مسعود ضاهر
ملحق النهار
تصادف هذه السنة، 2015، الذكرى المئوية للمجزرة الأرمنية التي أودت بحياة مليون ونصف مليون أرمني في إبادة جماعية. ليس هناك وصف لهذه المجزرة البشعة سوى أنها حرب إبادة جماعية، وهذه حقيقة تاريخية مثبتة بالأرقام والوثائق تدين سياسة عبد الحميد الثاني، ومن بعده سياسة جماعة “الاتحاد والترقي” ضد الشعب الأرمني وضد شعوب أخرى خضعت لسياسة الطورانية والتتريك، وهي تمثل واحدة من الجرائم الأكثر بشاعة في مطلع القرن العشرين. وبما أن تلك الجريمة بقيت من دون عقاب فقد تكررت بأشكال أخرى، وبخاصة في فلسطين، وفيتنام، والعراق، ونيجيريا، وغيرها.
مرت العلاقات بين الأرمن والسلطنة العثمانية بفترات طويلة من الاستقرار السكاني، والرعاية الاجتماعية، واحترام الشعائر الدينية لدى جميع رعايا السلطنة. تبوأ عدد من الشخصيات الأرمنية مراكز عليا في السلطنة، وبخاصة في الأمور الإدارية والمالية. يكفي التذكير بأن تطبيق نظام المتصرفية في جبل لبنان بدأ في العام 1861 بحاكم أرمني هو داود باشا ممثلاً للسلطنة العثمانية، وانتهى بحاكم أرمني في العام 1914 هو أوهانس باشا.
بدأت المسألة الأرمنية في عهد السلطان الدموي عبد الحميد الثاني الذي تميز بالإرهاب، وبارتكاب مجازر متلاحقة، وبالتهجير الجماعي، واعتمد سياسة التهجير الجماعي للأرمن من جهة، وخداع الجماهير العربية والإسلامية بأنه منع الحركة الصهيونية من إقامة مستوطنات على أرض فلسطين من جهة أخرى. لكن الوثائق التاريخية، العثمانية منها والعبرية، أثبتت مساندته للحركة الصهيونية على إقامة العديد من المستوطنات. وهذا ما أكدته دراسة علمية رصينة للدكتورة فدوى نصيرات، صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية في العام 2014 عنوانها “دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين”.
تعرض الأرمن لمجازر متدرجة حلت بهم تباعاً في الأعوام 1890-1896، فاتخذت طابع التهجير الجماعي كما حدث في ديار بكر وغيرها من المناطق العثمانية. وكانت الحصيلة النهائية مقتل عدد كبير من أرمن تركيا، وتهجير قسم آخر إلى القوقاس، فهزت تلك المذابح الرأي العام الدولي، وسارعت دول أوروبية كبرى معنية بالأزمة إلى إطلاق الوعود لحماية الأرمن من دون أن تسارع إلى نجدتهم في محنتهم.
حين تولت جماعة “الاتحاد والترقي” حكم السلطنة بعد إطاحة السلطان عبد الحميد الثاني كان في قيادتها عدد غير قليل من يهود الدونما، أي اليهود الذين اعتنقوا ظاهرياً الإسلام. تبنت الجماعة شعار “الطورانية والتتريك” ضد العرب والأرمن وقوميات أخرى، وتلقت دعماً مباشراً من المجلس الصهيوني العالمي. ما إن دخلت السلطنة العثمانية الحرب العالمية الأولى حتى سارعت إلى اتهام الأرمن بإثارة الفتن ضدها، وإعلان العصيان عليها بالتحالف مع دول خارجية. وفي آذار 1915، وضعت السلطنة المئة وخمسين ألف أرمني الذين كانوا يقيمون في إسطنبول تحت رقابة مشددة. ثم شكلت عمليات الطرد المنظمة مقدمةً للمذبحة التي ارتكبتها السلطات العثمانية ضد الأرمن. بعد أربعة أيام فقط على بداية العصيان الأرمني في منطقة فان، وعشية إنزال الحلفاء في الدردنيل، أعلنت السلطات العثمانية في ليل 24-25 نيسان 1915 خطة متكاملة جرى تنفيذها بالاستناد إلى لوائح إسمية أعدّت سلفاً لتقطيع أوصال الجماعة الأرمنية ومنع التواصل بين أفرادها. وصدر قرار بإبعاد جميع الأرمن من السلطنة نحو سورية، وتمت مصادرة بيوتهم بشكل اعتباطي بحجة البحث عن السلاح. وأعلن شنق عدد من كبار قادة الأرمن، فاعتبر تنفيذ قرار الإبعاد في ظروف جغرافية قاسية، وإعدامات بالجملة، ومجاعة، وأوبئة، بمثابة حرب إبادة حقيقية لإنهاء وجود الشعب الأرمني في السلطنة. أعطيت أوامر مشددة بالقتل الجماعي مع التنفيذ بطرق متنوعة. وكان الإبعاد مجرد غطاء شكلي لقرار الإبادة الجماعية. مات كثير من المبعدين عن ديارهم على الطرق، قتلاً أو جوعاً أو عطشاً، وتيقن الأحياء منهم أن الصحراء ستكون قبراً جماعياً لهم.
