مدخل نقدي لفهم أسباب الظاهرة وآليات المقاومة
مقدمة
لا يحتاج الحديث عن العنف الجنسي في مصر إلى مقدمات طويلة، فالظاهرة أصبحت واقعاً يومياً لكافة النساء المصريات. ذلك أنّ أية امرأة في مصر باتت عرضه لمستويات مختلفة من الانتهاك الذي يبدأ بالتهديد أو الملاحقة أو التحرش اللفظي، ويصل إلى حد الاعتداء الجنسي الجماعي في الشارع. ورغم تسليط الضوء على أحداث التحرير، والتي أخذت بعداً سياسياً نتيجة لمكان وملابسات تلك الاعتداءات، فإن المتابعين لتلك الظاهرة عن كثب طوال السنوات القليلة الماضية دأبوا على الإشارة إلى أن ما حدث ليس بجديد تماماً. فالاعتداءات الجنسية الجماعية على النساء في مصر بدأت بالفعل منذ سنوات، وبالتحديد منذ أحداث عيدي الفطر والأضحى عام 2006 بمنطقة وسط البلد، والتي جرت وسط إنكار كامل من الدولة والمجتمع وقتها، ولم تحتج لأي غطاء سياسي توفره التظاهرات والفعاليات السياسية كما حدث بعد ذلك بسنوات وبالتحديد عقب ثورة يناير 2011. ومنذ البداية، صاحب تلك الظاهرة، والتي أخذت منحنى تصاعدياً سريعاً ومخيفاً في نفس الوقت، حالة عامة من التواطؤ المجتمعي والمؤسسي شكلت عائقاً دائماً أمام أية محاولة جادة لمناقشتها والتعامل معها، أو حتى الاعتراف بها. فقد تطور سريعاً خطاب تبريري سعى لتحميل المسؤولية لأطراف تلك الحوادث نفسها سواء الناجيات أنفسهن عبر التركيز على ملبسهن أو سلوكهن أو ردود أفعالهن أثناء الهجوم عليهن، أو على الرجال الذين كانوا في موقع الحوادث نفسها وفشلوا في أداء أدوراهم التقليدية كذكور عليهم عبء حماية النساء. وربما يتجلى ذلك في الجملة التي انتشرت مؤخراً وصارت رد الفعل الطبيعي لدي سماع خبر عن اعتداء جنسي جديد :”هو ايه اللي وداها هناك؟”. وقد صاحب هذا الخطاب الشعبي خطاب ثقافي يبدو أكثر تقدمية وإن كان لا يختلف كثيرا في منطقه وفي مآلات تأويله المجتمعي عن الخطاب الأول، والذي ركز على إحالة تلك الظاهرة للتفاوت الاجتماعي والطبقي في المجتمع، وكأن الأمر يمكن تفسيره بانتشار أحزمة الفقر في القاهرة، وكأن الرجال الفقراء أو المحرومين هم فقط من يتحرشون بالنساء اللاتي تم قصرهن هنا على نساء الطبقة الوسطى القاهريات تحديداً. والجدير بالذكر إن هذا الخطاب قد لاقى قبولاً لدى قطاعات عريضة من الطبقة الوسطى نفسها التي آثرت أن تتعامل مع الظاهرة بوصفها تجلياً آخر للانحطاط المجتمعي في مصر، وباعتبارها ناقوس خطر لما يمكن أن يقوم به الفقراء لو تركوا بلا رادع أمني قوي. ويشترك كلٌّ من الخطاب التبريري الشعبي والخطاب الأكثر تقدمية في أنهما يتجاهلان، وعن عمد، مدى انتشار تلك الظاهرة في مختلف محافظات مصر وتعدد أشكالها وتجلياتها وتعرض كافة النساء المصريات بمختلف خلفياتهن الاجتماعية والاقتصادية لها. فما يجري الآن هو تطبيع حقيقي مع ثقافة العنف الجنسي بصورة غير مسبوقة.
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين رئيسيين: يتناول القسم الأول معنى العنف الجنسي وتجلياته في الواقع المصري وأبرز المحطات في تشكيل ما نُطلق عليه “ثقافة العنف الجنسي”. نحاول في هذا الجزء تتتبع جذور تلك الثقافة من خلال رصد ثلاث علاقات جدلية أساسية: العلاقة بين العنف المجتمعي والعنف المؤسسي، أي ذلك التي تتورط فيه الدولة، علاقة المجال الخاص بالمجال العام والتأثير المتبادل بينهما، وأخيراً تأصيل منطق الحماية كغطاء لانعدام المساءلة المجتمعية لتلك الظاهرة، وكيف تترجم الحماية في الواقع إلى وسيلة للتحصين الاجتماعي والقانوني لمرتكبي جرائم العنف الجنسي.
ويتناول القسم الثاني من المقالة الجهود المختلفة لمقاومة تلك الظاهرة والتي باتت تشكل حركة اجتماعية مستقلة قوامها المئات بل الآلاف من الشابات والشبان الذين اختاروا التصدي لتلك الظاهرة بأساليب وأدوات شديدة التنوع. ونختتم المقال بطرح إشكاليتين نقديتين تتعلقان بمستقبل هذا الحراك. تناقش الإشكالية الأولى طبيعة تلك الحركة كجزء من الخطاب والحراك الثوريين: هل هي جزء من حراك ثوري أشمل، أم أنها حركة نسوية منبتة الصلة بالثورة ولها أهدافها المحددة؟ الإشكالية الثانية تتعلق بقدرة تلك الحركة على النمو والاستمرارية في ظل طبيعة التدخلات والمهام التي تقوم بها، وفي إطار العلاقات بين الأطراف المكونة لها نفسها من حركات وتنظيمات مستقلة ومنظمات مجتمع مدني. ينتهي المقال ببعض الاستنتاجات حول مستقبل تلك الحركة وإمكانيات البناء عليها في المستقبل.
العنف الجنسي في المجال العام: عن ماذا نتحدث؟
هل تزايدت معدلات العنف الجنسي في شوارع مصر بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، أم أن النساء المصريات على اختلاف طبقاتهن وانتماءاتهنّ قد ضقن ذرعاً بالأمر وقررن المقاومة؟ تكرر هذا السؤال في أذهان الكثيرين في السنوات الأخيرة في محاولة لإيجاد تفسير لما رآه البعض ظاهرة جديدة على المجتمع المصري، أو على الأقل، تزايداً غير مبرر في حدة وكثافة ظاهرة قائمة بالفعل. والحقيقة أن ما حدث هو الاثنان معاً: فقد تزايدت وتيرة العنف الجنسي في المجتمع المصري من حيث العدد والحدة، كما ارتفعت حدة مقاومة النساء لتلك الظاهرة. وعلى الرغم من الزيادة المطردة في كل من معدلات الظاهرة نفسها، وكذلك في ردود أفعال عموم النساء لها، إلا أن الثابت والأكيد أن الظاهرة قد باتت تأخذ أشكالا أكثر تطوراً ووطأة تجعل مصطلح التحرش الجنسي – وهو التعريف الشعبي الجامع والشامل لكافة تلك الجرائم – غير كاف للتعبير عن التنوع البالغ في أشكال العنف الجنسي في الشارع المصري. إذ يأخذ العنف الجنسي أنماطاً مختلفة بدءاً من التحرش اللفظي وملامسة أجساد النساء، مروراً بالتهديد والملاحقة والتحرش الجماعي، وانتهاء بالاغتصاب والاغتصاب الجماعي وحتى القتل كذلك. فقد شهد عاما ٢٠١٢ و٢٠١٣ سقوط أول قتيلتين للعنف الجنسي في مصر، وهما إيمان مصطفى من أسيوط وشروق التربي من الغربية، واللتين قتلتا نتيجة لمقاومتهما للتحرش، الأولى برصاص المتحرش والثانية دهساً بعربة متحرشها الذي لاذ بالفرار.
