المقدمة
أُناقش في هذا البحث مشروعاً سياسياً كوزموبوليتياً باعتباره وسيلة للاستجابة لانتشار ما أدعوه “الحروب الجديدة”. واقترح إمكانية اعتبار هذا النقاش وسيلة لاستنتاج المزيد عن حالة عامة لمشروع سياسي كوزموبوليتي، وذلك لثلاثة أسباب:
أولاً، ربما تتضح القطيعة مع الحداثة الكلاسيكية المتصلة بعملية العولمة بشكل حاسم من خلال التغيرات في نمط العنف المنظم. ويمكن وصف القرن العشرين بالحقبة التي وصل فيها نظام الدولة القومية إلى ذروته، وعلى الأرجح أن هذه الفترة تُذكّرنا بالوحشية المريعة للنظام الشمولي والحرب. ولكن القرن العشرين يمكن أن يُذكر أيضاً في المستقبل على أنه العصر الذي استنفد فيه نظام الدولة القومية نفسه، والعصر الذي أُلغيت فيه الظاهرة الدولتية هذه (الشمولية والحرب بين الدول)، تماماً كالرق في فترة سابقة.
ثانياً، ما أدعوه “حروباً جديدة” هو أقصى مظاهر تآكل الاستقلال الذاتي للدولة – الأمة تحت تأثير العولمة. وذلك على النقيض من حروب الحداثة، حيث كانت الدول قادرة على إدارة مواردها وتعزيز قدراتها الإدارية. ويمكن وصف هذه الحروب على أنها حروب انهيارات الدول. وتستند الحالة العامة للديمقراطية الكوزموبوليتية على الحجة القائلة بأن الديمقراطية على المستوى الوطني تأخذ بالضعف من خلال تآكل استقلال الدولة وتقوض قدرتها على الاستجابة للمطالب الديمقراطية (هيلد، 1995). وفي الحالة الخاصة للمجتمعات التي مزقتها الحرب، فإن الانهيار لا يلحق فقط بالديمقراطية، بل وبالتوافق الذي يعتمد عليه حكم الدولة بفعل تأثير العولمة.
ثالثاً، ترتبط شرعية المؤسسات السياسية ارتباطاً وثيقاً بالحماية الجسدية للمواطنين. ويمكن أن يُنظر إلى الحروب الجديدة على أنها “إخفاقات حماية” (جونز 1999). وسوف تشكل الطريقة التي تُقدم من خلالها الحماية مستقبل المؤسسات السياسية. وقد يعتمد المدى الذي يمكن من خلاله ترديد دعوة “ديوجين” بأن نكون مواطنين عالميين (politês Kosmou) على ما إذا كانت هذه الحماية (على الأقل في مواجهة التهديدات التي تلحق بالأمن الجسدي) مضمونة على المستوى العالمي.
سأقوم بتطوير هذا النقاش بطريقة تخطيطية. أولاً، وسوف أضع تعاريفي عن العلاقات بين المجتمع المدني والحرب داخل نظام الدول. ثم سأقوم بتقديم ملخص موجز عما أعنيه بـالحروب الجديدة. وفي القسم الثالث، سأقترح طريقة لتصنيف الإتجاهات المختلفة للسياسات العالمية وسأقوم بتفصيل ما هو المقصود بمشروع سياسي كوزموبوليتي. وفي القسم الأخير، سوف استعرض كيف يمكن لمشروع كوزموبوليتي أن ينطبق على الحروب الجديدة.
الحرب والمجتمع المدني ونظام الدول
اعتمد منظرو المجتمع المدني في القرن السابع عشر، خلال نقاشاتهم، على مفهوم العقد الإجتماعي.
وبالنسبة لهم، فإن المجتمع المدني (societas civilis) يعني حكم القانون، حيث يتخلى المواطنون عن حريتهم في حالة الطبيعة مقابل ضمان حقوق معينة: الأمن بالنسبة لـ هوبز، إضافة إلى الحرية والملكية بالنسبة لـ لوك. وشملت التعريفات اللاحقة حول المجتمع المدني فكرة المواطنة الفاعلة التي تقوم بمراقبة انتهاكات العقد الإجتماعي من قبل الدولة.
أقوم بتعريف المجتمع المدني كوسيلة يمكن من خلالها إجراء التفاوض وإعادة إنتاج العقد الإجتماعي بين المؤسسات الحاكمة والمحكومين. ويشمل ذلك الأهميات المحددة – الاتفاقيات الدستورية والطاولات المستديرة مثلاً – بالإضافة إلى الضغط الذي يمارسه الرأي العام اليوم عبر وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والكنائس والمنظمات غير الحكومية وإلى ما هنالك من وسائل. وعليه فإن المجتمع المدني يرتبط، وعلى نحو وثيق، بالحقوق الفردية.
ارتبط ظهور المجتمع المدني في الغرب ببناء الدول الحديثة وبالحروب بين الدول. وما دعاه نوربرت الياس بـ “العملية الحضارية – نزع العنف من الحياة اليومية داخل حدود الدولة – قد ارتكز على إنشاء الاحتكارات العامة للعنف والضرائب. ويتميز مجتمع ما نسميه بالعصر الحديث، بداية في الغرب، بمستوى معين من الاحتكار. فقد رُفضت حرية استخدام الأسلحة الفردية، وتم الاحتفاظ باستخدامها من قبل سلطة مركزية مهما يكن نوعها، وكذلك الأمر بالنسبة لفرض الضرائب على الممتلكات أو دخول الأفراد حيث يتركز في يد سلطة اجتماعية مركزية. وبالتالي، فإن الموارد المالية التي تصب في هذه السلطة المركزية إنما تحافظ على احتكارها للقوة، في حين أن ذلك يحافظ بدوره على احتكار الضرائب. وبذلك لا تكون لأي منهما الأسبقية على الآخر، بل هما وجهان للاحتكار نفسه” (الياس، 1982، ص 104).
