مقدمة
انتهت الحرب الباردة من خلال موجة فرض أنظمة ديمقراطية اتصفت، إلى حد بعيد، بالطابع السلمي. وترافق ذلك بتوقيع اتفاقيات وضعت حداً لعدد من الحروب الأهلية الطويلة التي تغذت من تنافس القوى العظمى. لكن، وبالتوازي مع هذه التطورات الإيجابية، أعقب نهاية الحرب الباردة ارتفاع في عدد الحروب الأهلية التي تميزت بالشراسة، خصوصاً في البلقان، وفي القفقاس، وفي العديد من الأماكن في أفريقيا. وسرعان ما استقطبت الحروب الأهلية الجديدة انتباه وسائل الإعلام ومجتمع الباحثين على حساب الصراع بين القوى العظمى.
بدأ العديد من الباحثين، منذ نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، بتبني موقف التمييز بين “الحروب القديمة” و”الحروب الجديدة”، مستندين في ذلك إلى أبحاث ونظريات على قاعدة الملاحظات المسجلة في فترة ما بعد الحرب الباردة، كما هو الحال في المؤلفات التالية:Duffield, 2001; Gray, 1997; Holsti, 1996; Kaldor, 1999, 2002; Kaldor & Vashee, 1998; snow, 1996: 100-102.
قام الباحثون بتحليل معمق للعوامل الداخلية التي حركت هذه الحروب، وعقدوا مقارنة، اتصفت بشيء من السطحية، مع حقبة الحرب الباردة والفترات السابقة لها، وتوصل المنظرون إلى تحديد العديد من الاتجاهات التجريبية، ووجدوا أن عدد الحروب الأهلية آخذ بالتصاعد، وأن المعارك تشتد حدة، ورأوا أن هناك ارتفاعاً في عدد المدنيين المهجرين، كما لاحظوا ارتفاع عدد القتلى من المدنيين، وكذلك ارتفاع نسبة القتلى من المدنيين مقارنة بالضحايا من العسكريين خلال هذه الحروب الأهلية.
لكن الجدل سرعان ما أعقب ذلك، حيث رأى النقاد أن العديد من سمات الحرب الجديدة، والتي تم تحديدها بوصفها سمات جديدة للصراعات المعاصرة، ليست بالجديدة في واقع الأمر، وهو ما طرح تساؤلاً حول مجمل فكرة أن طبيعة الحرب قد تغيرت([1])، فيما رأى باحثون آخرون أن الاتجاهات التي حددها منظرو الحرب الجديدةـ لا تصمد في وجه التحليل، وأن العديد من الاتجاهات المزعومة لا تتعلق بأساس المسألة([2]).
وعلى كل حال، قام منظرو “الحروب الجديدة”، ونقادهم، بتناول العديد مما يسمى دراسات حالة محددة، وقدموا قرائن واهية لدعم آرائهم. وإذا استثنينا جزئياً كتاب لاسينا Lacina الصادر عام 2006، فسوف نجد أننا نفتقد لبراهين منهجية تساند أطروحات منظري “الحروب الجديدة”.
إن الطرح القائل بأن عدد الحروب الأهلية تصاعد، منذ نهاية الحرب الباردة، تم إثبات بطلانه. وسنركز خلال هذه الدراسة على ادعاءات منظري “الحروب الجديدة” حول شراسة “الحروب الجديدة”، وسنخضع ذلك الادعاء لاختبارات تجريبية، كما سنركز بشكل خاص على ثلاثة من المزاعم الأربعة المتعلقة بشراسة “الحروب الجديدة”.
سنقوم، في البداية، بدراسة الطرح القائل باشتداد شراسة المعركة، ثم ننتقل إلى الطرح الثاني المتعلق بتصاعد عدد المهجرين المدنيين، وبعدها سنناقش مسألة ارتفاع عدد القتلى من المدنيين، أما فيما يخص النقطة الرابعة والأخيرة، والمتعلقة بشراسة الصراع – ونقصد ارتفاع نسبة القتلى من المدنيين مقارنة بالعسكريين – فليس من الممكن تقديم تقديرات مباشرة بسبب الافتقار إلى بيانات تتعلق بهذا الجانب من الحروب، لكننا سنختبر ذلك الرأي بأسلوب غير مباشر.
وإذا كانت نسبة القتلى من المدنيين آخذة بالارتفاع، فإن علينا أن نتوقع ارتفاع عدد القتلى من المدنيين في صراعات اتسمت بمستوى متماثل من الاحتدام. عدا عن ذلك، نرى أن افتراض ارتفاع نسبة القتلى من المدنيين، في فترة “الحروب الجديدة”، يعني ارتفاع حدة خطورة الصراعات على المدنيين، الأمر الذي يقتضي بالضرورة التسبب بارتفاع مستوى تهجير المدنيين([3]).
إذن، إذا اعتمدنا شدة المعارك بوصفها العامل الثابت، ونظرنا إلى التحولات التي طرأت على عدد المهجرين والقتلى من المدنيين، يمكن لنا أن نحصل على مؤشر حول وجود تغير محسوس في نسبة الضحايا بين العسكريين والمدنيين.
من جهتنا، اعتمدنا في تمحيص الزعم القائل بأن “الحروب الجديدة” أشد شراسة من الحروب الأهلية، التي شهدتها حقبة الحرب الباردة، على دراسة ثلاثة أبعاد تتعلق بشراسة الحروب الأهلية، وهي شدة المعارك ومستوى العنف ضد المدنيين والتهجير القسري للمدنيين.
وسنعتبر هذه الأبعاد الثلاثة، المتعلقة بشراسة الحرب، بمثابة متحولات ضمن مجموعة من متغيرات متعددة تتضمن متحولات بيانية تتعلق بالحقبة الزمنية (الحرب الباردة/ الحروب الجديدة)، وكذلك العديد من المتغيرات الأخرى التي تستخدم في تحري النتائج.
لكن، وفيما يخص شراسة الحرب، توصلنا، بالاستناد إلى مؤشر عدد القتلى في المعارك، إلى أن المعارك التي شهدتها حقبة “الحروب الجديدة” كانت أقل شراسة بشكل ملحوظ([4])، ووجدنا أيضاً أن مستوى العنف ضد المدنيين في الحروب الأهلية هو أقل حدة بشكل ملحوظ في حقبة “الحروب الجديدة”، أما مسألة التهجير القسري فكانت أكثر تعقيداً، وكذلك النقطة المتعلقة بعدد الصراعات الأهلية.
ووجدنا، من خلال التحليل، أن عدد المدنيين المهجرين قسراً هو أعلى بشكل ملحوظ في فترة 1990-1994، مقارنة مع كل من حقبة الحرب الباردة، وفترة 1995-1999. صحيح أن الحروب الأهلية التي شهدتها فترة 1990-1994 تسببت بتدفق أقوى لموجات المهجرين، مقارنة مع الحروب الأهلية زمن الحرب الباردة، لكن البيانات المتوفرة لا تبرز ميلاً ملموساً في هذا الاتجاه. ولكن بالمقابل، نجد تراجعاً إحصائياً مهماً في عدد المهجرين قسرياً خلال عهد قريب. وأخيراً، وجدنا أن عدد المهجرين والقتلى من المدنيين لم يتغير عندما ندخل في الحساب ضراوة المعارك، الأمر الذي يفترض أن نسبة القتلى من المدنيين، مقارنة بالعسكريين، لم تتغير منذ نهاية الحرب الباردة.
وعلى كل حال، كانت الصراعات الأهلية في حقبة “الحروب الجديدة” أقل شراسة من الصراعات الأهلية في فترة الحرب الباردة، ولا حاجة للقول بأن ذلك لا يعني أن صراعات الخمس عشر سنة الماضية لم تكن شرسة، فهي كانت كذلك، لكن الصراعات الأهلية في حقبة “الحروب الجديدة” لم تكن أسوأ، بل وكانت أقل ضراوة في بعض جوانبها من الصراعات الأهلية السابقة.
سنستعرض في الفقرة التالية، باختصار، الأدبيات الخاصة بـ “الحرب الجديدة”، ويلي ذلك مناقشة الأدلة والقرائن التي تم تقديمها، والمتعلقة بمدى صحة الطروحات ذات الطابع التجريبي التي تضمنتها أدبيات “الحروب الجديدة”، ثم ننتقل بعدها لتحديد مخطط البحث الذي أجريناه، واستعراض البيانات المستخدمة في ذلك التحليل. وسنستعرض في الفقرة قبل الأخيرة نتائج تحليلنا، وسنخصص الفقرة الأخيرة لعرض ما توصلنا إليه وخلاصة البحث.
- مراجعة الحوار الدائر حول “الحروب الجديدة”
قام العديد من الباحثين المؤيدين للتمييز بين “حروب جديدة” و”حروب قديمة” بتقديم وصف مفصل لتغير طبيعة الحرب، لكن القرائن المقدمة لتدعيم طروحاتهم تستحق أن يتم التعامل معها بجدية، كما يجب إخضاعها لاختبارات تجريبية. إن المبرر الرئيس الذي يعتمدونه مستخلص من دراسة معمقة للحالة المدروسة، بقدر استناده على بناء نظرية مستمدة، بالأساس، من ملاحظات مستخلصة من الحقبة التي تلت الحرب الباردة([5]).
وبعد استعراض وتحليل العوامل الداخلية المتعلقة بـ ”الحروب الجديدة”، ومقارنتها مع الحروب السابقة، تم التوصل إلى أن “الحروب الجديدة” تتطلب مفردات ملائمة وإطاراً عاماً نظرياً([6]). ويرى منظرو “الحروب الجديدة” أن المفاهيم القائمة الخاصة بالحرب، والتحليلات المنبثقة عنها، لم تعد كافية للتعبير عن مستجدات الحروب([7])، كما أن العلاقات الاجتماعية التي تسم هذه المستجدات تغيرت بشكل جوهري خلال العقد الماضي([8]). وعلى ذلك، تم طرح تصور ومفاهيم جديدة لتوصيف وتفسير حروب هذه الأيام.
تم طرح العديد من الحجج النظرية لشرح المتغيرات الجوهرية، وبدا أن الثورة التي شهدتها الشؤون الحربية RMA، والتي تجد جذورها في فهم أثر تطور التقانة العالية على القدرات العسكرية التي تمتلكها الدولة، كان له الأثر الأكبر في وضع المفاهيم الخاصة بـ ”الحروب الجديدة”، وبحروب حقبة ما بعد الحداثة([9])، لكن تلا ذلك المزيد من التركيز على الحروب المندلعة بين أطراف ضعيفة، أو بين دول ضعيفة أو فاشلة، وحالياً يتم التركيز على الفرص التي تتوفر للمتمردين خلال الحروب الأهلية([10]).
وخلال مناقشة مسألة “الحروب الجديدة”، تم طرح مجموعة من الأسباب، مثل تأثير الحداثة والعولمة، ونهاية نموذج الثنائية القطبية الذي ساد خلال حقبة الحرب الباردة. وقيل أن هذه العوامل تؤثر على الشكل الحالي للحروب، والتي صار بالإمكان توصيفها اعتماداً على أهدافها، وعلى أساليبها، وعلى طرق تمويلها([11]). وبناء على ما سبق، يجب أن تتبع دراسة الحروب، ودراسة نتائجها، اتجاهات تجريبية جديدة، من خلال التركيز على أسبابها (صدمة الحداثة والعولمة ونهاية الحرب الباردة)، وكذلك التركيز على أشكالها السائدة (أهدافها وأساليبها وطرق تمويلها)، وسيقود ذلك إلى وضع توصيفها لآثارها التي تمت ملاحظتها (الاتجاهات التجريبية)، وهو ما سيوفر نقطة انطلاق تحليلنا تجريبي الطابع لضراوة “الحروب الجديدة”.