أشارت إحصاءات السلطنة العثمانية إلى وجود 1.295.000 ألف أرمني على أراضيها في العام 1914. لكن إحصاءات البطريركية الأرمنية أكدت وجود 2.100.000 أرمني في السلطنة. وتراوحت أرقام ضحايا المجزرة الأرمنية ما بين 800.000 وفق الإحصاء العثماني و1.500.000 وفق الإحصاء الأرمني، وهي تشير إلى أن عدد ضحايا المجزرة يقارب ثلثي السكان الأرمن تقريباً وفق الإحصاءين. فقضى 600.000 أرمني على طريق الإبعاد، ولاقى عدد مماثل حتفهم في أماكن أخرى، فبلغ العدد الإجمالي للضحايا قرابة المليون ومئتي ألف أرمني، بالإضافة إلى آلاف المفقودين. غادر قرابة 200.000 أرمني إلى دول القوقاز. وخطف عدد كبير من أطفال الأرمن، ومنهم من وضع في الملاجئ. نجا قرابة 150.000 من الذين احتضنتهم عائلات تركية وكردية وعربية، ومنهم من بقي حياً بعدما سجن في معسكرات للاعتقال ثم أطلق سراحهم. دلالة ذلك أن حرب الإبادة كانت من تخطيط وتنفيذ زمرة عسكرية عثمانية بعدما مهدت لها بالتحريض ضد الأرمن، واتهامهم بالخيانة العظمى، وتحالفهم مع الخارج لإنهاء السلطنة. وهذا ما اتهمت به العرب أيضاً بعد إعلان ثورة الشريف حسين على السلطنة، وبدأت حملات الإعدام في سورية ولبنان، بالإضافة إلى التجنيد الإجباري، وسفر برلك، والمجاعة، وغيرها من العقوبات الجماعية.
سياسة الخداع
بعد إعلان كمال أتاتورك الحرب ضد الحلفاء، تحولت الجمهورية التركية إلى دولة إقليمية قوية باتت الدول الأوروبية الكبرى المتصارعة ضمن محورين كبيرين بحاجة إليها إبان مرحلة ما بين الحربين العالميتين، فمارست تلك الدول سياسة الخداع مع الأرمن، فكانت تدين الإبادة الجماعية التي ارتكبت في حقهم، لكنها لم تتخذ مواقف جدية لمعاقبة مرتكبيها، أو إنصاف ذوي الضحايا والتعويض عليهم. نص اتفاق سيفر للسلام الصادر في 10 آب 1920 بين الحلفاء والسلطنة العثمانية، على التزام محاكمة المسؤولين الأتراك عن ارتكاب جرائم حرب ضد جماعات عثمانية محلية من أصول مختلفة، كالأرمن وقوميات أخرى، واعتبرت جرائم إبادة جماعية أو جرائم ضد الإنسانية. تمت الإشارة صراحة إلى مبدأ التعويض للضحايا في المادة 144 من معاهدة سيفر. لكن الدول الأوروبية بدأت تتخلى تباعاً عن دعم الأرمن لإقامة دولتهم القومية الجامعة ضمن حدود أرمينيا الكبرى، فخسروا أرمينيا الغربية التي ألحقت بالجمهورية التركية الحديثة النشأة. ومع دخول وحدات من الجيش الأحمر إلى أراضي الجمهورية الأرمنية، أعلنت الجمهورية الأرمينية، وكانت أصغر الجمهوريات السوفياتية. سرعان ما برز تعاون كبير بين الاتحاد السوفياتي والجمهورية التركية التي باتت دولة إقليمية مهمة. وتراجعت فرص المطالبة باستعادة وحدة أرمينيا التاريخية، وتحولت القضية الأرمنية إلى قضية إدانة لجريمة إبادة جماعية ذهبت ضحيتها أعداد كبيرة من الأرمن، تحول قسم كبير منهم إلى لاجئين ومهجرين قسرياً عن ديارهم، وكثرت الوعود اللفظية للتعويض عليهم، ومساعدتهم على استرجاع أراضيهم، ورموزهم ومقدساتهم التاريخية.
اعتبرت مبادرة كمال أتاتورك في إلغاء السلطنة العثمانية وإعلان قيام الجمهورية التركية خطوة ذكية في ظروف تاريخية معقدة جداً، جعلت الدول الأوروبية المتصارعة على النفوذ داخل أوروبا وفي منطقة الشرق الأوسط تتسابق لتقديم التنازلات لها. وقّعت معها دول الحلفاء معاهدة لوزان في 24 تموز 1923، تخلى بموجبها الحلفاء عن إجراء محاكمة دولية عادلة لمعاقبة مجرمي حرب الإبادة الجماعية من الأتراك العثمانيين ضد الأرمن، كما تخلوا عن التزام منح التعويض للناجين من الإبادة بعد قيام دولة أرمينيا السوفياتية على مساحة ضيقة من أراضي أرمينيا التاريخية. ومع أن الجمهورية الجديدة ضمت نسبة قليلة من مجموع الأرمن إلا أنها أصبحت رمزاً لحق الشعب الأرمني في تقرير مصيره بحرية على أرضه التاريخية، ووطنا لجميع الأرمن في العالم.
مصطلح “الإبادة الجماعية“
بعد الحرب العالمية الثانية، استخدم مصطلح “الإبادة الجماعية” رسمياً في محكمة نورمبرغ في 18 تشرين الأول 1945، وأدرج في المادة الثالثة من المحاكمة وفق النص الآتي: “أن يكون المدعى عليهم قد ارتكبوا جرائم قتل أو أساؤوا معاملة السكان المدنيين وعلى وجه الخصوص: إبادة متعمدة وموجهة، أي نفي مجموعات عرقية وقومية بحق السكان المدنيين في أراض محتلة محددة بهدف إهلاك عرق أو طبقة معينة من الشعب، أو مجموعات عرقية وقومية ودينية”.
وأكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قراراها رقم 96 الصادر في 11 كانون الأول 1946 أن “جريمة الإبادة الجماعية هي جريمة في القانون الدولي يدينها العالم المتحضر ويعاقب على ارتكابها المجرمون الأساسيون والشركاء، سواء أكانوا أفراداً أم موظفين رسميين أم رجال دولة، وسواء أكانت الجريمة مرتكبة على أسس دينية أو عرقية أو سياسية أو غيرها”. غالباً ما كانت تلك الأعمال تبقى من دون عقاب لأنها بحاجة إلى قوانين ذات مفعول رجعي. لكن اتفاق الإبادة الجماعية طبِّق بمفعول رجعي على الهولوكوست فقط بذريعة أنها إبادة لعدد كبير من اليهود في ألمانيا النازية. لذا أصر المناضلون الأرمن على أن يُطبَّق اتفاق مماثل بمفعول رجعي أيضاً على إبادة الأرمن. فهدف المحاكمة الدولية وفق اتفاق جريمة الإبادة الجماعية هو اتخاذ تدابير صارمة لمنع قيام أعمال تعتبر جريمة إبادة جماعية، ومعاقبة مرتكبيها بشدة، لردع كل من تسوّل له نفسه القيام بجريمة إبادة جماعية وتحذيره بأنه لن ينجو من العقاب الدولي العادل. ونصت مبادئ الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي على ما يأتي: “يمكن المطالبة بجبر الضرر بشكل إفرادي وجماعي عند اللزوم مباشرة من قبل ضحايا الانتهاكات لحقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني، والعائلة المباشرة، والتابعين، أو أشخاص آخرين، أو مجموعة من الأشخاص لهم علاقة وطيدة مباشرة مع الضحايا”. وتضمنت المادة التاسعة من القانون الإنساني الدولي النص الآتي: “يجب ألاّ تطبّق قوانين تقادم الزمن في ما يتعلق بالقرارات التي لا يوجد فيها حلول فعالة لانتهاكات حقوق الإنسان أو القانون الإنساني الدولي”. تالياً، ليس من الإنصاف، أو العدالة الحقوقية أو الإنسانية، أن تستمر الجمهورية التركية الديموقراطية اليوم باستثمار الأراضي الأرمنية التي أفرغت من سكانها الأرمن قسراً بسبب الإبادة الجماعية. وليس من أخلاق الأفراد والجماعات التي تنتسب إلى نظام القيم وشرعة حقوق الإنسان، ومبادئ القانون الدولي الإنساني أن تستمر تركيا في الإفادة من تلك الأملاك والمقدسات التي كانت للأرمن وتحرم الشعب الأرمني من حقوقه التاريخية والاجتماعية، وأن يدمر تراثه الثقافي على أرضه. فاستمرار وضع اليد على تلك الممتلكات يشكل خرقاً فاضحاً لنظام القيم الإنسانية، وللتراث الحضاري الأرمني الذي لا بد من إعادته إلى أصحابه الشرعيين لأنه جزء من التراث الإنساني. في حال عدم إعادة الممتلكات الأرمنية لأصحابها، والمؤسسات الدينية والإنسانية للمنظمات الأرمنية بصفتها الوارث الشرعي لها، فإن من واجب المنظمات الأرمنية إقامة شكاوى أمام محكمة العدل الدولية باسم الناجين من الإبادة، أو باسم ورثتهم، أو باسم الكنيسة الأرمنية، لاسترجاع الممتلكات الأرمنية التي صودرت من غير وجه حق بعد حرب الإبادة الجماعية التي قامت بها السلطات العثمانية وأفادت منها سلطات الجمهورية التركية من دون التعويض على أصحابها الشرعيين أو ورثتهم.
اعترفت حكومة ألمانيا بالتزاماتها الدولية لتعويض الممتلكات المسروقة من ضحايا الهولوكوست، ودفعت تعويضات للناجين من الضحايا. وكان لموقفها هذا أثر واضح في استقرار المجتمع الألماني ومنع تجدد الأفكار النازية فيه. حري بالدولة التركية أن تقوم بعمل مماثل لحل المسألة الأرمنية وفق نظام القيم الإنسانية والعقلانية من طريق إعادة الرموز الجغرافية والثقافية التي تعبّر عن هوية الشعب الأرمني التاريخية والتعويض على ضحايا الإبادة التي ارتُكبت في حق الشعب الأرمني عبر المؤسسات الأرمنية المعنية.
المسألة الأرمنية في زمن العولمة
دخل الشرق الأوسط في دائرة العولمة من خلال دول أوروبية استخدمت النزعة العسكرية من جهة، وحملت معها الأفكار التحررية للثورة الفرنسية من جهة أخرى. ثم أضافت الولايات المتحدة إلى تلك الأفكار التحررية مبادئ الرئيس الأميركي ويلسون حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، بالإضافة إلى دخول الأفكار الاشتراكية المطالبة بالعدالة الاجتماعية. هكذا بدأت عولمة الشرق الأوسط في مرحلة السيطرة الأوروبية وما قابلها من حركات التحرر الوطني المطالبة بالاستقلال، والسيادة الوطنية، وقيام دول عصرية وفق اتفاقات سايكس – بيكو الشهيرة. بالإضافة إلى الإبادة الأرمنية، شهدت تلك الفترة موت ثلث سكان جبل لبنان جوعاً، وبداية إطلاق المشروع الصهيوني استناداً إلى وعد بلفور، وتقسيم الشرق الأوسط بين الإنكليز والفرنسيين، وصعود التيارات النازية والفاشية والديكتاتورية في عدد من الدول الأوروبية، وانفجار الحرب العالمية الثانية التي أدت إلى مقتل عشرات الملايين من الناس، واستخدام الأميركيين القنابل النووية للمرة الأولى في التاريخ بهدف إبادة جماعية ضد اليابانيين.