هل نستطيع إذن البحث في أسباب تفشي ظاهرة العنف الجنسي في مصر بهذا الشكل الجنوني؟ ربما كان الأسلم والأكثر وجاهة هو سرد أكثر التفسيرات شيوعاً ومحاولة إثباتها أو نفيها. هل يرتبط العنف الجنسي فقط بالقاهرة والمناطق الحضرية الكبرى، وبالتالي يمكن تفسيره في إطار ارتفاع معدلات الجريمة عموماً في المدن الكبرى؟ الإجابة قطعاً بلا، لأن المسوح والشواهد تؤكد انتشار العنف ضد النساء في كافة أنحاء مصر. يكفي أن أول جريمتي قتل عمد في ملابسات محاولات للاعتداء الجنسي وقعتا خارج القاهرة، إلا أنه لا يمكننا كذلك التغاضي عن البعد المديني في جرائم العنف الجنسي، والذي يرتبط بشكل مباشر بانهيار البنية التحتية للمدن وازدحام المناطق الحضرية وعدم آدمية وسائل المواصلات العامة والخاصة والتي تؤثر بشكل أكبر على النساء. هل نحن بإزاء ظاهرة تنشط فقط في المناسبات السياسية الكبرى؟ الإجابة مرة أخرى هي ذلك أن العبء الأكبر لهذا العنف المجتمعي ينعكس في وقوع حوادث التحرش والاعتداء بشكل شبه يومي لآلاف النساء في الشوارع وأماكن العمل والمواصلات وغيرها من الفضاءات العامة. ربما كان من المهم هنا أن نطالع جهود مؤسسة مثل خارطة التحرش، والتي تتيح للنساء وضع المواقع التي تعرضن فيها لاعتداء جنسي على خارطة افتراضية لنفهم مدى انتشار تلك الظاهرة على مستوى الجمهورية بأسرها. ولكن الاحتفالات والاحتجاجات السياسية الكبرى أصبحت مناسبات لعقاب النساء جنسياً بشكل جماعي. هل بدأت معدلات الظاهرة في التزايد بشكل خاص بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير؟ بالقطع نعم، رغم غياب الإحصاءات والبيانات الدقيقة عن الظاهرة إلا أن الأشكال الجديدة من الاغتصابات الجماعية واستخدام الأسلحة الحادة هو تحول يجب الوقوف أمامه، وربما يكون مرده – في جزء منه – إلى شيوع حوادث العنف بشكل عام في المجتمع والاشتباكات المتكررة بين المتظاهرين وقوات الأمن أو اشتباكات بين الأهالي. هذا العنف المتزايد ضد النساء في المجال العام لا يجب أبداً فصله عن نجاح النساء في اختراق فضاءات عامة جديدة، فالنساء بداية من 2011 نجحن في اقتناص حق التظاهر والتجمع السلمي كأحد أهم حقوقهن السياسية والمدنية، والهجوم الجنسي عليهن بهذه الطريقة – هو في جزء منه – محاولة لطرد النساء من هذه المساحة لإعادة النساء إلى حدود ما قبل 2011. وربما يكون الدليل الأكبر على شيوع ثقافة العنف الجنسي عدم اقتصار هذه الاعتداءات الجنسية الجماعية على ميادين التظاهر، بل أصبحت ترى الآن في الحفلات الغنائية ووسائل المواصلات العامة.
هل يمكننا الحديث عن علاقة ما بين ارتفاع معدل الجرائم وتصاعد وبروز ثقافة ما تشجع على العنف الجنسي عبر منح مرتكبيه حصانة فعلية؟ هل هناك علاقة ما بين العنف اليومي الذي تتعرض له النساء وبين العنف الممنهج السياسي الطابع كالذي شهده ميدان التحرير في أكثر من مناسبة في العامين الماضيين؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل دور الدولة هنا يقتصر على التخاذل والتباطؤ في القيام بواجبها في ردع تلك الجرائم، أم يتعدى ذلك للتحريض المباشر وغير المباشر على جرائم العنف الجنسي؟ إن الإجابة على تلك الأسئلة تستوجب بالضرورة استعراضاً سريعا لتاريخ تطور الظاهرة في السنوات القليلة الأخيرة بهدف الوقوف على طبيعة العلاقة بين ظهور ثقافة اعتيادية للعنف الجنسي في المجتمع، ودور الدولة كفاعل ومتواطئ، وأحياناً كمحرض على العنف الجنسي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
من انتهاك الدولة لانتهاك المجتمع: أي إشارات ترسلها الدولة للمجتمع بشأن النساء؟
يشكل عام 2005 نقطة فاصلة في تطور مسألة العنف الجنسي في مصر. فقد قامت الدولة حينها في حادثة شهيرة، عرفت لاحقاً بالأربعاء الأسود، بتأجير بعض “البلطجية” للاعتداء جنسياً على الصحفيات والناشطات المعترضات على التعديلات الدستورية. كانت مشاهد الصحفيات وملابسهن ممزقة في الشارع صادمة للغاية وغير اعتيادية في ذلك الوقت، ومع ذلك لم يتعد رد الفعل وقفة رمزية بالشموع وبملابس سوداء لبعض النشطاء، بينما لم تثر هذه الحادثة حفيظة السواد الأعظم من الناس.