- جذور مفهوم “الحروب الجديدة”
إن مفهوم الحروب القديمة التي تدور بين دول عمل قادتها، المدفوعون بحسابات سياسية، إلى بناء الدول والجيوش والاقتصاد، بهدف شن حروب باستخدام قوة متفوقة ضد تشكيلات عسكرية مشابهة، يبدو يعيداً عن واقع حروب هذه الأيام. ويسود اعتقاد بأن “الحروب الجديدة” تحد من التمييز بين ما هو داخلي وما هو خارجي، وكذلك بين ما هو عام وخاص، وبين ما هو سياسي وما هو عسكري، وبين ما هو مدني وما هو عسكري، بل وتضيع التمييز حتى بين حالتي الحرب والسلم([12]).
تندلع “الحروب الجديدة” ضمن الدول المتداعية أو الفاشلة، وهي تفتقد إلى الطابع السياسي، وتعتمد على عامل التمسك بهوية ما، وغالباً ما تنشأ بين مجموعة متنوعة من اللاعبين لا يجمعهم سوى استخفافهم بالشرعية، وأهدافهم العقائدية، والضرورات العسكرية([13]). ما هو العامل الذي يعتقد أنه تسبب في ذلك التحول الدراماتيكي في شكل الحرب؟ لقد تم طرح ثلاثة أسباب لتبرير ذلك التحول، وهي: الفشل في عملية التحديث، والعولمة، ونهاية الحرب الباردة.
نصت أدبيات “الحروب الجديدة” على أن الحداثة هي السبب الرئيس في تحديد شكل الحروب القديمة، مع التركيز بشكل خاص على الربط بين الحروب القديمة وصعود الشكل الحديث للدولة القومية([14]). وإذا رجعنا إلى كتاب “حول الحرب” للاستراتيجي كلاوزفيتز، فسوف نجد أنه عرف الحرب الحديثة بأنها صراع بين جيشين منظمين في ميدان المعركة، وأنها استمرار للسياسة بأساليب أخرى، وأن منطق السياسة يتجلى بشكل حدي في حالة الحرب. وضمن ذلك السياق، يتم تعزيز السلطة السياسية، وبناء جيوش ضخمة تظل على أهبة الاستعداد، كما يتم إنشاء مجمع عسكري- صناعي بهدف تحقيق ذلك الهدف السياسي.
لقد ترافق فشل مشاريع بناء الدولة في البلدان الفقيرة مع فشل مشروع التحديث الذي يعتمد على هياكل سلطوية مركزية. إن التأثير المتبادل بين بناء الدولة وخوض الحرب يؤدي إلى بناء المجتمع، كما يمكن أن يؤدي إلى تهديمه. وقد حدد هذا التأثير شكل البنى الاجتماعية والتنظيمية، لكنه خلق أيضاً الشروط التي أدت لإندلاع كل حروب النصف الأول من القرن العشرين. ويرى (Shaw, 1999) أن الاتجاهات التدميرية التي وسمت الحربين العالميتين كانت تجلياً لمنطق الحروب القديمة، وهو ما مهد الطريق أمام ضراوة “الحروب الجديدة” ونزعتها التدميرية.
إن الحداثة تتضمن بذور فشلها، ورأينا كيف صمد نموذج كل من الدولة الحديثة والحرب القديمة خلال الحرب الباردة، في حين أدت العولمة إلى زعزعة أسس كلا النموذجين،هو ما دفع بعض الباحثين إلى التركيز على ضعف بنية الدولة خلال قيامهم بتحديد أسباب “الحروب الجديدة”([15]). ويرى بعض المنظرين أن بناء المجتمع يقتضي وجود طرف يمتلك السلطة المطلقة لفرض النظام الاجتماعي، وأن زعزعة أسس العنف الذي تمارسه الدولة – أو تراجع قدرتها على استخدام القوة الفعلية- يمثل سبباً جوهرياً في نشوء مراكز سلطة بديلة([16]).
بالمقابل نجد أن دوفيلد Duffield يطرح بديلاً للمفهوم السائد بين منظري “الحروب الجديدة”، والذي يقول بأن تغير طبيعة الحرب هو نتيجة فشل عملية التحديث، حيث يرى أن “الحروب الجديدة” تمثل شكلاً من أشكال مقاومة عملية تحرير الاقتصاد العولمي، ويعتبر أن “الحروب الجديدة” ردة فعل في مواجهة التحديث، وهي توفر نموذجاً بديلاً على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهدف حماية نمط حياة الناس الأشد فقراً، والذين سيعانون من وطأة اقتصاديات السوق الحرة، ومن وطأة هياكل السلطة العولمية المهيمنة حالياً، والمرتكزة بالأساس على بلدان مزدهرة ومتطورة. وهكذا نرى أن الرؤية المهيمنة بين أنصار مفهوم “الحروب الجديدة” تقول بأن حروب هذه الأيام ذات منشأ اجتماعي بالأساس([17]).
لم تغب الأهمية الفلسفية لموضوع الحداثة عن التحليلات الخاصة بـ ”الحروب الجديدة”، حيث نجد أن ماري كالدور تصف “الحروب الجديدة” على أنها، من حيث الجوهر صراع، بين مبدأي الدمج والإقصاء على مستوى التنظيم الاجتماعي، في حين تغذت الحروب القديمة من الصراع حول الهويات (النزعة القومية)، وحول الأفكار(مثل المصلحة الوطنية)، وحول الإيديولوجيات (مثل الليبرالية والاشتراكية والفاشية). وهي كانت تسعى، بالتالي، لدمج الآخر، في حين نجد أن مبادئ تنظيم “الحروب الجديدة” تعتمد على نزعة الإقصاء اعتماداً على بعض العوامل، مثل الدين واللغة والعرق، وأشكال متشددة من النزعة القومية. ويرى منظرو “الحروب الجديدة” أن فشل الدولة القومية، وظهور الهويات الإقصائية، تعبير عن فشل الفكر التحديثي، كما هو تعبير عن فشل بنية السلطة وشكل تنظيمها.
ويتوافق مسار الحروب الحديثة مع صعود وانحدار فلسفة التنوير، كما أن الحربين العالميتين عبرتا عن زعزعة الثقة بالنزعة الإيجابية المعاصرة، وتوافقتا زمنياً مع إشارة نهاية الدولة العصرية، والشكل العصري للحروب. لكن، وعلى الرغم من التماسك الظاهري لتحليل الحروب على هذا الشكل، هناك شيء من الشك حول تطابقه مع الواقع.
ثمة نقطة هامة تستحق الذكر، وهي أن نموذج الدولة الحديثة لم يفشل بشكل كامل، بل على العكس من ذلك، حيث نجد أن معظم الدول الحديثة ازدهرت في ظل العولمة. وفي الواقع، تعتمد نظرية السلم الديمقراطي، جزئياً على الأقل، على جوانب المنفعة المعتمدة على الترابط الليبرالي([18]).
رأت ماري كالدور أن العولمة تمثل السبب الأول للحروب الجديدة([19])، كما يسود اعتقاد بأن العولمة تمثل المظهر الأول للحروب الجديدة([20]). وترى كالدور أن هناك تصوراً غامضاً حول العولمة بوصفها تعزيزاً للترابط المتداخل والشامل على المستويات السياسية والعسكرية والثقافية، وأن ذلك الوضع تعزز بشكل قوي خلال الحرب الباردة، على الرغم أن واقع الأمور يشير إلى أن الترابط المتداخل كان على مستوى الكتلتين أكثر مما كان على مستوى التبادل الشامل الحقيقي.
كانت الإيديولوجية المحركة للسياسات خلال الحرب الباردة تقلل من شأن حدود الهوية القومية في مواجهة عدو مشترك، وتوفر مفردات مشتركة بهدف بناء مجتمع مدني عابر للقومية. وشهدت تلك الحقبة نمواً هائلاً في التعاون العسكري ربط بين جيوش الدول المختلفة في إطار تعاوني على مستوى دولي([21]). كما تعزز الترابط الاقتصادي عبر برامج الدعم مثل خطة مارشال، ومن خلال الاتفاقيات التجارية مثل اتفاق التجارة العامة GATT، كما تراجعت سيادة الدولة من خلال عضوية المنظمات الدولية مثل منظمة الأمم المتحدة، وكذلك حلفي الناتو ووارسو.
وفيما يخص دول العالم الثالث، نجد أن الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي – الذي قدمه الجانبان المتنافسان في الحرب الباردة في خضم التسابق الشامل لكسب النفوذ – عمق من اعتماد تلك الدول على العالم الخارجي، كما أن القروض التي قدمها البنك الدولي، وعمليات السداد، عززت اعتماد بلدان العالم الثالث على الغرب، وقاد ذلك إلى المزيد من إضعاف قدرات الدولة من خلال برامج الإصلاح الاقتصادي الليبرالية (التي رعاها بالأساس صندوق النقد الدولي)، حيث سعت برامج الاصلاح الاقتصادي إلى الحد من الفساد، وإلى رفع مستوى الكفاءة، لكن هذه البرامج أدت، في كثير من الحالات، إلى الإضرار بمصالح الدولة. وترافق ذلك بالتخلي عن الصناعات المملوكة من قبل الدولة وخصخصتها، كما ترافق بتراجع إشراف الدولة، الأمر الذي عزز من انتشار الاقتصاد العالمي غير الشرعي، وتعزيز فرص المشاركة فيه.
وعندما وصلت الحرب الباردة إلى خاتمتها، كانت العولمة قد انتزعت من الدول شرعيتها وقدراتها. ويسود اعتقاد بأن نهاية الحرب الباردة سرعت بانهيار عملية التحديث، كما سرعت في صيرورة العولمة، وأوجدت حالة من توزيع السلطة أقل استقراراً مقارنة بفترة العالم ثنائي القطب.
ووفق ما كتب سنو Snow، في كتاب له نشر عام 1996، فإن :”النظام الدولي الذي تطور إبان الحرب الباردة كان أكثر تنظيماً، وكان يسمح بتوقع مسار العلاقات… وتطورت، في تلك الفترة، المنافسة على النفوذ بين القوى العظمى، الأمر الذي أوجد إطاراً ناظماً لممارسات دول العالم الثالث على الصعيدين الداخلي والخارجي”. وهكذا نجد أنه، مع نهاية الحرب الباردة، أدى تراجع الدعم الذي كان يأتي من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة إلى تآكل سيادة دول العالم الثالث، كما أدى إلى تراجع قدرتها على الحكم، كما قاد انهيار الاتحاد السوفييتي إلى تراجع مكانة العقيدة الاشتراكية.
وتشير كالدور إلى أنه “مع تلاشي الآمال التي تلت الاستقلال، بادر العديد من السياسيين للدعوات التي تركز على التمايز”. وهكذا رأينا، مع نهاية الحرب الباردة، تعزز ميول القادة للعثور على بدائل للتحشيد الاجتماعي، ووجدوا ضالتهم في الدين، أو في الانتماء العرقي.