شهدت هذه المنطقة إبان مرحلة ما بين الحربين العالميتين نزاعات أوروبية متعددة لعبت فيها بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وروسيا، دوراً بارزاً. شكل مؤتمر يالطا بداية تحول دولي نحو الحرب الباردة بين السوفيات والأميركيين. بنيت السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط على ركيزتين أساسيتين: السيطرة على منابع النفط والغاز، وحماية إسرائيل ومشروعها الاستيطاني لإقامة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل. واستخدمت ركائز فرعية عدة لديمومة سيطرتها أبرزها: القواعد العسكرية في الشرق الأوسط، والأساطيل الأميركية المتنقلة في البحار المحيطة به، ودعم إسرائيل الثابت لتكون قاعدة عسكرية ضخمة تحمي المصالح الأميركية، ودعم كل من تركيا وإيران لمحاربة الشيوعية والقومية العربية، ثم إدخالهما في تنافس حاد على زعامة النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. وفي ظل عولمة أميركية وحيدة الجانب منذ نهاية الحرب الباردة، أعلنت الولايات المتحدة رغبتها في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد كحاضن للمشروع الصهيوني، واستخدمت إلى جانبه مقولات نظرية سلبية للغاية تتناقض جذرياً مع أفكار الثورة الفرنسية ومبادئ الرئيس ويلسون عن حق الشعوب في تقرير مصيرها بحرية. أبرز تلك المقولات: نهاية التاريخ، أي تأبيد الهيمنة الأميركية على العالم، وصدام الحضارات بعد تحويله إلى صراع ضد الدين الإسلامي، ونشر الفوضى الخلاقة التي أدت إلى تهجير جماعات مسيحية وإيزيدية من العراق وسورية، وإعلان الحرب على الإرهاب الدولي مع الاستمرار في دعمه وعولمته، وتعزيز دور إسرائيل كنموذج لإرهاب الدولة العنصرية. فعصر العولمة الأميركية الوحيدة الجانب هو عصر الحروب المتلاحقة بامتياز. وقد نالت منطقة الشرق الأوسط الحصة الكبرى منها. وأبرز أدواته العنف العسكري، والشركات الاحتكارية، والصراع على النفط والغاز، وتنكر الغرب، بجناحيه الأوروبي والأميركي، للديموقراطية، وحقوق الإنسان، ومبادئ الثورة الفرنسية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم إيجاد حل عادل ودائم لحرب الإبادة التي تعرض لها الشعب الأرمني.
ساعدت إسرائيل على طرد أعداد كبيرة من الطوائف المسيحية والإسلامية عن أرض فلسطين، وإقامة مستوطنات لا حصر لها لإحلال جماعات يهودية وافدة من مختلف دول العالم. ليس من شك في أن العولمة المبنية على الإفراط في استخدام القوة، وحرمان الشعوب من أبسط حقوقها هي عولمة همجية لا تبشر بحل عادل ودائم للمسألة الأرمنية.
دخلت العولمة الأميركية أخيراً في منعطف بالغ الخطورة لم تعد فيه الولايات المتحدة قادرة على لجم النزعة العسكرية في داخلها كأسلوب فاعل للسيطرة على العالم عسكرياً، عبر احتكار سوق السلاح الدولي بنسبة تتجاوز 85 في المئة، وربط الاقتصاد العالمي بالدولار المأزوم في بلد مصاب بالتضخم الكبير وبالبطالة المتزايدة. في المقابل، هناك دلائل كثيرة تبشر بقرب ولادة نظام دولي متعدد الأقطاب، وعولمة أكثر إنسانية بقيادة آسيوية، وتحديداً الصين والهند. وتزامن صعود الصين ومعها دول البريكس مع انتشار نظريتين متناقضتين حول مستقبل العولمة:
الأولى: تؤكد استحالة انفجار حرب عالمية ثالثة لأنها تدمر البشرية بأسرها. فاعتماد حروب فرعية أو حروب بالواسطة لن يحل مأزق الهيمنة الأميركية على العالم.
الثانية: تؤكد أن القوة الناعمة قادرة على مواجهة النزعات العسكرية وإلحاق هزيمة بعولمة القطب الأميركي. فعولمة القوة الناعمة ترفض النزعة العسكرية لحل المشكلات الدولية، وتتبنى شعارات الديموقراطية السليمة على المستوى السياسي، والليبيرالية المراقبة على المستوى الاقتصادي، وتعمل على بناء دولة علمانية يتساوى فيها جميع الناس في الحقوق والواجبات، وتطالب بإيجاد حلول سلمية وعقلانية للمشكلات المزمنة، وبخاصة المسألة الأرمنية والمسألة الفلسطينية، والتعاون الدولي لمحاربة الفقر، والجوع، والبطالة، والاختلال الاقتصادي على المستوى الكوني بعدما بات 1 في المئة من السكان يسيطرون على 50 في المئة من اقتصاد العالم.
أين أصبحت المسألة الأرمنية في زمن التبدلات الإقليمية والدولية؟
طوال المئة عام المنصرمة، بقيت المسألة الأرمنية حية من خلال نشاطات ثقافية واجتماعية وفنية متعددة قامت بها القوى الحية في صفوف الشعب الأرمني، فعقدت مؤتمرات دولية ذات أبعاد حقوقية وإنسانية هدفها المحافظة على هوية الشعب الأرمني التاريخية، ولا تزال مؤسسات الشعب الأرمني تتمسك بمواقف ثابتة ومبدئية لنيل حقوقها المشروعة كاملة. لا يتسع المجال هنا لذكر ما قامت به المنظمات الأرمنية من نشاطات مدعمة بالوثائق، وبالقرارات الدولية المنددة بالإبادة الأرمنية. فقد نشرت مئات الكتب والدراسات، بلغات عدة. لكن الإدانة وحدها ضد مرتكب تلك المجازر لم تعد تكفي بل المطلوب إيجاد حلول عقلانية لهذه المسألة التي تجاوزت المئة عام، وخصوصاً أن الدول الكبرى في النظام العالمي تبدو اليوم غير راغبة في اتخاذ موقف حازم لإلزام تركيا الاعتراف بالإبادة الأرمنية وإرجاع دور العبادة والكنائس والمؤسسات الأرمنية إلى أصحابها الشرعيين، والتعويض عن الخسائر البشرية والاقتصادية الهائلة التي لحقت بالأرمن.