ويُعتبر التوازن بين مصالح الحاكم (خاصة)، ومصالح أعضاء ما أطلق عليه الياس اسم “دولة المجتمع المنظم” (عامة)، بمثابة النقطة الحاسمة لعملية الاحتكار هذه، فـالتحول من الاحتكار الخاص إلى الاحتكار العام، ومن الحكم الديكتاتوري المطلق إلى الدولة القومية، كان جزءاً من عملية بناء الدولة، وجزءاً من تركيز وسائل العنف والضرائب، لأنه يتطلب أجهزة إدارية معقدة ومتخصصة، وترابطاً اجتماعياً، والتي تقيد بدورها قوة الحاكم.
كان إنشاء الاحتكارات العامة هذه، كما أظهرت تيلي، مرتبطاً بشكل وثيق بالحرب ضد الدول الأخرى. (تيلي 1990). وأصبحت الحرب بين الدول الشكل الشرعي الوحيد للعنف المنظم، علاوة على أنها تميزت بشدة عن السلم.
وبدلاً من حالة حرب مستمرة، أصبحت الحرب حلقة منفصلة، وتم الاحتفاظ بها لاستخدامها ضد دول أخرى، واُستبعدت من العلاقات الداخلية. وكان يتم تعزيز إحلال السلام الداخلي (القضاء على الجيوش الخاصة والحد من الفساد وجرائم العنف والقرصنة واللصوصية) وتنمية الضرائب والاقتراض العام وتنظيم القوات المسلحة وقوات الشرطة وتطوير المشاعر القومية في زمن الحرب. ويمكن القول أن العقد الاجتماعي المرتبط ببناء الدولة القومية بشكل خاص، قد يتخذ الشكل التالي: ضمان الحقوق المدنية والسياسية مقابل دفع الضرائب والقتال في الحروب. وتم تبادل الحقوق الفردية التي يتمتع بها المواطنون في وقت السلم لإلغاء هذه الحقوق في زمن الحرب. وأصبح المواطنون في زمن الحرب جزءاً من مجموع، من أمة، وعليهم أن يكونوا مستعدين للموت من أجل الدولة.
وفي مقابل حصولهم على الحقوق المدنية الفردية والسياسية في زمن السلم، يقبل المواطنون بنوع من المسؤولية غير المحدودة في زمن الحرب. وبالتالي، فإن نوربرت الياس، الذي كتب تماماً قبل الحرب العالمية الثانية، خشي من العصف بالعملية الحضارية بفعل وحشية الحرب.
وفي بعض الأحيان وصفت الحروب بين الدول بالحروب الـ “كلاوزفيتزية”. ذلك أن حروب الحداثة الكلاسيكية تتصف بنوع من المنطق المتطرف الذي قام كلاوزفيتز بتحليله جيداً. وحيث أصبحت الحرب أكثر تطرفاً وإرهاباً، فقد تم تمديد العقد الاجتماعي ليصل إلى نقطة نهايته المنطقية خلال فترة الحرب الباردة.
وخلال هذه الفترة، على وجه الخصوص، كانت هناك مكاسب غير مسبوقة في مجال الاقتصاد والحقوق الاجتماعية، ولكن المخاطر كانت تتضخم بشكل دراماتيكي، وثمن هذه المكاسب كان الاستعداد للمجازفة بحرب نووية.
كان ذلك هو جوهر التسويات السياسية التي جرت أواخر عام 1940 بين الديمقراطيين والجمهوريين في الولايات المتحدة (حيث احتفظ الديمقراطيون بحكومة كبيرة مقابل حملة صليبية ضد الشيوعية)،
وبين أوروبا وأمريكا (حيث يمكن للحزب الاشتراكي الديمقراطي أن يصل إلى السلطة مقابل الموافقة على الناتو) (كالدور، 1990).
وينبغي التأكيد، كما يفعل غلنر، على أن المجتمع المدني كان ظاهرة غربية (غلنر، 1994)،
وأن “العملية الحضارية” بالكاد تجاوزت نخبة حضرية صغيرة، سواء في الإمبراطوريات الاستعمارية، أم
الإمبراطوريات الشرقية. ومع ذلك، سيكون من الخطأ معاملة هذه الإمبراطوريات، أو إمبراطوريات مرحلة ما بعد الاستعمار، و/ أو ورثة الشيوعية، كدول تقليدية. فقد كانت، إلى حد ما، دولاً حديثة قائمة على خليط من القبول والإكراه. ولكن القبول، بالنسبة للجزء الأكبر، كان يتم من خلال تعبئة الأيديولوجيات الشعبوية المجتمعية بإطر قومية أو اشتراكية كتعبير عن التنوع الدولي، وليس من خلال العقد الاجتماعي المرتكز على الحقوق. وكان التمييز بين الحرب والسلام، في هذه المجتمعات، أقل حدة، حيث سادت أشكال جمعية للتنظيم الاجتماعي، وفُرضت قواعد من فوق بدلاً من الاتفاق عليها عبر عملية تفاوضية. وبعبارة أخرى، كان التنظيم الجمعي للحرب في هذه المجتمعات العنصر البارز لبناء الدولة أيضاً. لكن التوازن بين القبول والإكراه، في هذه المجتمعات، كان يميل نحو الإكراه، واتجهت أشكال التنظيم الاجتماعي التي سادت في زمن الحرب للإستمرار في زمن السلم.
ويمكن تفسير التغييرات في نظام الدول، بحسب هذا التحليل، من خلال ظاهرتين.
