مهما تحاول مراكز القرار او التاثير في العالم العربي تحاشي لزوم وضرورة الانتقال الى رؤية استراتيجية تحررية جديدة، تظل الاوضاع العربية مضطربة واقرب الى عالم الفوضى والصفرية من حيث الوزن والفعالية، هذا اذا لم يعد الانحدار العام يؤشر الى مادون الصفر، والغريب ان الاوضاع على مستوى العالم تتجه باطراد نحو التبدل، والامم والتكتلات الدولية على الاجمال، تدخل حمى تنافسات وسباق على الاولويات وعلى تحسين المواقع، بينما مثل هذا الميل يكاد يكون منعدماً في العالم العربي كليا، والرؤية العامة المحفزة للطاقات والمصلحة العامة متدنية وجزئية وتتقلص دائرتها الى الادنى مع تفشي الفساد وانعدام الشعور بالمسؤولية واستشراء دوافع الذاتية والحقد، في حين يتصور اصحابها انهم محقون وسائرون نحو “اهدافهم” التي هي في الغالب من خارج العالم والعصر، ولاتستحق مثل هذا النوع من القناعات اذا لم تكن اقرب الى المرض منها الى الآمال او التطلبات المشروعة.
في اوقات سابقة كانت الدعوات الجامعة مثل القومية، او القضايا المحورية كالمسالة الفلسطينية وقضية التنمية والتقدم واللحاق بالعصر، قضايا جاذبة ومحققة للاجماع، حتى لو انها لم تبلغ اهدافها، بينما حل منذ قرابة ربع قرن مفهوم غريب، لايتوانى عن تغييب ركائز مهمة في التوازن العام، ومع ماعرفه العالم عند اواخر القرن المنصرم من تبدل كبير مع انفكاك الثنائية والإستقطاب الدولي الذي طبع القرن المنصرم، فقد تبدل ايضاً الموقف من ظواهر كانت قد تحققت في السياق التحديثي في المنطقة العربية، وتصور البعض ان الفرصة اتيحت له كي يشطب من الواقع حالات حداثية هامة، تى وان كانت مشوهة وتتسم بطابع يغلب عليه او يميزه حضور البنية العائلية والعشائرية والطائفية، وساد وضع بغض النظر عن تفصيلاته، لايتورع عن المساعدة على احداث اختلالات استراتيجية كبرى في الواقع العربي من دون اعتبار للمصلحة القومية، وقد ابيحت للمرة الاولى الاستعانة بالاجنبي وبقواته لاحتلال بلد عربي اساسي عام 2003 عندما احتلت الولايات المتحدة الامريكية العراق، ودمرت بنى دولته بعد 12 عاماً من الحصار الرهيب ( اقسى حصار على دولة في التاريخ) وحرب اولى اسهم فيها عرب، كما اسهموا في الحصار الى جانب القوى الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية، ومع الاختلال في التوازن الدولي وتحول امريكا الى قوة كبرى وحيدة وطاغية على المعمورة في حينه، اعتبرت بعض الاوساط العربية ان مثل هذا الإختلال يتفق مع مصلحتها ويؤمن لها ارجحية، بغياب دولة مثل العراق، لايمكن ان تغيب من الساحة دون ان يصاب العالم العربي باختلال استراتيجي عميق، غير قابل للتعويض.
واذ نمعن النظر في المبررات (ان كانت هنالك مبررات مدروسة فعلاً)، او الحساب الذي كان وراء ذلك المشهد الكارثي الرهيب الذي استقبل به العالم العربي القرن الواحد والعشرين، نصاب بالذهول من تدني مستوى التقدير، سواء على سبيل المثال لآثار انهيار الدولة الحديثة العراقية بعد 83 سنه من عمرها، داخلياً او على مستوى مقتضيات التوازن الاقليمي، هذا عدا عن الاثار البعيدة للتفجرات العراقية الداخلية الناجمة عن مثل هذا التطور الخطير، فلا تم توقع احتمال تعاظم وزن ايران مع انعدام وجود معادل لها بغياب العراق، ولا ظهر ان هنالك من كان يستطيع توقع مستقبل العراق واثر عودة “دوائره الثلاث” بمجرد انهيار وسحق الدولة الحديثة المركزية، وهو ماكان في أصل قيام تلك الدولة عام 1921،وعانى الانكليز المحتلون من اثره وقت عملهم على اقامة حكم مركزي على انقاض الولايات الثلاث ( البصرة والموصل وبغداد).