توزع الأرمن بين مقيمين ضمن حدود دولة مستقلة ذات مساحة جغرافية ضيقة على جزء من أراضي أرمينيا التاريخية، مقابل أعداد كبيرة منتشرة في الشتات الأميركي، والروسي، والأوروبي والعربي. بالإضافة إلى جالية أرمنية مهمة لا تزال تقيم داخل تركيا.
في نيسان 1984، اجتمعت شخصيات عالمية مرموقة، منهم ثلاثة من حملة جائزة نوبل، في جامعة السوربون بباريس، وأعلنت قيام “محكمة الشعوب”. بعد تحقيقات مكثفة، أصدرت حكما أكدت فيه أن ما حصل في السلطنة العثمانية في العام 1915 في حق الأرمن جريمة ضد الإنسانية، ولا تخضع لتقادم الزمن التي تسمح بتبرئة المجرم. وفي آب 1985، أقرت اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن الإبادة الأرمنية تشكل حقيقة تاريخية دامغة، وذلك بغالبية 14 صوتاً ضد صوت واحد وامتناع أربعة عن التصويت. وفي حزيران 1987 أعلن البرلمان الأوروبي أن المجازر التي ارتكبها أتراك عثمانيون في حق الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى تشكل جريمة إبادة تماشياً مع اتفاق الأمم المتحدة حول مفهوم حرب الإبادة. وطالب الاتحاد الأوروبي الحكومة التركية بأن تعترف بتلك الإبادة لكي ينظر الاتحاد بإيجابية إلى طلبها الانضمام إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية التي تعتبر أن عدم اعترافها بالإبادة يشكل عقبة كبيرة أمام انضمامها إلى المجموعة.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 سنحت الفرصة لأرمينيا السوفياتية لكي تتحرر من النفوذ الروسي، وتعلن قيام جمهورية أرمينيا المستقلة. لكن أجزاء منها لا تزال تحت سيطرة جورجيا، ولا يزال إقليم ناغورني كاراباغ موضع نزاع عسكري مع أذربيجان، ولا تزال أرمينيا الغربية بأكملها، التي تضم أهم الرموز الأرمنية وبخاصة جبل أرارات، تحت السيطرة التركية. في ظل عولمة القطب الأميركي الأوحد، المتحالف بقوة مع تركيا، ليس ما يشير إلى وجود موقف موحد للدول الكبرى يلزم تركيا الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن، أو بإعادة أراضي أرمينيا التاريخية إلى الجمهورية الأرمينية التي تعاني من أوضاع جغرافية واقتصادية ومالية صعبة للغاية، وسط تحالفات إقليمية شديدة التوتر بين تركيا وإيران.
شكل إعلان جمهورية أرمينيا المستقلة بداية مرحلة جديدة من مراحل نضال الشعب الأرمني لاسترجاع حقوقه المشروعة بالطرق السلمية. ومنذ بداية العام 1992، انضمت جمهورية أرمينيا إلى “مشروع منطقة البحر الأسود للتعاون الاقتصادي”، الذي دعت إليه تركيا، فاعتبر انضمامها بمثابة إظهار للنيات الحسنة لتبادل العلاقات بين تركيا والجمهورية الأرمنية وفق سياسة براغماتية تستخدمها الدول التي تبحث عن حلول سلمية لمشكلاتها المزمنة مع دول الجوار. فليس في إمكان الجمهورية الأرمينية تجاهل البعد الجيوسياسي لوجودها ضمن دول عدة، وأن تركيا هي منفذها الاقتصادي الأساسي نحو الغرب. وقد عززت علاقاتها الثنائية مع إيران، وتحاول إيجاد حلول سلمية لمشكلاتها المزمنة مع جورحيا، وأذربيجان.
في 3 نيسان 1997، دعا البرلمان اللبناني شعب لبنان للوقوف إلى جانب القضية الأرمنية العادلة، وإعلان ذكرى 24 نيسان يوماً لتضامن اللبنانيين مع الشعب الأرمني. وفي 11 أيار من العام 2000 صوّت البرلمان اللبناني على توصية اعترف فيها بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها السلطات العثمانية في حق الشعب الأرمني. تضمنت التوصية ما يأتي: “إن مجلس النواب اللبناني، لمناسبة الذكرى الخامسة والثمانين للمجازر التي ارتكبتها السلطات العثمانية عام 1915 وذهب ضحيتها مليون ونصف مليون أرمني، يعترف ويدين الإبادة الجماعية بحق الشعب الأرمني، ويعرب عن تأييده المطلق لمطالب مواطنيه الأرمن، ويعتبر أن الاعتراف الدولي بهذه الإبادة شرط أساسي لمنع جرائم مماثلة قد تحصل مستقبلاً”.
نخلص إلى القول، إن عدم الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن ومعاقبة المسؤولين عنها، شجع مجرمين آخرين في اليابان، وفلسطين، وفي العراق، وسورية، وأفغانستان، وفيتنام، ونيجيريا وغيرها على ارتكاب جرائم إبادة جماعية مرعبة يهتز لها الضمير الإنساني. نخص بالذكر اليابان التي تعرض شعبها لقنبلتين نوويتين ألقتهما الطائرات الحربية الأميركية في نهاية الحرب العالمية على هيروشيما وناغازاكي، وأودتا بحياة مئات الألوف من الأبرياء اليابانيين. ما أثار دهشة العالم أن الطيارين الأميركيين اللذين ألقيا القنبلتين النوويتين على اليابان رفضا الاعتذار عن عملهما الإجرامي في الإبادة الجماعية وهما على فراش الموت.