وعدا عن ذلك، كانت نهاية الحرب الباردة بمثابة إشارة على نهاية حقبة الاستقرار التي ميزت النظام الدولي خلال مرحلة وجود القطبين. ورأى البعض أن ذلك الاستقرار نتج عن ميزان القوى العسكرية، وكذلك من القيود التي فرضت على الأطراف المتحاربة. وحول هذه النقطة، كتب سنو :” يكمن لب المسألة في أن نهاية الحرب الباردة ترافقت مع تراجع الإرادة والقدرة على ضبط العنف الداخلي… لم يعد لدى الحكومات، أو لدى المتمردين المحتملين، معلمين عقائديين يزودونهم بالمال الكافي لممارسة العنف على أمل امتلاك القدرة على ممارسة نفوذ حول نتائج ذلك العنف“([22])، كما كان الدعم المقدم إلى الدول يستخدم لتقوية الدول الضعيفة أو الفاشلة. وأخيراً، نجد أن الحرب الباردة زودت الأنظمة بأهداف أيديولوجية أكثر سمواً، وهي كانت تمارس الحكم في خضم صراع شامل كان يؤمن لها مصدراً للشرعية. إذن، أدت نهاية الحرب الباردة إلى إدخال المزيد من عوامل زعزعة الاستقرار ضمن النظام العالمي، الأمر الذي عزز من فرص اندلاع صراعات عنيفة، وفتح الباب أمام ارتكاب الفظائع. وكنتيجة لفشل مشروع التحديث وانتشار العولمة ونهاية الاستقرار في مرحلة الحرب الباردة، صرنا، على ما يبدو، شهوداً على تغيرات جوهرية في العلاقات الاجتماعية التي تحدد الشكل الذي تخاض به الحروب.
ومن منظور ذلك الترابط بين مختلف العوامل، كتب دوفيلد :”إن انتشار انتهاك حقوق الإنسان ليس جزءاً من الأضرار الجانبية للحروب الجديدة، بل هو مرتبط عضوياً بأسلوب خوض الحروب، وبأهدافها المرجوة([23]).
تدور “الحروب الجديدة” ضمن نطاق دول متداعية أو فاشلة، وهي تتحول لتصبح قبل كل شيء تنافساً على الموارد، بما في ذلك التنافس على ما تبقى من الدولة، وعلى دعم السكان، وكذلك التنافس على المواد والغذاء والمال، حيث يتم نهب المستودعات العسكرية، وإرهاب السكان، كما يتم فرض ضرائب على المساعدات الإنسانية، وعلى مختلف أشكال المساعدات المالية، أو يتم سرقتها. ويتم اللجوء إلى مصادر تمويل خارجية أخرى، مثل دعم الجاليات المهاجرة، ومثل الاشتراك في التجارة غير المشروعة، بما في ذلك الاتجار بالسلاح وبالمخدرات وبالبشر.
وفي مثل ذلك الوضع، تكتسب حالة الحرب أفضلية على حالة السلم، لأن الحرب توفر فرصاً أكبر لتحصيل المال، وتقدم غطاء للنشاطات غير المشروعة. ونقول، باختصار، أنه يتم بناء منطق اقتصادي جديد ضمن إطار اقتصاد الحرب، بحيث تكف الحرب على أن تكون ميالة للإنتاج، كما كان عليه الحال في الحروب القديمة، وتميل لأن تكون هدامة وميالة لعمليات النهب([24]).
- معطيات تجريبية مرتبطة بـ ”الحروب الجديدة”
يقدم أنصار مفهوم “الحروب الجديدة” توصيفاً لها بالاعتماد على واحد، أو أكثر، من الطروحات المتعلقة بطبيعة حروب هذه الأيام، مثل القول بازدياد عدد الحروب الأهلية، واشتداد ضراوة المعارك، وارتفاع عدد المهجرين، وارتفاع عدد الضحايا من المدنيين، وصولاً إلى القول بارتفاع نسبة القتلى من المدنيين مقارنة بالعسكريين.
وسنقوم فيما يلي بمراجعة سريعة لكل هذه الطروحات، وسنعرض الأبحاث التي تناولتها لنتوصل إلى تحديد الطروحات التي ما تزال تحتاج إلى تمحيص.
4.1. ازدياد عدد الحروب الأهلية
يرى العديد من منظري “الحروب الجديدة” أننا نشهد تصاعداً في عدد الصراعات المسلحة في مختلف أرجاء العالم([25])، وهو افتراض منتشر بين علماء الاجتماع وبين الناس([26]). ويتم التعبير عن هذه الفكرة عادة بالقول أن عدد الحروب تصاعد منذ نهاية الحرب الباردة، وخصوصاً الحروب ضمن الدول. وقد تم تقديم العديد من أسباب هذا التصاعد، لكن الإعتقاد ساد بأن نهاية الحرب الباردة كانت السبب الأكثر أهمية، وقد مثلت نقطة التحول بين الحروب القديمة والجديدة. وعلى الرغم من هذه الاستنتاجات، فإن ارتفاع عدد الحروب في سائر أنحاء العالم، بعد نهاية الحرب الباردة، لم يتم استخلاصه بالاعتماد على معطيات مقبولة حول نماذج الصراعات المسلحة.
صحيح أن عدد الصراعات الداخلية شهد قفزة في بداية العقد التاسع من القرن العشرين، لكن تبع ذلك تراجع ملحوظ، وفق دراسات بعض الباحثين([27]). ويظهر الشكل رقم واحد الخط البياني لأعداد الصراعات المسلحة، وفق بيانات برنامج جامعة أبسالا الخاص ببرنامج الصراعات المسلحة.
الشكل رقم 1 : عدد الصراعات المسلحة بين عامي 1946-2004 مصنفة حسب النوع
حيث يشير اللون الأبيض إلى الصراعات ذات الطابع الدولي، ويشير اللون الأسود إلى الصراع بين الدول، ويشير اللون الرمادي الغامق إلى الصراعات الداخلية، في حين يشير اللون الرمادي الفاتح إلى الصراعات التي تخرج عن إطار هذه النماذج.
المصدر: (Harbom& Wallensteen, 2005a)
تمثل الحروب الداخلية النسبة الأكبر من مجموع الحروب، لكن ذلك يعود إلى تراجع عدد الحروب الدولية (Mueller, 1989). وفيما يخص الحروب التي اندلعت بين دول، نجد أن الفترة ما بين 1990-2004 شهدت سبعة وخمسين صراعاً نشطاً بين الدول (Harbom & Wallensteen, 2005b: 83)
وثمة أبحاث أخرى تؤكد الميل نحو تراجع الصراعات المسلحة وفق بيانات برنامج جامعة أبسالا لمتابعة الصراعات المسلحة كالأبحاث التي أجريت حول العنف السياسي مثل دراسة Marshall & Gurr التي صدرت عام 2005 ودراسة Mueller التي صدرت عام 2004.
إن الذروة التي بلغتها الصراعات المسلحة، ما بين 1989-1992، تعتبر انعكاساً لارتفاع عدد الصراعات الجديدة المرتبطة بانهيار الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا ونهاية الحرب الباردة. ومن الممكن اعتبار تراجع مستوى الصراعات، في الفترة التالية، نتيجة لوضع حد للعديد منها. فمع نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، انتهت معظم الحروب التي بدأت في فترة 1989-1992، كما انتهت العديد من الحروب التي تعود إلى فترة الحرب الباردة، كما شهدت الفترة، ما بين 1991-2003، تراجع عدد الصراعات الجديدة، وأدت هذه العوامل متضافرة، بالتالي، إلى خفض عدد الصراعات المندلعة، وفق دراسة لـ لاسينا واوبرغ Lacina & Öberg صدرت عام 2006.
إن التمعن في دراسة “الشكل رقم واحد” يمكن أن يولد انطباعاً خاطئاً بارتفاع مخاطر الحروب الأهلية، مع تقدم الأيام، نظراً لأن عام 2004 شهد أكبر عدد منها، مقارنة بأي فترة سابقة لأواسط العقد السادس من القرن العشرين. لكن الأمر ليس على هذه الشاكلة، حيث يمكن تفسير تصاعد عدد الحروب، في الفترة ما بين 1946-1992، بارتفاع عدد البلدان المستقلة ضمن النظام العالمي، وإذا أدخلنا في الحساب ارتفاع عدد الدول يمكننا القول بأن “عدد الصراعات تراجع بعد نهاية الحرب الباردة، بحيث أن احتمال انخراط دولة ما في صراع مسلح يعادل مستوى الاحتمالات الذي كان سائداً في نهاية العقد الخامس من القرن العشرين، وهذا الاحتمال أقل بالمقارنة مع ما كان سائداً في أي وقت خلال الحرب الباردة([28]).
4.2.اشتداد ضراوة المعارك
من أهم أسس مفهوم “الحروب الجديدة” أطروحة تقول بأن القيود على مجريات الحرب صارت أضعف، حيث يسود اعتقاد بأن مستويات العنف المنفلتة ناتجة عن تراجع سلطة الدولة، وعن تراجع مفهوم الهوية الاندماجية، وبسبب الأفكار والعقائد، إلى جانب تأثير الطرق الجديدة التي يتم بها تمويل الحروب. ونجد أن سنو يقدم سبباً إضافياً مفاده أن المساعدات التي قدمها الطرفان المتنافسان، إبان الحرب الباردة، حددت حركة اللاعبين العسكريين في العالم الثالث، وحدت من شراسة المعارك، حيث لم يتسامح كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مع قيام من يتلقون دعمهما بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، لكن نهاية دور الراعيين، الذي ساد خلال الحرب الباردة، أفلت عقال الهمجية في خضم الصراعات المسلحة.
كان ذلك الطرح هدفاً لنقد قوي استند إلى أسس إثنية وتاريخية، وإلى تحليل بيانات ضحايا المعارك على المستوى الماكروي. ورأى كاليفاس Kalyvas في مؤلفه المنشور عام 2001 :”إن القول بأن العنف خلال الحروب الأهلية القديمة كان محدوداً ومنضبطاً وقابلاً للفهم، وكذلك بأن العنف في “الحروب الجديدة” عبثي وغير منضبط، إنما هو قول خاطئ، ولا يوجد أية قرائن تدعم كلا الرأيين”.
وجد كاليفاس أن الحروب القديمة حظيت بأبحاث ركزت على التفاصيل بشكل مبالغ فيه، وأن ما يقال بأنها سمات تنفرد بها “الحروب الجديدة” (الجشع، وغياب الدعم الشعبي، والعنف المجاني) إنما هي أمور كانت موجودة في السابق. وأكثر من ذلك، نجد أن هناك مبالغة في تقدير مستويات العنف العبثية في “الحروب الجديدة” لأن هذا العنف، في واقع الأمر، يسير وفق منطق استراتيجي. وفيما يتعلق بدور الطرفين اللذين أدارا الحرب الباردة، يرى لاسينا أن “العامل الأكثر أهمية في تحديد ضراوة الحرب الأهلية يتمثل، كما يبدو، في إمكانية التدخل الخارجي وتوفير المعونات”.
ويبدو أن ضراوة المعارك كانت تخضع، خلال الحرب الباردة، لتأثير التنافس بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، ولكن بطريقة مناقضة لرأي سنو، لأن دعم الأطراف المتحاربة لم يضع قيوداً على مجريات الحرب، بل سهل من إمكانية تحمل تبعات الحرب.