ولم تتجاوز ردود الأفعال على ما حدث وقتها نطاق داوئر الناشطين السياسيين والحقوقيين، وتعامل الجميع مع الحادثة باعتبارها جريمة سياسية تُضاف إلى جرائم نظام مبارك. لم يع أحد وقتها المعنى الكامل لانتهاك الناشطات جنسياً في قلب القاهرة، وفي وضح النهار أمام أعين الجميع. بل لم ينتبه الجميع بعد ذلك بعام واحد – وبالتحديد يوم الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الاأول عام 2006 الموافق أول أيام عيد الفطر- حين بدأت ولأول مرة، حوادث التحرش الجنسي الجماعية بمنطقة وسط البلد، حين هاجمت مجموعات من الشباب النساء اللاتي أوقعهن حظهن العاثر في طريقهم وقاموا بجذبهنّ من ملابسهنّ والتعدي عليهنّ جنسياً. وقعت يومئذ الانتهاكات وسط تعتيم إعلامي شبه تام لم يكسره سوى نشر عدد من المدونين لصور وتفاصيل الحادث. وتم وقتها توجيه الاتهامات للمدونين بتشويه سمعة مصر وتلفيق الراويات، وأصدرت وزارة الداخلية بياناً تنكر فيه حدوث أي تحرش جماعي بالنساء. استمرت الظاهرة بعد ذلك في التصاعد، فقد شهدت السنوات التي تلت هذه الحادثة معدلات مرتفعة من التحرش اللفظي والجسدي بالنساء في الشوارع وأماكن العمل والمواصلات العامة بشكل يومي. وكان الجديد في هذه الحوادث ليس فقط الإنكار المجتمعي وإنما التواطؤ أيضا. فإذا تجرأت إحدى النساء على الاعتراض على المتحرش في أتوبيس نقل عام أو في الشارع، ستجد الجميع يشيح بوجهه، أو يطالبها بالصمت حتى لا تتسبب لنفسها بفضيحة. هذا التعامي عن المستويات الوبائية للتحرش بلغ ذروته في أيام عيد الأضحى في عام 2009 حين نشرت الصحف اليومية صوراً لعصابات صغيرة من الفتيان يقومون بتطويق عدد من الفتيات ويحاولون التحرش بهن ونزع ملابسهن في حي المهندسين. وقد اضطرت وزارة الداخلية يومها أن تجري تحقيقاً أسفر عن تقديم عدد من المتهمين للمحاكمة. في الوقت نفسه، اعتبرت عدد من المنظمات النسوية هذه الحوادث ناقوسَ خطر حقيقياً، وكتبت العديد من الناشطات عن خطورة ظاهرة “استقواء الرجال ببعضهم البعض”. إلا أن التجاهل المؤسساتي والإعلامي استمر وأسهم بالطبع في تفاقم حالة الخزي والعار عند الفتيات والنساء اللاتي يتم التحرش بهن. واستمر الوضع في التفاقم حتى وصلنا لمرحلة اغتصاب النساء في قلب ميدان التحرير نفسه، وهو رمز الثورة المصرية، في ثلاثة حوادث متفرقة: نوفمبر/تشرين الثاني 2012، ويناير/كانون الثاني 2013، وأخيراً، يونيه ويوليو/حزيران وتموز 2013.
من خلال الاستعراض التاريخي السابق، يتضح لنا بوضوح أن ثمة إشارات ما تم إرسالها من قبل ممثلي الدولة للمجتمع عندما قاموا بانتهاك أجساد مواطنات مصريات في قلب القاهرة. تضمنت تلك الإشارات الضمنية رسالتين رئيسيتين: إن أجساد النساء مستباحة بشكل عام وخاصة إذا تصادف وجودهن في “المكان الخاطئ” في “الوقت الخاطئ”، وإن تلك الجريمة غالباً ستمر بلا محاسبة. أرسلت الدولة وقتها رسالة مفادها بأن هناك تحصيناً ما لمرتكبي جرائم العنف الجنسي، وبأن المجال العام غير آمن للنساء. فإذا كانت الدولة نفسها، ممثلة في وزارة الداخلية، قد أعلنت ذلك قولاً وعملاً، فلا يمكن لامرأة أن تأمن على نفسها سوى بتجنب هذا المجال العام، وعدم ارتياده سوى في أضيق الحدود.
على صعيد أهم، وصلت رسالة أخرى مفادها أن النساء مسؤولات بشكل أو بآخر عما قد يحدث لهن في المجال العام. وترتبط تلك الرسالة برسالة أخرى تنص على أن الرجال مسؤولون عن حماية نسائهم من الرجال الآخرين. ضاعفت تلك الرسائل غير المباشرة من الأعباء الملقاة علي الجميع – رجالاً ونساء – وأضافت أبعاداً إضافية للترسيم الراسخ للأدوار الاجتماعية بين الرجال والنساء على أساس ثنائية الرجل الحامي والأنثى الضعيفة، والتي تتهم رغم ضعفها – وربما بسببه أيضاً – بأنها مسؤولة بشكل رئيسي عما حدث لها. إن قيام الدولة هنا بالوظيفة التقليدية للرجل، الحامي الذي لا يحمي بل يشارك في الانتهاك نفسه، تقلب رأساً على عقب التصور النظري الكلاسيكي للمجال العام بإعتباره مجالاً للمواطنين كافة رجالاً ونساء، وتخلق مجالاً عاماً ذكورباً بامتياز لا مكان عملياً للنساء فيه، بغض النظر عما يضمنه الدستور والقانون في هذا الشأن.
تجدر هنا الإشارة إلى تطور فشل الدولة في التعامل مع العنف الجنسي ضد النساء، فمع تحول التحرش الجنسي الجماعي إلى طقس موسمي متكرر بداية من 2006، انسحبت الدولة من التعاطي مع الأمر عبر إنكاره. ومع تزايد أحداث العنف الجنسي وتعدد أشكالها في المجال العام، برز دور الدولة كمتواطئ وكمحرض أيضاً، وذلك عبر تصعيد خطاب مجتمعي عن مسؤولية النساء، والطلب منهن صراحة أن يراعين ملبسهن وتصرفاتهن في المجال العام كي لا يساء فهمهن. وتطورت الأمور أخيراً إلى أن وصلنا لحقيقة مرعبة من عجز الشرطة عن مواجهة الظاهرة حتى وإن أرادت ذلك، وذلك بسبب انتشار الظاهرة واتساع نطاقها الجغرافي من ناحية. فالشرطة لم تعد قادرة على التعامل ميدانياً مع الظاهرة نظراً لتعقدها وانتشارها ونظراً لحاجتها إلى تقنيات أمنية خاصة على غرار وحدات مكافحة العنف الجنسي في الدول المتقدمة والتي تتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية والكفاءة المهنية. إن مثل تلك الكفاءة النوعية من المستحيل توافرها للشرطة في مصر في ظل ضعفها والتغاضي عن إعادة هيكلتها – وهو المطلب الأهم لثورة الخامس والعشرين من يناير- وإدماج بعد نوعي في عملية إعادة الهيكلة. ومن ناحية أخرى لا تزال الدولة بأذرعها الأمنية المختلفة مرتكباً للعنف الجنسي، وبالتالي لا مجال هنا لافتراض حسن النوايا.