في المقام الأول، كان العقد الاجتماعي لفترة الحرب الباردة موضع شك. فمن جهة، لم يعد الاستعداد للمخاطرة بالحياة في الحرب، بعد فيتنام، تلقائياً. وبالفعل فقد نمت، عام 1980، حركات جماهيرية ضد الحرب النووية. ومن جهة أخرى، فإن تزايد إجماع الآراء الليبرالية الجديدة وانتشار العولمة قوّض ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
وثانياً، كان التمييز بين المجتمعات الغربية وغير الغربية ينهار تحت تأثير العولمة. فمن جهة، تقوضت قدرة الدول غير الغربية على تحمل المشاريع الشعبوية داخل المجتمعات المغلقة. ومن جهة أخرى، يوفر الترابط المتزايد، على الصعيدين السياسي والثقافي، بعض الحماية للأفراد الساخطين، ويسمح لهم بالمطالبة بتوسيع الحقوق السياسية والمدنية، ما سيسهم بدوره في الإسراع بانتشار العولمة. وبحسب ما صاغه بيك :”تنهار المعايير التي تصوغ المجتمع العالمي (التمييز بين البلدان المتطورة بشكل كبير والبلدان الأقل تطوراً، وبين التقليد والحداثة). وفي النموذج الكوزموبوليتي للحداثة الثانية، تتشارك المجتمعات غير الغربية نفس الأفق المكاني والزماني مع الغرب” (بيك، 2000).
العولمة والحروب الجديدة
العولمة هي عملية واسعة تنطوي على الترابط والإقصاء، والاندماج والتجزؤ، والتجانس والتنوع. وتعتبر أزمة سلطة الدولة المصدر الأساسي للحروب الجديدة، وفقدان عميق للشرعية الذي أصبح واضحاً في دول ما بعد الاستعمار، بين فترة السبيعنيات والثمانينيات، وفي دول ما بعد الشيوعية فقط بعد عام 1989. ويعد فشل أو استنزاف المشاريع التحررية الشعبية مثل الاشتراكية، أو التحرر الوطني، خاصة تلك التي تم تنفيذها ضمن إطار مجتمعي سلطوي، جزءاً من قصة تلك الأزمة. ولكن هذا الفشل لا يمكن فصله عن تأثير العولمة. وما هو جديد في أزمة سلطة الدولة في 1980 و1990، ببساطة، ليس الصفة غير المكتملة لـ “العملية الحضارية” في المجتمعات غير الغربية، بل يمكن أن يكون نقيض ذلك: تفكك العملية.
وحيث أن احتكار العنف وفرض الضرائب آخذان بالتآكل، فإن التوازن بين القطاعين العام والخاص، والداخلي والخارجي، قد تغير. فمن جهة، تحول التوازن بين القطاعين العام والخاص نتيجة لإرث الاستبداد واستمرار الجماعات الحاكمة لفترة طويلة، أو فشل المشاريع الشعبوية في هذه المناطق المعرضة للصراع. وغالباً ما تميل النظم الاقتصادية المركزية، بشكل خاص، إلى إحداث نقص في الموارد التي تم تحصيصها وفقا لـشبكات شخصانية وذات امتيازات. ومن جهة أخرى، فقد تغير التوازن، بين الداخلي والخارجي أيضاً، نتيجة لتزايد الترابط على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويمكن للدمج بين الخصخصة والعولمة أن يؤدي إلى عملية هي تقريباً عكس العملية التي تم من خلالها بناء الدول الحديثة. ويؤدي الفساد والمحسوبية إلى تآكل قاعدة الإيرادات الضريبية بسبب انخفاض الشرعية، وتزايد عدم القدرة على جمع الضرائب، وبسبب تراجع الاستثمارات (العامة والخاصة)، وبالتالي تراجع الإنتاج. ويؤدي انخفاض العائدات الضريبية إلى تزايد الاعتماد على المصادر الخارجية والمصادر الخاصة، وذلك من خلال السعي للإيجار، أو ممارسة الأنشطة الإجرامية، على سبيل المثال.
ونتيجة لتقلص القاعدة المالية، فضلاً عن ضغوط المانحين الخارجيين للاستقرار الاقتصادي الكلي والتحرر (الذي يمكن أن من يخفض عائدات التصدير أيضاً)، تكون هناك تخفيضات في الإنفاق العام بالإضافة لتقويض الشرعية.
إن نمو الاقتصاد غير المنظم المرتبط بارتفاع معدل اللامساواة والبطالة والهجرة من الريف إلى المدينة، بالتوازي مع فقدان الشرعية، يُضعفان سيادة القانون، وقد يؤديان إلى عودة ظهور نماذج فردية خاصة من العنف – الجريمة المنظمة، واستبدالها بـِ “الحماية” لفرض الضرائب، ولجان الأمن الأهلية
وحراس الأمن الخاصين لحماية المرافق الاقتصادية، وخاصة الشركات العالمية، والجماعات شبه العسكرية المرتبطة بفصائل سياسية معينة.
وغالبا ما تقوم الجهات الخارجية المانحة، بشكل خاص، بتشجيع التخفيضات في نفقات الأمن للحصول على أفضل الدوافع التي يمكن أن تؤدي إلى انفصال مجموعات كبيرة من الجنود ورجال الشرطة الذين يبحثون عن عمل بديل. وهنا ينبغي التأكيد على أن تأثير الخصخصة والعولمة مخادع بطبيعة الحال.
