من الضروري توخي الدقة عند استخدام المصطلح، وتفادي استسهال الصيغ الشائعة المخاتلة التي تكون شديدة البعد عن الحياد، وتموه على أهداف تتعلق بمشروع واشنطن للهيمنة على العالم بكافة الوسائل.
ينطبق هذا على التعامل مع عملة التداول الرئيسية في العالم وهي دولار الولايات المتحدة، حيث أن صفة الدولار الأمريكي تتضمن التباساً في ظل وجود الدولار الكندي (الذي بدوره تنطبق عليه صفة الدولار الأمريكي اعتماداً على الانتماء الجغرافي) والدولار الاسترالي. لكن واشنطن تبذل الكثير من الجهد للحفاظ على هيمنة عملتها على الأسواق العالمية، وهي تدرك أن الهيمنة على العقول والتفكير تمهد الطريق أمام الهيمنة السياسية والاقتصادية، وهو أمر طالما حذر منه الرئيس الراحل هوغو تشافيز عندما ناشد العالم بالكف عن اختزال القارة الأمريكية لمصلحة واشنطن من خلال استسهال الترويج لمصطلح أمريكا عند الحديث عن الولايات المتحدة.
انتشار استخدام عملة ما مرتبط بالبعد السياسي
في الماضي البعيد، اعتمدت عمليات البيع والشراء على المقايضة القادرة على تلبية الاحتياجات الفردية بشكل مقبول من طرفي التبادل. لكن مع تطور الحياة الاجتماعية ونشوء الدول ثم الامبراطوريات، كان لا بد من إيجاد مكافئ عام يسهل حمله ويصعب تزويره ويكون مقبولاً من الجميع.
تم ضرب أول عملة معروفة في منطقة ليديا في آسيا الصغرى قرابة عام 600 قبل الميلاد، وكانت مكونة من خليط من الذهب والفضة المتوفر بشكل عادي في الطبيعة. وسرعان ما انتبهت الكيانات السياسية إلى تداعيات استخدام عملة بوصفها وسيطاً في عمليات الشراء حيث أدى ذلك إلى ازدهار تجارة مملكة ليديا، وتحويلها إلى واحدة من أغنى الكيانات السياسية في المنطقة المحيطة بها.
وضمن هذا السياق قامت الكيانات السياسية المختلفة بصك عملتها الخاصة المعتمدة ضمن نطاق حدودها السياسية. لكن مع نشوء الامبراطوريات الكبرى، مثل الامبراطورية الرومانية وامبراطورية سلالة كين (1) في الصين، شهدنا انتشار استخدام العملة الرومانية والصينية ضمن نطاق انتشار النفوذ السياسي في حوض البحر المتوسط بالنسبة لعملة روما، وفي مناطق نفوذ السلالة الحاكمة في الصين فيما يخص العملة البرونزية (2) الصينية التي بدأ استخدامها في القرن الثاني قبل الميلاد، واستمر طوال سبعمائة سنة (3). وكان من المنطقي أن تتراجع مكانة عملة روما مع تدهور مكانتها السياسية وهو أمر تكرر مع العملة الصينية.
انقسمت امبراطورية روما إلى قسمين: شرقي وغربي، وعاش القسم الغربي حالة تشظ منعت ظهور عملة موحدة، في حين شهدت الامبراطورية البيزنطية مرحلة استقرار سياسي مهدت الطريق أمام عملة بيزنطة (4) لتكون عملة المبادلات التجارية الرئيسية على امتداد عشرة قرون.
بعد ذلك شاع في أوروبا استخدام العملات الذهبية والفضية مع ظهور محاولات متعددة لاستخدام نقود ورقية انتهت كلها بالفشل نتيجة التضخم. كما قامت محاولات إيجاد عملة موحدة لا يرتبط استخدامها بالحدود السياسية، الأمر الذي قاد إلى إنشاء الاتحاد اللاتيني، عام 1865، الذي ضم فرنسا وبلجيكا وسويسرا وإيطاليا، ثم انضمت إليه لاحقاً كل من اليونان ورومانيا عام 1866، حيث اتفقت الدول الأعضاء على وضع نموذج موحد للعملة المعدنية يتم تداوله في كل البلدان الأعضاء في الاتحاد، وهو ما تم تنفيذه فعلاً، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى، عام 1914، جلب معه نهاية الاتحاد النقدي اللاتيني.