ثقافة العنف الجنسي بين الخاص والعام
ان الحديث عن ثقافة العنف الجنسي في مصر لا يكتمل بدون ذكر الدور الذي يلعبه المجال الخاص، أي الحيز الأسري والمنزلي الضيق، والذي يعد المجال الأساسي لإعادة إنتاج ثنائية الحماية والعنف. فلا يمكن الحديث عن مجال عام ذكوري بامتياز بلا حديث عن مجال خاص أبوي يتم فيه التحكم في حركة النساء خارجه وعدّ أنفاسهن وإجبارهن على ممارسات شتى تندرج أيضاً تحت العنف النوعي بمعناه الواسع والأشمل. ومن أبرز تلك الممارسات في مصر تحديداً: الزواج المبكر والختان وتقييد حرية الحركة والمنع من اتخاذ قرارات مصيرية بالحياة.
فهل ثمة علاقة بين شيوع ثقافة العنف الجنسي في المجال العام وبين ما يحدث من انتهاكات في المجال الخاص؟ تشير عدد من الكاتبات النسويات إلى مفهوم مهم في وصف العلاقة بين المجالين العام والخاص في بلدان مختلفة مرت بمستويات مختلفة من التحديث، وتعاني في نفس الوقت من ضعف أزلي في بنية الدولة وهو “شخصنة المجال العام”. يعني ذلك ببساطة نقل نمط العلاقات السائدة في المجال الخاص إلى المجال العام، عن طريق تحويله لمنزل كبير تحيا فيه أسرة ممتدة لا يعرف كل أفرادها بعضهم البعض. تسود ” شخصنة أو منزلة المجال العام” “The domestication of the public sphere“ في الدول التي تكون فيها بنية المجتمع وعلاقات القوى فيه أقوى من قدرة الدولة على اختراقها والتأثير فيها. ونتيجة لذلك، ينشأ مجال عام متأثر بعلاقات القوى الاجتماعية والطبقية والجنسية في المجال الخاص. يمكننا رصد ذلك في عدة ظواهر في مصر من أبرزها التعامل الطبقي للشرطة وإهانتها للفقراء، مثلاً، عبر استدعاء التراتبية الاجتماعية في المجال الخاص. فالتي تعمل خادمة مثلاً لدى أسرة من الطبقة الوسطى ستبدو في نظر ضابط الشرطة في طبقة اجتماعية أدنى منه، وبالتالي سيتعامل معها علي هذا الأساس وليس كمواطنة متساوية في الحقوق والواجبات معه هو شخصياً كما تستلزم قواعد المجال العام. ينطبق الأمر بشكل أكثر وضوحاً على النساء، فمنطقا الحماية ولوم الضحية الذي يحكم علاقة الفتيات عموماً في مصر بأهلهن في المجال الخاص تم نقلها بحذافيرها للمجال العام. فلا تلام سوى من لم تنجح في حماية نفسها، وإذا كانت أسرتها نفسها، ودوائرها المقربة، لن تدعمها بالضرورة في حالة تعرضها لاعتداء جنسي، فلم نتوقع دعماً لها من المجتمع الكبير؟
إن الصلات بين كل من المجال العام والمجال الخاص تحتاج لمقالة مستقلة لما لهذا الموضوع من أهمية شديدة، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن تأثير المجال الخاص على المجال العام يزداد عند توفر شرطين أساسيين: كلما ضعفت قوة الدولة في مقابل المجتمع – وبالتالي أصبح من السهل أن تتغلغل قيم المجتمع في ممارسات الدولة – وأيضاً كلما اختفى المجال العام بالمعنى الحداثي الكلاسيكي، والذي يمثل نقطة لقاء للمواطنين والمواطنات كشخصيات اعتبارية، وليس كمكان لقاء للرجال والنساء ككائنات بيولوجية أو كصياد وفريسة. ونظراً لضعف الدولة في مصر، وكون المجال العام، بالمعنى المذكور أعلاه، لا يزال قيد التشكّل، ومجالاً رئيسياً للصراع السياسي منذ 25 يناير 2011، فمن الطبيعي أن نرى ملامح كثيرة من المجال الخاص في المجال العام تتراءى كأشباح خافتة لتذكرنا بأن سؤال الحداثة في المجتمع بشكل عام، وفي علاقته بالنساء بشكل خاص، لا يزال حاضراً بشدة وغير محسوم بالمرة.
الحراك والمقاومة: حركة مقاومة العنف الجنسي ما قبل الثورة وما بعدها
مقاومة العنف الجنسي قبل الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011
اقتصرت مقاومة العنف الجنسي في السنين التي سبقت ثورة يناير على صعيدين رئيسيين، أولهما هو عمل المنظمات الحقوقية، والثاني هو النضالات اليومية للنساء في المجال العام ضد أشكال العنف الجنسي المختلفة.
يُعد دور المنظمات الحقوقية التي تتبنى أجندة نسوية دوراً رائداً في العديد من الجوانب، أولها وأهمها هو كسر الصمت حول القضية. ففي الوقت الذي أنكرت فيه الداخلية وكذلك الإعلام وقوع حوادث التحرش الجماعي في أيام عيد الفطر عام 2006، قام “مركز النديم لتأهيل ضحايا التعذيب” بنشر بيان ليس فقط لتأكيد الحادثة ولكن للإشارة إلى اشتراك قوات الأمن كجناة بالتواطؤ في الواقعة. وأشار نفس الييان إلى أن “هذه الجريمة هي عطف على بدء الدولة في ارتكاب جرائم مماثلة في مايو 2005 ضد الصحفيات المتظاهرات”.
الدور الثاني للمنظمات، والذي لا يقل أهمية عن سابقه، هو تعويض غياب المعلومات من جانب الدولة وتقديم معلومات عن القضية سواء كيفية أو كمية، رغم صعوبة هذا الجهد البحثي خاصة في ظل ندرة المعلومات والبيانات، وكذلك في ظل نقص الموارد البشرية اللازمة للقيام بأبحاث كمية. ففي محاولة لسد هذا الفراغ المعرفي، قام “المركز المصري لحقوق المرأة” بإعداد أول بحث كمي عن الظاهرة من خلال تقرير المركز “غيوم في سماء مصر” في عام 2008 والذي كان من ضمن نتائجه أن 83% من النساء المصريات، و98% من النساء الأجنبيات يتعرضن للتحرش، كما صدر تقرير من “مؤسسة المرأة الجديدة” عن النساء في أماكن العمل وتناول في جزء منه التحرش الجنسي في أماكن العمل.
