق من خلال تمسكها بخيار دعم المقاومة في لبنان وفلسطين، ولم تنجح محاولات إغرائها واستدراجها للانتقال إلى المعسكر الأمريكي في المنطقة على حساب القضية الفلسطينية وبهدف إسقاط المقاومة في لبنان. وأيضاً فشل الرهان السعودي، ومعه كل من ينتمي إلى هذا المعسكر، حتى الآن في إسقاط سورية واستبدال نظام الحكم فيها بآخر معادٍ للمقاومة وخيارها.
كذلك، مثّل الاتفاق النووي بين الدول العظمى وإيران، تتويجاً لفشل الرهان السعودي الذي كان يستند إلى خطاب أمريكي-إسرائيلي يوحي بأن مستقبل هذا المسار يتجه إما نحو مزيد من العقوبات التي تشلّ إيران وتهدد نظامها… أو نحو ضربة عسكرية إسرائيلية-أمريكية. الأمر الذي كان سيؤدي أي منهما إلى إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد، يُحجِّم إيران، ويضعف المقاومة ومحورها على أقل تقدير.
تراجع الرهانات على مهاجمة إيران، وتحررها من العقوبات – على الأقل فيما يتعلق بعلاقاتها مع بعض الدول العظمى – وفشل إحكام السيطرة على العراق، وفشل إسقاط الرئيس الأسد… ونجاح المقاومة في لبنان في فرض معادلات عززت قدراتها، ومنحتها هامشاً أوسع. كل ذلك، ساهم في تعزيز حاجة النظام السعودي إلى حليف إقليمي بديل يثق بقدراته ويتطابق معه في التوجهات والأولويات، ويراهن من خلال “التخندق” معه على التعويض عن الخسارات الإقليمية المتتالية، وعلى إنتاج قدر من التوازنات والمعادلات التي تحد من مفاعيل تسلسل هذا المسار الفاشل من الرهانات على مكانة السعودية الإقليمية التي غاصت في المستنقع اليمني وتزيد إجراماً بحق الشعب اليمني وتعيث خراباً ودماراً في بلاد اليمن السعيد. نفس هذا المسار من الرهانات المتوالية التي لم تنجح في تحقيق ما كانت تطمح حاليه إسرائيل انعكس سلباً على الأمن القومي الإسرائيلي دون تجاهل مفعول المخطط التخريبي والتدميري الذي يضرب كل من سورية والعراق واليمن.
وهكذا باتت الحاجة الملحة والمتبادلة بين تل أبيب والرياض تدفع باتجاه ضرورة تطوير مستوى التنسيق والارتقاء به إلى التحالف الاستراتيجي المعلن، وخاصة أن مستقبل التطورات قد تتطلب أدواراً ومهمات لا يمكن إبقاؤها ضمن إطار السرية.
على خط مواز، يبدو أن الأطراف المعنية ترى أنه لتحقيق هذه القفزة لا بد من تعبئة الرأي العام وتطبيعه، الأمر الذي يتطلب التدرج في إظهار هذه العلاقات وتطويرها. وهذا ما يجري تطبيقه فعلاً. أيضاً، تدرك هذه الأطراف أن هناك شروطاً لابد من توافرها قبل الإقدام على انعطاف حاد علني في العلاقات مع إسرائيل، التي من المؤكد أن النظام السعودي سيقدم عليها في مرحلة لاحقة.
أول هذه الشروط أن لا تبقى بوصلة العداء موجهة نحو الكيان الإسرائيلي، ولذلك تصر السعودية حتى الآن على أن يكون المدخل لذلك تسوية على المسار الفلسطيني، وثانياً أن يجري استبدال العداء لإسرائيل، بالعداء ضد العدو المشترك المتمثل بإيران. ولتحقيق هذا الهدف لا بد من تحريض الشارع “الإسلامي” عبر وسائل الإعلام التي تبنت خطاباً إعلامياً مذهبياً موجه ضد إيران وسورية وحزب الله كقنوات ا”لجزيرة والعربية والمستقلة” إضافة إلى القنوات الدينية كقناة “وصال” التي تبث خطاباً طائفياً بحتاً يحرض ليل نهار على قتل الآخر وإقصاءه وتكفيره. وفي هذا الإطار ليس من قبيل الصدفة أن يستخدم الخطاب الإسرائيلي الرسمي ومعه الخطاب الإعلامي ومقاربات الخبراء السياسيين تسمية “المحور الشيعي” بدلاً من محور المقاومة. العامل الثاني الذي دفع السعودية للبحث عن حليف إضافي يتمثل في رؤيتها تبلور واقع أمريكي دولي، في محاولة لتعزيز الاستراتيجية وتغيير المعادلات الإقليمية في مواجهة محور المقاومة، ويبدو أنها وجدت ضالتها في إسرائيل. إذ أدركت كل منهما، أي السعودية وإسرائيل، أنه لم يعد بمقدورهما التعويل على السياسات الأمريكية في المنطقة، خاصة وأن الخيارات الاستراتيجية للولايات المتحدة، وحروبها في أفغانستان والعراق في سياق حربها العالمية على الإرهاب، التي أطلقها جورج دبليو بوش عقب هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 ، إضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية وتغيير معادلات القوة في المنطقة، لم تعد تتلاءم مع ما تراه كل منهما لما ينبغي أن يكون عليه الخيار الأمريكي. ولعل ردة فعلهما على الانكفاء الأمريكي في مواجهة إيران، بل وإبرام الاتفاق التاريخي بين إيران ومجموعة الـ”5+1″ بخصوص برنامجها النووي وتراجع واشنطن عن توجيه ضربة عسكرية ضد سورية، أكبر دليل على ذلك. استناداً إلى هذا الواقع الذي آلت إليه التطورات، وبفعل التراجع السعودي في كل ساحات المواجهة، وعلى قاعدة المصالح المشتركة والأعداء المشتركين، وانطلاقاً من أن إسرائيل تحوَّلت، وفق الرؤية التي جرى تقديمها، إلى ضمانة استراتيجية للسعودية لكون التحالف معها قد يساهم في تعديل التوازن الإقليمي في مواجهة محور المقاومة، فربما سنشهد في مرحلة لاحقة قفزة نوعية سعودية باتجاه تطوير التحالف مع إسرائيلي جهاراً وإتمام مراحل التطبيع العلني المجاني.