احتلت الأنباء المرتبطة بجريمة استهداف الطائرة الروسية في أجواء مصر صدارة الأنباء في العالم، وهلل الإعلام المرتبط بالممالك والإمارات الوهابية معتبراً أن ما حدث سيؤثر على قرار موسكو في دعم الدولة السورية، لكن التطورات الميدانية سارت في عكس وجهة أوهام وسائل التضليل الإعلامي وفق تقارير مراكز الدراسات.
ففي الرابع من الشهر الجاري، نشر باحث فرنسي متخصص (1) دراسة تفصيلية حول نتائج الحملة الروسية، وتوصل إلى أن العمليات تسير وفق مسارها المحدد، وتحقق العديد من النجاحات على المستويات التكتيكية والاستراتيجية، بفضل جملة من المجهودات العسكرية المتنوعة التي شملت الضربات الجوية، والضربات الصاروخية من الأسطول، والعمليات البرية التي نفذتها قوات الجيش الحكومي وحلفاؤها، وعمليات الرصد والتشويش الالكتروني. ويستفاد من الدراسة وجود تركيز على مناطق محددة بهدف تنفيذ عمليات قضم تدريجي ومستمر لقدرات المجموعات الارهابية من خلال استهداف مخابئ الأسلحة والذخيرة وطرق الإمداد.
القوات التي قامت موسكو بزجها في حملتها ضد الارهاب
وعلى الرغم من أن موسكو لم تعلن وضع حدود لحجم القوات التي ستساهم في تقديم الدعم للدولة السورية، فإن التقديرات تشير إلى تسخير قوات لا يستهان بها، حيث قارب عدد الجنود والضباط خمسة آلاف، معظمهم من اللواء 810 من مشاة بحرية أسطول البحر الأسود، مكلفين بتقديم دعم لوجستي لقوات الحكومة المركزية، وبمهمة ضمان أمن المنشآت العسكرية الروسية في كل من اللاذقية وطرطوس.
وفيما يتعلق بالقوات البحرية، تتوافر مجموعة من القطر البحرية التي تعمل في البحر الأبيض المتوسط، تتضمن طرادين بالإضافة إلى أربعة سفن، تعمل انطلاقاً من بحر قزوين على استهداف مراكز الارهابيين في مناطق الرقة وإدلب وحلب باستخدام صواريخ طوافة، في حين تتضمن القوة الجوية قرابة ثلاثين طائرة نفذت آلاف الطلعات الجوية، بالإضافة إلى قرابة العشرين من الحوامات التي أثبتت فاعلية كبيرة في دعم القوات البرية.
نتائج الضربات الروسية
وهنا نخرج من نطاق التخمينات، حيث أن القيادة الروسية تنشر تباعاً تقارير عن نشاطات قواتها العاملة في سورية. وكان نائب رئيس أركان القوات المسلحة في الاتحاد الروسي صرح في الثلاثين من تشرين أول المنصرم أن الطيران الروسي دمر 786 معسكراً، و249 مركز قيادة واتصال، و371 نقطة إسناد.
وتشير الدراسة إلى تركيز الضربات الروسية على مناطق محددة، ربما بهدف إنهاكها واستنزافها، دون أن يعني ذلك العزوف عن التدخل في مناطق أخرى، كما حصل مؤخراً عندما استهدفت الغارات الروسية مواقع للإرهابيين في جنوب سورية. وثمة العديد من المؤشرات لوجود استعدادات لحسم معركة حلب.
وعلى الرغم من أننا ما نزال في المرحلة الأولى من الحملة الروسية، التي يفترض أن تستمر حتى شباط من العام القادم، يبدو أن الحملة حقت نجاحاً أولياً من خلال إعادة رسم خطوط المواجهة، ونقل المبادرة إلى الجيش الحكومي الذي حقق تقدماُ قد يكون بطيئاً ولكنه حاسم على الرغم من الانتكاسات في بعض المناطق. وقد يكون من أبرز نتائج التدخل الروسي المتسق هو وضع حد للكلام عن انتفاضة شعبية وعن معارضة معتدلة، والانتقال إلى الحديث عن مواجهة شاملة بين قوات الدولة السورية وحلفائها من جهة وبين المجموعات الإرهابية المدعومة من قوى دولية وإقليمية من جهة أخرى.
كما وأشارت دراسة أخرى نشرت بتاريخ التاسع من تشرين الثاني الجاري إلى مبادرة روسيا في الاعلان عن نشر بطاريات صواريخ أرض جو بهدف حماية الأجواء السورية بشكل كامل، حيث أن الصواريخ المضادة للطائرات، والتي تحملها القطع البحرية الروسية، لم تكن تغطي سوى نصف الأجواء السورية، أما الطراز البري من صواريخ س300، الذي من المرجح أن يكون عماد النظام المضاد للطائرات لبذي تم نشره، فيستطيع الوصول إلى أي نقطة في الأجواء السورية بالإضافة إلى ميزته في عدم الالتزام بمواقع ثابتة.
كما أشارت الدراسة إلى قيام روسيا بنشر منظمة إلكترونية عالية المستوى قادرة على اختراق أنظمة الرصد والتشويش المستخدمة في طائرات الأواكس، وقادرة على مراقبة الأجواء السورية، وخلص الكاتب إلى أن الخطوات الروسية كانت بمثابة رسالة واضحة إلى كل الأطراف التي هددت في الماضي بالتدخل العسكري ضد سورية. ورأى الكاتب أن الخطوات التي تم تنفيذها تبرز التزام موسكو بتنفيذ خطة مدروسة تغير قواعد الصراع.
الخلاصة
دخلت روسيا إلى سورية لمواجهة خطر تنظيم إرهابي دولي يستلهم الفكر الوهابي، ولا يتورع عن توجيه الضربات في أي منطقة من مناطق العالم، وتتالت تصريحات كبار المسؤولين الروس المتعلقة بأن تدخل روسيا في سورية كان بطلب من الحكومة السورية المعترف بها دولياً، ويهدف إلى الدفاع عن المصالح الاستراتيجية الروسية، وبالتالي لا يمكن التعامل معه بوصفه خطوة ارتجالية، بل كان نتاج دراسة متأنية تابعت التطورات الميدانية طوال أربع سنوات، كما تابعت التطورات السياسية وصولاً إلى القناعة بأن الأحداث التي عصفت بسورية تدخل ضمن إطار سعي واشنطن واتباعها لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح المركب الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، وهذا أمر لا يمكن لروسيا التهاون معه نتيجة مجموعة من العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية.
(1) Cyrille BRET : أستاذ محاضر في العلوم السياسية في جامعات باريس ومدير موقع https://eurasiaprospective.wordpres.. المهتم بالقضايا الجيو- سياسية