تدمر الخصخصة النزعات السلطوية. ويمكن للعولمة أن تستحضر ضغوطاً خارجية فعلية من أجل الإصلاح، لاسيما إرساء الديمقراطية. فمن جهة، تقوم الجهات الخارجية المانحة والقوى الخارجية بالضغط على الحكومات لإدخال الإصلاح السياسي كشرط مسبق للإصلاح الاقتصادي، وللحد من الفساد، وزيادة احترام حقوق الإنسان، وإدخال المؤسسات الديمقراطية. ومن جهة أخرى ساعد دعم القوى الخارجية، والمنظمات غير الحكومية العالمية، للمجتمع المدني على تعزيز الضغوط المحلية لإرساء الديمقراطية. ويمكن القول في تلك الحالات، حيث ضغوط الإصلاح الداخلية ضعيفة والمجتمع المدني أقل نمواً، أن انفتاح الدولة على العالم الخارجي، وعلى زيادة المشاركة من خلال عملية التحول الديمقراطي، هو الأكثر خطورة. وفي العديد من البلدان تقتصر عملية التحول الديمقراطي، وإلى حد كبير، على الانتخابات، في وقت لا تتوافر فيه العديد من الشروط الأساسية للتدابير الديمقراطية – سيادة القانون والفصل بين السلطات وحرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير – وحتى عندما تكون التدابير إلى حد ما في محلها، فإن عقوداً من التسلط ربما تكون قد خلفت الثقافة السياسية عرضة للإيديولوجيات الشعبوية المستندة إلى المطالبة بمختلف أشكال الأحكام المسبقة الحصرية. وقد استخدمت مصطلحات، مثل الديمقراطية الافتراضية وشبه الديمقراطية أو ديمقراطية اللاخيار، لوصف المجتمعات التي تتميز بالزعماء المستبدين المنتخبين.
هذه هي الظروف التي تؤدي إلى “حروب جديدة”. إنها الإفتقار إلى سلطة الدولة وضعف التمثيل، وفقدان الثقة بأن الدولة قادرة – أو مستعدة – للاستجابة للمطالب والمخاوف العامة، وعدم قدرتها و/أو عدم رغبتها في تنظيم وضبط حالتي العنف الفردي وغير الرسمي اللتين تؤديان لإزدياد الصراعات العنيفة. علاوة على ذلك، فإن ديناميات الصراعات هذه تميل إلى تعزيز “العملية غير الحضارية”، ما يؤثر، إضافة إلى ذلك، في إعادة ترتيب العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في دوامة سلبية من الوحشية.
اسمي الصراعات “حروباً” بسبب طابعها السياسي على الرغم من أنه يمكن وصفها أيضاً بـانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (القمع ضد المدنيين)، والجريمة المنظمة (استخدام العنف لتحقيق مصالح خاصة). فهذه الصراعات تستهدف الوصول إلى السلطة. إنها صراعات عنيفة للوصول إلى/أو للسيطرة على الدولة. حيث يتم خصخصة الدولة، أي تحولها من منظمة رئيسية للتنظيم المجتمعي الى وسيلة للسيطرة على الموارد من قبل الحاكم، والشبكات ذات الامتياز (والتي يمتلكها على الأغلب الحاكم)، لذلك فإن الوصول إلى سلطة الدولة يصبح مسألة دخول أو إقصاء، حتى، في الحالة الأخيرة، للبقاء.
وفي معظم الحالات، تِشن هذه الحروب باسم الهوية – مطالبة بالسلطة على أساس المسميات. فهذه الحروب التي يتم من خلالها تعريف الهوية السياسية وفقاً لمسميات استثنائية – عرقية ولغوية أو دينية – والحروب نفسها تؤجج هذه المسميات لأغراض سياسية، فهي تقدم شعوراً جديداً من الأمن في سياق تكون فيه الثوابت السياسية والاقتصادية للعقود السابقة قد تلاشت. وتخلق شكلاً شعبياً جديداً من الأيديولوجية المجتمعية، وهي ليست الاّ وسيلة للحفاظ على /أو للاستيلاء على السلطة، وذلك باستخدام لغة وصيغ الفترة سابقة.
ومما لا شك فيه، أن هذه الأيديولوجيات تستفيد من الانقسامات الموجودة مسبقاً، ومن تركات الحروب السابقة. وهي أيضاً الحالة التي تكون فيها محاكاة التقاليد والحنين للتاريخ الخيالي أو شبه الخيالي، قوية في فترة الاضطرابات الاجتماعية التي تتعرض لضغوط عالمية. لكن التلاعب المتعمد بهذه المشاعر، والذي غالباً ما يتم بتمويل من الجاليات، واستخدام التقنيات والإنتشار السريع عبر وسائل الإعلام الإلكترونية، يُعد السبب المباشر للصراع.
وفي هذه الحروب، يكون العنف بحد ذاته شكلاً من أشكال التعبئة السياسية. ويوجه بشكل أساسي ضد المدنيين وليس ضد جيش آخر، والهدف هو الاستيلاء على الأراضي عبر السيطرة السياسية عوضاً عن الفوز العسكري. ويتم الحفاظ على السيطرة السياسية من خلال ممارسة الإرهاب والطرد أو القضاء على أولئك الذين يتحدّون السيطرة السياسية، وخاصة أولئك الذين يحملون سمة مختلفة، حيث لا تُعد عمليات تهجير السكان والمجازر والفظائع المنتشرة على نطاق واسع مجرد آثار جانبية للحرب، بل هي استراتيجية متعمدة بهدف السيطرة السياسية، وبتكتيك قائم على “زرع الخوف والكراهية” لدى أولئك الذين يطالبون بهوية خاصة بهم.