لقد ابدى هؤلاء جهلاً مطبقاً بشؤون وديناميات المنطقة، وضعهم ووضع المنطقة امام حالة تخبط خطر وعشوائي، راحت تتفاقم مع الوقت مكرسة اختلالاً استراتيجياً اقليمياً، رافقه تهاوي حتى مفاهيم الحد الادنى من ” الوطنية” لصالح المكونات و”الهويات” الجزئية وقوى ماقبل الدولة ومفاهيمها، ومع الإحتراب المتصاعد في العراق وتغول الارهاب والعنف (عرفت البلاد خلال الفترة بين 2005 الى الوقت الحاضر مايزيد على 24 الف انفجار، بما يزيد على كل ماعرفته الكرة الارضية من انفجارات خلال نصف قرن، مع اخذ فوارق النسب في المساحة وعدد السكان بالاعتبار لمن اراد ان يتخيل) شاعت في المنطقة كلها اجواء من الخلل والاضطراب العام، بينما استشرت مناخات تكرس على اوسع نطاق توترات مضخمة ومتلاعب بها سياسياً ومالياً، خلفياتها بالية ومستعادة من ماض غابر.
وما ان اطلت بداية عام 2011 حين تصاعدت الانتفاضات في المنطقة، حتى ازداد المشهد اضطراباً وتوازت الاحلام والطموحات مع انغلاق الافق بظل ازدحام عوامل متناقضة ومحفزات تنذر بالخطر، فغياب البرامح ورفضها والاستهانة بها، والافتقاد للنخبة القائدة، اضافت عناصر اخرى لحالة تفتت الرؤية والموقف، في حين تنازعت الصدارة قوى اسلامية ” منظمة”، كانت تجد نفسها في حال صعود وسط نزوعات “ديموقراية” هلامية مؤطرة بخلفية ليبرالية، كانت قد تحولت لظاهرة برزت في العقدين المنصرمين، فشاعت في المنطقة “منظمات المجتمع المدني”، وقضايا حقوق الانسان، وتضخمت تحت جناح موجة ليبرالية عضّدها تصاعد النفوذ الامريكي وانهيار الاتحاد السوفياتي، ما اقصى التيارات الايديولوجية ونزع عنها الفعالية وضيق قدرتها على الفعل، وحرف مجال السياسة عن فعاليته الاجتماعية التغييرية الشاملة، سرعان ماتحول الى كارثة دموية في سورية، وفي مصر، وفوضى في ليبيا، بينما الوضع في العراق يلعب دور المرجل مولداً خلفية ونموذجاً للاحتراب والعنف، يصنّع الموت الطائفي وكل انواع الاحتراب مادون الوطني.
وصل المشهد اقصى مداه من الكارثية واشتباك كل النزعات المفتتة الفاعلة فيه، على الساحة السورية، واذا بما روج له بـ”الانتفاضة الديموقراطية” تتحول الى النموذج العراقي القريب جغرافياً، ومصر تشهد ثورة تضامن معها العسكر، وليبيا التي عرفت التغيير على يد حلف الناتو تنتقل الى الفوضى والتمزق المناطقي العشائري، بينما لعب البترودولار دوراً غير مسبوق، عزز تحالفه مع اسلام متراجع ومترد الى الطائفة والارهاب الاسود، الى ان غدا العالم العربي قائماً على وقع مطحنة صراع دموي بين دول حداثة وبين اسلام محركاته طائفية وعشائرية راهنة، لاعلاقة لها بالاسلام الحقيقي الاصلاحي المعاصر،او الاسلام الاصل في عزه، مدعم بالبترودولار وبالفتاوى القتالّة وامتهان ” الجهاد”، في حين تضاءلت الى ادنى حد اية محركات جامعة من قبيل الامة او الاوطان او القضايا المقدسة الملحة.
بعد ثلاث سنوات على ماعرف ب”الربيع″، بدا المشهد يستقر على جملة من الحقائق، بعضها لابل اغلبها كان مجهولاً لدى النخب ومراكز القرار، وحتى لدى القوى الشعبية الناهضة واحزابها وحركاتها، ولا تصل التأزمات عادة مثل هذا القدر من الشمول، ومن عجز قوى الفعل، من دون ان يدل ذلك على ازمة عامة ومازق، عادة مايكون له سمات تاريخية، فاذا اردنا اليوم تشخيص طبيعة اللحظة الحالية، فلابد ان نقر باننا امام “ازمة الحركة التحررية العربية” وازمة محاولة التحديث العربية التاريخية.