مع تفجر الانتفاضات العربية لعام 2011 سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها، من أوروبيين، وأتراك، وإسرائيليين، وعرب، إلى مساندة الإرهاب الدولي بالمال والسلاح، ففتحوا الأبواب لدخول عشرات الآلاف من الإرهابيين والتكفيريين إلى منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة إلى العراق وسورية. برز تحالف واضح بين إسرائيل وتركيا والقوى الإرهابية التكفيرية، فبات الشرق الأوسط اسير إرهاب دول ومنظمات تكفيرية. ويشكل مشروع الشرق الأوسط الجديد مدخلا لتفكيك هذه المنطقة وإنهاء المسألة الأرمنية والمسألة الفلسطينية معاً.
الآفاق المستقبلية لحل الأزمة الأرمنية
بعد قرن كامل من نضال الأرمن المستمر، داخل جمهورية أرمينيا المستقلة ولدى أرمن الشتات، تأكدت الجماهير الأرمنية ونخبها السياسة والثقافية والاقتصادية أن ميزان القوى الراهن على المستوى الدولي لا يسمح بإعادة كامل أراضي أرمينيا التاريخية. كما أن الجمهورية الأرمينية الحالية لا تحقق بمفردها تطلعات الأرمن وأحلامهم، في وقت تؤكد الدول الفاعلة في النظام العالمي الجديد أنها ليست على استعداد لاستعداء تركيا دفاعاً عن عدالة القضية الأرمنية. لا تزال استراتيجيا المنظمات الأرمنية لحل المسألة الأرمنية بالطرق السلمية صائبة وذات أبعاد مستقبلية واعدة. فاعتراف دول كبرى ومنظمات دولية كثيرة بالإبادة الأرمنية يتضمن اعترافاً صريحاً بمسؤولية الجمهورية التركية في إيجاد حل عادل ودائم للقضية الأرمنية بصفتها قضية عادلة ومحقة. فالجمهورية التركية هي الوارث الشرعي للسلطنة العثمانية، وهي معنية بإيجاد حل عادل لهذه القضية بالتفاهم مع أصحابها الشرعيين. ذلك يتطلب من تركيا القيام ببادرة حسن نية تعيد إلى الأرمن الرموز التاريخية لإرث شعب حضاري عريق لا يمكن أن ينسى تاريخه أو يكف عن المطالبة بحقوق المشروعة.
ما ينطبق على المسألة الأرمنية ينطبق أيضاً على المسألة الفلسطينية. فلم تنجح إسرائيل، على رغم جبروتها العسكري وجيشها الذي لا يقهر، في طمس عدالة هذه القضية من طريق المزيد من التهجير والاستيطان. فعدد الفلسطينيين على أرض فلسطين وفي الشتات بات يقارب الثمانية ملايين نسمة. وعلى إسرائيل اليوم أن تعيد النظر في استراتيجيتها بعدما أصبح وجودها مهدداً.
وبعد مئة عام على الإبادة الأرمنية لا يزال الشعب الأرمني مستمراً في نضاله بوتيرة متصاعدة على رغم أن مواقف الدول الكبرى لم تكن فاعلة. كما أن موقف الرأي العام الدولي بات مستهجناً لأنه يؤكد تقاعس المجتمع الدولي في إدانة الإبادة الجماعية للأرمن التي تركت جرحاً دامياً لدى الشعب الأرمني وفي الضمير العالمي. الأسوأ أن بعض الدول تراجعت عن مواقف سابقة لها في هذا المجال. فاعتراف تركيا بالإبادة الجماعية للشعب الأرمني لم يعد اليوم كما أعلن عام 1987 شرطا لقبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي. كما أن مجلس الشيوخ الفرنسي رفض إدراج مشروع قانون يعترف بالإبادة الأرمنية على جدول أعماله بتاريخ 24 شباط من العام 2000. ودعا سفير فرنسا بأرمينيا في تصريح له بتاريخ 11 آذار من العام 2000 الأرمن إلى الكف عن تحميل الجمهورية التركية الحالية مسؤولية إبادة جماعية ارتُكبت في زمن السلطنة العثمانية، “يجب عدم إلقاء جرائم الماضي على عاتق تركيا المعاصرة، وعلى أولئك الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد عند ارتكاب تلك الجرائم. ولا يجوز توجيه الاتهام إلى جميع الأجيال القادمة من الأتراك”.
لكن الدول الكبرى مستمرة في إطلاق تصريحات ومواقف تدغدغ عاطفة الأرمن من دون أن تقدم لهم دعماً فعلياً على أرض الواقع. اتخذت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأميركي في العام 2005 قرارا تبنى فيه مصطلح “الإبادة الأرمنية”، ثم اعترفت 42 ولاية أميركية بالإبادة الأرمنية. وصدر قرار عن البرلمان الألماني في صيف 2005 يشير فيه إلى “التطهير العرقي” ضد الأرمن، وأعاد الرئيس الفرنسي جاك شيراك في العام 2006 تأكيد ضرورة اعتراف تركيا بالإبادة الأرمنية كشرط لدخولها إلى عضوية الاتحاد الأوربي. لكن تلك التصريحات والإدانات لم تساهم في إيجاد حل عادل للمسألة الأرمنية.
مع ذلك، هناك آفاق مستقبلية واعدة لحل المسألة الأرمنية سلميا. فالشعب الأرمني لا يخوض صراعاً عسكرياً ضد الدولة التركية، بل يبحث عن حل سلمي لقضيته العادلة. ومنذ العام 2006 تبلور نوع من الديبلوماسية البراغماتية بين تركيا وجمهورية أرمينيا للبدء بتطبيع سياسي بينهما على رغم استياء بعض أرمن الشتات. لكن هذا المسار البراغماتي ضروري لجمهورية محاصرة من أربع جهات، ولديها مشكلات سكانية، واقتصادية، ومائية كبيرة. كما أن غالبية الأرمن ترفض التنازل عن حقوقها المشروعة، أو تغليب السياسة البراغماتية في القضايا المبدئية.