بمعنى آخر، هذه هي أيضاً حروب العولمة. فعلى عكس حروب الدول، والتي كانت منظمة للغاية، ووفرت بالفعل نموذجاً لأشكال التخطيط الدولاتية، يمكن وصف هذه الحروب تقريباً على أنها نموذج للاقتصاد غير الرسمي المعاصر، حيث يقتات العنف المُخصخص والعلاقات الاجتماعية غير المنظمة على بعضهما البعض. ويكون الدمار المادي في هذه الحروب مرتفعاً جداً، وتكون الإيرادات الضريبية منخفضة لدرجة كبيرة، والبطالة مرتفعة جداً. وتتمول مختلف الأطراف من خلال عمليات النهب والسرقة ومختلف أشكال الاتجار غير المشروع، وبالتالي فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً، وتساعد على خلق شبكات الجريمة المنظمة. كما أنها تعتمد أيضاً على دعم الدول المجاورة، ومجموعات الجاليات، والمساعدات الإنسانية.
لم تعد “الحروب الجديدة” منفصلة في الزمان والمكان. حيث تعتمد مختلف الجهات – الدول وبقايا الدول والجماعات شبه العسكرية وحركات التحرر وما إلى ذلك – على استمرار العنف لأسباب سياسية واقتصادية، على حد سواء. فوقف إطلاق النار والاتفاقات ليست إلا هدنات ومساحات تنفس، لا تضع عنواناً للعلاقات الاجتماعية الأساسية، والظروف الاجتماعية في الحرب والسلام ليست مختلفة.
وتشكل شبكات السياسيين وقوات الأمن والمجموعات التجارية المشروعة وغير المشروعة، والتي تكون غالباً عابرة للحدود، بنية اجتماعية جديدة مشوهة يمكنها الانتشار عبر اللاجئين والمهجرين، وفي كثير من الأحيان تكون الشبكات القائمة على الهوية، وكذلك الروابط الإجرامية، عابرة للقارات. وعلاوة على ذلك، فإن الظروف التي تؤدي إلى “الحروب الجديدة” وتجعلها تتفاقم، تكون أضعف في معظم التجمعات الحضرية في العالم، وغالباً ما يكون لها ارتباطات مباشرة مع المناطق الأكثر عنفاً.
على الرغم من ذلك، فإن التشكيلات الاجتماعية التي تعتمد على العنف دائماً ما تكون ضعيفة وهشة ومستنزفة تقريباً. وكما أشارت حنا أرندت من أن السلطة تعتمد على الشرعية وليس على العنف، فإن من الصعب لأشكال التعبئة السياسية التي تعتمد على العنف أن تستمر. وهنا تكمن إمكانية للكوزموبوليتي، بمعنى غير الحصري، والبديل.
تكوين السياسة العالمية
أنا من بين أولئك الذين يزعمون أن الانقسام بين ما يسمى الواقعيين والكوزموبوليتين إنما جاء ليحل محل التقسيم التقليدي بين اليسار واليمين (انظر جيدنز، 1994)، وكما يتضح من رصد الأحداث في سياتل وواشنطن، فإن تلك الانقسامات التقليدية لا تزال موجودة. وأريد هنا أن اقترح تصنيفاً يكون إلى حد ما أكثر تمايزاً للسياسة المعاصرة على النحو المبين في الجدول أدناه، حيث تُظهر الصفوف الفرق بين اليسار واليمين (وقد أدرجت الخضر على أنهم من اليسار). وُتظهر الأعمدة الفرق بين البرشولين أو الواقعيين أولئك الذين يرون المجتمع مقيداً بالدولة، والعولميين. ويمكن القول أن هذه الفروق تتوافق مع التمييز المجتمعي والفردي، على الرغم أنه من الممكن أن تتصور الشخص المجتمعي العولمي، شخصاً يفضل دولة عالمية ومجتمعاً عالمياً متجانساً.
هؤلاء في المربع السفلي الأيسر، أزعم أنه لا مستقبل لهم.
لا يمكن إلغاء العولمة. فقد أظهر انهيار الشيوعية أنه لم يعد من الممكن الحفاظ على المجتمعات المغلقة، وعزل أجزاء كبيرة من العالم عن تزايد الترابط العالمي. فـ “الاشتراكية في بلد واحد” لم تعد خياراً، في حال أنها كانت خياراً في أي وقت مضى. وبالطبع، قد ينجح الأصوليون ومناهضو العولمة في إنشاء دول مغلقة مؤقتاً، مثل العراق أو صربيا على سبيل المثال، ولكن في هذه الحالة لا يمكن لهذه الدول أن تستمر، ويجب أن تُفهم على أنها ردة فعل مستمرة بدلاً من كونها انعكاساً للعولمة.
أما من هم في أعلى المربع اليميني، الذين يؤيدون العولمة، فقد وجدوا ليبقوا. ولكنهم يحتاجون لعقد تحالفات مع أولئك الذين يقدمون شكلاً من أشكال التنظيم السياسي. وتقترح التحالفات المحتملة التي يمكن أن تتم بين الاثنين اتجاهين ممكنين للعولمة. ويفضل اليمين الجديد اقتصاداً غير منظم ولكنه
يفضل دولاً قوية، وحتى دولاً ذات سياسة سلطوية. هم يحبذون أنشطة التجارة ورأس المال لكنهم يعارضون حرية تنقل الأشخاص. إنهم يريدون تقييد الباحثين عن اللجوء السياسي والحفاظ على النقاء العرقي.