وفي واقع الأمر، تبع نهاية الحرب الباردة تراجع في ضراوة الحروب الأهلية، وفق آراء كل من لاسينا وGledistch & Russett، حيث أظهرت الراسة الإحصائية التي نفذاها تراجع عدد ضحايا المعارك في مختلف أرجاء العالم.
4.3. ارتفاع عدد الضحايا والمهجرين من المدنيين
إن القول السابق باشتداد ضراوة المعارك في “الحروب الجديدة” يؤدي بالمحصلة إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، فمع احتداد المعارك يزداد عدد المدنيين العالقين في مناطق تبادل القصف، كما أن تراجع صرامة القيود يعزز من احتمال قيام الجنود باستهداف المدنيين بهدف تحقيق أهدافهم السياسية، وتلبية حاجاتهم الاقتصادية. وفيما يتعلق بالأهداف السياسية، فإن تهجير السكان وقتلهم يهدف لتدعيم السيطرة السياسية على أساس الهوية، فمن خلال إقصاء أو تصفية الأشخاص الذين لا يحملون الهوية الملائمة([29])، يتم تطهير المناطق بهدف ضمان الفوز في أي استفتاء قادم، كما أن العنف يساعد على تدعيم الهوية الإقصائية من خلال تعميق الهوة بين الأطراف المتناحرة. وفيما يتعلق بالاحتياجات الاقتصادية، يتم استهداف الناس للسيطرة على الموارد التي بحوزتهم، وهو أمر يساهم في دعم الجنود، وفي دعم المجهود الحربي بشكل عام.
يرى كل من لاسينا وغليدتش أن هناك ثغرة تتعلق بالبيانات الديمغرافية التي تسمح بقياس عدد ضحايا الحرب بشكل جيد، وبحيث يتضمن ذلك كل الذين سقطوا في المعارك، وكل الذين كانت وفاتهم نتيجة للتغيرات الاجتماعية الناجمة عن الحرب”.
و”ثمة صعوبات تواجه أية محاولة لتقدير الكلفة البشرية للحرب، ولذلك يتسم هدفنا بالتواضع، فنحن نرغب بتحدي افتراضين (تجريبيين) يتعلقان بالضحايا المدنيين، ونمتلك حولهما بيانات موثوقة، وهما عدد القتلى من المدنيين وعدد المهجرين خلال الصراعات المسلحة.
لقد أولى منظرو مفهوم “الحروب الجديدة” الكثير من الاهتمام للضحايا وللمهجرين في الحروب التي اندلعت مؤخراً، لكن الحروب القديمة شهدت استهدافاً للسكان المدنيين، وإجبارهم على الرحيل، وكثيراً ما تم ذلك على نطاق واسع.
ويلخص الجدول رقم واحد التالي ضحايا الحرب خلال أسوأ خمسة وعشرين صراعاً شهدتها فترة الحرب الباردة، لكن هذه الأرقام هي تقديرات مأخوذة من مصادر تاريخية، وهي تقدم فكرة عامة عن الخسائر البشرية خلال نصف قرن، لكنها تساعدنا في وضع تصور لعدد الضحايا المدنيين خلال الحرب.
المصدر: World Military and Social Expenditures 1987-88 Sivard, 1987
إن مراجعة أثر الحرب على المدنيين، خلال الحرب الباردة، ستلقي بظلال من الشكوك حول طروحات منظري “الحروب الجديدة” القائلة بتصاعد أعداد المهجرين والقتلى من المدنيين.
وتستند هذه الافتراضات بالأساس على بحوث اعتمدت طريقة “دراسة الحالة”، وتناولت الحروب التي اندلعت في العقد التاسع من القرن العشرين([30]). وقد تمت مقارنة تلك الدراسات مع الحروب القديمة، لكن المقارنة كانت سطحية ومنفصلة عن الواقع، حيث حظيت “الحروب الجديدة” بدراسة تفصيلية في حين لم تحظ الحروب القديمة بدراسة مماثلة، وظلت في إطار غامض، الأمر الذي غطى على جوانب تهجير وتصفية المدنيين خلال الحروب السابقة.
وتقدم أدبيات منظري “الحروب الجديدة” فكرة أن الحروب التي تنشب بين الدول تتمتع بقدر أكبر من الحضارة والضوابط، لكن الواقع يقول أن تلك الحروب تسببت بعمليات قتل واسعة في صفوف المقاتلين وغير المقاتلين على السواء، حيث أن حرب فيتنام (1965-1975)، والحرب الكورية (1950-1953)، تقدمان مثالين واضحين على ذلك.
لقد شهد القرن العشرون حروباً أهلية فاق عددها الحروب بين الدول. وإذا نظرنا إلى فترة الحرب الباردة فلن نجد مؤشرات على أن الحروب الأهلية السابقة اتصفت بوجود قيود وضوابط بالمقارنة مع حروب هذه الأيام. كما أن الحروب الداخلية التي دارت في فترة الحرب الباردة، مثل الحرب في الصين (1950-1951)، وفي نيجريا (1967-1970)، وفي كمبوديا (1975-1978)، تسببت في عمليات قتل جماعية بين صفوف المدنيين.
إن البيانات التي عرضها كل من ماك وهارف Harff وMack تبين أن عدد عمليات الإبادة، والتصفية السياسية، تراجع منذ نهاية الحرب الباردة. ويظهر المخطط التالي الخط البياني لعدد عمليات الإبادة والتصفية السياسية.
المصدر: تقرير الأمن البشري 2005 والأرقام مأخوذة من دراسة (Harff, 2003b).
تعرف هارف الإبادة، والتصفية السياسية، بأنها عملية تدمير شاملة، أو جزئية، لمجموعة من السكان، أو لجماعة سياسية، أو لجماعة إثنية، تحمل برنامجاً سياسياً. وهي حددت، في دراسة لها حول مخاطر حدوث إبادة جماعية خلال حرب أهلية، عوامل الخطورة التي تضمنت التوتر السياسي الشديد، وحدوث عمليات إبادة أو تصفية سياسية سابقة، وفظائع الأنظمة، والعقيدة الإقصائية لدى النخب، وتمثيل الأقليات ضمن إطار النخب، لكنها وجدت، بالمقابل، أن الترابط الاقتصادي الدولي يحد من احتمل حدوث عمليات إبادة خلال الحروب الأهلية.
ويتوافق ما سبق ذكره مع مفهوم “الحروب الجديدة”، فيما يتعلق بالشحن السياسي، وحدوث عمليات إبادة سابقة، ووجود عقائد إقصائية، وتلاعب النخب بورقة الهوية الإثنية. ولكن، وبالاستناد إلى دراسة هارف، فإن ذلك ينطبق على الصراعات القديمة بقدر انطباقه على الصراعات الجديدة. كما أن العامل الذي تم تحديده، بوصفه كابحاً لاحتمال وقوع عمليات إبادة وتصفية سياسية، هو بالتحديد العامل الذي يعتبره منظرو مفهوم “الحروب الجديدة” السبب الأول في اندلاع “الحروب الجديدة”، ونقصد الترابط الاقتصادي على المستوى الدولي. وسنسعى، بدورنا، لاستخدام هذه البيانات بأريحية في المراجعة التي نجريها بهدف تحديد الأثر المباشر للصراعات المسلحة على البشر.
من الصعب تعميم دراسة أجريت على عدد محدود من الحالات بهدف تحديد المسارات الشاملة لتطور الأمور. وبهدف تحقيق عملية الربط هذه، قام منظرو مفهوم “الحروب الجديدة” باستخدام البيانات الخاصة بعمليات التهجير على مستوى العالم. فقد اعتمدت ماري كالدور على تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، الصادر عام 2000، والذي يقول أن مجموع المهجرين ارتفع بشكل كبير خلال الخمسة وعشرين سنة الماضية. وعند تدقيق البيانات تبعاً للمناطق، وخلال عقود السنوات، نلحظ ارتفاعاً حاداً في عدد اللاجئين، وبشكل خاص منذ أواسط العقد السابع من القرن العشرين. ووفق ما كتبته كالدور، فإن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قدرت أن عدد اللاجئين ارتفع من 2.4 مليون([31])، عام 1975، إلى 14.4 مليون، عام 1995. كما قامت كالدور، لاحقاً، بطرح رقم 5.4([32]) مليون مهجر ضمن الوطن، وهو رقم يعود في الواقع إلى عام 1999، ولا يوجد رقم آخر مطروح للمقارنة معه.
كما لجأت كالدور، في سبيل تعزيز طروحاتها، إلى استخدام تقديرات أوردها تقرير منظمة الصليب الأحمر في الولايات المتحدة الصادر عام 2000، والذي جاء فيه أن عدد اللاجئين ارتفع من 22 مليون، عام 1980، إلى 38 مليون، عام 1995. وجاء في التقرير أن نصف العدد كان من المهجرين داخلياً.
كان نيومان Newman محقاً في رأيه، عندما كتب أن ذلك الارتفاع الكبير في عدد اللاجئين والمهجرين، داخل أوطانهم، يمكن أن يعود إلى نقص في البيانات الموثوقة المتعلقة بفترات تاريخية سابقة. يضاف إلى ما سبق أن بروز الكلفة البشرية للصراعات أمام أعين الناس، في السنوات الأخيرة، عزز من الاهتمام بهذه المسالة، كما أن من الوارد أن يستمر ارتفاع العدد الإجمالي للناس المهجرين، حتى ولو كانت “الحروب الجديدة” تتسبب بتهجير عدد أقل من الناس مقارنة الحروب الأهلية لفترة الحرب الباردة، في حال كان عدد العائدين إلى ديارهم أقل من أعداد المهجرين. ففي كثير من الأحيان يعجز المهجرون عن العودة، ولسنوات عديدة. كما أن نسبة كبيرة من مجمل المهجرين واللاجئين، خلال السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة، كانوا قد أجبروا على هجر مواطنهم منذ أيام الحرب الباردة، وعلى ذلك نرى أن المقارنة ذات الدلالة يجب أن تتم بين أعداد المهجرين الجدد التي تتسبب الصراعات الجديدة بتهجيرهم.
4.4 ارتفاع نسبة القتلى من المدنيين مقارنة بالعسكريين.
يعتبر استهداف المدنيين طرحاً آخر هاماً فيما يتعلق بتغير طبيعة الحرب، حيث يقال أن الحروب القديمة ميزت بين المقاتلين وغير المقاتلين، في حين تتجاهل “الحروب الجديدة” ذلك التمييز، ويتم طرح فكرة أن المقاتلين يفضلون استهداف المدنيين، حيث يقول سنو :”إن من أبرز سمات هذه الحروب هو مدى اتساع عمليات استهداف أشخاص مسلحين ومدنيين أبرياء، بحيث يمثلون النسبة الأكبر من الضحايا، إن لم نقل كل الضحايا”([33])، في حين ترى كالدور أن “من نتائج ذلك الميل إلى استهداف المدنيين الارتفاع الكبير في نسبة القتلى من المدنيين مقارنة مع العسكريين”([34]).
