لين محمود
المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي
كثيرة هي التساؤلات التي تحوم حول السبب الذي يدفع أنقرة لمخالفة تعليمات الصديقة واشنطن والقبوع خارج المشاركة العسكرية في “التحالف الدولي” لضرب ما يسمى الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، لكن عندما نستذكر أن كل ما يريده أردوغان العثماني لا يخرج عن مشروع تمزيق المنطقة تحت شعار الدين، سنعلم أنه لا الرهائن الأتراك الـ 49 (المحررين منذ حزيران الماضي) من قبضة “الدولة الإسلامية” في الموصل، ولا عدد النازحين السوريين الموجودين على الأراضي التركية، هما السببان الظاهريان الوحيدان اللذان دفعا أردوغان منذ البداية للبقاء خارج سرب التحالف الدولي المدّعي محاربة داعش، فلو عدنا إلى حقبة الحكم العثماني بالتحديد سنجد أن عمليات القتل والتعذيب وقطع الرؤوس وسبي النساء ومجازر الأرمن وما تلاها من إبادات جماعية شنيعة كلها تمت في عهدهم، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن الجينات الدموية المتسلطة للعثمانيين القدامى هي ذاتها التي تجري اليوم في عروق الأجيال الجديدة المتعاقبة على الحكم… وعندما يحجم أردوغان، الذي يعدّ العراب والراعي والممثل الأقوى للحقبة العثمانية البائدة، عن المشاركة بمشروع جديد تقوده الولايات المتحدة ليعلن اقتصاره على “مساعدات إنسانية”، فهو بالطبع يبيّت لحسابات أخرى من البديهي أن لا تصبّ إلا في صالح مآربه ومآرب حزبه الإسلامي.
لكن وقبل الولوج في الأسباب الرئيسية التي تدفع “تركيا أردوغان” للظهور بمظهر التعارض مع إرادة الغرب الراهنة، لابد من التطرق لتقدمة بسيطة في موضوع الجغرافيا الإقليمية والقدرات العسكرية التركية:
لتركيا حدود طويلة ومشتركة مع العراق وسورية. والحدود بين تركيا وسورية تمتد لنحو 900 كيلو متر، في حين أن الحدود مع العراق تصل إلى نحو 300 كيلو متر.. إذاَ، تركياً هي أقرب دولة عضو في حلف شمال الأطلسي أمّن معاقل تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسورية.
سلاح الجو التركي مزود بأحدث تكنولوجيات الجيش الأمريكي، وطياروه وطواقمه مدربون على يد خبراء أمريكيين، وهناك نحو 24 قاعدة عسكرية لحلف شمال الأطلسي في تركيا. وأكثر القواعد شهرة هي قاعدة “إنجيرليك” الجوية بجانب مدينة أضنا الواقعة في جنوب شرق البلاد. وأي طلعة جوية تنطلق من أي من هذه القواعد بحاجة إلى دقائق معدودة لا أكثر لتبلغ هدفها. مع ذلك، تصرح تركيا أن التزامها بالمساعي العسكرية للرئيس أوباما سيقتصر على مساعدات لوجستية ومعنوية فقط.
وقد صرحت أنقرة بوضوح بأنها لن تسمح بأي قاذفات أمريكية أو تابعة لحلف الناتو بالإقلاع من مطارات تركيا، وفي حال وجد طيار من حلف الناتو نفسه في مأزق خلال تحليقه في أجواء تركيا، عندها سيتم تفعيل بروتوكول خاص من أجل السماح له بالهبوط في تركيا، أي في حالات الطوارئ فقط.
هذا الموقف يستدعي بالضرورة التساؤل عن غاية أردوغان من هذا الأمر… ماذا يستفيد وعلى ماذا ينوي!؟
بالتأكيد للموقف أسباب ظاهرية وأخرى مضمرة…في الظاهر:
أولاً: من المهم التنويه بأن الرئيس التركي على دراية تامة بالتهديد الذي يشكله “داعش” ليس على حلفائه وحسب، وإنما على تركيا بشكل خاص، إلا أن وقوعه تحت تأثير محاربة داعش للدولة السورية واستنزاف جيشها يبقى هو الأقوى… والحقد الشخصي الذي يكنّه أردوغان تجاه سورية وقيادتها وشعبها عميق لدرجة أنه غير مستعد لدعم المساعي للقضاء على اولئك الإرهابيين الذين يشكلون خطراً على تركيا نفسها… في الواقع إنّ أحقاده الشخصية المريضة طغت على خشيته من نيران “الدولة الإسلامية”.