يشير التحالف مع اليمين الجديد الى عالم من العولمة الجامحة، يُدار أو يتم احتواؤه، عن طريق القومية السلطوية والإكراه، ويرى الواقعي أن “الاستقرار” أكثر أهمية من الديمقراطية – حيث، يفضل بوتين أو يتفاوض مع ميلوسيفيتش مثلاً – وهو أيضاً يتماشى مع هذا النهج، على الرغم من أن أنصاره قد يعبرون عن أنفسهم في مصطلحات أكثر اعتدالاً. والبديل هو التحالف مع الكوزموبولتيين- أولئك الذين غالباً ما يُوصفون بالمجتمع المدني العالمي، والمنظمات غير الحكومية الجديدة العابرة للقارات، ومجتمع حقوق الإنسان، وأولئك الذين يدعمون التعددية الثقافية.. وهلم جرا. لقد وضعت الكوزموليتيين في المربع السفلي الأيمن لأنني أعتبر أن الكوزومبولوتية تنطوي على الالتزام بحقوق الإنسان، كما أرى أن الحقوق المدنية، السياسية والاجتماعية، غير قابلة للتجزئة. ويعرف جونز وجهة النظر الكوزموبولوتية بـ “المحايدة والعالمية والفردية والمساواتية” (جونز، 1999، ص.)، ويقدم إقتراحاً لإيجاد نظام للعدالة العالمية يرتكز على موقف أخلاقي عالمي.
إذا ما الذي يُكسب الكوزموبوليتية أي إختلاف من ناحية مجال حقوق الإنسان؟ يقترح أبيا أن الكوزموبوليتية تختلف عن النزعة الإنسانية في أنها تحتفي بتنوع الثقافات المتعددة وحرية تنقل الأشخاص. ويقترح لفكرة كوزومبوليتانية متجذرة، شخصاً ما مرتبطاً بمكان معين، أو منزل، بخصوصياته الحضارية “لكنه يستمتع بحضور الآخرين والأماكن المختلفة التي تعد موطن أناس آخرين مختلفين” (أبيا، ص 22)، وهو قادر على اختيار منزله، أو منزلها. وبالطبع، يمكن القول أن منظور حقوق الإنسان يجب أن يشتمل على احترام الثقافات المختلفة: حق حرية العبادة أو استخدام اللغة الشخصية، على سبيل المثال.
ويقول أبيا إن الموقف الإنساني متوافق مع الحكومة العالمية، بينما ينطوي المنظور الكوزموبوليتي على مجموعة متنوعة من الأنظمة السياسية الحاكمة. وأنا لست مقتنعة بهذه النقطة حيث أن حكومة العالم تنطوي على مثل هذا التركيز للسلطة الذي يضمن صعوبة استمرار الحرية الفردية.
مع ذلك، يبدو أن فائدة مصطلح ” كوزموبوليتي” في مقابل مصطلح إنساني تكمن في التركيز الافتراضي على التنوع الثقافي والسياسي. ويُفسر هذا جزئياً باستخدامه العامية.
ويميل الكوزموبولوتي إلى أن يكون شخصاً على دراية بمختلف الثقافات واللغات، على الرغم من أن لذلك دلالة مدنية ونخبوية. والأهم من ذلك أنه يشتق من الاستخدام الكانطي الأصلي لهذا المصطلح. لقد تصور كانط نظاماً عالمياً مقسماً إلى دول حيث يتجاوز الحق الكوزموبوليتي مطالب السيادة، وهذا ما يُفسر عادة على أنه حقوق الإنسان. ولكن أحد الجوانب المثيرة للاهتمام في الموقف الكانتي الأصلي هو الطريقة التي أصر فيها، كشرط للسلام الدائم، يمكن أن يقتصر حق الكوزموبولوتي على حق الضيافة. ويمكن تفسير ذلك كذريعة لهويات متعددة. ويحتاج الغرباء لأن يعاملوا كضيوف، بأدب، ولكن ليس كأعضاء في العائلة. وبالتأكيد تتطلب الضيافة احترام حقوق الإنسان، ولكن هذا لا يعني الإندماج أو التجانس.
وبالتالي، فإن التحالف بين مركز العولمة الجديدة والكوزموبوليتين يعني “عملية حضارية”. والهدف من ذلك هو نظام قائم على حقوق الحوكمة العالمية. وهذا ما يتضمن عقداً اجتماعياً عالمياً – مجتمعاً مدنياً عالمياً – وغالبا ما يتم التعامل مع الكوزموبوليتية باعتبارها وجهة نظر وجدانية أو أخلاقية.
والواقع، أريد أن أشير إلى أنه مشروع سياسي تجلى بشكل كبير في العلاقة مع “الحروب الجديدة”.
المقاربة الكوزموبوليتية للحروب الجديدة
يستخلص من الجدل حول طابع الحروب الجديدة أنه ينبغي أن تركز الجهود الرامية إلى الوقاية من الصراع أو إدارته على انعكاس “العملية غير الحضارية”، على إعادة بناء علاقات تقوم على قواعد متفق عليها، وعلى السلطة العامة. وقبل كل شيء، يجب أن تكون استعادة السلطة الشرعية محور أي إستراتيجية سلام. وذلك بأن تتوازن استراتيجية “الخوف والكراهية “مع استراتيجية ” القلوب والعقول”. وليس بالضرورة أن هذا النوع من استعادة السلطة الشرعية يعني الارتداد إلى السياسة الدولية، بل يجب أن يعني سلطة عالمية متعددة الطبقات: إقليمية ومحلية بالإضافة إلى الوطنية. فمن المستحيل العودة إلى “عملية حضارية” محدودة.
أولاً، وقبل كل شيء، لابد لمثل هذا النهج أن يبدأ ببناء نموذج جديد للسياسة الكوزموبوليتية ليقاوم سياسة الإقصاء. وعلى المستوى المحلي، يمكن للسياسة الكوزموبوليتية أن تشمل كلاً من الحركات السياسية والأحزاب العلمانية وغير القومية أو الدينية، بالإضافة إلى الأحزاب القائمة على الهـوية المعتدلة وتحترم وتعتز بـالهويات المختلفة.