إلى جانب العمل التوثيقي للانتهاكات والعمل البحثي في سد الفجوة الرقمية، قامت المنظمات أيضاً بمحاولة التأثير على الخطاب وتأصيل حق النساء في الحركة وحقهن في السلامة الجسدية والتحرر من العنف، وحقهن في اتخاذ قرارات تخص أجسادهن وذلك في إطار أوسع من الدفاع عن حقوقهن الإنجابية والجنسية. كما قامت بجهد كبير في التصدي للخطابات الرجعية التي رافقت اشتداد الظاهرة، مثل خطابات لوم الضحية التي تدين النساء وتحملهن مسؤولية التحرش بهن إما بسبب الملبس أو مواعيد التواجد في المجال العام أو حتى مجرد التواجد في هذا المجال العام. ولعل من المهم هنا الإشارة إلى ظهور بعض الخطابات التي قد تكون حسنة النية إلا أنها تحاول مواجهة الظاهرة بمنطق ذكوري إذ تدعو هذه الخطابات الرجال لحماية النساء من التحرش لأن الرجل الحق هو الذي يحمي ولا يتحرش. كما طالبت بعض الخطابات الشعبوية بضرورة حماية النساء من العنف الجنسي اعتماداً على علاقة النساء بالرجال، بمعنى أن المرأة تستحق الحماية فقط لأنها “أخت” أو “زوجة” أو “امرأة” رجل ما. إن خطورة المقاربات المشابهة تكمن في أنها تعيد إنتاج منظومة القوة ذاتها والتي تعد أحد الأسباب الرئيسية في الوضع الذي وصلنا إليه. فالحماية هي الوجه الآخر للاعتداء، وهي تفترض بالأساس تفوق الرجل على مستوى الدور والتوقع والممارسة سواء بالإيجاب أو السلب، كما سبق وأشرنا في الجزء الأول. بالإضافة لذلك، فإن استفحال الظاهرة لهذا الحد جعل خطاب الحماية نفسه غير ذي جدوى عملياً. هنا تأتي اهمية الخطاب النسوي الذي طرحته تلك المنظمات، والذي يحاول تجاوز أفخاخ شرف العائلة أو دور الرجل في حماية أجساد النساء. ورغم الجهد والطرح النسوي الجاد، فإن محاولات المنظمات خارج الأنشطة التوثيقية والبحثية جاءت متواضعة للغاية. فقد اقتصر الأمر على بعض المحاولات التي سعت لخلق مقاومة على مستوى قاعدي مثل “مبادرة الشارع لنا” إلا أن هذه المحاولات لم تنجح في النهاية في خلق رد فعل واسع.
أما على مستوى الواقع اليومي المعاش لآلاف النساء في مصر، فقد وُوجِهَتْ محاولات النساء للتصدي للعنف المتصاعد ضدهن في المجال العام بدرجات عالية من رفض المقاومة. فالتطبيع المجتمعي لجرائم العنف الجنسي جعل رد الفعل الطبيعي للجماهير إزاء مشاهدة أي مشادة ناشئة بسبب التحرش إما التجاهل التام أو الاصطفاف بجانب المعتدي بدعوى أنه لم يفعل شيئاً. فعلى أفضل التقديرات سيطلبون من الفتاة الصمت ومغادرة المكان دون إثارة أية فضائح لأن أية ضجة حول الأمر ستضر بسمعة الفتاة نفسها. هذا التطبيع اليومي للمجتمع مع العنف الجنسي ساهم في منح حصانة دائمة للمتحرشين وأسهم في غياب أية آلية من آليات إحقاق العدالة أو حتى التجريم المجتمعي على أقل تقدير. وساهمت هذه الثقافة في إحساس النساء باللاجدوى من الشكوى أو المواجهة، أو محاولة التصدي للعنف من خلال مدخل يقبله المجتمع، فالعديد من السيدات يدعي أن المتحرش سارق لأن المحيطين سيتدخلون في هذه الحالة، بينما لن يحركوا ساكناً اذا قالت السيدة إنه تحرش بها.
الثورة كمنعطف فاصل في الكفاح ضد العنف الجنسي
ظهر ميل شديد بعد شباط 2011، للحديث عن التحرير كمدينة طوباية خلال الثمانية عشر يوماً، أو خلال فترة الاعتصام (28 كانون الثاني – 12 شباط). ولخلق هذه الأسطورة كان من الضروري أن يتم التأكيد على خلو الميدان من التحرش حتى لو تم ذلك على حساب إسكات أي صوت يخالف هذه الرواية. بالطبع لم تكن حوادث التحرش خلال اعتصام الثورة عنيفة لكن لم يصل الأمر إلى حد خلو الميدان من التحرش. ربما تكون واقعة الاعتداء الجنسي الجماعي على لارا لوجان – مراسلة CBS – يوم 11 شباط 2011، دالة على طريقة احتفال المصريين، وكذلك على كذب ادعاءات خلو التحرير من العنف الجنسي. إلى جانب حوادث التحرش اليومية في ميدان التحرير خلال الاعتصام، واجهت الفتيات والسيدات المعتصمات مضايقات أخرى خاصة في نقاط التفتيش على أطراف الميدان. هذه المضايقات كانت ذات صلة بالرقابة الأخلاقية على السيدات كتعليقات علي تدخين النساء أو عدم حجابهن خاصة في ظل سيطرة التيارات الإسلامية على بعض نقاط التفتيش في الميدان.
تتجلى أهمية الثورة في قضية العنف الجنسي في أكثر من جانب سواء على مستوى دور الدولة في دعم العنف من خلال الإشارات التي سبق الحديث عنها، ومن خلال التقاط المجتمع لهذه الإشارات وأخذ العنف الجنسي لمستوى جديد كلية، أو على مستوى ظهور الحركات المقاومة للعنف ليس فقط في التحرير والفعاليات الثورية ولكن في المجال العام باتساعه وبأشكال وطرق غير تقليدية.
جاءت أول إشارات الدولة في استمرار شرعنة العنف من خلال ما يعرف بـ “حادثة كشف العذرية” وهي قيام الجيش بتطبيق كشوف عذرية إجبارية على المتظاهرات اللاتي تم اعتقالهن يوم 9 آذار 2011 في ميدان التحرير، ومن خلال الحديث المتضارب لقيادات القوات المسلحة وتبريراتها المختلفة لقيامها بمثل هذا الفعل كإبعاد شبهات الاتهامات بالاغتصاب وغيرها… وتلاها ما يعرف بحادثة “ست البنات” والتي قامت خلالها قوات الجيش بسحل فتاة وتعريتها في الشارع إلى جانب الاعتداء بدنياً على عدد من المتظاهرات في أحداث مجلس الوزراء في كانون الأول 2011 واعتقالهن داخل مجلس الشورى وتهديدهن بالاغتصاب والاعتداء الجنسي.
بالطبع، وكما هو المعتاد، تم التقاط هذه الإشارة من جانب المدنيين، حيث بدأت الاعتداءات الجنسية الجماعية في ميدان التحرير والمناطق المحيطة به في حزيران 2012، وذلك خلال الموجة الثورية التي تلت الحكم القضائي الأول على مبارك والعادلي ومساعدي وزير الداخلية. وربما لا يخلو الأمر من دلالة في هذا الشأن، أن تكون بدايات الاعتداءات الجنسية الجماعية قد رافقت الموجة الثورية ضد الداخلية وزبانيتها. وعلى الرغم من محاولة المنظمات النسوية المبكرة للتصدي للأمر مبكراً، إلا أن المظاهرة الجانبية ضد الاعتداءات الجنسية الجماعية في ميدان التحرير في حزيران 2012 تمت مهاجمتها والاعتداء على من بها أكثر من مرة.