هذه الحالة المزرية والكاشفة عن عجز شامل في البنى والتعبيرات الفكرية والسياسية، بدات مؤخراً بالتراجع بعد ان تأكد معظم اللاعبين فيها من حدودها، ومن عبثية مآلاتها، بينما لاحت معالم ” إمتهان” للشعارات المتعلقة ب “الثورات”، وماعاد تكرار الحماسة واجترار الشعارات التهييجية او الوردية معقولاً ولا مقبولاً، وصار لازماً التوقف امام المجريات العامة، وتطور الاحداث في العالم العربي خلال العقود الثلاثة المنصرمة، على شرط الإعتراف بان غالبية القوى، لابل كلها على الاطلاق، قد ابدت في الماضي خلال صعود حركة التحرر في الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، واليوم تحديداً، افتقاراً مريعاً في معرفة حقيقة البنى العربية والاليات الفعليه الفاعلة، وتبعا لها الضرورات اللازمة للنهوض مايستوجب التفكيربـ:
ـ التنادي لاحياء تلاق بين الفاعلين في العالم العربي في “مؤتمر عربي مفتوح”، يضم القوى الشعبية والفكرية مع القوى صاحبة القرار، لاجل اعادة النظر في واقع المنطقة، وسبل ارساء استراتيجاتها الملائمة بظل المتغيرات العالمية، ولاباس من أن يكون مثل هذا المؤتمر نواة منظمة بديلة للجامعة العربية التي انتهى مفعولها، ولم تعد تلائم النظام العربي الآخذ بالتبلور.
ـ اعتماد مبدأ ”المؤتمرات التاسيسية” كحلول، بمعنى الدعوة لصيغ التقاء المكونات لتجديد ”العقد الاجتماعي” في المواضع التي تشهد اختلالات عميقة في النظم السياسية والإجتماعية..
ـ نبذ سياسات التحديثية القصوى من ناحية، والعقيدية الاسلامية القصوى ومنطق الغلبة من ناحية، باعتبار الميلين مدمرين، وغير ممكنين ولامؤدى لهما غير التدمير العام لكافة الاطراف، مايعني وضع قضية الوحدة في الاولوية قبل الهيمنة العقيدية، واخذ البنى بنظر الإعتبار، مع ملاحظة ان ازمة العالم العربي الراهنة هي ازمة بنيوية، تستوجب الانكباب على الخصوصيات ومفعولها ووزنها، بما يجعل الوحدة غير مشروطة بالتطابق العقيدي، فبهذا يمكن تشكيل قوة عربية تطابق ما للعالم العربي من قدرات وامكانات هائلة قابلة للتوظيف في مسارات النهوض العام، ووضع العالم العربي على خارطة الاقتصادات العالمية.
ـ على النخبة ان تكون على قناعة بان العالم قد تغير وان القوى العظمى والغرب، لم تعد كما كانت، ولم تعد السياسة عالمياً محكومة بنفس القواعد، وان الولايات المتحدة التي نعرفها وعرفناها لن تعود موجودة مستقبلاً، كما ان الراسمالية متجهه باطراد الى اسيا والى الشرق، وللعالم العربي مكان في تلك التطورات يضمنها موقعه وطاقاته وحجمه البشري والجيوستراتيجي، هذا ولابد من التحسب لمسالة غاية في الاهمية والخطورة عربياً، تلك هي مسالة اسرائيل ومكانتها وموقعها المتغير، ومسالة الشعب الفلسطيني ومستقبله، فاسرائيل تسير نحو تازم اجتماعي طبيعي نابع من بنيتها الاصلية وتناقضاتها التكوينية الداخلية المتفاقمة، وهي تتغير اليوم بناء على التبدلات العالمية والاستراتيجية وتفقد تباعاً ضرورتها كحامية للمصالح الامريكية المتراجعة في العالم العربي، واي اجتماع للقوى الشعبيه العربية ومصادر القرار، معني بان يلحظ الدفع الذي يقدمه على صعيد تجديد الحركة الوطنية الفلسطينية، واعادة صياغة تكتيكاتها وخططها وضخ الدم في عروق حركتها، لان اي استعادة للاستقرار او بداية نهوض عربي، سوف تنعكس بالإضافة للتراكمات التاريخية والمستجدات العالمية، اعاة انتاج لروح الثورة في فلسطين، بما يتوفر لها من آفاق ومستجدات ملائمة. اضافة لبروز ظهير مختلف لها في العالم العربي، مايبشر بنهوض فلسطيني فعال.
ذلك مانعتقد انه اصبح اليوم في غاية الالحاح لاخراج العالم العربي وحركته التحررية من انتكاستها الكبرى التي طالت، وماعاد مقبولاً ولامعقولاً الانتظار بناء عليه هبوط هذه المنطقة المتسارع في سلم الانحدار المريع، فهل سيجد هذا النداء مكاناً بين النخب الباحثة بفعل التجربة وقوة الامال عن مستقر ومآل، لقد سعينا من قبل ومع بدء “الربيع″ لدى قوى شعبية مختلفة على امل ” تعريب الانتفاضات العربية”، فاذا لم يلاق النداء الاول آذانا صاغية في غمرة اشتعال الاحلام،فهل ستفعل نتائج التجربة وقسوتها ياترى مفعولها اليوم كي يبدا هذا المسار الحيوي والحياتي للامة، بالتجسد عمليا؟.
http://www.raialyoum.com/?p=75968