وعادة ما ترتبط السياسة الكوزموبوليتية أو الديمقراطية بـالمجتمع المدني، لاسيما المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام المستقلة، ولكن يمكن أن يكون لها أيضا تمثيل سياسي في البرلمانات، أو حتى في الحكومات. والمطلوب هو تحالف عابر للحدود يشمل لاعبين محليين وأولئك الذين يشاركون في مجموعة متنوعة من الأنشطة الدولية ملتزمة بالنهج الكوزموبوليتي.
في كافة مناطق الصراع تقريباً، يمكن تحديد هوية الأفراد والجماعات، أو حتى المجتمعات المحلية التي
تحاول العمل بطرق ديمقراطية شاملة وبدقة، لأن هذه هي الحروب غير شاملة والمشاركة فيها منخفضة، والتمييز بين الحرب والسلام منحسراً، وغالباً ما يكون هناك ما يمكن أن نسميه “مناطق التحضر” التي تكافح من اجل الهروب من الاستقطاب الذي فرضه منطق الحرب، وتوفر مساحة للسياسة الكوزموبولوتية. وتشمل الأمثلة توزلا في البوسنة والهرسك، وشمال غرب الصومال، فضلاً عن العديد من الأماكن الأخرى (كالدور 1999). علاوة على ذلك، فإن الجماعات المؤيدة للديمقراطية لا تقتصر على المقاومة اللاعنفية. فمجموعات الدفاع الذاتي، أو القوى الإصلاحية، مثل الجبهة الوطنية الرواندية، وحتى عناصر جيش تحرير كوسوفو، يمكن احتسابها ضمن التجمعات السياسية الديمقراطية أو الكوزموبوليتية.
ويعتبر تعزيز السياسة الكوزموبوليتية أكثر أهمية من محاولة إصلاح مجموعات معارضة حصرية، على الرغم من أن جهود حل الصراع على المستوى المجتمعي من الأهمية بمكان في تغيير المشاهد السياسية. وتساعد المفاوضات بين الأطراف المتحاربة على إضفاء الشرعية على أولئك الذين يدعمون مناهج حصرية للسياسة وقد يسفر عن ذلك تسويات مستحيلة تنطوي على أنواع مختلفة من التقسيم ومشاركة السلطة من شأنها تكريس سياسات الهوية. وقد تكون هناك حالة للمفاوضات لتثبيت العنف وخلق مساحة لتجمعات كوزموبولوتية بديلة، ولكن كيف يتم ذلك وبأي هدف يجب أن يُفهم كجزء من إستراتيجية كوزموبوليتية عامة.
ثانياً، يتطلب النهج الكوزموبوليتي احترام القانون الكوزموبوليتي. هذا القانون الدولي الذي ينطبق على الأفراد وليس الدول. والمكونين الرئيسين للقانون الكوزموبوليتي هما قوانين الحرب وقانون حقوق الإنسان. الاستراتيجيات المعتمدة في الحروب الجديدة تنتهك مباشرة القانون الكوزموبوليتي. و يعتبر التطبيق الثغرة الموجودة في القانون الكوزموبوليتي. لقد ناقشت تصوراً مفاهيمياً للتدخل الإنساني حسب ما يطبق القانون الكوزموبوليتي. المفهوم بهذه الطريقة، يعني أنه يجب أن ينطوي التدخل الإنساني على الحماية المباشرة للمدنيين واعتقال مجرمي الحرب الفرديين. وبشكل عام يجب أن تكون تقنيات التدخل الإنساني دفاعية- تتمثل بـ إنشاء مناطق وملاذات آمنة ومناطق حظر جوي وإيجاد ممرات إنسانية- ولا يمكن الخلط بينه وبين القتال في الحرب التقليدية. و الهدف من ذلك ليس قتال عدو ولكن للدفاع عن المدنيين –ليس لتدمير أو إضعاف جنود العدو والبنية التحتية ولكن لإنقاذ الأرواح.
ثالثاً، يتطلب النهج الكوزموبوليتي العدالة العالمية، أي احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية
حتى في مناطق الصراع. في الواقع، إذا كانت السياسة الكوزموبوليتية تعني مواجهة المطالبة الشعبوية لسياسات الهوية الحصرية، يجب عليها أن تكون قادرة على معالجة المخاوف اليومية. ولكن هذا ليس مجرد مسألة توزيع عالمية، منها، على سبيل المثال، فإن تقديم المساعدة الإنسانية، والتي في أي حال تساعد على تغذية قوى العنف. انها مسألة بناء مصادر مشروعة للعمالة و توفير طريقة عيش تنسجم مع الكرامة الإنسانية وبذلك يكون لدى الشبان والشابات بديل حقيقي ليصبحون مجرمين أو يعيشون على المساعدات الإنسانية. وبعبارة أخرى، هذا يعني أن بناء أو إعادة بناء أو اقتصاد سوق منظم وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بإعادة بناء السلطة الشرعية مع مصادر مشروعة للدخل.
وينطوي النهج الكوزموبوليتي من هذا النوع، على عقد اجتماعي عالمي جديد – إنه بدايات عملية حضارية عالمية. فعناصر المجتمع المدني العالمي موجودة مسبقاً. كان هناك لحظات محددة – تأسيس الأمم المتحدة واتفاقيات هلسنكي، على الرغم من أن الجهات الفاعلة كانت دولا. وقد تم تنقيح ونسخ وتمديد العقد المؤسس في هذه اللحظات المحددة من خلال الضغط العام من قبل وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، فضلا عن بعض المسؤولين الدوليين. ولكن على الرغم من انه تم تنظيم حقوق الإنسان، فإن قدرة أو رغبة المؤسسات الوطنية والعالمية لتنفيذ هذه الحقوق ما زالت غير كافية تماما.