خلال موجة التظاهرات ضد حكم الإخوان المسلمين في تشرين الثاني 2012 لوحظ تزايد لافت في مستوى العنف، وبدأ الشكل المنظم الجديد للمعتدين جنسياً في الظهور للعيان بشكل أوضح، إذ يبدأ مجموعة من الرجال في فصل فتاة أو اثنتين عن المجموعات المتظاهرة ويشرعون على الفور في التحرش بهن وجذب أعضائهنّ الجنسية ونزع ملابسهن. ويرافق ذلك زيادة مرعبة في أعداد المعتدين تجعل فكرة هروب الفتاة من دائرة الجحيم أمراً مستحيلاً.
هنا تشكلت أولى الحركات التي سعت للتدخل بشكل مباشر لإخراج النساء من دوائر الجحيم. وعملت هذه المجموعات مرة أخرى خلال الذكرى الثانية للثورة 25 يناير/كانون الثاني 2013، والتي تزامن مع إحيائها تكوين حركات عديدة في محاولة التصدي لمستويات العنف الجنسي والتحرش غير المسبوقة في الشارع المصري.
مجموعات مكافحة العنف الجنسي: البنية التنظيمية والخطابية لحركة مناهضة العنف الجنسي
شكلت حوادث الاعتداء الجنسي على النساء في تشرين الثاني 2012 – والتي شهدت بلوغ مستويات العنف ضد النساء ذروة جديدة – حافزاً مهماً لتكون مجموعات لمناهضة العنف الجنسي عبر التدخل في مراحله المختلفة، بدءاً من التدخل لمنع الفعل نفسه، مروراً بمساعدة الناجية على تلقي الخدمات الطبية والنفسية والقانونية التي تختار الالتجاء إليها، أو محاولة تقديم ما تيسر من دعم نفسي مباشر. فقد شهدت تلك الأثناء نقلة نوعية خطيرة سواء على مستوى حدة الاعتداءات نفسها أو أعدادها، والتي وصلت لحد الاغتصاب الجماعي والتمثيل بأجساد النساء بأسلحة بيضاء وإحداث عاهات مستديمة في أجسادهن في أمكان عامة ومعروفة ويرتادها الجميع بشكل شبه يومي. ولم تتوقف تلك الاعتداءات بل توالت وزادت حدتها في كانون الثاني 2013 أثناء الفعاليات السياسية المصاحبة للذكرى الثانية لثورة يناير/كانون الثاني. وجاءت التظاهرات الأخيرة في 30 حزيران وما تلاها – فيما عرف بأسبوع التفويض والذي دعا إليها وزير الدفاع المصري – لتشهد تكراراً أقسى لأحداث تشرين الثاني وكانون الثاني حتى بات أسبوع التفويض من أجل القضاء على الإرهاب الإسلامي – وبحق – أسبوعاً للإرهاب الجنسي المنظم ضد النساء. ويكفي ذكر أن عدد من تعرضن للاعتداء في هذا الأسبوع فقط بلغ 186 ناجية وهؤلاء هن فقط من تمكنت المنظمات ومجموعات التدخل العاملة في مجال مكافحة العنف الجنسي من الوصول إليهن.
خرجت حركة مناهضة العنف الجنسي إذن من رحم تلك الأحداث، وتميزت منذ اللحظة الأولى بالتنوع والتباين الشديد، سواء على مستوى البنية التنظيمية أو درجة الوعي النسوي أو مستوى الخطاب أو حتى الأدوات المستخدمة. كما تتباين تلك المجموعات في مستوى تداخل وعيها النسوي والثوري وتخيلها عن كيفية حل هذه الظاهرة. وضمت الحركة منذ البداية عدداً من المنظمات العاملة في مجال حقوق النساء والتي تتبنى منظور نسوياً أكثر جذرية، والتي من أبرزها “نظرة للدراسات النسوية” و”المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”.
كانت أولى المجموعات التي تكونت “قوة ضد التحرش” OpAntiSH وكذلك “تحرير بوديجارد” أو “حراس التحرير”. وتبع ذلك ظهور عدد أكبر من المجموعات العاملة على مستوى قاعدي تحاول الاشتباك بشكل مباشر سواء عن طريق النزول لمواقع الاعتداء وإنقاذ الناجيات (“قوة ضد التحرش” و”حراس التحرير”) أو على مستوى النزول الميداني الدائم سواء للاشتباك والتدخل أو لتوعية الجمهور العادي مثل “بصمة” و”شفت تحرش”.
من حيث التدخل، اعتمدت بعض المجموعات – في بدايتها على الأقل- على مجموعات من الرجال لإخراج البنات من دوائر الجحيم، في حين أصرت مجموعات أخرى على أهمية اشتراك الفتيات في مختلف مراحل هذه العملية على الرغم من تعرض النساء في مجموعات الإنقاذ لخطر التحرش بهن وانتهاكهنّ جنسياً. عكست معركة اشتراك النساء في مجموعات التدخل في الميدان قضايا خلافية حول أهمية دور النساء في الحركة. ففي حين استماتت المجموعات الراديكالية في الدفاع عن موقفها في أهمية مشاركة النساء، وتحملت في سبيل ذلك انسحاب مجموعات يسيطر عليها الذكور كمجموعة “الأولتراس” – مشجعي الكرة المنظمين الذين طرحوا إمكانية التعاون مع مجموعات التدخل بشرط عدم وجود النساء – كان رفض الدور الحمائي للرجال من أهم أسباب الإصرار على مشاركة النساء. كما اختلفت هذه المجموعات في طرق العمل داخل الميدان، ففي حين اعتمدت بعض المجموعات على تقسيم العمل إلى مجموعات للتدخل المباشر ومجموعات لنقل الناجيات لأماكن آمنة، لجأت مجموعات أخرى لمحاولة خلق ممرات آمنة للنساء داخل الميدان. وتباينت رؤى هذه المجموعات لمدى تأثيرها وأماكن تواجدها. ففي الوقت الذي فضلت بعض المجموعات الاستمرار في التواجد في حيز الفعاليات الثورية، رأت مجموعات أخرى أنه يجب عليها أن تعمل في أماكن أخرى في المحافظات، وحتى في توقيتات أخرى مثل الأعياد والمناسبات التي يكثر بها التحرش والعنف الجنسي.