ففي أيلول 2008 زار رئيس الجمهورية التركية، عبدالله غول، يريفان، في محاولة اختبار النيات لتطبيع العلاقات بين البلدين الجارين. وفي العام 2014 أقدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خطوة غير مسبوقة حين قدّم تعازيه عن المجازر الأرمنية. وفي 20 كانون الثاني 2015، نشرت صحيفة “النهار” اللبنانية تصريحاً لرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو دعا فيه الى “بداية جديدة” في العلاقات التركية – الأرمنية التي يشوبها خلاف تاريخي مرير بشأن عمليات الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الأولى. جاء ذلك لمناسبة الذكرى الثامنة للجريمة المروعة التي هزت تركيا وأرمينيا وأودت بحياة الصحافي التركي الأرمني هرانت دينك في كانون الأول 2007 في إسطنبول، والذي كان يدعو الى المصالحة بين الدولتين الجارتين. وتضمن بيان أوغلو ما يأتي: “ندعو جميع الأرمن، كما ندعو جميع من يؤمنون بالصداقة التركية – الأرمنية الى المساهمة في بداية جديدة. ومن خلال كسر المحرمات فقط نأمل في البدء بمعالجة الالام العظيمة التي جمدها الزمن منذ العام 1915”.
الشعب الأرمني يريد إقامة علاقات طبيعية مع تركيا. لكن مواقف الحكومة التركية تشير إلى أنها تعتمد سياسة تطبيع الأمر الواقع للعلاقات على طريقة إسرائيل مع الفلسطينيين. وهي تطلب من الأرمن نسيان الماضي تحت ذريعة أن أتراك اليوم لا يتحملون وزر المجازر التي ارتكبها أتراك السلطنة العثمانية. نستذكر هنا أن المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين استمرت عشرين عاماً من دون الوصول إلى نتائج إيجابية. على العكس من ذلك، خسر الفلسطينيون المزيد من الأراضي، ولا تزال الأمم المتحدة عاجزة عن تحديد برنامج زمني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين بسبب الفيتو الأميركي.
نستذكر هنا عبارة نيلسون منديلا الرائعة لإنهاء نظام الأبارتايد في دولة جنوب أفريقيا، حين قال: “نسامح لكن لا ننسى”. فلا يمكن الشعب الأرمني أن ينسى مأساته مهما طال الزمن. ويتطلب نجاح تطبيع العلاقات مع تركيا اعترافها بالإبادة الأرمنية، والتعويض المبرمج على ضحاياها، وإعادة الرموز الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية للمؤسسات الأرمنية. هنا بالضبط تكمن أهمية تغليب الصراع الحضاري على المستوى الكوني لوقف النزعة العسكرية ومحاولات السيطرة على العالم تحت ستار الحرب على الإرهاب. فإذا لم يعد في الإمكان محاكمة مجرمي حرب الإبادة الجماعية، فعلى الأقل تعترف الجمهورية التركية بالحقائق الدامغة التي تؤكد حصولها، وأن تتحمل جزءاً من المسؤولية بصفتها الوارث الشرعي للسلطنة العثمانية. بهذه الصفة سيطرت على نسبة كبيرة من الأراضي الأرمنية وأدخلتها ضمن حدودها الجغرافية المعترف بها دوليا. ومن أول واجباتها التعويض على المتضررين من ضحايا المجزرة كمدخل لإقامة علاقات طبيعية بين الأرمن والأتراك.
الشعب الأرمني يطالب بحقوقه المشروعة وفق مبادئ الأمم المتحدة والقانون الإنساني الدولي. وليس لديه نزوع لاستخدام القوة والأعمال الإرهابية ضد المؤسسات التركية. حمل معه قضيته العادلة إلى الدول التي انتشر فيها، في الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، وسورية، ولبنان، ودول أوروبية، وغيرها. ولا تزال جالية أرمنية مهمة تعيش في الجمهورية التركية منتشرة بين بعض المدن والأرياف، ومنهم من اضطروا إلى تغيير أسمائهم وانتمائهم الديني. شكل الأرمن قاعدة إنتاجية وثقافية وإعلامية ومالية مهمة في الدول التي انتشروا فيها، وتعاطفت معهم غالبية الدول التي استضافتهم، وساعدتهم على الاحتفاظ بتراثهم الديني والثقافي واللغوي، وعلى تأسيس مدارس، وجامعات، ووسائل إعلامية خاصة بهم، إلى جانب انخراطهم الواسع في المجتمعات التي انتشروا فيها.
إذا كانت تركيا تريد اليوم أن تفتح صفحة جديدة لحل المسألة الأرمنية، فعليها الاعتراف بوقوع الإبادة الأرمنية. وليس من يحمل الجمهورية التركية مسألة تلك المجازر لكن تطبيع العلاقات بين شعبين يعيشان في دولتين مستقلتين يتطلب الاعتراف بوقوعها، وتجاوز ما امكن من تداعياتها السلبية. وبما أن الجمهورية التركية ورثت السيطرة على مساحات شاسعة من أراضي أرمينيا التاريخية، لا بد من مساعدتها لوصل حلقات تراث الشعب الأرمني على الجغرافيا التاريخية التي نشأ عليها، والتعويض على ضحايا الإبادة انطلاقاً من توقيع الجمهورية التركية شرعة حقوق الإنسان التي أقرتها الأمم المتحدة، وبخاصة قوانين حقوق الإنسان المعترف بها دولياً. ما يريده الأرمن من تركيا اليوم أن يحافظوا على ممتلكاتهم الثقافية، ومؤسساتهم الدينية الموجودة في الجمهورية التركية.