هل يمكن أن يكون هناك عقد اجتماعي عالمي، يمكن أن يضمن تنفيذ حقوق الإنسان الأساسية؟ وهل يعني هذا أن الفرد يجب أن يكون مستعداً لدفع الضرائب العالمية، والأهم من ذلك، هل يجب على الفرد أن يكون مستعداً للموت من أجل الإنسانية؟ أعتقد أنه على الفرد أن يكون مستعداً للمجازفة بحياته من أجل البشرية ولكن ليس بطريقة غير محدودة (كما كان الحال في حروب الدول) حيث ان هو أو هي جزء من الإنسانية. ويُعتبر التدخل الإنساني أقل مجازفة من القتال في الحرب على الرغم من أنه أكثر مخاطرة من هذا النوع من الحرب الخالية من المخاطر (على الأقل من وجهة نظر الجنود) أن الولايات المتحدة
وحلف شمال الأطلسي يعززان على أنهما شكلاً من أشكال التدخل الإنساني. وبالفعل، يعرض نشطاء حقوق الإنسان وعمال الإغاثة حياتهم للخطر خدمة للبشرية. ويقال أحيانا أن هذه الفكرة طوباوية بشكل يبعث على السخرية – فالموت من أجل المأوى والمنزل يختلف تماماً عن المخاطرة بالحياة من أجل هدف جليل مثالي كـ الإنسانية. ولكن مجازفة احد ما بحياته من أجل أمته في الواقع اختراع حديث نسبياً. ففكرة أن هناك صالح أكبر وراء المفاهيم المدنية للأمة والدولة سبقت طويلا هذا الاختراع.
و في معرض ردها على من انتقدوا التماسها للكوزموبوليتية، “مارثا نوسباوم “تشير إلى الـ 1172شجرة
في القدس التي تحي ذكرى أفراد ” الغوييم الصالحين – والأزواج أو الأسر الذين جازفوا بحياتهم خلال الحرب العالمية الثانية لإنقاذ حياة اليهود، وتقول نوسباوم “إن الإرهاب الذي لا يزال قائماً “هو إرهاب السؤال الذي يطرحونه. هل لأحد، في أي ظروف مماثلة، أن يمتلك الشجاعة الأخلاقية ويخاطر بحياته لإنقاذ إنسان لمجرد أنه إنسان. وبشكل عام، هل يمكن لشخص، في ظروف مماثلة، أن تكون لديه الشجاعة الأخلاقية ليعترف بالإنسانية ويستجيب لمطالبها”. (نوسباوم، 1996، ص 132) في الحروب الجديدة، من الممكن أن تجد الكوزموبوليتين الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ الآخرين. هل يمكن لخبراتهم أن توفر الأساس الأخلاقي لأشكال مستقبل الحوكمة الكوزموبوليتيه؟
Mary Kaldor : أكادمية بريطانية تتهم بالقضايا الدولية ومؤلفة كتاب “الحروب القديمة والجديدة”.
www.theglobalsite.ac.uk
قائمة المراجع
– British Journal of Sociology Vol. 15. No 1, Jan/March
– Cohen, Joshua, Ed. (1996) For Love of Country: Debating the Limits of Patriotism: Martha C. Nussbaum and
– Respondents Beacon press, Cambridge, Mass.
– Elias, Norbert (1982) The Civilising Process: State Formation and Civilisation Blackwell, Oxford,
(originally published in German in 1939)
– Gellner, Ernest (1994) The Conditions of Liberty: Civil Society and its Rivals Hamish Hamilton, London
– Giddens, Anthony (1994) Beyond Left and Right Polity Press, Cambridge
– Held, David (1995) Democracy and Global Order Polity Press, Cambridge
– Jones, Charles (1999) Global Justice: Defending Cosmopolitanism Oxford University Press, Oxford
– Kaldor, Mary (1995) The Imaginary War: Understanding the East-West Conflict Basil Blackwell, Oxford
– Kaldor, Mary (1999) New and Old Wars: Organised Violence in a Global Era Polity Press, Cambridge
– Nussbaum, Martha (1996) “Patriotism and Cosmopolitanism” in Cohen (1996)
– Tilly, Charles (1990) Coercion, Capital and European States AD 990-1990 Basil Blackwell, Oxford
- – cosmopolitanism الكونية، النزعة الكونية، الروح العالمية غير القومية. المترجم.
- – الغوييم : الأغيار أو غير اليهود. المترجم.
- – اسطورة من الأساطير الرومانية، تزعم أن هناك إلهاً بوجهين متقابلين؛ ينظر أحدهما إلى الماضي، بينما ينظر الآخر نحو المستقبل. ويتوسل الرومانيون بالدعاء ليانوس عند بداية ونهاية أي حدث مهم، خاصة الحروب. وتكون أبواب معبد يانوس في روما مفتوحة ـ عادة ـ في زمن الحرب. وكانت تغلق فقط في فترات الأمن النادرة التي كانت تنعم بها روما. ويزور الرومان يانوس عند بداية كل صلاة حتى قبل زيارة الإله جوبيتر كبير آلهة الرومان. وسمي الشهر الأول من السنة الميلادية يناير تيمنا بالإله يانوس المزعوم. ولبعض الشعوب الهندية ـ الأوروبية إله يشبه يانوس. فقد كان الهندوس الأوائل في الهند، مثلاً، يصلّون لإله بوجهين، اسمه فايو، قبل الشروع في أي عمل كبير. المترجم.