على مستوى الخطاب والتأثير السياسي، طورت تلك الحركة وعياً نسوياً سائلاً لا يزال قيد التشكيل، وذلك عن طريق استخدام العنف الجنسي كمدخل للوعي النسوي لمئات بل آلاف الفتيات والرجال أيضاً. وبالتالي شكلت مع مرور الوقت حركة قوامها المئات بل الآلاف من المتطوعين والمناصرين الذين انخرطوا في تلك الحركات ولعبوا أدواراً مختلفة بها. قدمت هذه المجموعات تثويراً حقيقياً لقضايا النساء. فمن ناحية نجحت هذه الحركات في فرض قضية العنف الجنسي في ميدان التحرير وأماكن التظاهر كأولوية على أجندة القوى الثورية التي حاولت التنصل من الأمر في البداية، وادعاء أن شيئاً لا يحدث في ميدان التحرير، أو أن بيانات المنظمات الحقوقية ضد العنف الجنسي ما هي إلا محاولات لتشوية الميدان وصورة الثورة. ونتيجة لشجاعة عدد من الناجيات اللاتي وافقن على الإدلاء بشهاداتهن في وسائل الإعلام أصبح إنكار الظاهرة أو تجاهلها أمراً صعباً.
المدهش في عمل هذه المجموعات هو بالأساس طبيعة هذا العمل، فنحن نشهد لأول مرة حراكاً حول قضايا تنتمي لصلب المسألة النسوية تطرحها مجموعات تشكلت بشكل تطوعي تماماً وتمارس عملاً جماهيرياً شديد الأهمية والصعوبة، ولم يكن على أجندة القوى الثورية نفسها حتى وقت حوادث الاغتصابات الجماعية في التحرير وحتى بعدها. وعلى الرغم من عدم طرحها لخطاب نسوي واضح في بعض الأحيان، فإن نضالها على الأرض شكل، في حد ذاته، ذروة جديدة تماماً في العمل النسوي الراديكالي تمثّل في عزم وتصميم شابات وشباب بالغي البسالة قرروا استخدام أجسادهم كدروع بشرية لإنقاذ ناجيات لا تربطهن بهن أية صلة. ويعد دور الفتيات، وتحديداً في مجموعات التدخل، نضالاً نسوياً راديكالياً وأصيلاً مستوحى من حالة نضالية طرحتها الثورة، وإن تجاوزتها لتطرح أسئلة عميقة تتعلق بالجسد وحرمته، وحق وجود النساء في المجال العام. وقد طرح مثل هذا الكفاح النضالي إشكاليات عميقة حول العبء النفسي الذي تركه ذلك على كل من الفتيات وأيضا الرجال الذين شاركوا في مجموعات التدخل. فقد تعرضت المتطوعات والمتطوعون كذلك لانتهاكات جسدية ونفسية صار الحديث عنها ومعالجة أثرها في حد ذاته عبئاً على الحركة وعلى أعضائها لا يخلو من تبعات أليمة وشائكة. ورغم كل هذا، فإن إسهام هؤلاء الشباب والشابات يمثل بحق أكثر الفصول راديكالية في تاريخ الحراك النسوي في مصر. فأدوار النساء والرجال في تلك الحركات فجرت نقاشات بالغة الأصالة والأهمية حول منطق الحماية نفسه وحول عجز الرجال عن حماية النساء في الميدان وغيره ، بل وتعرضهم أيضا لاعتداءات جسدية وجنسية في كثير من الأحيان. كما طرح النقاش حول مشاركة النساء تصوراً نسوياً جذرياً حول قيم التضامن النسوي ومسؤولية النساء عن بعضهن البعض ووعيهن بذلك.
وعلى صعيد آخر خاضت الحركة، وخاصة المنظمات التي شكلت جزء منها، نضالاً سياسياً نسوياً هاماً للغاية. فقد كان على المهتمين بقضايا النساء عبء إثبات مشاركة النساء في الثورة للعالم أجمع، رغم أن الأمر لا يحتاج إلى إثبات. إلا ان تعاطي القوى الثورية مع القضايا النسوية بشكل عام كان مخزياً، فغابت قضايا النساء تماماً عن أولويات الأحزاب والقوى الثورية. حتى في حوادث كشف العذرية أو حادثة ست البنات، تعاملت هذه القوى السياسية مع الأمر من منطلق حماية شرف الثورة ولو على حساب أجساد النساء. وقد لعبت المنظمات دوراً أساسياً في فضح هذا التواطؤ وفي إجبار الأحزاب والقوى الثورية على التعاطي مع قضية العنف الجنسي وآثارها المدمرة على النساء.
ملاحظات ختامية
الحراك الذي ولدته حركات مقاومة العنف الجنسي، والذي تفجر من خلال حركة الاحتجاجات الواسعة هو تغير مجتمعي جوهري في التعاطي مع قضايا العنف الجنسي. هذه الحركات بدأت تتجاوز رقعة الاحتجاج السياسي وجاءت رغبات المتطوعين للتصدي للعنف الجنسي في أماكن عامة مختلفة وكذلك في مناسبات مختلفة. بعض المجموعات قررت التدخل لمنع أو تقليل العنف الجنسي خلال أيام عيد الأضحى الماضي. فيما قررت مجموعات أخرى محاولة رفع الوعي بالقضية داخل مترو الأنفاق. وعلى الرغم من استمرار بعض الخطابات الحمائية أو الأفكار الرجعية بين أفراد المجموعات المختلفة إلا أن هذه التجربة فرضت على المشاركين فيها الاشتباك مع العديد من الأسئلة الشائكة والتي تتعلق بتصور الرجال لأدوارهم وأدوار النساء وكذلك مراجعة تصوراتهم عن حجم ووبائية العنف الجنسي داخل مصر ومدى مسؤولية الرجال في تفاقم الظاهرة وكذلك فشل الدولة في التصدي لها.
وعلينا أيضاً أن نلتفت إلى المبادرات الأخرى التي ظهرت في محاولة مواجهة العنف الجنسي خارج إطار مجموعات التدخل المباشر. ففي الآونة الأخيرة ظهرت مبادرات عديدة في القاهرة وعدد من المحافظات الأخرى مثل الإسكندرية والسويس وغيرها للتصدي للتحرش والعنف الجنسي من خلال أفعال يعتبرها المجتمع غير مقبولة أو لا تلائم سلوك النساء المتوقع من المجتمع، فظهرت دعاوى لارتداء الفساتين وإلى ركوب العجل لتحدي محاولات طرد النساء من المجال العام من خلال فرض زي معين عليهن أو طريقة معينة للحركة. كما ظهرت صفحات إلكترونية تدعو لتصوير المتحرشين وفضحهم على شبكات التواصل الاجتماعي في محاولة لعكس ثقافة الوصم التي تلصق العار بالنساء. احتواء هذه الدعاوى على قدر من الرمزية لا يقلل من أهميتها لأنها تعكس بعمق مستوى القهر الذي تعاني منه النساء في الحياة اليومية ليصبح مجرد ارتداء فستان عملاً من أعمال المقاومة، أو يصبح ركوب العجل فعلاً شجاعاً يتطلب انضمام العشرات إليه لإزالة الوصمة عنه.