وشهد المؤتمر النقدي الدولي، الذي عقد عام 1867، محاولة لصك عملة معدنية يمكن استخدامها في ضفتي الأطلسي، وتكون مساوية على التوالي لخمسة وعشرين فرنكاً وخمسة من دولارات الولايات المتحدة، وجنيه بريطاني واحد، لكن المحاولة انتهت بالفشل.
المعيار الذهبي
اتسعت المبادلات التجارية الدولية بفضل تحسن طرق المواصلات، ونتيجة لاختراعات زادت من حمولة وسائل النقل بفضل المحرك البخاري والكهرباء والمحركات العاملة على المشتقات النفطية، وكان لا بد من إيجاد معيار محدد يتم على أساسه عقد الصفقات.
تم اعتماد الذهب بوصفه المعيار العام الذي يتم على أساسه تحديد قيمة العملات الوطنية وتم وضع مواصفات محددة للسبائك الذهبية و للسبائك المكونة من خلائط من المعادن الثمينة.
الجنيه الاسترليني
برزت المملكة المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الأولى بوصفها القوة الاقتصادية الأهم في العالم، مستفيدة من رجحان كفة أنصار مبدأ الانعزالية في الولايات المتحدة، وتحولت لندن إلى مركز للعمليات التجارية في العالم، مستفيدة من انتشار نفوذ التاج البريطاني ومن سيطرة الأساطيل البريطانية على أهم طرق النقل البحري في العالم.
لكن استنزاف بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، واضطرارها للاعتماد على الولايات المتحدة في تأمين الموارد الضرورية لمتابعة الحرب، حولها إلى تابع لواشنطن، وساهم في بروز دولار الولايات المتحدة بوصفه العملة المهيمنة على اقتصاد العالم.
الدولار
لا تستند هيمنة دولار الولايات المتحدة على قوة اقتصاد تلك البلاد ولا على قدراتها العسكرية، لكن مؤسسات الولايات المتحدة نجحت، وفق رأي الخبير المالي الألماني غيرالد براونبرغ، في تسخير الهيئات الأكاديمية والنخب الإعلامية في سائر أرجاء العالم لفرض نمط تفكير منسوخ عن نمط تفكير مراكز القرار في الولايات المتحدة. ويرى هذا الباحث أن دور كليات الاقتصاد في شيكاغو وهارفارد ويال وستانفورد، وكذلك دور معهد التقانة في ماساشوست، لا يقل أهمية دور حاملات الطائرات والصواريخ الضخمة في فرض هيمنة عملة الولايات المتحدة(5 ). وكان عالم الاقتصاد البريطاني جون ماينارد كينز الوحيد الذي بذل الكثير من الجهد في محاولة الحد من هيمنة الولايات المتحدة على النظام النقدي الدولي لكن دون طائل (6).
انتهت الحرب العالمية الثانية ببروز طرفين منتصرين: الاتحاد السوفيتي الذي انشغل بعملية إعادة الإعمار وضبط العلاقة مع الدول التي خضعت لنفوذه، والولايات المتحدة التي سعت لإعادة تنظيم علاقاتها مع حلفاء الأمس الذين صاروا بمكانة الأتباع نتيجة تدهور أوضاعهم الاقتصادية، وكان من منطق الأمور حصول واشنطن على مكانة متميزة في النظام التجاري العالمي تم تجسيدها في اتفاقيات برايتون وودز عام 1944 التي اعتمدت دولار الولايات المتحدة بوصفه عملة التبادل الرئيسية على أساس تسعير أونصة الذهب بخمسة وثلاثين دولار.