أخيراً، اعترفت دول كثيرة بالإبادة الأرمنية خلال المئة سنة المنصرمة، لكن المجتمع الدولي تقاعس عن القيام بخطوات عملية تساعد الأرمن على نيل بعض حقوقهم المشروعة. الأسوأ من ذلك أن المجتمع الدولي، وتحديداً غالبية الدول الكبرى الفاعلة اليوم في عصر العولمة، بدأت تنسى أو تتناسى الإبادة الأرمنية وتكتفي بتصريحات إدانة موسمية بعدما أفلت المجرمون من العقاب الدولي. لا بد من مواجهة أسلوب اللامبالاة الذي تعتمده الدول الكبرى تجاه هذه القضية. فالأمم المتحدة نفسها رفضت إدراج مرجعية الإبادة الأرمنية ضمن هيئاتها في مناسبات عدة، وبضغط من تركيا وحلفائها. هناك دول لا تزال تلتزم الصمت المطبق تجاه الإبادة الأرمنية بهدف كسب تركيا إلى جانب مخططاتها الدولية لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أسس جديدة تتجاوز اتفاقات سايكس – بيكو القديمة وتفتح الطريق لتقسيمات جديدة لتحقيق الحلم الصهيوني بقيام إسرائيل الكبرى التي تجمع شتات يهود العالم.
لقد تراجعت مواقف بعض الدول الغربية عن مواقف سابقة لها بعدما ساهمت في دفع المسألة الأرمنية إلى الانفجار الدموي الذي دفع ثمنه الشعب الأرمني غالياً من دماء أبنائه وأملاكهم، وهي ترفض استخدام علاقاتها الممتازة مع تركيا، وموقعها الفاعل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لإيجاد حل عقلاني وإنساني ودائم للمسألة الأرمنية. تناور وتراوغ لمنع إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية التي تعاني بالقدر نفسه من التجاهل طوال قرن بأكمله. بات واضحاً أن السياسة التي تستخدمها كل من تركيا وإسرائيل في احتلال أراضي الغير من دون مسوّغ قانوني، والقيام بعملية تهجير قسري بوسائل دموية تخالف أبسط حقوق الإنسان، والاستمرار في تهجير السكان عن أراضيهم من دون التعويض عليهم، تحرم كلتا الدولتين من سمات الدولة الديموقراطية التي تحترم حقوق الإنسان. وهما لم تستفيدا من دروس التاريخ وأبرزها أن النزعة العسكرية لم تحم الأنظمة النازية، والفاشية، والديكتاتورية، والتوتاليتارية.
لكن ما يريده الأرمن اليوم هو التأكيد الثابت والواضح لعدالة قضيتهم بهدف التأسيس لعدالة دولية تعاقب جميع من ارتكبوا جرائم إبادة جماعية. ويطالب الشعب الأرمني بالمحافظة على هويته الإنسانية في موطنه الأصلي. فقد أجبر على الهجرة عنه قسراً ضمن مخطط مدروس لطمس هوية الأرض الأرمنية، وتشويه ما تبقى من التراث الثقافي والديني للشعب الأرمني بسبب غياب الصيانة والحماية، والتغييب المستمر للأرمن عن ديارهم الأصلية، وخصوصاً أن جميع الحكومات التركية المتعاقبة رفضت الاعتراف بالإبادة الأرمنية أو التعويض على ضحاياها وفتح صفحة جديدة مع الشعب الأرمني.
وعى المناضلون الأرمن منذ زمن بعيد أن الاعتماد على الدول الكبرى هو مجرد أوهام لأن تلك الدول لا تفتش إلا عن مصالحها، فالمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى تفرض عليها اليوم التعاون مع دولة إقليمية كبيرة كتركيا، ولم تعد تبحث عن حل جذري للقضية الأرمنية على رغم الاعتراف بعدالتها. وأدرك المناضلون الأرمن هذه الحقيقة المرة منذ زمن طويل. هناك أغنية بالغة الدلالة تعود إلى العام 1890، لكنها لا تزال تنشد في المناسبات الوطنية الأرمنية لأنها تبرز وعي المجاهدين الأرمن. تقول كلمات الأغنية:
“لا يا أخي، لا يا أخي!
لا تأمل بالأجنبي
لا تصوبوا أنظاركم إلى البعيد عنكم
لماذا أنتم ضحايا الأوهام!
أعرف أن حملكم ثقيل، أيها الأرمن،
لكن، هل تظنون أن الأجنبي سيحمله عنكم؟”.
فهل يكون الحل الدائم والعادل للقضية الأرمنية وفق ما تصوره الشاعر سعيد عقل، على طريقته، حين قال: “لأن الشعب الأرمني أعطى الحضارة في كل حقول الإبداع فقد أصيب بكارثتين: أن تزال أرمينيا عن الخريطة كلياً إلا في ثلثها، وأن يباد الملايين من شعبها وبخاصة من هم من الأنتلجنتسيا الأرمنية آنذاك. إنها لجريمة إبادة فوق كل تصور. أين هي هذه القضية اليوم؟ لا يجوز انتظار قرار الدول الكبرى ليؤخذ حق الأمة الأرمنية. استراتيجية فعالة ومتجددة استمراراً من قبل القوى الأرمنية الفكرية والسياسية هي التي ستفرض أخذ القرار بعودة أرمينيا التاريخية. فالأمة الأرمنية في دولة تامة السيادة التاريخية مكسب للحضارة”. نعيد التأكيد أن المستقبل دوما لإرادة الشعوب التي تتمسك بحقها في تقرير مصيرها مهما طال الزمن. فهل تجد المسألة الأرمنية حلاً عادلاً ودائماً إذا نجح العالم في حماية ما تبقى من الممارسة الديموقراطية، وفي إطلاق عولمة أكثر إنسانية؟