ثانياً: عندما بدا العراق، وخلال وقت قياسي، وجهة لرجال الأعمال من عرب وأجانب نظراً للمخزون النفطي الهائل الموجود في باطن أراضيه، كان أكثر ما يؤرّق أردوغان رؤية عراقٍ ديمقراطي منفتح على سورية والمحيط العربي والإيراني لأن من شأن ذلك أن يُشكل خطراً إستراتيجياً على الاقتصاد التركي. إذاً من منحى أول كانت هذه النقطة تندرج في مكاييل أردوغان، والمنحى الآخر والأهم أن أردوغان كان قد وضع نصب عينيه المخزون النفطي في مناطق الأكراد، فتركيا بحاجة إلى النفط أكثر من أي شيء آخر، لأن إنتاجها من الذهب الأسود جنوب شرق البلاد لا يغطي واحداً في المئة من حاجة السوق المحلي، لذا لا بد من افتعال الأزمات لدول الجوار حتى يحصل على مبتغاه…من هنا ولأن حكومة بغداد المتعارضة بطبيعة الحال مع أنقرة حول ملفات عديدة من أهمها علاقة أنقرة السياسية والأمنية والاقتصادية النفطية بأربيل، كان من البديهي أن يكون أردوغان بعيداً كل البعد عن المشاركة في الحلف المذكور الذي سيعمل بشكل أو بآخر على تعزيز قدرات بغداد لمحاربة التنظيم الإرهابي.
ثالثاً: لا شيء ثابتاً بالنسبة لأردوغان أكثر من أن التحالف المرتقب سيعزز بصورة غير مباشرة قوة إيران – الخصم التاريخي لتركيا وطموحاتها في المنطقة- ليس فقط بإزالة خطر وجودي كان يمثله داعش ومشتقاته على ايران مباشرة في العراق، وخطراً على دمشق، وهذا ما يقود إلى السبب التالي، وهو تخوف تركيا من دعم التحالف للأكراد في كردستان العراق، إذ يريد المجتمع الدولي أن تشكل قوة الأكراد العسكرية (البيشمركة) أحد أهم ركائز المعركة المتقدمة مع “داعش”. صحيح أن أنقرة تقيم علاقات ممتازة أمنية واقتصادية وسياسية مع أربيل، إلا أنها تخشى من أن السلاح بيد (البشمركة) قد يؤدي إلى وصول بعض الأسلحة المتطورة إلى “حزب العمال الكردستاني” في تركيا ذاتها. ثم إن “دعم” أنقرة لأربيل وفقاً لاستراتيجيتها شيء، بحيث ترهب وترغب وترخي وتشد ساعة تشاء وتبعاً لتقديراتها، ودعم المجتمع الدولي للأكراد شيء آخر. فهذا الدعم الأخير يشجع “كردستان” العراق على الابتعاد عن أنقرة والتفلّت رويداً من تبعيتها والتمرد عليها وتشجيع أبناء جلدتها على الخطوة ذاتها، وهذا كابوس أنقرة التاريخي.
رابعاً: ثمة تخوف تركي وهو القلق من الانتقام المباشر لـ “داعش” ومجموعاته عبر الحدود السورية ـ العراقية، والتي بات جزء كبير منها تحت سيطرة هذا التنظيم الإرهابي. أكثر من ذلك، ينتاب تركيا اليوم قلق حقيقي من قدرة تنظيم “داعش”على تهديد الوضع الأمني الداخلي عبر خلايا نائمة وبواسطة المقاتلين الأتراك المنضوين تحت رايته، والذين يقاتلون في سورية والعراق. وكانت وزارة الداخلية التركية قد قدرت عدد الأتراك الذين يقاتلون في صفوف المعارضة السورية ضد الأسد بحوالي 800 عنصر.
خامساً: ينبع السبب الخامس من هوية “حزب العدالة والتنمية” الحاكم. فهذا الحزب تركي المنشأ إسلامي التوجه “إخواني” الخلفية. ومع تمرّسه في الحكم، وترويضه الجيش التركي وإبعاده عن السياسة، وتكبيل القضاء، ومحاربته العلمانيين المتشددين، خلق “حزب العدالة والتنمية” له قاعدة شعبية قوية عمودها الفقري الطبقة البرجوازية في الداخل الأناضولي والتي تغلغلت إلى المدن الكبرى بعدما أتيحت لها فرص التجارة الصغيرة والمتوسطة.
هذه القاعدة الهائلة، التي تُعدّ بغالبها الأعم يمينية محافظة بنفس ديني قوي وعصب إخواني واضح، هي التي سمحت للقيادة التركية الحالية بتبني مواقفها الحادة المعروفة من فلسطين، وإسرائيل، وحماس، و”إخوان” مصر وسورية، و”ثورات الربيع العربي” في بداياتها، وحتى في بعض الملفات الداخلية الحساسة كوضع العلويين الأتراك وحقوقهم.. هذه المسائل التي كانت من المحرمات زمن تركيا الأتاتوركية.
هذا في الظاهر.. أما بالعودة إلى حسابات أنقرة الأساسية، فما خفي أعظم ويمكن إيجازه بالصورة التالية:
إن الاستفادة المالية الكبرى من عمليات تهريب النفط العراقي والسوري التي يقوم بها “داعش” عبر حدود تركيا الجنوبية، ومن ثم بيعه في السوق السوداء، تعد من أبرز الأسباب الحقيقية التي تجعل تركيا تنكفئ عن المشاركة في التحالف الدولي المذكور. وهذا ما كشفته صحيفة “نيويورك تايمز”، مؤخراً، في تحقيق بعنوان “في صراعها لحرمان داعش من إيرادات النفط، الولايات المتحدة تطلب مساعدة تركيا”، تحدّثت فيه الصحيفة الأميركية عن عدم رغبة تركيا في “مساعدة” الولايات المتحدة، وقطع التمويل عبر النفط الذي يجعل “داعش” أحد “أغنى المنظمات الإرهابية في التاريخ”، مشيرةً إلى استفادة “حكومية” تركية من عمليات التهريب تلك.