وهكذا تحولت عملة الولايات المتحدة إلى سلعة تسعى وراءها المصارف المركزية الأوروبية على أساس توفر إمكانية استبدال تلك الأوراق النقدية بما يعادلها ذهباً، لكن تراجع سعر صرف الدولار أثناء حرب فيتنام ولد لدى بعض الحكومات شكوكاً حول حقيقة وضع عملة الولايات المتحدة، الأمر الذي دفع الحكومة الفرنسية لتحويل قسم كبير من احتياطيها من تلك العملة إلى المصرف المركزي في واشنطن مطالبة باستبداله بالذهب، وكانت تلك هي بداية نهاية عملية ربط سعر الدور بالذهب، وفي عام 1973 أعلن رئيس الولايات المتحدة ريتشارد نيكسون إنهاء العمل باتفاقية عام 1944.
وعلى عكس ما كان متوقعاً، لم يؤد ذلك إلى الاضرار باقتصاد الولايات المتحدة التي تجيد تماماً لعب دور السيد الذي يحدد شروط اللعب بما يتناسب مع مصالحها ويغيرها عندما يشاء. وهكذا شهدت صادرات الولايات المتحدة نمواً كبيراً نتيجة لسياسة الابتزاز التي مارستها واشنطن ضد محمياتها في اليابان وألمانيا الاتحادية وتايوان وكوريا الجنوبية، وكان لمبيعات الأسلحة النصيب الأكبر من تلك الصادرات الأمر الذي عزز الطلب على الدولار. وكان من عوامل تعزيز مكانة عملة الولايات المتحدة اعتمادها في بورصات النفط في تحديد الأسعار، وهو أمر اكتسى أهمية كبرى نتيجة لاعتماد العالم على النفط ومشتقاته.
دولار الولايات المتحدة بوصفه وسيلة إثراء على حساب الآخرين
كانت برامج التسلح في العالم الغربي تحظى بالموافقة على توفير الاعتمادات المالية بحجة المواجهة بين الشرق والغرب، لكن منذ نهاية الحرب الباردة شهد الانفاق على التسلح صعوداً مذهلاً، وتضاعف خمسة مرات خلال الفترة ما بين 1999- 2011، حيث تجاوز عام 2011 في ظل الرئيس جورج بوش الابن 705 مليار دولار (7). وتتالت حروب واشنطن العدوانية التي ترتب عليها نفقات مذهلة، لكن هذا لم يمنع واشنطن من الاستمرار بتحديث ترسانتها العسكرية على أساس التمويل بالعجز كما نتبين من نمو الدين العام في الولايات المتحدة.
يعتبر التمويل عبر الاقتراض من أقدم الوسائل التي مارستها الإدارة في واشنطن بهدف تمويل المشاريع العامة والمجهود الحربي، وعلى سبيل المثال كان الدين الفيدرالي عام 1940 يعادل 52.4% من الناتج الوطني (8). لكن الأعباء التي ترتبت عن دعم بريطانيا في حربها ضد ألمانيا، وما تلاها من إنفاق عسكري نتيجة الحرب في المحيط الهادئ والحرب في القارة الأوروبية، رفع هذه النسبة لتصل عام 1946 إلى 121.7% من الناتج الوطني (9).
وظل هذا النهج مستمراً حتى أيامنا هذه حيث بلغت نسبة الدين العام الفيدرالي 103.6% من الناتج الوطني العام عام 2012(10) .
قد يكون هذا الوضع كارثياً بالنسبة لدولة أخرى، أما الولايات المتحدة، التي تصر على اعتبار نفسها دولة استثنائية، فهي لا تخضع للقوانين، وبالتالي لا تجد أية غضاضة في تحميل باقي دول العالم عبء تمويل خزينتها العامة بغض النظر عن الأضرار التي يمكن أن تصيب اقتصاد الدول المعنية.
تسعى الولايات المتحدة لمنع حدوث مبررات يمكن أن تؤدي إلى حشد الرأي العام ضد الإدارة في واشنطن، وعندما تتعلق الأمور بهذه النقطة نجد أن خلافات الحزبين الكبيرين تتلاشى أمام المصلحة المشتركة من خلال تبني سياسة خفض الضرائب وتوسيع الانفاق العام، وهو أمر يرتب بدوره أعباء ثقيلة على الخزينة. وهنا أيضاُ يتم اللجوء إلى التلاعب من خلال الوسيلة السحرية المتمثلة في استمرار ضخ مليارات الدولارات الجديدة دون ضابط علمي.