مثل العسكريون ما معدله 85-90% من ضحايا الحروب في بداية القرن العشرين، في حين كانت النسبة متعادلة بين المدنيين والعسكريين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية. لكن العقد التاسع من القرن العشرين شهد انقلاب هذه النسبة مقارنة مع ما كان قائماً قبل مائة سنة، حيث صار المدنيون يمثلون قرابة 80% من الضحايا في أيامنا الراهنة، ولم تنفرد كالدور بوجهة النظر هذه، حيث واظب الباحثون على تكرار ذلك، وتم تسويق هذه الأرقام في وسائل الإعلام.
ويشير مؤلف لاسينا وغليدتش، الصادر عام 2006، إلى تقديرات أخرى تقول بأن نسبة الضحايا من المدنيين تقل حتى عن 5%، لكن ذلك يعود إلى خلل في تفسير الإحصائيات العسكرية، ونتيجة تطبيق أساليب غير دقيقة في فرز مجموعات الضحايا في الأبحاث الخاصة بالحروب الأهلية.
إن القول بأن المدنيين مثلوا نسبة تقل عن 15% من مجموع الضحايا، في حروب مطلع القرن العشرين، هو شديد البعد عن أفضل التقديرات المقدمة من مؤرخي الحروب. والحقيقة، فنحن نجد، في تقرير قدمته مارغريتا سولنبرغ Margareta Sollenberg، عام 2006، أن البيانات المتوفرة التي جمعها المؤرخون لا تدعم وجود ميل لارتفاع نسبة الضحايا من المدنيين، مع مرور الوقت. ويمكن القول أن نسبة الضحايا المدنيين مساوية لنسبة العسكرين في أي حرب أهلية نمطية. وهناك بعض التغيرات تبعاً للصراعات، لكنها تظل تباينات غير ذات قيمة، حيث أن توزع النسب ظل ثابتاً عبر الزمن، بل أن بعض الصراعات، التي يتم استخدامها في أدبيات “الحروب الجديدة” للدلالة على وجود ميل لارتفاع نسبة الضحايا من المدنيين، لا تصمد أمام التدقيق.
إن نسبة المدنيين بين الضحايا، والتي قدمها المؤرخون والديمغرافيون، متماثلة بالنسبة للحربين العالميتين. وبالنسبة لحرب البوسنة والهرسك، 1992-1995، فهي تعتبر ضمن النسبة المعهودة القريبة من 50/50.
- البيانات وتصميم البحث
سنقوم بعملية تقويم للطرح القائل بأن “الحروب الجديدة” هي أكثر دموية من الحروب الأهلية في فترة الحرب الباردة، من خلال تمحيص ثلاثة أبعاد، وهي: كثافة المعارك والضحايا من المدنيين وتهجير المدنيين. وسوف نستخدم هذه الأبعاد الثلاث بوصفها متحولاً بيانياً في ثلاثة تحليلات منفصلة تتضمن متغيراً زمنياً، بالإضافة إلى العديد من بيانات المقارنة.
سندخل في الحساب كل الصراعات الداخلية التي شخصها برنامج جامعة أبسالا، والبيانات المتعلقة بالصراعات المسلحة وفق ما رودت في دراسة غليدتش وآل Gleditsch et al الصادرة عام 2002، ودراسة هاربوم وفيلنستين Harbom & Wallensteen الصادرة عام 2005.
سنعتبر الإبادة/ التصفية السياسية، والتهجير القسري، أهم مؤشرين على شراسة الحرب، والبيانات الخاصة بهما متوفرة، وسنعرض الأرقام الخاصة بكل بلد في عام محدد، وذلك يعني عدم توفر معلومات حول عمليات القتل والتصفية السياسية، والتهجير القسري، لكل صراع على حدة، في حال عانى بلد ما من صراعات متعددة خلال عام ما، أي أن الوحدة التي يعتمدها تحليلنا هي الصراع المسلح الداخلي في عام محدد، ولكل بلد متورط في صراع داخلي مسلح واحد على الأقل، وسنتناول بالملاحظة الصراع المسلح النشط في كل عام.
تتوفر ملاحظات حول 736 صراعاً داخلياً من حقبة الحرب الباردة، وملاحظات حول 438 صراعاً من حقبة “الحروب الجديدة”(1900-2002)([35]).
تعتبر كثافة المعارك بمثابة المتحول البياني الأول. وبهدف قياس كثافة المعارك، استخدمنا البيانات المتعلقة بالقتلى الذين سقطوا في المعارك في عام محدد في بلد يعاني من صراع داخلي مسلح.
تم أخذ الأرقام المتعلقة بأعداد الضحايا من دراسات كل من لاسينا وغليدتش، وهذه الأرقام تتضمن كل الناس والجنود والمدنيين الذين قتلوا في المعركة. وتعكس طريقة القياس هذه اتساع وعمق الاشتباك العسكري. وبما أننا سنقوم بإدخال المدنيين الذين قتلوا في العمليات العسكرية ضمن ضحايا المعركة، فإن ذلك يغطي جزءاً من ضراوة الحرب الأهلية. ونحن نعتقد أن البعدين الآخرين المتعلقين بضراوة المعركة، ونقصد بهما الإبادة/ التصفية السياسية والتهجير القسري، سيعكسان بشكل أشمل درجة ضراوة الحرب الأهلية.
وبما أن عدد ضحايا المعركة يعتبر مقياساً ممتازاً لكثافة المعركة، فسوف نقوم بإدخال ذلك المتحول بوصفه متحولاً شاهداً (للمراقبة)، عندما سنقوم بدراسة الإبادة/ التصفية السياسية، وموجات التهجير القسري.
وبهذه الطريقة نضمن أن التأثيرات المرتبطة بالحقبة الزمنية (الحرب الباردة أو فترة “الحروب الجديدة”) المرتبطة بضراوة المعارك لا تتداخل مع التغيرات في كثافة المعارك، وتتوفر لديبنا المتحولات البيانية التي تغطي الفترة 1946-2002.
والمتحول البياني الثاني الذي سنستخدمه هو عدد المدنيين الذين تم استهدافهم خلال الصراعات الأهلية. وبهدف قياس هذا الجانب سوف نستخدم البيانات الخاصة بالإبادة/ التصفية السياسية، وفق التعريف والتصنيف الذي حدده مشروع الدولة الفاشلة State Failure project، وسوف نعتمد تعريف الإبادة / التصفية السياسية بوصفهما ممارسات تتضمن مجازر وعمليات قصف غير محدودة لمناطق سكن المدنيين، والإعلان عن مناطق قصف جوي، وحالات احتضار نتيجة لحظر وصول الغذاء والاحتياجات على مدى فترة طويلة، والتهجير القسري (تطهير عرقي) المترافق بحصار شديد، وعمليات قتل (Marshall; Gurr & Harff, 2001: 15).
من سمات الحروب الأهلية لجوء كل من الحكومة والمتمردين إلى استخدام العنف، ولن ندخل في الحساب سوى القتلى من المدنيين غير المسلحين، غير المنخرطين في القتال، وستشمل دراستنا الفترة ما بين عامي 1955 و1996.
أما المتحول البياني الثالث فهو التهجير القسري في خضم الصراعات الأهلية، وسنقوم بقياسه باعتماد البيانات المتوفرة حول موجات الهجرة، أي عدد المهجرين داخل وخارج البلد في عام محدد. وهذا هو القياس الأكثر شيوعاً في الأبحاث الخاصة بالتهجير القسري. ويتم الحصول على الأرقام من خلال جمع عدد المهاجرين والمهجرين في كل بلد، وفي كل عام، ومن ثم نطرح منه مجموع مهجري العام الذي سبقه، وعندما يكون الحاصل سلبياً نقوم بجبر الرقم ليصبح صفراً.
وقد قام كل من شيلمان وميلاندر Melander وShellman بجمع بيانات تغطي بشكل جيد الناس الذين تم تهجيرهم داخل وخارج بلدانهم في أعوام 1980-1999.
5.1. مؤشرات “الحروب الجديدة”
سنستخدم بعض المتغيرات لتحديد مصدر ملاحظة محددة ما، وربطها إما بحقبة الحرب الباردة 1946-1989، أو بسنوات “الحروب الجديدة” 1990-2002. كما قمنا، أثناء بعض الاختبارات، بتقسيم البعد الزمني إلى وحدات أقصر تغطي أحيناً فترة خمسة سنوات.
5.2. ضبط الإحصائيات
ونظراً لأن هدفنا يتمثل بمقارنة ضراوة “الحروب الجديدة” قياساً إلى الصراعات المسلحة التي اندلعت بين الدول في فترة سابقة، فإننا لم نحاول التوسع في شرح التبدلات التي طرأت على المتحولات البيانية الثلاثة التي اعتمدناها. وبالتالي، لم يكن هناك حاجة لإدخال أي متحولات بيانية إضافية كان من الوارد أن تؤثر على المتحولات البيانية المعتمدة، والمهم أن نراقب، وأن نتحكم، ببعض العوامل التي تختلف بين حقبتي الحرب الباردة و”الحروب الجديدة”.
وسنستخدم في عمليات المراقبة بعض المؤشرات مثل عدد السكان، ومستوى التطور الاقتصادي، ومستوى الديمقراطية، والتورط في صراع مسلح مع بلد آخر.
ونحن نفترض أن هناك مجموعة من العوامل التي تتضافر لتزيد من مخاطر تعرض كل فرد للقتل في المعركة، أو أن يتم ذبحه، أو إجباره على مغادرة مسكنه، وبالتالي سيرتفع عدد ضحايا المعارك، كما سيزداد عدد ضحايا عمليات الإبادة والتصفية السياسية/ وعدد المهجرين قسراً.
ينتج عما سبق أن عدد سكان البلد يمثل مقياساً للتغيرات في البحث الهادف لتفسير أعداد ضحايا المعارك والتهجير القسري، لكن عدد السكان يعتبر متحولاً متغيراً مع الزمن، خصوصاً أن معظم البلدان، وبشكل خاص الفقيرة منها، والتي تعاني من صراعات داخلية، تعيش حالة من النمو السكاني. وبالتالي، سندخل عامل النمو السكاني بوصفه مؤشراً لمراقبة المتحولات البيانية الثلاث المعتمدة.
وبشكل مماثل، سوف نجد أن مستوى التطور الاقتصادي، في بلد ما، يمثل عاملاً كثيراً ما يؤثر على مختلف أشكال العنف الجماعي، بما في ذلك الحروب الأهلية، والتهجير القسري، وحالات انتهاك حقوق الإنسان. ويرى Collier، في مؤلفه المنشور عام 2003، أن البلدان الفقيرة أكثر عرضة لتأثير الجانب الاقتصادي مقارنة بالبلدان الأكثر ثراء، مع ملاحظة أن هناك بعض البلدان التي سجلت تراجعاً في النمو الاقتصادي، في حين سجلت معظم بلدان العالم نمواً اقتصادياً عبر الزمن.
وسوف نقوم بمراقبة عامل النمو الاقتصادي باستخدام مؤشر تطور الناتج القومي الفردي، وسوف نستخدم مخططاً بيانياً عند تفحص عدد ضحايا المعارك، والإبادة / التصفية السياسية، بهدف تحديد الخط البياني الذي يرسم العلاقة المحتملة بين مستوى التطور الاقتصادي وأشكال العنف الجماعي.
طرح البعض أن المصاعب التي ترافق عملية التحديث يمكن أن تزيد من مخاطر حدوث عمليات إبادة/ تصفية سياسية، كما يمكن أن تتسبب بالمزيد من الصراعات العنيفة داخل المجتمع([36])، ونحن نرغب في إدراج هذا الاحتمال في حسابنا، من خلال متابعة مدى تأثير مستوى التطور الاقتصادي.
