آخر صرعات بعض ممتهني الثقافة المعاصرة، إن كان بشكلها الالكتروني المختزل في جملة متحذلقة أو أثنتين، أو بشكلها الخطابي المستند إلى محفوظات أفرغها التكرار من معناها، هي صرعة اتهام “العروبة” بأنها سبب كل الكوارث التي تحل بهذا المسلخ الممتد من المحيط إلى الخليج، والإيغال في شتمها على أنها منتج “شوفيني” قاصر عن التفاعل مع روح المرحلة وحقائقها. مفارقة العصر، منذ أن صارت شبكات التواصل الاجتماعي منبراً مفتوحاً لكل أنواع “حرية التعبير” وأعاجيبه، هي أن الواحد من هؤلاء الممتهنين يستطيع أن يصب جام غضبه على النوع البشري “العرب” وعلى الفكرة النهضوية “العروبة”، بينما يتغنى في الوقت ذاته بمزايا وخصائص فريدة لهويته القطرية التي يراها متفوقة على جوارها حضارياً بل وحتى عنصرياً. لحظة عابرة جداً من التأمل قد تذكره بأن تلك الهوية التي يتغنى بها على أنقاض ما يرى أنها “فكرة خشبية”، ما هي إلا احتفال مازوشي بانتصار خريطة سايكس بيكو على وعيه وإدراكه، احتفال بكونه نتاج سفاح قلم المستر سايكس مع ممحاة المسيو بيكو في رحم عثماني مريض وعفن. غلمان الثقافة هؤلاء، يحققون عن وعي أو جهل حلم مرجعيتهم التقليدية، بنسختها الأوروبية أو الأمريكية، في تحول تشكلات ثقافية وحضارية كبرى إلى قبائل وجماعات وقطعان تحارب بعضها كديوك السيرك بينما يتفاوض أسيادها على حياتها ودمائها.
وفي حين أن الثقافة هي واقع متجسد على الأرض ومتحول باستمرار من خلال تشكلات تتحكم فيها عوامل جغرافية وتاريخية ولغوية واقتصادية مرتبطة كلها بمنظومة الوعي والقيم الفكرية التي تنتجها هذه الثقافة في “لحظتها التاريخية” (historicity of culture)، وفي حين أن الدول تمثل استجابات متحولة أيضاً لمحصلة مصالح وآمال ووقائع اللحظة التاريخية ولعوامل اقتصادية تتعرض لإنزياحات مستمرة، تبقى الأفكار النهضوية الجامعة والثابتة المتعلقة بمركزية الوطن البوصلة الضامنة لمسار انتصار أي ثقافة على عوامل ضعفها وعلى التحديات الخارجية التي تواجهها.
يستطيع هواة اجتراح “الخصوصية الثقافية” القطرية التي يؤلفونها على سرير نكاحهم الفكري مع أبويهم الروحيين سايكس وبيكو (حتى في لحظة احتضار إرثهما الشنيع) أن يوغلوا في “الخصوصية” إلى حد تقزيم الثقافة لغوياً أو عرقياً أو فئوياً أو طائفياً، وهم بذلك يقدمون مساهمتهم الانتحارية والغبية لمشروع خريطة مشرقية تكون في مطلع القرن الحادي والعشرين أكثر شناعة من نسخة مطلع القرن العشرين.
معضلة مدعي الثقافة هؤلاء هي أنهم لا يستيطعون بالمطلق تقديم نموذج تاريخي أو معاصر واحد لمشروع نهضوي لا يستند إلى مبدأ التعددية الثقافية الجامعة لمكونات ثقافية أو لغوية أو عرقية أو دينية متنوعة تحت مظلة قيم حضارية لا يشعر معظم المنتمين إليها، أفراداً وجماعاتٍ، بأنها تقصيهم أو تجعلهم يشعرون بالغربة في وطنهم أو تصنفهم كمواطنين من الدرجة الثانية، أو كأتباع عقيدة مضطهدة أو مهمشة. ولا يستطيع محترفو تحويل الثقافة إلى دكاكين “بيع بالمفرق” لأضيق جمهور ممكن أن يقدموا مثالاُ عن فكرة نهضوية واحدة لم تستند بالمطلق إلى فكرٍ متنور منفتح على الآخر ومتجذر في رؤية ثقافية عابرة لأزقة الأعراق والطوائف والمتغيرات اللغوية والإثنية، إلى فضاء يرى فيه النهضويون تنوعاً حيث يرى الإقصائيون تناقضاً، ويرى النهضويون فيه فرصة في حين يخاله الإنعزاليون تهديداً، وما هو في الواقع إلا تهديد لكيانات تعتاش على استعداء بعضها البعض وتغوص في أنفاق حروبها الضيقة خدمة لخالقها الخارجي.
إن كل مشاريع بناء الأمم والحضارات عبر التاريخ، وخاصة الحديث أو المعاصر منه، ودون أي استثناء يذكر، قامت على أسس تعددية منفتحة وجامعة ومستشرفة لآفاق المستقبل والمصالح الإنسانية، لا على أسس تحويل الجغرافيا إلى كانتونات والتاريخ إلى مرجع الحجة في تفسير نقاء عنصري أو خصوصية ثقافية موهومة. تقوم المشاريع النهضوية على أسس تظهير وحماية عوامل الوحدة المستندة إلى التنوع، لا على التنقيب في تفاصيل الخلاف والاختلاف والتمايز العنصري أو الفئوي. تقوم على أسس الانتماء المستند إلى اختيار فكري متنور ، لا إلى مورثات عرقية أو لغوية أو دينية يولد فيها الإنسان، وتطالبه أن ينتسب إلى عصبيتها دون تفكير نقدي أو تحليلي.