ورأت الصحيفة أن فشل تركيا حتى الآن في تضييق الخناق على تجارة النفط، يجسّد حجم التحديات التي تواجه الإدارة الأميركية، أولاً في ضمان نجاج الائتلاف الدولي لمواجهة “داعش”، وثانياً في تجفيف المنابع التي يعتاش منها، موضحةً أن حصول التنظيم على الأموال مرتبط بتجنيدها للمقاتلين وتأمين رواتبهم، فضلاً عن توسيع نطاق عمله ليشمل سورية والعراق وليبيا.
ونقلت الصحيفة عن خبراء في مراكز دراسات استراتيجية، قولهم إن رفض تركيا المشاركة في العمليات ضد “داعش” يعرّض “التحالف الدولي” للإحراج، وخصوصاً أن قوى رئيسية في “الأطلسي”، يبدو أنها غير راغبة في قطع تدفق التمويل والمقاتلين والدعم عن “داعش”، وغير قادرة على ذلك.
ويمثل الجنوب التركي البوابة الرئيسية للسوق السوداء، حيث أصبحت تركيا جزءاً من “الاقتصاد الأسود” الذي يموّل “داعش”. وبحسب جيمس فيليبس، الباحث في مركز “هاريتيج” للأبحاث، فإن السلطات التركية أثبتت أنها غير راغبة في استهداف شبكة التهريب، مضيفاً إن الأتراك يتجاهلون هذا الأمر لأنهم مستفيدون من السعر الزهيد للنفط المهرب في السوق السوداء، ومن بينهم مسؤولون في الحكومة التركية.
الدواعش الأتراك
التجاهل والتفلت من الالتزامات الحقيقية للحفاظ على الأمن القومي التركي، قاد بالضرورة لتنامي ظاهرة “الدواعش الأتراك” داخل وخارج البلاد. وكانت مجلة “نيوزويك” الأمريكية قد كشفت، مؤخراً، عن قيام تنظيم “الدولة الإسلامية” بتجنيد مقاتلين أتراك، في ضواحي اسطنبول “الهشة”. ومن خلال الروايات التي نقلتها عن عدد من الأشخاص الذين انتقل أقاربهم للقتال في سورية، خلُصت المجلة إلى أنه يمكن القول إن “داعش” تمكن من زرع شبكته بعمق في تركيا.
وما كشفته المجلة الأمريكية تابعته التقارير الإعلامية التركية عندما كشفت أيضاً عن انضمام ألف مقاتل تركي إلى “داعش” ممن لبوا النداء الأيديولوجي للمجموعة التي تعتبر جاذبة للشبان بسبب الأموال التي تدفعها من خزائنها للمقاتلين.
بعض المقاتلين الأتراك الذين جندهم “داعش” أقروا بأن التنظيم يمارس الحكم الإسلامي بشكل أفضل من الحزب الحاكم في تركيا “العدالة والتنمية”، معتبرين أنه أكثر اعتدالاً، وبحسب العديد من التسريبات الإعلامية فقد تحوّل أحد الأحياء الفقيرة في العاصمة التركية أنقرة، ويدعى “حاجي بيرام، إلى مركز للتجنيد خلال العام الماضي، فيما يؤكد السكان أن أكثر من مئة من شبانه ذهبوا للقتال في سورية.
من جهته، يقول ارون ستين الذي يعمل في معهد “رويال يونايتد سيرفيسز” في لندن، إنه “من الواضح وجود مراكز لتجنيد المقاتلين في أنقرة وعدد من المناطق التركية”.، ويشير إلى أن “أحقادهم الأيدلوجية ومفهومهم للإسلام الراديكالي، كل هذه العوامل أنتجت تداعيات خطيرة على تركيا”.
خاتمة:
ما صدر عن رجب طيب أردوغان حتى الآن لا يدع مجالاً للشك بأن المشروع الداعشي يتوافق، كلياً، مع مطامع حزب العدالة والتنمية الذي يرى جذوره في السلاجقة الذين كانوا أول قوة كبيرة تستثير العصبية المذهبية السياسية وتحشّد الجماعات الطائفية لدعم الدولة السلجوقية، وفي العثمانيين الذين حوّلوا العراق إلى ساحة صدام مذهبي مرير في نزاعهم مع الدولة الصفوية في إيران.. نعم، لم يعد سراً أن تركيا هي التي قدّمت وتقدّم المعسكر الخلفي لـ “داعش”، ولم يعد خافياً أن هذا التنظيم التكفيري الدموي هو الحامل الرئيسي لطموحات أنقرة الإقليمية المستندة إلى تقسيم المنطقة تحت شعار المذهبية.