وتمثل الديمقراطية الجانب الثالث الذي سنراقبه، ونحدد علاقته بالمتحولات البيانية الثلاثة التي اعتمدناها. وثمة أبحاث سابقة وجدت أن توفر الديمقراطية يعني وجود عدد أقل من الصراعات المسلحة الداخلية([37])، كما يعني وجود عدد أقل من عمليات الإبادة / التصفية السياسية([38])، وعدد أقل من المهجرين قسرياً([39]).
وسنقوم عند دراسة ضحايا المعارك، وعمليات الإبادة/ التصفية الجسدية، باستخدام معيار لقياس مستوى الديمقراطية بهدف رسم خط بياني لتأثيره على الوضع، حيث أن بعض الدراسات طرحت رأياً مفاده أن عمليات الإبادة/ التصفية السياسية، واندلاع الحروب الأهلية، يرجح أن تحدث في بلدان شبه ديمقراطية، مقارنة ببلدان تتمتع بمستوى متوسط من الديمقراطية([40]).
إن مقياس الديمقراطية، الذي سنعتمده، يتوافق مع دليل Polity2، وهو الدليل الذي طرحه القسم الرابع من مشروع Polity Project الذي صمم من قبل Marshall & Jaggers، عام 2000، كما سنستخدم متحولاً بيانياً وضعه Gleditsch، كما سنستخدم قائمة بالبلدان المستقلة وضعها Gleditsch & Ward عام 1999([41]).
تحدد هذه الطريقة مستوى المؤسسات الديمقراطية ضمن عشرة مراتب، كما سنستخدم مؤشرات تتعلق بانهيار الحكومات، أو وجود مراحل انتقالية، بحيث ندخل في الحساب العوامل الخاصة التي أثرت في البلدان المدروسة على مر السنين([42]).
وأخيراً، سوف نراقب تأثير انخراط الدولة المعنية في حرب ضد دولة أخرى على المتحولات البيانية الثلاثة التي اعتمدناها، لأن من المنطقي أن تشتد ضراوة الصراع المسلح الداخلي في حال انخراط الدولة المعنية في مواجهة مع عدو خارجي، ويمكن تفسير ذلك بتعاظم المخاطر التي تهدد الحكومة. كما علينا التأكد من احتمال أن يكون القتال ضد دولة أخرى هو السبب الأول في تهجير السكان. إذن، وبهدف تغطية ذلك الجانب، سنقوم بحساب ضحايا المعارك الذين سقطوا في عام محدد خلال صراع مسلح خارجي في دولة تعاني من صراع مسلح داخلي.
ثمة دول تعاني من صراع داخلي مسلح انخرطت، في عام ما، في العديد من الصراعات الخارجية (كما هو حال إسرائيل عام 1973، عندما خاضت الحرب ضد مصر وضد سورية)، ومن ثم نقوم بجمع أعداد القتلى الذي سقطوا في كل اشكال الصراع.
لقد حصلنا على البيانات الخاصة بضحايا القتال من دراسة لـ لاسينا وغليدتش نشرت عام 2005. ونشير هنا إلى تراجع عدد المواجهات بين الدول، الأمر الذي جعل من شدة المواجهة المسلحة مع بلد آخر بمثابة مؤشر جيد لمراقبة النتائج.
وبالإضافة إلى مؤشرات الرقابة المعروفة، قمنا بإضافة بعض المؤشرات الإضافية عند القيام بفحص واحد، أو اثنين، من المتحولات البيانية الثلاثة المعتمدة، حيث قمنا بمتابعة مدة الصراع الأهلي عندما تعلق الأمر بضراوة المعارك، الأمر الذي عكس تأثير سنوات الحرب الأهلية التي مرت على الوضع في العام الذي قمنا بدراسته، كما قمنا بحساب الأثر المحتمل لاستمرارية الصراع الأهلي على ضراوة المعارك، كما أدخلنا مدة الصراع عندما تناولنا بالتحليل قضايا الإبادة/ التصفية السياسية.
لجأنا أيضاً لاستخدام مؤشر ثان للمراقبة عند دراسة مسألتي ضراوة المعارك، والإبادة/ التصفية السياسية، ألا وهو المدة الزمنية التي مرت منذ حدوث تغيير هام في المؤسسات السياسية في البلد المعني.
وقمنا باعتماد تعريف مشروع Polity Project للتغيير الهام في المؤسسات السياسية، والمتمثل في تسجيل ثلاث نقاط في مؤشرات التغيير التي حصلت خلال فترة ثلاث سنوات، أو أقل، أو خلال نهاية مرحلة انتقالية. ويتمثل الهدف من استخدام ذلك المؤشر بتحديد درجة استقرار المؤسسات السياسية في بلد يعاني من صراع داخلي.
وهناك دراسات سابقة افترضت أن التوتر السياسي الشديد يزيد من مخاطر اندلاع حرب أهلية، وحدوث حالات إبادة/تصفية سياسية. ويبدو أن ذلك مؤشر ذو دلالة، نظراً لموجة تغيير الحكومات المرتبطة بنهاية الحرب الباردة.
كما قمنا، عند معالجة مسائل الإبادة/ التصفية السياسية بإدراج قياس درجة الانفتاح التجاري، وهو أمر وجدت الدراسات السابقة أنه مرتبط بتراجع حدة مخاطر حدوث إبادة/تصفية سياسية.
تم تعريف الانفتاح التجاري بوصفه محصلة للوضع التجاري (الواردات مع الصادرات)، والنسبة المئوية التي تمثلها بالمقارنة مع نصيب الفرد من النمو الاقتصادي. ويسود اعتقاد بأن ذلك المؤشر يعكس “رغبة النخبة في الحفاظ على القواعد القانونية وعلى الممارسات الشريفة”، كما يعكس القدرة على “الاستعداد للأزمات السياسية، وعلى إدارتها، وفق هارف Harff، الأمر الذي يحد من مخاطر حدوث حالات إبادة/تصفية سياسية. وبما أن الانفتاح التجاري تعزز بشكل عام في معظم البلدان، فقد قمنا بإدراج ذلك المؤشر لضبط دراستنا([43]).
أخيراً، وعندما نصل في التحليل إلى مسألة التهجير القسري للمدنيين، فسوف نستخدم مؤشرين لمراقبة الانتشار الجغرافي للقتال، ومدى تأثر المراكز العمرانية بالمعارك، ولكن هذين المؤشرين مأخوذان من مشروع انهيار الدولة، وفق دراسة غليدتش وآل Goldstone et al المنشورة عام 2000، وسنقوم بقياس نسبة أراضي الدولة التي عاشت حالة حرب عرقية، أو حرباً ثورية.
تتوزع القيم في المؤشرين على خمسة مستويات، من 0 إلى 5، حيث يشير الصفر إلى عدم وجود معارك. وفيما يتعلق بنسبة المناطق التي عانت من الحرب إلى المساحة الكلية للبلاد، يتدرج المؤشر بحيث يعني الرقم 1 أن أقل من 10% من مساحة البلاد عانت من الحرب، ولم تحدث أضرار تذكر في المدن، في حين يشير الرقم 5 إلى أن المعارك شملت أكثر من نصف أراضي البلاد.
وكانت دراسات سابقة أشارت إلى أن اتساع المعارك على المستوى الجغرافي كان سبباً رئيساً في التهجير، وأنه عندما يدخل ذلك العامل في الحساب تتراجع أهمية مستوى ضراوة المعارك في تفسير عمليات التهجير([44]).
5.3. الامتداد الزمني
يستمر الصراع النشط في العديد من الصراعات الداخلية لمدة سنتين متتاليتين، أو أكثر، ونحن نرغب في أن ندخل في حساباتنا احتمال أن يكون مستوى ضراوة المعارك، في العام موضوع الدراسة، مرتبطاً بمستوى الضراوة في العام الذي سبقه، ولذلك سندخل، عند دراسة المتحولات البيانية الثلاثة التي اعتمدناها، مؤشر الوحدة الزمنية (عام واحد) بهدف الحد من حدة المشاكل المحتملة التي يمكن أن تنتج عن عامل الزمن.
إن إدراج المدى الزمني للصراع الداخلي يمكن أن يعكس، ايضاً، عوامل أخرى مرتبطة بالزمن قد تختلف بين مرحلتي الحرب الباردة و”الحروب الجديدة”.
وتوصلت أبحاثنا السابقة إلى تحديد العديد من المؤشرات المرتبطة بعامل الزمن التي تؤثر على التهجير القسري([45])، ولذلك سندخل هذه المؤشرات في الحساب عند قيامنا بدراسة مسألة التهجير القسري. ويمكن للقارئ الراغب بالحصول على المزيد من التفاصيل العودة إلى دراساتنا السابقة.
5.4. تصميم إطار البحث
سنقوم باستخدام تقنيات تحليل متعددة تم انتقاؤها بهدف تحديد سمات المتحولات البيانية المدروسة. وتتضمن حزمة البيانات التي استخدمناها تناول بلد ما في أكثر من تحليل (في حال كان البلد المعني عانى من صراع داخلي لمدة تزيد عن عام واحد)، وسندخل واقع وجود عدم توازن في البيانات ضمن حساباتنا بأكثر من طريقة.
إن المتغير البياني الأول الذي سندرسه قابل للتحليل باعتماد جداول تحليل عادية لكن وبهدف إدخال بنية البيانات المتوفرة في الحساب سنستخدم جدول تصويب النتائج وفق توصيات كل من Beck و Katz.
سنتعامل مع المتغير البياني الثاني من خلال عملية تتضمن أحد عشر خطوة وسنقوم بتحليل ذلك المتغير باستخدام تحليل منطقي عادي يرتبط بهوية البلد المعني لكن إذا تعاملنا مع المتغير البياني الثاني بوصفه مكافئاً لمعيار وسيط واستخدمنا جدول تصويب النتائج لحصلنا على نتائج متماثلة.
يعتبر المتغير البياني الثالث حدث يتضمن مستويات تبدأ من الصفر وصولاً إلى بعض الأرقام الصحيحة الموجبة. ومن المرجح ألا تكون الأحداث غير مترابطة حيث أن قرار شخص بالهرب غير منفصل عن قرار أشخاص آخرين بالبقاء أو الفرار.وثمة نموذج ثنائي الحد للتعامل مع بيانات مماثلة استخدمه كل من (King, 1989: 126) و Long, 1997: 230-236) قمنا، بما يتوافق مع الدراسات الحديثة، باستخدام نموذج تحليل ثنائي الحد لا يسمح بحدوث مبالغات (ZINB) بهدف تقويم النماذج التي اعتمدناها في تحليلاتنا واعتمدنا العام وحدة زمنية لقياس المتحولات البيانية الثلاثة.
- التحــليـــل والنـتـائـــج.
سنقوم في هذه الفقرة بعرض طبيعة البيانات التي استخدمناها لقياس ضراوة “الحروب الجديدة” وسنستخدم تقنيات تحليل متعددة لنختبر واقع أن تكون حقبة “الحروب الجديدة” عززت ضراوة الحروب الأهلية
وسنعرض نموذج كامل مع مؤشرات مراقبة لكل واحد من المتحولات البيانية المدروسة ثم سنقوم بوضع نموذج وفق خطوات متتالية وننقيه من المؤشرات الأقل دلالة بحيث يتبقى لدينا مؤشرات ذات دلالة من مستوى 0.10 أو أفضل.