قام مشروع العروبة بمحتواه التنويري والنهضوي على أساس الاختيار الواعي للانتماء الثقافي والحضاري، لا على تلك الأسس التي يسوق لها بعض أصحاب المشاريع الأخرى، الذين يجدون أن الطريق الأقصر لتسويق فكرهم لا يمكن أن يبدأ إلا بشتم العرب والعروبة. يرفع الواحد من شتامي العروبة عقيرته مصوراً لها على أنها ترسخ مشاعر قومية مغرقة في الغلو، لكن صدى صراخه يعري غالباً غلو رؤيته الشوفينية الخاصة، والخفية أحياناً، أو تطرف منظومته العقيدية أو الطائفية المشبعة بكل مورثات عقلية القبيلة.
منذ الوثيقة التأسيسية لفكر البعث العربي في دستوره عام 1947 ارتبطت مسألة الهوية والانتماء بالقناعة الذاتية والفردية المتجذرة في اختيار واعٍ، فالعربي في تلك الوثيقة “هو من كانت لغته العربية، وعاش في الأرض العربية أو تطلع إلى الحياة فيها، وآمن بانتسابه للأمة العربية” أي أن الصدفة اللغوية أو العرقية أو الجغرافية لا تحدد الهوية التي لا تصبح كاملة إلا من خلال الايمان بالانتماء. وفي حين يسعى الشتامون إلى تسويق العروبة على أنها انعزال واقصاء، تشدد وثيقة البعث التأسيسية على أن “الإنسانية مجموع متضامن في مصلحته، مشترك في قيمه وحضارته، فالعرب يتغذون من الحضارة العالمية ويغذونها ويمدون يد الإخاء إلى الأمم الأخرى ويتعاونون معها على إيجاد نظم عادلة تضمن لجميع الشعوب الرفاهية والسلام، والسمو في الخلق والروح”.
وفي حين أن الفكر العروبي المتنور يقدم رؤية متصالحة مع واقعه، وغير متناقضة مع عناصر فكره، يلجأ بعض مثقفي الغفلة إلى اعتناق الشيء ونقيضه والترويج لهما على اعتبار أن الأزمات تبرر مقولة موت أصحاب الحياء! هؤلاء المثقفون يهاجمون العروبة وسايكس بيكو معاً، ويقدمون في الوقت نفسه ما يقولون إنها مشاريع “واقعية”، وهي ليست في الواقع إلا تكريساً لكل مقولات الخريطة الأنكلوفرنسية التي ذبحت أبناء هذه الأمة على امتداد قرن من الزمان.
اليوم يدافع القوميون العرب بكل ما أوتو من قوة عن “الجمهورية العربية السورية” لا دفاعاً عن دولة رسمتها خرائط سايكس بيكو، ولا عن خصوصية ثقافية مغرقة في التقعر، ولا عن منطق مراهق أحمق “بالتركيز على سورية أولاً” ، بل من منطلق واقعي يرى أن ما تمثله سورية اليوم، وما يحارب من أجله جيشها “العربي السوري” هو فكرة أوسع من الجغرافيا، وأكثر ديمومة من يوميات السياسة التي شاهدها الشاعر الأندلسي “دول”، لا يدوم “على حال لها شان”. فالدولة كائن ما كان شكلها، واقع مرحلي وليست حقيقة فكرية.
واهم من يرى أن سورية تدافع اليوم عن حدود تتحرك كما الرياح، أو شكل حكم أو عن حزب. واهم حتى الغثيان من يعتقد أن سورية اليوم هي بصدد الدفاع عن سايكس بيكو جديد. في زمن استباحتنا كلنا كعرب، في زمن شتم العروبة ومحاولة دفنها حرقاً، تبقى الجمهورية العربية السورية أكبر من أن تكون دولة، بل هي الفكرة الجامعة المانعة، هي فكرة صياغة مصير الأمة في خضم هجمة استعمارية جديدة. والافكار، كما الأوطان لا تموت، بل تبعث نفسها دوماً من رماد احتراقها. أما الباحثون عن شبه دولة على شبه مزقة من هذا الوطن فقد تبرأ منهم الراحل يوسف الخطيب، شاعر البعث الحق، والمفكر العروبي الثابت، عندما خاطب مثقفي التطبيع الثقافي، ومروجي سياسات “الممثل الشرعي الوحيد”، والخصوصية القطرية، والمنتجات “الأوسلوية”:
مَن تَخدعون، يا حُــواةَ آخرِ الزَّمَنْ
يا قادةً.. بِصِيغَةِ الـمَـقُــودِ والرَّسَنْ؟!
أم قد جَنَيتُم – يومَ أن بَخَستُمُ الثمن
أُكذوبةَ «الدولةِ»… عن حقيقةِ «الوطنْ»؟!
لعل بصيص النور الوحيد الذي يستطيع العروبي أن يراه في “ربيع” الظلمات الذي اجتاحنا خلال السنوات المنصرمة، هو أن كل رد فعل حميم لكل مواطن عربي على ما حدث ويحدث في كل بلد عربي، وكائناً ما كان هذا الرد، يثبت حقيقة الشعور بالمصير المشترك والإدراك الفطري لمركزية العروبة، وهو ادراك علينا تحويله إلى وعي متأصل بفكرة نهضوية تجمع هذا النسيج البشري نحو كل ما هو خير له وللإنسانية، ولهذا تبقى العروبة الترياق الحق، الثابت الذي لا تتسع له خرائط الدول.