تقوم الولايات المتحدة بإصدار سندات لصالح الخزينة يتم على أساسها طبع مليارات الدولارات، وبهذه الطريقة يتم إجبار باقي دول العالم على تمويل عجز ميزانية الولايات المتحدة، وبالتالي تعتمد واشنطن سياسة تتناقض كل التناقض عن ما يتم فرضه من ضوابط على إصدار النقد في باقي دول العالم (11).
نصل هنا إلى نقطة سقف الدين العام في الولايات المتحدة، وهو يقابل حجم محدد من الكتلة النقدية التي يتم تجديدها بشكل دوري بهدف امتصاص تأثير التضخم. والمقصود بهذا السقف هو إيجاد توازن بين خدمات الدين العام والانفاق من جهة ومجموع ما يتم تحصيله من ضرائب من جهة أخرى. لكن عام 2011 شهد أزمة من نوع جديد عندما تجاوز الدين العام السقف المحدد، وبالتالي كان يفترض دخول الإدارة في أزمة مالية، لكن المنظرين وجدوا حلاً لم يتعد حدود الطرح النظري، لكنه يعبر عن عقلية الإدارة في واشنطن التي تبيح لنفسها كل الوسائل.
توصل الخبراء إلى أن القوانين في الولايات المتحدة لا تضع أي حدود لعملية صك عملة مصبوبة من معدن البلاتين ويمكن أن تعادل قيمة غير محدودة من العملة الورقية، الأمر الذي يسمح بصك عملة لصالح كبار الأثرياء. وبالتالي لا مانع من صك عملة من هذا النوع بقيمة ألف مليار دولار (12) يمكن إدخالها في حساب الحكومة الاتحادية في المصرف المركزي، وبالتالي تتمكن الحكومة من الاستمرار في الانفاق من خلال حسابها في هذا المصرف.
الخاتمة
لا يمكن التعامل مع دولار الولايات المتحدة بوصفه عملة عادية، بل هو واحد من أهم الأسلحة التي تمتلكها واشنطن وتجيد استخدامها في محاولاتها المستميتة للحفاظ على موقعها كقوة مهيمنة على مقدرات العالم، وهي تحرص على الترويج لمنافع الاستمرار في استخدام الدولار في التجارة العالمية، وبشكل خاص في تجارة النفط، وتسخر لهذا الغرض شبكة واسعة من وسائل الاتصال الجماهيري وجيوشاً من الأكاديميين الذين يشكلون عقول نخب المستقبل، وفق النموذج الذي يرضي الطغمة المالية في واشنطن. وتدرك واشنطن أن انفرادها في الهيمنة على مقدرات العالم مرتبط بمكانة عملتها، وهي تراقب بكل اهتمام محاولات مجموعة دول البريكس لإيجاد بديل عن دولار الولايات المتحدة، وتتعامل معها بوصفه تحدياً كبيراً لسلطتها.
د. مازن المغربي باحث في المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي NCRO، عضو مجلس الأمناء
(1) – كانت أول سلالة إمبراطورية حكمت الصين بين 221 – 206 قبل الميلاد حيث تم تشكيل إمبراطورية على أنقاض ستة دول كانت قائمة.
(2) – wuzhu عملة صينية تم ضربها بعد عهد من الفوضى المالية وكانت مقسمة إلى مئة جزء.
(3) – A History of Universal Currencies
(4) – solidus عملة ذهبية استمر استخدامها حتى عام 1400 ميلادي.
(5) – Gerald Brauenberger, , Die Macht des Dollar, Frankfurter Algemeine., 30.7.2011.
(6) – John Maynard Keynes 1883 – 1946 عالم اقتصاد بريطاني له العديد من المؤلفات التخصصية وكان لأفكاره تأثيرات واضحة على السياسات الاقتصادية.
(7) – Fiscal Year 2014. Historical Tables a.a. O., pages 50 et suivantes.
(8) – Gouvernement américain Federal Debt at the End of Year: 1940–2017.
– (9) المصدر السابق
(10) – المصدر السابق
(11) – L’impérialisme du dollar ou comment les USA s’enrichissent aux dépens du reste du monde : http://reseauinternational.net/limperialisme-du-dollar-comment-les-usa-senrichissent-aux-depens-du-reste-du-monde/