6.1 ضــراوة المــعـــارك
يظهر الشكل التالي عدد قتلى المعارك في كل بلد من البلدان المتورطة في صراع مسلح داخلي واحد على الأقل.[46]
قمنا باستبعاد الأعوام من 1946 حتى 1949 بحيث تكون النتائج الخاصة بالعقد الخامس من القرن العشرين أكثر وضوحا”، مع الإشارة إلى أن الفترة التي تم استبعادها هدت الحرب الأهلية الصينية شديدة الدموية وتسببت بمصرع 200-350 ألف قتيل سنوياً ولو أننا أدخلنا القيم الخاصة بتلك الحرب لحصلنا على انحراف كبير في بيانات تلك الأعوام.
الشكل رقم 3: متوسط عدد قتلى المعارك في مختلف البلدان في الفترة ما بين 1950-2002.
يبين الشكل رقم 3 بوضوح أن عدد قتلى الصراعات الأهلية، خلال حقبة الحرب الباردة، كان أعلى من عدد قتلى “الحروب الجديدة”، ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أننا اعتمدنا تصنيف البيانات الذي وضعه لاسينا وغليدتش عام 2005. وبالتالي، قد اعتبرنا حربي كوريا وفيتنام حربين داخليتين، ولو أننا قمنا باعتبار هذين الصراعين، الذين اتسما بدموية شديدة، صراعين دوليين، لكان مستوى ضراوة الحروب الأهلية في حقبة الحرب الباردة أشد بكثير.
لكن، وعلى الرغم من الدلالة الواضحة لهذا الشكل البياني، فإننا سنقوم بإجراء مجموعة متعددة من التحليلات بهدف تحديد ما إذا كانت “الحروب الجديدة” أكثر دموية، بشكل واضح، في حال أدخلنا في الحساب مجموعة المؤشرات التي وضعناها لمراقبة النتائج.
وسنعرض، من خلال الجدول رقم 2، ما توصلنا إليه من نتائج فيما يتعلق بضراوة المعارك، من خلال قياس الأضرار المرتبطة بالمعارك.
*** p<.01, ** p<.05, * p<.10
الأرقام الموضوعة بين هلالين هي محصلة تطبيق نموذج تصويب النتائج
إذن، وبشكل متواز مع النتائج المتعلقة بضراوة المعارك، فإن الحروب الأهلية التي تلت حقبة الحرب الباردة هي أقل دموية من حروب مرحلة الحرب الباردة. وعليه فإن النتائج التجريبية تظهر مجدداً ما يعاكس ما طرحه منظرو “الحروب الجديدة”.
في النموذج المعدل، أدرجنا مؤشراً يتعلق بنمط وطبيعة الحكومة القائمة، ومؤشراً يتعلق بالمتغيرات المرتبطة بها، بهدف التقاط أية علاقة ممكنة مع مستوى الديمقراطية، واحتمال أن يشهد الصراع الأهلي عمليات إبادة / تصفية سياسية، ووجدنا أن المخاطر تكون في أعلى مستوياتها في الدول شبه الاستبدادية التي تقع في وسط سلم مستويات الديمقراطية، وتكون المخاطر أقل في الدول ذات التوجهات الديمقراطية الكاملة، وفي أقل مستوياتها في الدول الديمقراطية.
6.2. عدد القتلى المدنيين
يبين الشكل رقم 5 مسارات عمليات الإبادة/التصفية في كل بلد من البلاد التي شهدت صراعاً أهلياً نشطاً واحداً على الأقل، في الفترة ما بين 1955- 1996.
الشـــكـــــل رقـــــم 4: مستويات حالات الإبادة / التصفية السياسية في البلدان التي شهدت حروباً أهلية بين 1955-1996.
مرة أخرى يتبين من المخطط البياني أن الصراعات الأهلية، خلال حقبة الحرب الباردة، شهدت ممارسات عنيفة ضد المدنيين بشكل يزيد عما شهدته “الحروب الجديدة” التي دارت في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
ويظهر الجدول رقم 3 نتائج تحليلنا متعدد المستويات للعنف الذي استهدف المدنيين
إذن، وبشكل متواز مع النتائج المتعلقة بضراوة المعارك، نجد أن الحروب التي تلت حقبة الحرب الباردة كانت أقل فظاعة، بشكل واضح، مقارنة مع حروب فترة الحرب الباردة، حيث تمضي النتائج التجريبية بعكس اتجاه طروحات منظري “الحروب الجديدة”.
ضم النموذج المعدل مؤشراً للرقابة يتعلق بطبيعة النظام، والجدول التربيعي المرتبط به، حيث أن هذين العاملين يبرزان مستوى العلاقة بين مستوى الديمقراطية واحتمال أن يتضمن الصراع الأهلي عمليات إبادة / تصفية سياسية. وتكون مخاطر حدوث ذلك عالية في الدول شبه الاستبدادية التي تحتل درجة متوسطة في سلم قياس مستوى الديمقراطية، وتميل المخاطر إلى الانخفاض في الدول المتمسكة بالديمقراطية، وتنخفض المخاطر إلى أدنى مستوياتها في الدول الديمقراطية.
6.3. عدد المهجرين المدنيين.
يظهر الشكل رقم 5 الاتجاه العام في الفترة ما بين 1981-1999 فيما يتعلق بعمليات التهجير في كل بلد من البلدان التي شهدت صراعاً أهلياً. وبالإضافة إلى العمود الذي يبين متوسط عدد المهجرين، أضفنا خطاً يعكس الميل الخطي، ومنحنىً يبين الرابط بين اتساع الهجرة القسرية والعام المدروس.
يفترض الشكل رقم 5 أن عدد المدنيين المهجرين بلغ الذروة مع اقتراب نهاية الحرب الباردة، وهو ما ينسجم مع واقع أن عام 1992 شهد أكبر عدد من الصراعات الداخلية على مستوى العالم، مقارنة بأية حقبة أخرى.
ومن البديهي أن فظاعة “الحروب الجديدة”، كما تعكسها عمليات التهجير القسرية التي طالت المدنيين، ستتأثر بشكل كبير في حال اعتبرنا عام الذروة (1990) جزءاُ من الحرب الباردة، أو جزءاً من مرحلة “الحروب الجديدة”. ونظراً لأن الحروب الداخلية بلغت ذروتها في الفترة التي واكبت نهاية الحرب الباردة، فإننا نجد أن من الضروري الاهتمام بتحليل عامل الزمن بشكل أعمق، ولذلك قمنا بتقسيم البيانات على أربعة مراحل زمنية هي: 1981- 1984 و1985- 1989 و1990-1994 و1995-1999، واستخدمنا المؤشرات الخاصة بالمراحل الأربعة عندما انتقلنا إلى مرحلة التحليل.
الــــــشـــــــكـــــــل رقم 5 المحور الأفقي : السنوات في حين يتضمن المحور العمودي مستوى عمليات التهجير.
2000 1995 1990 1995 1980
يبين الجدول رقم 4 نتائج التحليلات المتعددة المتعلقة بتهجير المدنيين، والتي حصلنا عليها بعد أن أدخلنا في الدراسة عامل الوقت، بالإضافة إلى الخطوط البيانية الخاصة بمراقبة التحليل. واعتبرنا فترة 1990-1994 عامل مقارنة، ولذلك لم ندرجها في التحليل. ونشير هنا إلى أن النموذج الثنائي تضمن معادلة لحساب التضخم في القسم السفلي من الجدول، ومعادلة حسابية في القسم العلوي منه.
إن المعادلة الخاصة بحساب التضخم هي بمثابة تحليل لوغاريتمي لمتحولات بيانية تتعلق باحتمال عدم حدوث حالات تهجير في عام ما، في حين أن المعادلة الحسابية تمثل تحليلاً ثنائياً سلبياً للمتحولات البيانية الخاصة بعدد الأشخاص الذين هجروا قسراً في عام محدد (بعد تصويب النتائج واعتبار نسبة التضخم معادلة للصفر).
وفيما يخص المعادلة الحسابية المستعملة في القسم العلوي من الجدول، فقد استخدمنا معامل IRR الذي يمثل عدد المهجرين في وحدة زمنية، مع اعتبار باقي القيم المستخدمة ثابتة. وعليه فإن معامل IRR= 1.0 يدل على عدم وجود تغير في العدد المتوقع للمهجرين، حيث يكون هناك ارتفاع في عدد المهجرين في حال كانت قيمة ذلك المعامل أكبر من واحد، ويكون هناك تراجع في العدد المتوقع في حال كانت قيمة المعامل أقل من واحد.
الجـــــدول رقـــــم 4 : تهجــــيــــر المدنيين
*** p<.01, ** p<.05, * p<.10
يظهر الجدول 4 وجود ذروة إحصائية واضحة في التهجير القسري في فترة 1990-1994، وهي الفترة التي واكبت نهاية الحرب الباردة. ونلاحظ أن الفترات الزمنية الثلاث الأخرى، 1981-1984 و1985-1989 و1995-1999، شهدت موجات تهجير أقل شدة بالمقارنة مع فترة 1990-1994.
وتتمثل النقطة الأهم في واقع تراجع حدة التهجير في خضم الصراعات الأهلية، في فترة 1995-1999 الأقرب إلينا، وهو أمر ينطوي على دلالة كبيرة وجوهرية فيما يتعلق بأثر الصراع المسلح.
إذن، ليس هنالك بيانات تدعم القول بأن الصراع الأهلي، في الفترة التي تلت الحرب الباردة، تسبب بشكل عام بموجات هجرة قسرية أوسع، كما نلاحظ أن عدد الصراعات الأهلية بلغ الذروة في بداية عقد التسعينيات من القرن المنصرم، حاله في ذلك حال أعداد المهجرين من المدنيين.
وإذا أجرينا مقارنة بين الفترة الأقدم (1981-1984)، والفترة الأقرب إلينا (1995-1999 )، مع فترة (1990-1994)، سنجد أن بداية عقد التسعينيات تسبب في عمليات تهجير واسعة. وربما يعود ذلك إلى تفكك مجموعة من الدول والإمبراطوريات متعددة الانتماء الإثني، وما رافق ذلك من إعادة رسم الحدود الدولية، وليس نتيجة لتغير طبيعة الحروب الأهلية.
إن الحقب التاريخية السابقة التي شهدت تفكك إمبراطوريات، وإعادة رسم حدود، شهدت بدورها موجات تهجير واسعة (تقسيم الهند عام 1947، وحالة ألمانيا في الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، وحالة الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى). وباستثناء فترة ذروة التهجير، في الأعوام 1990-1994، لم تشهد مرحلة ما بعد الحرب الباردة تصاعداً في عدد المهجرين المدنيين، وبالتالي تتعارض النتائج التي توصلنا إليها مع طروحات “الحروب الجديدة” فيما يتعلق بتهجير المدنيين.
وقد بين النموذج المعدل، بالاستناد إلى المتغيرات التي اعتمدناها لضبط النتائج، أن شدة المعارك، وانتشارها على المستوى الجغرافي، ساهما في عمليات التهجير القسري إبان الحروب الأهلية، كما أن انهيار الحكومة، أو قيام حكومة انتقالية، ترافقا مع زيادة في عدد المهجرين، مع الإشارة إلى أن الدول الأكثر تطوراً على المستوى الاقتصادي شهدت موجات تهجير أقل اتساعاً.