شكّلت جميع هذه الحركات والمجموعات أملاً ووعداً جديداً بميلاد وعي نسوي قد يكون نواة لحركة نسوية حقيقية قاعدية لا تعتمد على الأشكال التنظيمية التقليدية، وإنما على ظهير شعبي حقيقي ينتفض للدفاع عن قضايا النساء وحقوقهن. هذا الظهير قوامه مئات النساء الشجاعات ولكنه يضم أيضاً رجالاً مؤمنين بالعدالة والمساواة بين الجنسين. وعلينا أن نعي جيداً أن تكوين هذه الحركة لن يتم إلا من خلال التجاوز النسبي لقضية العنف الجنسي وخلق نقاشات أعمق بين هذه المجموعات حول حقوق النساء في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وتفكيك القناعات البائدة التي تخص الحقوق الجنسية للنساء والرجال على السواء.
الوعد بحركة نسوية حقيقية لن يتحقق إلا من خلال تجنب عدد من الأفخاخ، لعل أهمها هو فخ المأسسة. فعلى الرغم من كون هذه الحركة تضم تحت مظلتها كلاً من المجموعات الطوعية والمنظمات النسوية، فإن هذه المجموعات تختلف في فلسفتها وآليات عملها عن طرق عمل المنظمات الحقوقية والنسوية التقليدية. ومن هنا تأتي أهمية خلق هياكل تنظيمية مرنة للحركة تتصف باللامركزية، وتحكم العلاقة بين أطراف تلك الحركة، سواء كانت مجموعات أو منظمات نسوية. إن مثل تلك الأشكال التنظيمية المرنة تسمح بتطور أشكال وأساليب مبتكرة وتساعد على تطوير خطاب نسوي حول العنف الجنسي وأجندة سياسية للحركة. وهنا تبرز أهمية الدور الذي يلعبه كلٌّ من طرفي الحركة: المنظمات النسوية والحركات المناهضة للعنف الجنسي، وهي أدوار مكملة وليست مناقضة لبعضها البعض. فقد قدمت المنظمات دعماً فنياً وتقنياً هاماً للحركات الطوعية، كما طرحت خطاباً سياسياً حول الظاهرة. وعلى صعيد آخر، قدمت تلك الحركات زخماً جماهيرياً ونضالياً لجهود مكافحة العنف الجنسي ما كان ليحدث لولا بسالة متطوعيها. إن مثل هذا التكامل في الأدوار لن يكتمل بدون تجنب فخ تحول تلك الحركات لمنظمات بدورها. فمن المهم بمكان أن تحتفظ هذه الحركات باستقلالية ما عن المنظمات وألا تحاول تبني نفس طرق العمل. إننا نحتاج بشدة لمجموعات تواجه التمييز بطرق مبدعة وخلاقة ويترجم أفرادها وعيهم النسوي إلي ممارسات يومية في مجالات عملهم المختلفة في قطاعات التدريس والطب والهندسة والخدمات وغيرها. على الجانب الآخر يظل من المهم للغاية أن تستمر المنظمات في دعم هذه المجموعات سواء من خلال التدريبات التي يحتاجون إليها، والتي تساهم بشكل ملحوظ في تطوير الرؤية النسوية للحركة ككل، أو عن طريق تقديم مساحة لهم لعقد لقاءاتهم واجتماعاتهم.
على صعيد آخر، فإن العمل الكفاحي النسوي في قضية العنف الجنسي قد ساهم في تثوير خطاب المنظمات المساهمة فيه والتي لم يقتصر دورها فقط على الدعم والاحتضان، بل تمثل في الأساس في ترجمة هذا الجهد الميداني الكفاحي إلى خطاب نسوي سياسي نجح بشكل واضح في وضع قضايا النساء على أجندة القوى السياسية والثورية وأسهم اسهاماً أساسياً في كسر حاجز الصمت المجتمعي حول القضية.
الفخ الثاني الذي يجب تجنبه هو الانفصال التام عن الحركة الثورية. فالحركة النسوية كانت دوماً جزءاً من الحركات الاجتماعية الأوسع، ويجب أن تعي الحركة الوليدة أنّ النضال من أجل حقوق النساء لا ينفصل أبداً عن النضال ضد التعذيب أو نضال الأقليات العرقية والدينية. إن تفريغ أية حركة نسوية من وعيها الثوري هو بداية احتوائها من جانب الدولة، وهذا هو المصير الأسوأ لأي حركة نسوية، وخاصة في ظل دولة كفت عن منح النساء أي شئ بشكل فعلي، على الأقل في الوقت الراهن. فلا يوجد مشروع تنموي يصلح لاستيعاب النساء في إطاره، وبالتالي خلق خطاب تقدمي حول أهمية وجودهن في المجال العام ، كما كان الحال في الحقبة الناصرية، ولا توجد دولة قوية تستطيع تقديم حماية حقيقية للنساء وبناء شراكة حقيقية مع الحركات المستقلة ومؤسسات المجتمع المدني حول قضايا مثل العنف الجنسي بغرض مواجهة تبعات ثقافة العنف الجنسي وآثارها المدمرة على النساء. أما في ظل دولة ضعيفة وآلية وطنية لا تطبق ما يجب أن تقوم به بل تسعى لمناهضة العنف الجنسي عبر منع أفلام شركة إنتاجية بعينها – وهو اقتراح يسفه من القضية نفسها ويصورها وكأنها مشكلة كبت جنسي وليست مشكلة عنف – فلا جدوى من قيام الدولة باحتكار الحديث باسم النساء كما هو الوضع تاريخياً في مصر. إجمالاً، سيكون من المستحيل إحداث تغيير حقيقي في حيوات النساء في الوقت الذي ستكتفي الدولة فيه بإصدار بعض القوانين والسياسات التي تدعي فيها تحسين أوضاع النساء فيما ستكون من الناحية الأخرى مستمرة في إفقار النساء من خلال سياسات اقتصادية مجحفة وتهميشهن من خلال أجندة سياسية قمعية.
ليس لدينا خطة واضحة لبناء هذه الحركة النسوية القاعدية، وربما نحن على علم بما لا يجب عمله أكثر من الخطوات الواجب اتخاذها، إلا أن هذه المقالة دعوة لتقييم موضوعي للحراك النسوي القائم بالفعل، ولتقديم قدر من الإنصاف لجهود النسويات ولجهود المجموعات. وهذه المقالة أيضاً دعوة لنفكر معاً في سبيل بناء هذه الحركة. هل يكون السبيل هو إنشاء مدارس وكوادر للتدريب والدراسة أم اختراق المعترك السياسي وبناء حزب نسوي قوي؟ أم أن الواقع تجاوز هذه الطرق التقليدية، وربما علينا قبول الطبيعة الفوضوية للمرحلة والاعتماد على بناء تحالفات واسعة متغيرة مع مجموعات أخرى تعمل علة قضايا نوعية أخرى، وتسعى مثلنا لتفكيك النظام الأبوي السلطوي سواء في شقه الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي؟
نحن لا نملك الإجابات ونعي أن الطريق صعبة إلا أننا عازمات على المضي.