.6.4 نسبة الضحايا المدنيين إلى الضحايا العسكريين
كان سبق لنا أن أشرنا، في مقدمة الدراسة، إلى وجود ثغرة في البيانات الخاصة بنسبة كل من المدنيين والعسكريين في أعداد الضحايا. وبالتالي، لا يمكننا إخضاع طروحات “الحروب الجديدة”، الخاصة بهذه النقطة، إلى اختبار مباشر، لكننا نمتلك بيانات منهجية عن ضحايا المعارك، وعن القتلى والمهجرين من المدنيين.
وتتضمن بيانات ضحايا المعارك معلومات حول القتلى من المدنيين والعسكريين الذين سقطوا أثناء القتال، لكنها هذه البيانات لا تتضمن معلومات تتعلق بممارسات عنف استهدفت المدنيين بشكل مباشر (مجازر أو تطهير عرقي أو عمليات إبادة).
وإذا كانت نسبة الضحايا المدنيين والعسكريين شهدت تغيراً وفق طروحات وأدبيات “الحروب الجديدة”، فسوف نكون قادرين على كشف ذلك بطريقة غير مباشرة، من خلال التعامل مع عدد ضحايا المعارك بوصفه الثابت، ومن ثم نتابع المتحول البياني الخاص بكل من القتلى والمهجرين من المدنيين.
أولاً، وبالعودة إلى النتائج التي تضمنها الجدول رقم 3، نرى أنه إذا اعتبرنا مؤشر شدة المعارك هو الثابت، فإننا نلاحظ تراجعاً في عدد القتلى المدنيين، وبناء على ذلك، تكون نسبة الضحايا المدنيين إلى العسكريين أقل في فترة “الحروب الجديدة” مقارنة مع حقبة الحرب الباردة.
ثانياً، وكما سبق لنا الإشارة، فلو كانت نسبة قتلى المعارك من المدنيين أعلى في فترة “الحروب الجديدة”، فذلك يعني حكماً أن خطر الصراعات أصبح أشد، وصار يمثل تهديداً مريعاً بالنسبة للمدنيين، الأمر الذي يجب أن يتسبب بارتفاع مستويات هجرة المدنيين، وفق ما جاء في العديد من الدراسات، مثل دراسة Davenport; Moore & Poe الصادرة عام 2003، ودراسة Melander & Öberg الصادرة عامي 2004 و2006، ودراسة Moore & Shellman الصادرة عام 2004، وكذلك دراسة Schmeidl الصادرة عام 1997.
إن النتائج المدرجة في الجدول رقم 4 تظهر أن عمليات التهجير وصلت إلى الذروة في فترة 1990-1994، وعادت بعدها للتراجع بشكل واضح، وبناء عليه نستنتج عدم وجود ما يدعم الطرح القائل بارتفاع نسبة الضحايا من المدنيين بشكل كبير في فترة “الحروب الجديدة”.
ومن الجدير بنا الإشارة هنا إلى أننا وصلنا إلى هذه النتيجة عن طريق استقراء غير مباشر للبيانات، لكننا إذا ما اعتبرنا شدة المعارك تمثل الرقم الثابت، فمن غير المرجح القول بحدوث تغيير ملموس في نسبة الضحايا المدنيين دون أن ينعكس ذلك على أعداد القتلى والمهجرين من المدنيين.
7- الخـــلاصــــة والاســـتـــنـــتاجـــات
نأمل في أن نؤدي البيانات والتحليلات التي عرضناها إلى المساهمة في تبديد بعض الأساطير المرتبطة بـ ”الحروب الجديدة”، لكن قولنا ذلك لا يعني أبداً أننا نرغب في نفي وجود أي شيء منطقي في أدبيات “الحروب الجديدة” التي تعمقت في دراسة طبيعة الصراعات الأهلية، وتمكنت من تبديد بعض الأساطير السابقة، مثل تلك المتعلقة بالمتمردين وبدوافعهم. وكل ما أردنا قوله هو أن التغيير لم يمس طبيعة الصراعات الأهلية، بل إن ما تبدل هو طريقة النظر إلى تلك الصراعات، والأمر الوحيد الذي تغير منذ نهاية الحرب الباردة هو اقتصاديات الصراع، حيث تراجعت سلطة الأطراف الخارجية على كل من الحكومات والمتمردين، وبشكل ملحوظ، منذ نهاية الحرب الباردة (وربما تؤدي “محاربة الإرهاب” إلى عودة الأمور إلى سابق عهدها).
أدى الوضع الجديد إلى دفع أطراف الصراع الداخلي إلى الاعتماد بشكل متزايد على الموارد البديلة، مثل قيام المتمردين بفرض الخوات والخطف، واللجوء إلى مصادر تمويل غير قانونية، مثل الاتجار بالمخدرات وغيرها. وهنا نعيد القول بأن مصادر التمويل هذه ليست بالجديدة، على الرغم من أنه سبق أن تم استبدالها، في حقبة محددة، بالدعم المقدم من القوى العظمى التي تنافست أثناء الحرب الباردة.
منشورات جامعة أبسالا في السويد
The ‘New Wars’ Debate Revisited: An Empirical Evaluation of the Atrociousness of ‘New Wars’
[1]– انظر (Cf Henderson & Singer, 2002; Kalyvas, 2001; Newman, 2004).
[2]– انظر (Cf Kalyvas, 2001; Lacina, 2006; Lacina; Gledistch & Russett, 2006; Lacina & Gleditsch, 2005; Mack, 2005; Newman, 2004).
[3] – انظر (Davenport; Moore & Poe, 2003; Melander, 2006; Melander & Öberg, 2006; Moore & Shellman, 2004; Schmeidl, 1997).
[4] – قدم Bethany Lacina نتائج مماثلة باستخدام البيانات ذاتها لكن باعتماد تصميم مختلف للبحث.
[5] انظر Duffield, 2001; Gray, 1997; Holsti, 1996; Kaldor, 1999; snow, 1996).
[6] فعلى سبيل المثال يقول Holsti أنه من غير الممكن تفسير اتجاهات ونماذج الحروب الجديدة باستخدام الأدوات النظرية المستخدمة في تحليل السياسات الدولية خصوصا” عندما يتعلق الأمر بتحليلات مدرسة الواقعية الجديدة (Holsti, 1996: 25).
[7] انظر( Henderson & Singer, 2002)
[8] انظر (Kaldor, 2002: 107)
[9] انظر (Gray, 1997)
[10] انظر Collier & Hoeffler, 2001; Fearon & Laitin, 2003).
[11] انظر (Kaldor, 2002: 6).
[12] انظر (Holsti, 1996: 36-40; Kaldor, 2002: 5, 29).
[13] انظر (snow, 1996: 100-102).
[14] انظر( Kaldor, 2002: 13-30).
[15] انظر(Duffield, 2002; Holsti, 1996)
[16] انظر(Brzoska, 2004: 109).
[17] انظر (Shaw, 1999).
[18] انظر (Hegre et al., 2001; Russett & Oneal, 2001).
[19] انظر (Kaldor, 1999, 2002)
[20] انظر (Duffield, 2000; Kaldor, 1999).
[21] انظر (Kaldor, 2002: 28).
[22] انظر (snow, 1996: 46)
[23] انظر ( Kaldor (Kaldor, 2002: 100) and snow(وsnow, 1996: 111).
[24] انظر (Kaldor, 2002: 90).
[25] – انظر (Eppler, 2002; Munkler, 2002; Shaw, 1999).
[26] – للتمعن والتعمق في هذا انظر (Kaplan, 1994).
[27] – (Gleditch et al., 2002; Harbom and Wallensteen, 2005
[28] انظر (Gleditsch et al., 2002: 621).
[29] انظر (Kaldor, 2002: 79, 98)
[30] انظر (Kaldor, 1999; Kaldor, 2002; snow, 1996)
[31] أخطأت كالدور في إيراد هذا الرقم الذي يعود إلى عام 1974، في حين يشير تقرير المفوضية السامية للاجئين الصادر عام 2000 إلى أن عدد اللاجئين كان 2.99 مليون
[32] قامت كالدور بدمج أرقام خاصة بمجموعتين، المهجرين داخل لبلاد والأشخاص الذي عادوا إلى مناطقهم لكن يظل رقم المهجرين داخل بلادهم الذي قدمته المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة هو الأكثر قبولا” نظرا” لأن المهجرين الذين عادوا إلى مناطقهم فقدوا صفة المهجرين لكن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تعتبرهم كذلك حتى مرور سنتين على عودتهم وبالتالي يكون الرقم الأصح هو أربعة ملايين كما هو وارد في الصفحة 309 من تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
[33] انظر (snow 1996:)
[34] انظر (Kaldor, 2002: 100).
[35] يعود التباين في الرقمين إلى عدم توفر البيانات الموثوقة حول المتحول البياني.
[36] انظر (Collier et al., 2003)
[37] انظر (Lacina)
[38] انظر (Harff, 2003a)
[39] انظر (Davenport; Moore & Poe, 2003; Melander & Öberg, 2006; Moore & Shellman, 2004; Schmeidl, 1997).
[40] انظر (e.g., Fein, 1995; Hegre et al., 2001).
[41] تم استخدام القائمة التي تتلاءم مع الفترة التي تم خلالها إنجاز مجموعة التحليلات التي نعرضها.
[42] في إطار مشروع Polity2 نجد أن الأعوام التي صنفت تحت الرقم -88 تشير إلى فترات انتقالية تم خلالها إقامة مؤسسات جديدة وقد قمنا بتقسيم المرحلة الانتقالية بهدف تفادي وجود نقص في البيانات نظرا” لعدم توفر القيم المطلوبة.في حين يشير الرمز – 77 إلى انهيار تام في السلطة السياسية المركزية ولهذا تم إعادة تصنيفها واعتبار محصلة حساب مستوى الديمقراطية فيها مساو للصفر. فعلى سبيل المثال كان محصلة حساب POLITY في دولة (س) عام 1957 هو -7، تلتها ثلاث سنوات لمحصلة – 88 وأخيرا” وصلنا إلى محصلة + 5 في عام 1961. إن محصلة التغيير (+12 ) ستوزع على السنوات الثلاث بهدف تحديد التغيير الحاصل في كل سنة وبالتالي يكون المحصلة هي – 7 عام 1957 و – 4 عام 1958 و – 1 عام 1959 و +2 عام 1961 و+ 5 عام 1961
انظر http://www.cidcm.umd.edu/inscr/polity/index.htm.
[43] كما تم تحديد ارتباط عكسي بين مستوى الانفتاح التجاري ومخاطر حدوث حرب أهلية (de Soysa, 2002).
[44] انظر (Melander & Öberg, 2004, 2006)
[45] انظر (Melander & Öberg, 2006)
[46] على سبيل المثال نجد أنه في عام 1955 كان هناك أربعة بلدان تعيش صراعاً داخلياً مسلحاً كالأرجنتين (900 قتيل)، وإسرائيل (143 قتيلاً)، وميانمار (600 قتيل)، وفيتنام (1000 قتيل). وبالتالي، تكون الأرقام الخاصة بعام 1955 وفق التالي :(900+143+660+1000)/ 4= 676.
2 comments